من الإصدارات الحديثة التي يجدر بالقارئ العربي التوقف عندها، والتبصر بصورِ الإنسان المغترِب المتأرجح بين ضفتي الوطن الأم وأرض الاغتراب ومتاهاتها، بعيون المتحدرين من أصول عربية وقد بلغوا العالمية أو على مشارفها، رواية "شقيقان" للكاتب البرازيلي ميلتون حاطوم من أصل لبناني (1950)، ومن أشهر كتاب ذاك البلد. والرواية صادرة عن دار منشورات الجمل، لعام 2022، بترجمة الأكاديمية صفاء جبران (1962) إلى العربية، من البرتغالية مباشرة.
والرواية هذه "الشقيقان" لدى صدورها (2000) في البرازيل، كانت قد أحدثت ضجة، وأضافت إلى شهرة الكاتب، التي كان قد حازها بفضل أعماله القصصية والروائية السابقة. تحولت الرواية إلى مسلسل تلفزيوني من على أكبر المحطات التلفزيونية البرازيلية "تي في غلوبو"، والتي كانت تبث بدءاً من عام 2016، وذلك بحسب ما قاله الكاتب في مقابلة أجراها معه الصحافي الفرنسي جان-كلود بيرييه عام 2016، والمنقولة على صفحات النشرة الأدبية الفرنسية لوريون ليتيرير لعام 2020.
إذاً، تستمد الرواية أهميتها من كونها أثارت الكثير من المواجع لدى جمهور القراء البرازيليين من أصول عربية، ولا سيما اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون، ممن ظلوا على روابطهم الوجدانية الملتبسة بوطنهم الأم، من دون أن ينسوا تعاملهم مع قضايا اندماجهم في المجتمع البرازيلي، وانخراطهم في الصراعات السياسية بين السلطة العسكرية المستبدة والمعارضات اليسارية، وعيشهم اختلافاتهم الدينية هنالك باعتبارها تلاوين محببة ومرغوبة لا سبباً للصراعات، وتأقلمهم الأليم مع محيطهم البيئي المتحول على غير ما يرغبون.
حبكة "شقيقان"
تقوم رواية "شقيقان" على حبكة تكاد تكون عادية، بل ساذجة، وهي أن صراعاً مستداماً يحصل بين أخوين توأمين، لعائلة من أصول لبنانية، هاجرت إلى البرازيل مطلع القرن العشرين، وأقامت في مدينة، وأن هذا الصراع كان بسبب شعور أحد التوأمين (يعقوب) بالغبن حيال عناية الوالدين بالتوأم الآخر (عمر)، وبلوغ الصراع درجة من العنف جعلت عمراً ينقض على أخيه ويجرحه بقطعة زجاج، إثر غيرته منه يغازل فتاة لدى حفلة لعرض فيلم سينمائي في المنزل.
ويزداد الشقاق، وتتعمق العداوة بين التوأمين، سواء في رحيل يعقوب إلى لبنان – بدفع من والده حليم تجنيباً للصراع بين الأخوين- وإقامته هناك خمس سنوات، في الجنوب، أو في التفاوت الصارخ بينهما لدى تحصيلهما العلمي (يعقوب متفوق علمياً، في حين أن عمراً يكاد يكون متفلتاً أخلاقياً وفاشلاً ومطروداً من المدرسة الكاثوليكية ومن غيرها، هذا ومن دون أن تبدل الأم، زانة، في مسلكها المفرط في الرعاية والحدب على عمر، وتدليله بحجة أو بأخرى. وكان الراوي العليم (نائل، الأخ الأصغر) قد وضع القراء في جو العائلة المؤلفة من أب يدعى حليم، وهو من أصول لبنانية، والده شيعي، ومن أم تدعى زانة، وإن تكن لبنانية الأصل، فهي مسيحية، مارونية، محافظة على ديانتها وتقواها تمارسهما، بموافقة الأب ورضاه.
وتمضي العداوة قدُماً بين التوأمين، وبلا هوادة، حتى بعد تخرجهما، وانصراف كل منهما إلى سبيله؛ يعقوب إلى دراسته الموفقة، ونجاحه في ميدان العلاقات العامة والمحاماة، وعمر إلى حياة اللهو، والانغماس في الملذات ومعاشرة المومسات، مبذراً الأموال التي تجنيها الأم من محلها التجاري، ولا يتوانى عن مشاركة مهربي البضائع والممنوعات أعمالهم وتحصيل الأموال اللازمة لصرفها على هواه. إلى أن سولته نفسه أن يضع منزله الوالدي، بعد موت الأب حليم، في الرهن، ويكون الأخ الخصم (يعقوب) الطرف المجهول في إحكام السيطرة على ذلك المنزل، بالتعاون مع أحد المحتالين!
