يحفل الواقع العربي الراهن بأزمات مشتعلة وخرائط قاسية وارتباكات مستغلقة ومستعصية على الحل... لكنها الحياة كما أريد لها أن تكون، سلسلة مغامرات وتقلبات تنتهي بإحباطات وانكسارات، ومتاهة مفتوحة على الحروب والمآسي، والخطر والقلق والتصدع والزوال. وعلى رغم ذلك، فلا مفر من التعاطي اليومي معها، وإن لم تكن في المحصلة غير لمحة من سراب.
وبمنظور التجارب الشعرية العربية الجديدة، خصوصاً قصيدة النثر في تجلياتها وانزياحاتها الماثلة في المشهد الحالي، فلا عالم غير هذا العالم الضبابي الكائن، ولا مجال للصيرورة في أبنية موازية هشة من نسيج الكلمات، ولا فضاء يمكن أن تقود إليه مركبات التخييل والأحلام والأساطير. إنه الصندوق الكوني الضيق، الذي يضم نثارات الجميع المختلطة، وشظايا أجسادهم وأرواحهم، وإن كانوا شعراء!
تكاد تلتقي مجموعة من الدواوين الشعرية العربية الصادرة حديثاً، في هذا الاعتقاد أن القصيدة هي الحياة نفسها، الحياة الواحدة المتوترة التي يعرفها البشر ويكابدون ويلاتها ليل نهار. وليست حياة أخرى معلبة أو مصنوعة أو متوهمة أو متمناة أو مشهاة. ومن ثم، فإن أنفاس الشعراء تأتي مشحونة بلحظاتهم الصغيرة التي ربما لا يملكونها، لكنهم يخبرونها جيداً، ممسوسة برائحة الأرض وما يجري عليها من صراع وتفكك وتهتك وانهيارات، ودوران عبثي لا يفضي إلى وصول.
ومن هذه الدواوين الجديدة اللافتة، بما تملكه من حساسية الرؤية وخصوصية الالتقاط والتصوير والتعبير: "في البيت وما حوله" للشاعر العراقي عبود الجابري، و"ببطء كأنه كبرياء" للشاعر المصري مؤمن سمير، الصادران عن دار "الدراويش" للنشر في ألمانيا، و"رأسي البسط... جسدي المقام... أنا كسر بين الأرقام" للشاعر السوري باسم سليمان، الصادر عن "المركز العربي للصحافة" في القاهرة، في إطار سلسلة "تحولات".
استراتيجية القتل
في ديوانه "في البيت وما حوله"، يوسع الشاعر العراقي عبود الجابري، الذي يقيم في الأردن منذ عام 1993، جرحه الشخصي (الاغتراب، الشتات، الوحشة، الفقدان)، وجرحه الوطني (الحرب، الدمار، الانهيار، ضياع البوصلة)، ليفتتح ديوانه مباشرة بما يسميه "كتاب الجروح". وفي هذا الكتاب "ليست هناك صورة واحدة لخنجر نادم"، بمعنى الاعتراف الكامل باستراتيجية القتل الممنهج كدستور لذوي الدم البارد.
وفي هذا الوجود كله، ليس هناك مكان للاختباء ولا الاحتماء، وحتى هذا "البيت وما حوله"، فإنه ليس بيتاً، وليس ساحة، وليس خيمة، ولكنه مجرد أغنية ناقصة، ولن تكتمل أبداً إلا إذا فرشت الحجرات بإيقاع الأنين. ويعترف الشاعر صراحة بأن القصيدة لا ناقة لها ولا جمل في المحاولات اليوتوبية لإقامة البناء، وإصلاح كسور النوافذ، وطمس معالم الخراب، وتجميل الوجوه اليائسة والبائسة والمشوهة والمحنطة، فالشعر شأنه شأن كل شيء، حطام وأنقاض: "ليس بوسعي، أن أعمر بيتاً، على أنقاض قصائدي/ فقد نام أولادي، أيها المحسنون، يا من أغرقتم حياتي بالأسمنت".
ولا يكتفي الشاعر بعدم طرق أبواب الحاضر، حيث "لم تعد لأيدينا مهنة في هذه الحياة، بعد تسريح ملايين الأيدي من العمل في البساتين، وانشغال الناجين من الحروب في البحث عن أيديهم المبتورة"، ولكنه يغلق أيضاً أبواب الخيال: "لم تعد أيدينا تحلم بالعناق، ولم يتسن لنا أن نلوح لأحد من بعيد، فنحن هنا غرباء يحاكون الأشباح". كذلك، فإنه يطل على المستقبل بوصفه وهماً وهزيمة كبرى مؤجلة: "في حفل الزفاف، ثمة صائغ يرسم بأسى شديد، صورة حزينة، لعروس تقصده في ما بعد، كي تبيع مجوهراتها".
