إلى الجراح الأمهر
وائل غفير .
أبناءُ الله
ذاتَ يومٍ
سنمرُّ من هنا
وسوف يتحدثُ أناسٌ غيرنا
عن آثار أقدامنا
سيقولون :
آهٍ من هذا الموجع الدامي..
النسيان
الذي يطلُّ من عينين في شباك
ومن شبّاكٍ في حانة
ومن حانة في كتاب التاريخ
تلك الحانةُ
التي سكرنا فيها
وغنّينا لغرامٍ
كان يستذكرُ دروسَهُ بين قلبين .
في تلك الليلة المطيرة
أغارت السماءُ على قدمين ناعمتين
فظنّا أنها القيامة
وعندما رَأَيَا الصحراء
على صفحةِ المياه
أدركا أنهما في سرابِ الأبدية
فتزوَّجا
وأنجبا بنينَ وبناتٍ
قالت الجارية :
آهٍ .. إنها المياهُ المقدسة
تلك التي جَرَتْ ذات مساءٍ
خلفَ الحصون
قال الأمير :
إنها السلالةُ
فرَّقتها الخطيئةُ
على مرابعِ الأوباش
قال الأطفال :
نحنُ أبناءُ الله ،
أبناءُ المخادِعِ المسروقة
وصافراتِ الإنذار
وقال الموت :
رأسي تؤلمني
لابدَّ لي منْ فعل شيء .
ثم نعقَ غراب .
سأختارُ قبري هنا
لأسبابٍ لا أستطيعُ الإفصاحَ عنها
سيكون بين البيت والحقل
بين حشرات القمح والفول
وقيظِ آخر يونيو
سأضعُ على بابه تعويذةً
دفعتُ فيها محصولَ العام
وادخرتها ليومٍ كهذا
حتى إذا ما أصبحتُ معنىً مثالياً للسكون
وأخا شقيقاً للعدم
أمكنني ألا أخجلَ من تركتي الثقيلة
المكتظةِ بالأخطاء
أما زوجتي وأولادي
فسأتركُ لهم قِدْرًا مملوءا بالحصى
ولأنهم لم يفكروا بي أبداً
كمخادعٍ قديم
سيشعلونَ نارَهم في الخلاء
في انتظار المشَيِّعينَ والأضْياف .
*
الأشياءُ المحبطةُ التي نسيتها
سأعتذرُ عنها
وأحاولُ الاغتسال منْ أرقي
سأتركُ تحيةً كان علىَّ أن أُوَجِّهَهَا للرفاق
رغم أنهم بصقوا جانباً
عندما مررتُ عليهم
وتحيةً أخرى للجيران الذين خرجوا
يودعونني من الشرفات
ثم عادوا ليواصلوا تأديب أولادهم
أما الزوجةُ التي أخْفَتْ أصابع الروج
في ملابس الحِِدَادْ
والإخوةُ الذين أعدُّوا إعلام الوراثة
ممهورا بخاتمِ الوصاية
سأتركُ لهم ثعباناً
في سلةِ الفاكهة .
*
في المساءات التي كانت تأخذنا إلى صحوها
كنا نتأنقُ بالابتساماتِ العذبة
والأماني الخَّلابة
وطالما حلمنا بانتصاراتٍ
تجاوزتِ الضبابَ والنظراتِ المنكسرة،
عندما كان جاري يحدثني حديثًا مكرورا
عن الملوك الذين عسفوا بالقرى
بينما يؤكد أن العدالةَ – لا شك – قادمةٌ ،
وَمُذْ ذَاكَ
وكلانا يسهرُ في انتظارها .
*
الهِبَةُ التي تناقَلَتها رائحةُ الزهور
أهدتني إياها
صديقةٌ مترعةٌ
كانت تأتي برفقة أمها إلى السوق
تشتري لوازمَ البيت
وتتحدثُ عن زيجاتها المضحكة
كانت روحا وجسدا
يناهضان الحقيقة
وكانت الأمُّ
- التي تتكلم من بين أسنانها –
تحملُ عُكازها في تُؤَدة
وتقولُ وهي عائدةٌ إلى البيت :
يا ولد ..
اتبعِ النور الذي في رأسك
فأشكر’ها
وأنظرُ في كفيَّ
فلا أجدُ رأساً
ومع ذلك
مازلتُ أفكرُ في الأمر .
*
كانت النظراتُ المشبعةُ بالوداد
تحجبُ الدخانَ الذي خلفَ الأشجار
وكان الواعظون يأمَلُون
أن يبلغوا شطآنهم .
قالوا لجارتي إنها تشبهُ الفضة
وأن ليلها أبيضُ من زبدِ الطوفان
فصدَّقتهم المسكينة
ثم أخرجَتْ جميع حُلِيِّها من الخزانة
وتزوجت بكبيرهم
ولما سألَتْني عن الظلال القاتمة
التي تكرَّرَت عليها في المنام
نصحتها بأن تفتحَ نافذتها
على المياه الجارية
وأن تتحصنَ بأسرابٍ
من طيورِ الصباح
وهممتُ بتقبيل شفتيها
فرأت في ذلك ضرباً من الجنون .
وها هي تمرقُ من أمامي
وتقول :
تَحَشَّمْ أيها الميتْ .