ما يشبه سيرة الكاتب
وبغض النظر عن حبكة الرواية وقصصها الفرعية الدالة على ثراء العالم الواقعي في مدينة مناوس، حيث نشأت عائلة حليم وزانة وأبناؤهما الأربعة (عمر، ويعقوب، ورانيا، ونائل، ابن يعقوب من إحدى مغامراته المطوية)، يمكن القول إن فيها بعضاً من سيرة الكاتب ميلتون حاطوم الذاتية؛ فهو من مواليد مناوس، ومن عائلة ذات أصول لبنانية، شأن عائلة حليم، ومن منبت جنوبي شيعي، شأن عائلة حليم، وقد تزوج الأخير بفتاة لبنانية مسيحية (زانة) مارونية وبقيت على ديانتها ولم تُجبر على اعتناق الإسلام، بناء على رغبة والدة العروس، تماماً كما حصل لوالدة الكاتب حاطوم، إذ يروي كيف كان والده يصطحب امرأته (أم ميلتون) إلى قداس الأحد، وينتظرها في السيارة وهو يصغي إلى تلاوة القرآن الكريم عبر تسجيلات من راديو سيارته.
ثم إن من يتتبع التفاصيل الواقعية الكثيرة، الواردة في متن الرواية عن أمكنة وشوارع ومركز عامرة في المدينة، وعن أشجار ونباتات وثمار، وأسماء جمعيات محلية عاملة، وأسماء حيوانات برية ونهرية تختص بها البيئة البرازيلية من دون غيرها- مما أوجب المترجمة أن تفرد لها معجماً خاصاً في ختام الرواية من الصفحة 227 حتى الصفحة 234- يجد أن الكاتب حاطوم مولع بفلوبير، الأديب الفرنسي الشهير (1821-1880)، وقد اتبع خطه في رسم أدق صورة عن الواقع الذي تتحرك فيه شخصياته، وتمضي نحو خواتيمها ومصائرها الصادمة.
ومن هذا القبيل أيضاً، كان تصوره وجود خطين، تربويين ونفسيين مدمرين ذاتياً، يمثلهما كل من الشخصيتين المتناحرتين، على مدار الرواية؛ عمر، ويمثل ثمرة التساهل والجهل والفشل والاتكالية على الأهل، والخوف من الاندماج في البيئة الأوسع، في مقابل يعقوب، ويمثل ثمرة التعلم المفرط والتقدم والنجاح المهني ولكن من دون أخلاق ولا اعتبار للأخوة ولا للبنوة. أو ليس هذان الخطان مفضيين إلى الشر، أو إلى المصير المحتم، دماراً للبيت البرازيلي، وتفريقاً بين أبناء الوطن الواحد، والمنبت الواحد، والبطن الواحد؟ ومن دون أن ننسى أن أحد هذين التوأمين كان مؤيداً لسلطة العسكر ونهجهم الانقلابي اليميني (يعقوب)، وثانيهما منساق بالعاطفة والغريزة والفطرة الشعرية إلى تأييد اليسار، بتأثير من أستاذه الشيوعي لافال الذي انتهى مقتولاً على يد مجهولين. وعلى رغم إدراك الشخصيتين، كل على حدة، فداحة ما اقترفاه حيال العائلة (البرازيلية أولاً، واللبنانية ثانياً) والدمار الذي ألحقاه بها، لم ينبس أحدهما ببنت شفة، ولم يعتذرا. "رغبتُ بسماع اعترافه بالأذى، بالإهانات. كلمة واحدة كانت تكفي، واحدة فقط: المغفرة. تردد عمر. نظر إلي ولم يتفوه بكلمة، وظل على تلك الحال لفترة، عبر نظره المطر والنافذة قاصداً زاوية ما أو نقطة ثابتة أو ما وراءهما. كانت نظرات تائهة، تراجع بتمهل، أدار ظهره وانصرف" (ص:226).
لميلتون حاطوم، الحائز العديد من الجوائز التقديرية في بلاده البرازيل، أعمال روائية وقصصية ترجمت إلى لغات العالم الحية، منها: أيتام إلدورادو، وليلة الانتظار، ورماد الأمازون، وعلى أجنحة المدينة، وسرد لشرق ما، وشجرة السماء السابعة، وكرنفالات أخرى.
اندبندنت عربية