علبة الصرخات
ومن كتاب جروح الجابري، إلى علبة الصرخات التي يسكنها الشاعر المصري مؤمن سمير في ديوانه "ببطء كأنه كبرياء"، كطائر مختنق يحمل في عنقه ذكريات شجرة محترقة، وبقايا ريشات ثكلى، وظلال شمس مصلوبة. وهو يحسد الموتى على هدوئهم الناعم، ونعيمهم الهادئ. ويرى أنهم في موضع أكثر أماناً إذا هجمت الغارات المتوقعة: "لماذا لا يصمت الموتى كي ننام؟/ لماذا لا يعيدون ما سلبوه منا، كي نحبهم وننسى تنهيدة الارتياح؟/ وقت سقوطهم، أخذوا هواءنا وأقلام الحبر النادرة، وأحلامنا الحرَّى في الجارات والعابرات/ أخذوا كلاب الصيد، وأقماع السكر التي كانت تخفيها أمهاتنا لوقت الغارة".
وعلى رغم أن قصيدته مثل حياته هي علبة محكمة، فإن الشاعر يفتحها فنياً على سرديات تخص الذات وما حولها. ويلملم أطراف الحكايات من الشقوق، وينسج الأساطير الشعبية والملاحم والبطولات على غير نسق سابق، ويحتفي بالعشق صوفياً وإروتيكياً في آن واحد. ويلتحم بلحم الواقع من دون رفض لإشباع ما، قد يحدث افتراضياً، ولكن بعد الفناء: "طار الصياد وغنى: أنا نورس هذا البحر وحبيبه الوحيد، وإن كنت سأترك أحبتي قريباً وأموت، سأموت وأنا سعيد".
وتلك السعادة الافتراضية بعد الفناء هي موقتة بطبيعة الحال، فالرجل الذي كان يعيش هنا في يوم ما في معترك الحياة، وفقد أسنانه وحواسه ومشاعره، ليس من حقه أن يطمع في ما هو أبعد من أن يكون ذكرى سوداء: "كلما مرت وسطنا لحظة هائمة، كنت ألمح عظام أمي وسط العظام. بعد ذلك صدرها المقطوع في الحرب، وشعرها الذي صنع به الساحر أمجاد البحيرة الكبيرة، وزوج به عزباوات القرية، ونفخ به في أنف الميت فقام يسعى، رغم أنه كان بلا أسنان، ولا عانة، ولا عينين. فقط ذكرى رجل، كان يعيش بهيئة شبح في النهار، وفي المساء مجرد جيب سري في بنطلون مقطوع".
الخسارة داخل الجسد
وبدوره، في ديوانه "رأسي البسط... جسدي المقام... أنا كسر بين الأرقام"، يرسم الشاعر السوري باسم سليمان خرائط القسوة والوحشية والانكسارات، بداية من عنوان الكتاب، حتى آخر عباراته: "تستطيع أن تكون صانع آلات موسيقية/ لكن قبلاً، كن جزاراً في سوق اللحم".
ويمعن الشاعر في استبعاد أية إمكانية للخلاص أو النجاة عبر الاحتماء بقصيدة زائلة، أو التعويل على مفردات عاجزة، لا تعدو أن تكون حشرجات ساعة الموت، ورثائيات بعد التلاشي والتحلل والذوبان: "اللهاة في الحلق، كيس ملاكمة، مملوء بالرمل. تتمرن الكلمات به، على اللطم، قبل أن تخرج من أفواهنا".
لا شيء في الكلمات، وفق الشاعر، ولا أحد في الصوت أيضاً، ولذلك "يجلس الصدى وحيداً"، ويبقى المغناطيس الآدمي بلا معنى "في زمن النحاس". وليست الخسارة المألوفة موضوعاً خارجياً بالنسبة إلى الشاعر، كما أنها ليست كذلك بالنسبة إلى الإنسان العادي في معاناته اليومية النمطية، ومآسيه المتكررة، لكن هذه الخسارة هي ببساطة عضو من أعضاء الجسد، من فرط التصاقها به: "في الجسد عضو، يسمى الخسارة، لا يذكر إلا حين ينفجر كالمرارة"!
اندبندنت عربية