*
ولما رجعتُ ذاتَ يومٍ إلى قريتي
وتأكدتُ أنها مازالت جزءًا من فصاحتي
استوقفتني الغربانُ بصرخاتها
فانتزعتُ مسمارا من رأسي
كان قد خَلَدَ إلى الراحة
وبحثتُ عن معابدَ
يقال إنها من قديم الزمان
تتلقى شكاياتِ أهلنا بالعرفان
وبعد أن يموتوا
يقفُ كاهنٌ
على رأسِ كلِّ واحدٍ منهم ويقول :
" طوبى للفقراء "
*
قال الطبيب :
إن حياتي
تشبهُ دودةَ البلهارسيا
تتحصَّنُ بالغدد الصماء
وتتغذى على الأعصاب المحترقة
وإنني – كمريض –
ضائعٌ بين أكذوبتين :
الأولى :
أنني اعتبر الدماء
التي تتساقطُ من مخارجي
ثمناً أكيدا لمواقفي الوطنية
والثانية :
أنني أعتبرُ الموتَ
مجردَ نزهةٍ خلويةٍ
هيمنَ عليها الصمتُ
فأفسَدَته نسوةٌ غريباتٌ
بالعويل .
*
وَدِدتُ لو أنني أفتحُ ردائي
فأجدُ عرشاً صغيرا
يناسبُ أحاديثَ الإفكِ
التي نؤلفها نحنُ المخموُرين .
فطالما حلمتُ بأنني أحفرُ في لحمي
لأكشفَ عن جسدٍ آخرَ
أدعي أنني أخفيتُ نُبوَته
عن هؤلاء المخادعين .
وحتى لو كان الأملُ إلى ذلك سيطول
لا أرى غضاضةً
في أن أحملَ محبرتي وأوراقي
إلى الصحراء
لأستكملَ رسالتي
متجاهلاً ذلك الحصى
الذي يلقيه أبناءُ السِفلةِ على صومعتي
وبعد أن يصيرَ مُلْكي بحجم الغمام
سأكتبُ للوحدةِ صك براءتها
وأقولُ لها :
اذهبي يا مسكينةُ
يا شقيقةَ المرضى والمعوزين
وأصحابَ الرسالات
أما خَرَاجُكِ ؛
فلستُ في حاجةٍ إليه
ابعثي به
لصوامعِ الشعراء .
*
ميلادي كان قبل إخوتي الثلاثة
بسنين متفرقة
ومع أنني كبيرهم
لمْ أعرف أن هذا سيكون مؤلماً
سوى عندما تجاوز البعضُ
في حقِّ العائلة
كان عليَّ وحدي
أن أقيم جدرانا بحدود السماء
لحماية الصغار
وَبِصَمْتِ العارفينَ خلعتُ ردائي
تشجعتُ بكلمات الثناءِ الوفيرة
واثقا من أن السور
الذي يعلو كل يوم
سيحقق لنا ذلك الصمت العميق
وها أنا أواصل مهمتي
كرجل يكبُرُ هؤلاء العميان
وأرددُ أغنياتٍ بسيطة
سمعتها منْ عابرينَ
عن النبل والأخوة والحب الدافئ
وعندما كانت تطولُ علينا الليالي
ونشعرُ بالوحشة
كنا نقفُ خلفَ السور
ننتظر وَقْعَ أقدامِهم .
*
إنني الميتُ الأعمى
لا ماءَ ولا شمسَ ولا تراب
أدعوُ رفاقي
لنقفَ في ظل الساعات
ونستعيدَ من أحببناهم
نتنادى بأسمائهم
أيام كُنَّا صحائفَ بيضاءَ
وعيوناً واسعة
يحملُ العاشِقُ مِنَّا
شارةَ خاتمَِه
يقولُ :
أنا السرُّ الباقي
يمدُّ عُنُقَه المرتبكة
وبلا أي علاماتٍ على الطريق
يسيرُ مرتعشا
كأوراقٍ جافة
ينادي رفاقه
ولا أحدَ يمدُّ يداً
إلى هوَّةِ الفراغ .
إنه الميتُ الأعمى
تَحُفُّهُ أشجارُ الكُمثرى
تمرُّ الثمراتُ بين راحتيه
ولا يراها
فيسميها بأسماءِ شقيقاته
يناديها
فتستقرُ بين أصابعه
وعندما ترتعشُ أطرافه
من اللَّذة
تَدلُّه على مَوْضِعِ أنوثتِهَا
بالرَّائِحةَ .
*
في سنينيَ المنقضية
كان رفاقي يخفقونَ في التحدثِ إليَّ
عن أشياءَ نافعة
كنتُ أردُّ باقتضابٍ
بما يعني أنني أتحلَّى بكثيرٍ من الحكمة
لكنني كنتُ أبدو كَمُرَابٍ
سَرَقَتْ الكوليرا زبائنه
وامتلأتْ فِخَاخُـهُ بالموتى
وهكذَا عشتُ تَعِساً
إلا من تلك الوريقات
التي أزالت الأمطارُ
سواد أحْبَارهِها .
*
أنا الراحلُ .. الغريب
لا ظلَّ لي ..
لا خُطَى .. ولا غُبار
أعترفُ بأنني
عشتُ عمري بلا جدوى
أطاردُ التعاسةَ الهاربة
التي ربيتُها – ذاتَ يومٍ –
في بيتي
واعتَقَدْتُ – مِنْ فَرْطِ الأُلْفَة –
أنها شقيقتي .
ماتَ أبي مَغْمُوماً لِأَجْليِ
بعدَ أن رآني في أحلامه
مَجُوسياً مهيضاً
يَخُّبُ يوماً في الدِمَقْسِ
وأياماً في الأوحَال
رآني بقلبِ رصاصةٍ في الأحراش
وبقلبِ زُنبقةٍ في الأراضي
لم يترك خلفَه إرثاً
ولا سلطاناً
تركَ حقائبَ من رسائل
لَمْ تصل أهلها
وجوعاً يسكنُ بين الفكَّين
كانَ موتُه حاراً ولاذعاً
يُذَكِّرُنيِ دائما
بانقباضِ الأحشاء
أما السيدُ الوحيدُ الذي سَارَ في جِنَازَته
فقد اشتراني مِنْ أمي
لأكتبَ له برقياتِ التعازي
وأُحَمِّمَ الكلاب
كنتُ أزيلُ كلَّ يومٍ
مكيالين من الطينِ عن أقدامي
وأنامُ تحتَ ذيلِ حصان ،
وبلا كَلَلٍ أنفثُ أحقادي
في أوراق مبهمة
أقرأُها
ثم آكلُ ما طابَ لي منها
أمَّا العظامُ البائتة
ولفافاتُ اللحمِ النَّتِنَة
التي كان عليَّ أن أحمِلَهَا إلى المزارعين
فكنتُ أذهبُ بها إلى المزَابِلِ
وأنا مصابٌ بالدوار .
تعلَّمتُ أشياء كثيرةً
ومن أجلِ أخطائي الصغيرة
عُدْتُّ مخذولاً إلى أمي
أضربُ الأرضَ من الغيظِ
لكنها كانت تُغَازلُني
وتعتبرنُي رَجَلَهَا
الذي عادَ سَالماً من مُستعمراتِ الطاعون
صرتُ أتمثلُ روحَ أبي
أُصدِرُ المراسيمَ
وأستعيدُ مهابتي العائلية
تزوجتُ
وأنجبتُ بنينَ وبناتٍ
حررَتْني الشمسُ
من بَرْدِ الردهات الواسعة .
إنها روضةٌ
أهدانِيهاَ أبي في المنام
تعلَّمتُ فيها الغناءَ
ورسومَ الديار
صنعتُ غابةً
يتحدثُ إليها أبناءُ الجيران
في ساعاتِ العُزْلة
يسيرونَ بين هزيعِ الليل
وهديرِ الصباح
يحررونَ الساحاتِ
من الماضي
ويقذفونَ أحجارَهم على الشياطين .
أما العشَّاقُ الغامضونَ
فمازالوا هناك
يضللونَ رِفَاقَهم
العائدينَ من الحرب
إلى أحضانِ الأمهات .
كنتُ أقولُ لأِمي :
هذانَ الساعدانِ يقويان
يوماً بعد يوم
ماذا سأفعلُ بِهِما ؟
فتفكرُ في العالم المملوءِ بالغُبار
وتنهاني عن صناعةِ الأغلال .
وها أنا أكبرُ
مع سعفِ النخيل
وجروحِ الأشقاء
أستمعُ جيدا
لِدبيب الثورات
أكرهُ الفلاحينَ
الذين خَانوُا " عُرابي "
و" الأعرابَ الذين قالوا آمنا .."
أسكنُ على مَقْرُبَةٍ
من شارع " ناصرِ الثورة "
أُلَوِّحُ لِسَاكِنِيه بمنديل الزعيم
وأقْسِمُ لهم
أن أبويناَ كانا ساعيي بريدٍ
وطالما حَمَلَا أطناناً من الشكايات
إلى الوالي
فتصرخُ عجوزٌ من شرفتها
طالبةً رسائلَ أبنائها
الذين ماتُوا
ثم تعاهدني أن أبعثَ بِدُعَائِها
- في رسالة –
إلى السلطان .
مات أبي مَغْمُوماً لِأجْليِ
لكن وصيته
التي مَزَّعَتْ أطرافي
أَنْ لا أضعَ رأسي
في مَوْضِعِ أقدامي
وها أنا
أتعلمُ الحرثَ والزرعَ وصناعةَ الشواديف
لكنني أخشى
أَنْ أضعَ النهاية في موضع البداية
إذ "ليس بإمكاني
أن أضع كل شيء
في مكانه" .
بالأمسِ عدتُ إلى بولاق
منذُ سنواتٍ قليلةٍ هجرتُها
لَمْ أفكر في الأمرِ كثيراً
أعطيتُها ظهرِي
تَفَلْتُ على شوارعِها وحَوَانيتها ،
عَلَى نِعمة، وزكية، ومحمد عبد اللطيف، والشيخ حامد، ومرسي، وأذكار حسين، وأم أباظة، ومحمد تايتانيك، وعبده حركات، ومحمد عبد الدايم،
وفرحة محمد علي،
تلك الفتاةُ التي كانتْ تبيعُني
أكياس الخبز بيدٍ
وتقبضُ على كِتَابِها المدرسي بالأخرى
وعندما كانَ يعاودُ جنونُ الهستيريا
أبَاَهَا
كانتْ تربطه إلى جوارِها
أسفلَ عامودِ الكهرباء .
آخرُ مرةٍ قابلتُها
طَلَبَتْ كتاباً كانَ بين يدَيَّ
فمنحتُها إياه ،
وفي الغدِ أعادته إليَّ ،
وقد ختَمَتْ صفحاته بأحمرِ الشِفاه
لكنني كنتُ مشغولاً
أفكرُ في طريقةٍ لِمُدَارَاةِ أَلَمِي
ونَذَالّتي
فمحمدِ عبد اللطيف
تلِفَ كبده وأفسدَ السُكرىُ أطرافَه
وأم أباظة فقدَتْ توأماً
في مستوصف مكةَ لأعمالِ البرِّ والإحسان
ومحمد عبد الدايم
ذبحهُ ثلاثةٌ من السائقين المخمورين
في شارعِ ناهيا
أما خالته أذكار ..
فقد ماتتْ هي الأخرى
متأثرةً بمرضِ الإيدز
بعد أن تزوجتْ تونسياً متعلماً
سمحَ لها بأنْ تكونَ سفيرةً
جنسيةً
على أَسرَّةِ ما بعد الحداثة .
والشيخ حامد حوَّلتهُ عربةُ "فيشار"
في ميدان لبنان
إلى لصٍ ظريف
يقضي أوقاتَ الراحة
على أسِرَّةِ الشواذ ،
وبطيبةِ أهل الدلتا
يأخذكَ من يدكَ
إلى طريقِ الواصلين
أما عبد السلام الراوي
أمين الشرطةِ المحترم
فقد غيَّرَ رأيهُ تماماً
في تجارةِ أبيه
وفي شرعية المخدرات وحقنِ الماكس
وأصبحَ يسمحُ لزوجته
باستقبال أصدقائِه
وهيَ في قمصان النوم .
تغيرَتْ بولاق
وأصبحَتْ شوارعها منكسةَ الرؤوس .
كنت حزيناً أمام الماضي ،
أمام ذكرياتٍ حارقة
تركتُها في شارع "محمود السميعي" ،
حيث آلاف المارة ..
عرباتُ الفاكهةِ ،
صناديقُ البخورِ ،
باعةُ الخبز ،
والنشالونَ المحترفون ..
حيث يقفُ شيخٌ
بلحيةٍ كثَّةٍ
على كرسيٍ مرتفع وينادي :
" تبرعوا لبناء داراً للأيتام "
فأشيرُ إليه ،
يميلُ برأسه ناحيتي ،
أهمسُ في أُذنه :
" تبرعوا لبناء دارٍ ... "
فيستكملُ إعلانه بغيظٍ :
" المؤمنين إخوةٌ فتعاونوا .. "
فأقول له :
" المؤمنونَ إخوةٌ .. "
فيدفعُني بقدمهِ
ويُشَيِّعُنيِ بِقُفةٍ من السباب ،
ثم يسألُني :
" يا بن الشر ... ...
تظنُ أنَّ اللهَ يسكنُ في بولاق "؟!
فأجْفُلُ عائدا .
ورثتُ المجدَ كابراً عنْ كابرْ
يمكنكم أن تسألوا في ذلك
قصَّاصي الأثرَ
وخرائطَ الأنسابْ
كان جَدٍّي يقفُ أمامَ شجرة
عبادِ الشمس
ويهتف للسماوات
أن تمنحهُ الكثيرَ
من تلك الأبراج
وبعد أن أضاءتِ الأقراصُ الذهبيةُ
مزرعته
أرسلتْ لهُ العنايةُ عشرات الجرذان
ولمَّا لمَ ْيجد ما يفعله
لمْ يتوانَ عن إحراقِ بيته
حتى يتمكنَ من وضعِ القيودِ الحديدية
في معاصمِ الأعداء
هكذا صارَ سيداً
تخشاهُ الأكمةُ والسَّحَاليِ
وتسقطُ أمامَ مشيتهِ القفاطين
التي طالما أقامتْ هيبةَ الرجال
وهكذا تحولتْ أصابعه الناعمةُ
إلى سيفٍ في محراب
وها أنا
أضعُ يدي على إرثهِ مُفْرَداً
وأقبضُ عصاهُ بثقةِ العارفين
وعلى رِسْلِهِ ..
أنقلُ حاجياتي إلى مقامٍ رفيع
أتركُ شَالَهُ
تتنادى برائحته الجموع
ورغم أنه قضى
قبل سنواتٍ غيرِ معلومةٍ
ولمْ تترك منه الذئابُ
غير ملابسه وخُفَّيهِ
إلا أنني مازلت
احتفظُ بتلك البوصلةِ المشئومة
التي قال إنها هبطتْ عليه
في المنام
إذ وضعهاَ ذاتَ يومٍ في جرابه
وشقَّ بها الطريق إلى الصحراء
دون أن يفصحَ عن الأسباب .
لَزَّنيِ كَتِفٌ عَارٍ
فانتبهتُ إلى نافورةٍ مِنَ البياض
سألَتْني إن كنتُ أعرفُ الطريق
إلى خِدْرِها
فحسبتها " عُنيزَةً "
وحسبتُني " امرأَ القيس "
قلتُ لا بأسَ
منْ أنْ أتركَ – أنا الآخر –
دمَ أبي يضيعُ هدراً
وأتغافلُ عن قاتليه
فهي نذلةٌ جميلةٌ
اصطفتها الأحراشُ
وطاردتها القبائلُ
وأنا نذلٌ على مشارفِ الصحراء
أُدمنُ التوجعَ والخمرَ
وأملأُ قصائدي بالعبراتْ .
ضحِكَتْ ضحكةً مجلجة
فاتني وصفُهاَ
وسألتنيِ عما إذا كانَ مِنَ الملائمِ
أن تكشفَ عن حُقَّينِ ناهدينِ
من العاجِ
يعلوانِ صدْرَها
وقالتْ :
لا حاجةَ لنا بالسراويل
نحنُ في آخر يونيو
فتذَكَّرتُ أياماً
ذاتَ رائحةٍ عبقةٍ ونفَّاذة
تتمددُ فيها الشهوةُ والرَّهَزَاتُ
على الخلاخيلِ العطشانة
ولعنتُ أبي
الذي ماتَ ميتةً غير مناسبة
وتركَ لي جنوداً حمقى
يبعثونَ رُسُلاً غير محصورين
إلى الصحراءِ
فلا يعودوا
ومنذ سنينَ لا أعرفُ عددها
مازال جنوده هناك
يتوعدونَ الناقةَ
التي أَحبَّها البعير .
النجومُ التي تُودِّعُ الرَّاحلين
الجنرالُ يموتُ مرتين
الميتة الأولى
كنتُ أُعِدُّ نَفْسي
للانخراطِ في صفوفِ المنتصرين
واعتبرتُ الموتى
سفهاء لا أملَ فيهم
واليوم تأتي الأخبارُ
بانهيارِ الجسرِ
الذي اعتدنا أن نقضي تحتهُ
عطلةَ الصيف
هكذا وَدَّعْناَ الماضي ،
ودعنا السيداتِ اللائي
كنَّ يتغامزنَ علينا
وهنَّ يدلِّينَ سيقانهنَ
في ماءِ النهر
ودعنا الأوراقَ والأقلامَ
والأغنياتِ التي كنا نسرقها
مِن مناسك الأشجار .
لابد أن يذهبَ كلٌّ منا
في طريق ..
ستختارُ أنت الإمارةَ
والجيوشَ الجرارة
وأحلامَ الفرسان
وسأختارُ – كعادتي –
جِنيَّات البحر ، والغرقي
والوسواسَ القهري
وبعد أعوامٍ طويلةٍ منَ الأن
بعدَ أن تكونَ الأيامُ – على عادتها –
قد غيَّرَتْناَ
سيقفُ كلٌ منا على منصتِه
ويطلقُ الرذاذَ في وجهِ أخيهِ
لكن الأنباءَ ستأتي
بانتصاراتكَ المذهلة ،
وستعودُ متشحاً بأعلامِ البلاد
غير أن جثتكَ أيها القائدُ
ستكونُ قد تعفَّنَتْ
منْ أثرِ السير في غبارِ المعارك ،
سيكونُ الذبابُ قد أكل جفنيكَ
وربما أتىَ على عينيكَ البُنِيَّتَين .
ستشيعكَ الجموعُ بالزغاريد والبكاء
وسيمنحكَ الشعبُ ألقاباً
لم تَرِدْ لكَ علي بال
وبعدَ أن يعمَّ السلامُ
ويعودَ الجالسونَ على الشاطئ
مع جنَّيات البحر
ليحصدوا الغنائمَ ويدفنوا القتلى
سوف يقيمونَ مطاعمَ وملاه
ويمهدونَ الطرقَ إلى المنتجعات ،
فإذا جربتَ أن تغادرَ قبرك
لتطمئنَّ على شعبك
املأْ سروالك بالحصى
فالحقيقةُ – لا زالت –
تحتاجُ لمنْ يرجُمُهاَ .
الميتة الثانية للجنرال نفسه
عاد الجنرالُ إلى الحياة
مرتدياً بَزَّةً طويلةً وفضفاضة
كُمَّاهاَ يبدوان أقصرَ ما فيها
بينما تثقلها عشراتُ النياشين .
كانَ يستيقظُ – كعادته –
قبلَ طلوع الشمس
يسندهُ جنديُّ الخدمةِ
إلى الحمَّام
ثم يُعدُّ لهُ قهوةَ الصباح
وقبلَ أن يهمَّ بالخروج
يقفُ أمام المرآةِ
لِيُصَفِّفَ شعرهُ الأجعد
ولا يُلقى بالاً لأشياء تبدو مهمة .
بالأمسِ كان يقفُ في تقاطع شارعي
طلعت حرب و 26 يوليو
يسألُ المارةَ مساعدتَه على العبور
لكنه – كعادته –
في إضاعةِ الفرصِ السهلة
كانَ يسألهم
عن أشياء لا تعنيه البتَّة ،
وبدورهم اعتبروه رجلاً فضولياً
يحاولُ إثارةَ الضجيج .
كان كُمَّاهُ القصيران
يكشفانِ عنْ رصاصاتٍ قديمة
اخترقتْ ساعديه
وهو أمرٌ أثارَ الكثير
مِنَ القرفِ والدهشة
لكنه تغاضى عن قسوةِ تلك النظرات .
دَلَفَ إلى " إكسلسيور "
مكانٌ نصفُ أنيقٍ
اعتادَ أن يقضي فيه سهراتٍ
مفعمةٍ بالكلامِ والذهول
كانت رائحته النفاذةُ
مثارَ سخرية منَ الجميع
كان يبدو مغبراً وأشعثَ
لا يقوى علىَ تحريكِ سبَّابتيه ،
النادلُ يعرفه جيدا
ففي المكانِ نفسه
رأى على طاولته العديدَ من الخططِ الحربية
المكتظة بالشفرات
ومنْ دونِ أن ينظر ناحيته
عادَ إليه بقهوتهِ المفضلة
حاولَ استدراجه الي الكلام
لكنه لم يكنْ يقوى على فعلِ شيء
نزعَ سلاحه مِنْ جانبه
وحاولَ أن يدسَّ في فمه
كوباً من الماءِ والسكرِ
لكنَ عظامه تداعتَ
مثلَ كومةٍ منَ الرمال
أما رجالُ الأمنِ النزيهون
- رغم أنهم تأسفوا على مصيره –
فقدْ أَلْقُوا سلاحَه وعظامَه
في عربةٍ تكتظُ بالمجرمين ،
لكنهم قالوا :
إنهم سيشيعونَه
كما يليقُ بجنرال .
لمَ ْيذكرُ " أورهان ولى "*
أنه كان حزينا
عندما قطَعَتْ تركيا لِسَانه
فصارَ يكتبُ بالحروف اللاتينية
ولا ينطقُ العربيةَ
إلا في الحَمَّام .
فقط ، يذكرُ أنه نسيَ الأمرَ
وكتبَ قصائدَ لا بأسَ بها
عن الحاناتِ والسفرَ
والنجومِ التي تودعُ الراحلين
كانت اسطنبولُ
تَخْرِقُ قَارَبَها
وتسيرُ مترنحةً
على مقاهي جنوةَ وبرلين وباريس
بعدَ أن سَلَّم " آلُ عثمانَ "
عِمَامةَ الامبراطويةَ
لجنود " أتاتورك "
كان "أورهان" يَغْرُبُ مع الغاربين
يتحدثُ بأسىً
عن الاستسلامِ اللذيذ
للأفرانِ التي تطبخُ مقالاتِ الثورة
وعن الحريةِ
التي نالتها تركيا
فأمكنها – دونَ جهدٍ –
أن تمتلئَ بالقِحَابِ والداعرين
وأنْ تغنيِّ :
" ملاَ الكاسات .. "
و " آماَاان .. يا لا لا للي .. "
ولكن بالإيقاعاتِ اللاتينية
كذلك أَمْكَنَها
أنْ تُكَرِّمَ وُلاتَها في الأقاليم
فَتُعَيّنَ رئيس الطباخينَ
حاكماً عليهم .
" أورهان ولى "
الذي غنىَّ لتركيا
واعتبرَ نفسه ضالعاً في حبها
صعدَ على أكتافِه
الأوباشُ وتجارُ العبيد
فماتَ دون السادسة والثلاثين
بانفجارٍ في الرأس
" مسكين أورهان أفندي ".
* شاعر تركي ولد عام 1914 ورحل عام 1950 .
لا شيءَ معي
أقدمه للرفاق ..
لا نمطَ الانتاجِ
ولا فائضَ القيمة
معي مصباحٌ
عالجتهُ بزيتِ أجدادي
وها أنا أسيرُ في ظِلِّه
لأبحثَ عن تلك الأوراق
التي سقطتْ – عرضاً –
تحتَ أقدامي .
إنها وثائقُ أجدادي ،
فؤسُهُم ،
وتشققاتُ أقدامهم ،
بعضُ السياطِ التي زرعها الغرباءُ
في برزخِ ما بين البحرين ،
والتعاويذُ التي تركها آلافُ العبيدِ
قبلَ أن يقضوُا نَحْبَهم
في مقاطِفِ " ديلسبس " .
كانت القناةُ خطًّا متعرجاً
رسمهُ سكيرٌ
على ورقةِ الحساب
الآنَ صارتْ خروفاً ثميناً
في زجاجة شمبانيا ،
سنسكرُ معها
ونرقصُ على إيقاعاتِ موجها
أما الألعابُ القادمةُ
مع السفائنِ
فستدفعُ الزوجاتِ والأولاد
لِحَضِّنا على النسيان ،
فالرفاقُ تناكحوا
وتناسلوا
صاروا قساةً ومخيفين .
معذورونَ يا إخوتي
يا أهلَ الأرواحِ المنكسرة
والعيونِ الغائرة
يا أحفادَ العبيد ..
دَعُونا نتبادلُ القبلات
نستأنفُ الحبَّ
ورسائلَ الغرام
نغنيِّ للعالم
الذي يمتثلُ لغاباتِ النور
ويتحدث إلى مدينتنا
كأرملةٍ محترمة
ربطتْ بطنها منَ الجوع
حتى تربِّي أبناءَهَا .
دعونا نقولُ لها :
أيتها القناة
يا مربيةَ المدرعاتِ
والقاذفاتِ
والشهداء
تحدثي إلينا ،
نحنُ العشاقَ القدامى ..
تعالي نؤلفُ أوبرا مفتوحةَ الأبواب
لا يسرقُها الجبناءُ والقساة
جُباةُ الضرائب
والبراطيل .
أما أنتَ أيها الأرغنُ
يا حارسَ البرزخ ..
ثمةَ أوراقٌ ضاعت من الرفاق
دعْ أحبارها بحالتها
ولسوفَ يتعرفُ الأجدادُ
-الذين غمرتهم المياه –
على التعاريجِ
في خطوطِ أحفادِهِم .
أغلقنا الستائرَ
بينَ الماءِ واليابسة
بعدَ أن تنفَّسنا
هواءَ قُوَّتِنا الفائضة
جلسنا نرقبُ البنائين
وهمْ يضعون الأحجارَ فوق الأحجارِ
ويصنعون البيت .
جلسنا نرقبُ الصنُّاعَ
يدقونَ الأخشابَ جنب الأخشابِ
ويصنعون القواربَ
والمزامير
جلسنا نرقبُ الزرُّاعَ
يغرسون البذورَ جنب البذورِ ،
يرقبونَ المياهَ في الليالي السرمدية ،
ويمنحوننا الثمرات
ثم جلسنا نرقبُ المرابينَ
وقُطَّاعَ الطرقِ
وهمْ يسرقونَ البيتَ والقواربَ
والثمرات .
كانت الحياةُ تبدأُ مِنْ هنا
قبلَ أن ينعقَ فينا الغرابُ
ليعلمنا كيف نخفي جثامينَ الأشقاء
ومع ذلك سوفَ نطالعُ ببالغ الدهشة ..
أخبارنا في صحف الصباح :
- ممثلٌ كوميديٌ منْ أبناء الشعب
يبني أربعةَ حوائطَ حولَ عائلته
حتى لا يعرفَ الفقرُ طريقًا إليها
- بِنتٌ – لا زالتْ تعتقدُ بمسألة الشرف –
قفزَتْ أمام المترو
هرباً من الفضيحة .
- متعلمٌ شابٌ يقفزُ في النيل لأن مسئولاً رفيعا ذَكَّرَهُ بوضاعةِ أصلهِ
- متشردٌ يحقنُ البرلمان في مؤخرته
بالماكستون فورت
في حارة بشارع لاظوغلي
- مجلسُ الوزراء يقدم عرضاً
لربطاتِ عُنقه المعفاةِ من الضرائب
المستوردة مع الكبد والقوانص الفرنسية
- المعتصمونَ في الميدان
ضاجعوا زوجاتهم ليلة الجمعة
كان ذلك تحت إشرافِ
قوات الأمن
- الرئيس المسكين
مازال يعاني
منْ زيادةٍ مطردةٍ في الوزن .
الأصدقاءُ الجُدُ دْ ..
لن أستطيعَ وصفَ وجاهتِهم
هذا ما يؤكده لكم
واحدٌ من ذوي الأصولِ غير المشرفة
لقد تأكدتُ منْ تلك المهابة
في أشياء غيرَ محصورةٍ
وها نحنُ نتبادلُ الأنخابَ
نجلسُ على المحفَّاتِ اللَّينة
نطلقُ بخورَ الصندلِ فتعبقُ المكان
ونتحدثُ في معظم الشئوون
بالأمسِ
تحدثنا عنِ النساءِ وقصب السكر
عن السيجار الهافانا
أحداثِ البورصة
ومزارع البنجر
تحدثنا كذلك عن السيورِ المغشوشةِ
التي أودتْ بعشراتِ العمالِ
في المصانع
وعن المزارعينَ الغُفْلِ
لَمَّا ظهروا
عرايا مطأْطئين
بعد أن حصدتِ البنوك والمرابون
محاصيلَهُم
قال أحدهم :
المستقبلُ يبدو – رغم ذلك –
مثل كوكبٍ ذهبي
وقال آخر :
تأملْ أعوادَ القصب الهجينة
وهي تغطي السماءَ
بنبرتها الحادة .
وقال ثالث :
دعونا نَخْلُدُ للراحة
ولنتأمل – عَلَى مهلٍ –
أناشيدَ الجياع .
كنتُ أفكرُ آنئذٍ
في تلك الأعالي
بغموضها المبهمْ
في الدموع التي جرتْ
منْ عيونٍ غادرتها الومضاتْ
في الرفقاء الذين صدموني
بانكسارهم
وفي الموسيقاتِ الجنائزية
التي تملأُ الشوارعَ
كنت أشعرُ بغاباتٍ بعيدةٍ
أكثرُ حُنُوًّا
على المخبولين والجوعى
وأتصورُ السلالةَ
وهي تغادرُ ألوانهاَ
وأتساءلُ متمتماً :
كيف استطاعَ ذلك السحرُ الأسود
أن يستحضرَ جثثتَ أشقائنا
إلى مائدةِ العشاء .
رسالتي التي لابدَّ أنْ أرسلها
كانت للسيد شين شين .
الذي تركتُه قبلَ سنينٍ
إلى جوارِ الحَمَامِ
وأشجارِ المانجو
والرقيقِ الأبيضِ
والسلام .
حتى ذلك الحين
كانت الأمورُ طيبةً
كان بالفعل قد نجح
في تدبيج عدةِ أنفاقٍ
إلى الأعالي
فاشترى آلافَ الأسهمِ
وعشراتِ الجواري
فتحَ طاقةً إلى الله
لا يعرفها أحدٌ
وطاقةً أخرى إلى جوارها
تهبطُ منها الحسنات
تعلََّمَ الترانيم
التي يُلقِّنونها في المناسباتِ السعيدة
والترانيمَ التي يلقنونها
في الظروفِ غير السعيدة
لكنه تعجَّلَ المسيرَ إلى وحدتهِ
بعد أنْ تعرَّتْ أفعالُه
وَلَاَنَتْ منهُ العظام
كان ينظرُ في شحوبٍ
إلى لافتات مضللة
يتداعى
ولا أحدَ ينتشلهُ من الغيبوبة
كان الليلُ ضالعاً في المؤامرة
وكان الرجلُ يبحثُ عن المجدِ
في آخر الأصقاع
يبني باباً للدخول
وشبَّاكاً للشمسِ
وستائرَ لعيونِ الحُسَّاد
يريدُ أن يبعثَ بحرارته المتوترة
إلى السماء
وإلى الخليلات
اللائي يركضنَ خلفَ الأثير
لكنه لم يكن يرى أحداً
فصارَ يهذي
بكلماتٍ تبدو كأوراقٍ جافة
عن نساءٍ يراهُنَّ في المنام
بينما تَقْضِمُهُنَّ شفاةٌ غليظة
وها أنا
أعيدُ على مسامعه رسالةَ الطمأنينة
عزيزي الغائب شين شين :
أما بعد ،
عُدْ إلى أهلك أيها المحظوظ
فقدْ شملتك المغفرة .
الأنفاقُ لا زالت تؤدي الأغراضَ نفسَها
الأسهمُ صارت ناطحات
ونساؤُكَ صِرْنَ أكثرَ استدارةً
وأقلَّ تَمَنُّعاً
والسلام .
الشعراءُ الرفيعونَ
ماضونَ إلى أشغالهم
يسهرونَ فوق التلِّ
يتقدمونَ مواكبهم
فُرادَى وجماعات
يصنعونَ المخادعَ الوثيرةَ
بانتظار السوسنات والأقمار
يبكونِ الخيالاتِ الآسرة
يمجدونَ الفصاحةَ
ويسهرون بمسدساتهم
في حراستها .
الشعراءُ الرفيعون
يجتازونَ الوادي
وهم يترنمون
يسكبونَ الكؤوسَ
في أفواهٍ أحرقها الحبُّ
وأوجَعَتْها التنهدات
ثم يضعونَ ساقاً على الأخرى
ويتحدثون بشموخٍ
عندما يمرُّ عليهم الغرقىَ
ويسألونهم :
أين الطريق .
الشعراء الرفيعونَ
ماضون إلى البهجةِ
يلصقونَ زهورَ التيوليب
على أجسامِهِم اللَّدنة
فيبدونَ كنقوشٍ فرعونيةٍ
يربِّيهاَ الماضي
ثم يتوعَّدُها بالنسيان .
الشعراء الرفيعونَ
يقاومون ..
يواجهونَ شتاءاتهم
بالتناسُلِ
والكثير من الأحْبَار .
الشعراء الرفيعونَ
يخرجونَ إلى أصْيَافِهِم
بألويةٍ خضراءَ وحمراءَ وصفراء
وطبولٍ وموسيقى
يهتفونَ بأسماءٍ
لا يعرفهُا أحدٌ
واثقون أن الحقولَ
تُشَايعهمُ الغِنَاء .
الشعراء الرفيعون
يمشونَ في خُيلاءٍ
وسط قبائلَ مهزومة
يذهبون إلى الحصاد متأنقين
يتحدثونَ عن أنفسهم
لساعاتٍ طوالٍ
ويتأسفون على أن الشعب
لم يكن في الساحة .
الشعراء الرفيعون
طُوبَى لَهُم
مازالوا يرفعونَ عقيرتهم بالغناء
وفي كل يومٍ يبعثونَ ساعي البريد
بِلُفافاتٍ ورقيةٍ مُعطرةٍ
إلى الأحراش
ورغم أنَّ أحداً
لم ينتبه إلى وجودِهِم
مازالوا
عَلَى
قيد
الحياة .
وقد رسخ الشاعر الراحل مسارا شعريا متميزا ابتداء من ديوانه الأول "حمامات الإنشاد"، لتتوالى إصداراته ("خيول على قطيفة البيت"، "هواء لشجرات العام"، "طرق طيبة للحفاة"، "الشيطان في حقل التوت"، "أوقات مثالية لمحبة الأعداء"، "قصائد الغرقى"...) الى جانب العديد من الدراسات النقدية.. هنا مجموعة شعرية للشاعر ضمن ذاكرة متقدة تعيش في اللانهائي.