بعد أن يقدم الكاتب والناقد الفلسطيني في هذه الدراسة بعض الاستقصاءات النظرية عن النقد النسوي ومتغيراته، يطبق تلك الاستقصاءات على مجموعة كبيرة من النصوص النسوية الفلسطينية الجديدة، ويبلور عبر تحليله لها تغيراتها الجمالية والمنطلقية.

الكتابة من داخل السور

في الأدب النسويّ الفلسطينيّ الجديد

وليد أبوبكر

الأدب الفلسطيني، في عمومه، مثل كلّ أدب، محكوم بالواقع الفلسطيني، وناتج عنه. ولأن الواقع الفلسطيني، منذ عقود طويلة، يعيش قضية احتلال استيطانيّ، لا يتوقف عن محاولات تهجير شعب، ومصادرة أرضه، واستبدال واقعه، لصالح مشروع مفتعل، فإن هذه القضية تصبح جزءاً من الحياة اليوميّة للإنسان الفلسطيني حيث يكون، وتكون بالتالي مصدرأ أوّل من مصادر كتابته، حين يمارس عملية الكتابة. داخل هذا التعميم الواسع، توجد تفاصيل كثيرة، لها أثرها الكبير في تنوّع الإنتاج الأدبيّ الفلسطيني، وتفاوته كمّاً وكيفا. ولعلّ أبرز هذه التفاصيل يمكن أن يصنف في محورين واسعين: الأول له علاقة بالمكان الذي يعيش فيه الفلسطيني، ومدى تأثيره في الرسالة التي يحاول إيصالها فيما يكتب من أدب، بينما للثاني ارتباط بالنوع الإنساني الذي ينتمي إليه من يكتب، ومدى تأثير هذا الانتماء في واقع هذا النوع، أو الجندر، وفي التعبير الأدبي بعد ذلك، قضايا وأساليب، إذا كانت الخلافات الطبقية لا تفرّق في تأثيرها بين الجنسين.

ويمكن اختصار المكان الذي يعيش فيه الفلسطيني جغرافياً في موقعين: في الشتات، حيث يعايش حلم العودة، ثمّ داخل الوطن التاريخيّ، حيث يمارس ـ ولو رمزيّا ـ فعل التحرير. وإذا كان حلم العودة، والعمل الذي لا يتوقف من أجل تحقيقه، منذ ولدت القضية، لا يختلف في محصّلة أهدافه عن فعل التحرير، إلا أن الواقع، الذي يتحرّك داخله كلّ منهما، يكون مختلفا، وطريقة مواجهة الواقع ـ فنيا ـ تكون مختلفة أيضا، في تفاصيل أساسية ومهمّة، اختلاف الحلم عن الواقع، واختلاف واقع عن آخر، وهو ما ينعكس بشكل واضح على الكتابة الفلسطينية. برز هذا الاختلاف خصوصا بعد اللقاء الجزئيّ الذي حدث بين الحلم الذي كان يقاوم من الخارج، والواقع المقاوِم في الداخل، فقد أنتج هذا اللقاء كثيرا من التراجع الأدبيّ لدى أصحاب الحلم القديم، الذي كسرته العودة المنقوصة، رغم كلّ أساليب التظاهر والتباهي والمكابرة، وربما الانتهازية التي رافقت ذلك، فلم تفعل شيئا أكثر من أنها عمّقت التعبير عن حجم الانكسار أو الخيبة سلوكا، كما أشارت إلى عجزها عن إنتاج أدب يتطلع إلى النهوض من عقبات المرحلة الجديدة، ويتجاوز الأدب القديم، ويكون رديفا للنوع الذي ولد فوق الأرض المحتلة، وترعرع فيها، لدى من قاوموا الاحتلال بالصّمود، وبالانتفاضة عليه، قبل أن يلتقوا بالحلم الخائب، وممثّليه من الكتاب، ويقع بعضهم تحت طائلة التأثر بما ارتكبوا.

وإذا كان الرجل الكاتب يعاني من هذا الواقع، حتى وإن تغاضى عن صدق معاناته ببعض مكاسب مرحلة الخيبة، إلا أن المرأة الكاتبة تعيش واقعاً أكثر ضيقا ومضايقة داخل الواقع العام، أو دائرة أكثر ضيقا داخل الدائرة العامة، بسبب كونها امرأة، تحمل تاريخا ممتدّاً لانتقاص مكانتها من ناحية، وبسبب كونها كاتبة، يتمّ تداول اسمها (الذي يعتبر عاراً لا يصح ذكره صراحة، بمعايير المجتمع الأبويّ) من ناحية أخرى، كلّ ذلك داخل مجتمع لم تمنحه سنوات النضال الوطني، بكلّ أشكاله، وعياً بالحقّ الاجتماعيّ للمرأة، ولا خطوة واحدة نحو الانفتاح أو التقدّم، أو الاعتراف بالمرأة شريكا كاملا، بل زادته تخلّفا، كمجتمع، وكأفراد، وانكفاء وعزلة، ليتحوّل ذلك، مع الضغوط التي يفرضها الاحتلال على الرجل والمرأة معا، إلى مضاعفة للظلم الواقع على المرأة عموما، وإلى تعريض المرأة الكاتبة خصوصا، لكلّ الشرور التي ينتجها مثل هذا المجتمع الذكوريّ المتخلف، الذي لا يزيده الاحتلال إلا ممارسة ضغوط بديلة، وتخلفا. وإذا كانت الكتابة النسوية، في أيّ مجتمع، مهما بلغت درجة تحضّره، أو درجة المساواة فيه، أو درجة الاستقلال التي تحقّقها المرأة فيه، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ينظر إليها كنوع من "عورة التأنيث"، وهي "عرضة للشبهة... تستفزّ قراءة الرجال، يقبل عليها معظمهم إقبالهم على هتك أسرارٍ تُريبُهم في حياة الكاتبة الشخصية"(1)، فإن هذا الترصّد الذكوري، أو المجتمعيّ بشكل عام، لكتابة المرأة، يتحوّل إلى ضغط لا يحتمل، ينقل الكاتبة من فعل الكتابة الفنّي، إلى فعل مقاومة لكلّ ما يحاول أن يمنعها من الكتابة، وهي مقاومة قد تصل درجة التمرّد حتى حدود الاستشهاد المعنوي، في حين أن كتابة الرجل غالباً ما تمنح صاحبها مكانة متميزة داخل المجتمع، ما يذكّر بما درجت عليه القبيلة العربية من احتفال، أو احتفاء، بظهور شاعر فيها، هو ذكَر بكلّ تأكيد.

الواقع الذي يضغط على المرأة الكاتبة، والذي يفرض عليها مواجهة مباشرة مع مجتمعها، إضافة إلى المواجهة العامة مع الاحتلال، يضعها أمام خيارين: الأول سلبي، يضطرّها للانسحاب، وذلك بأن يجبرها على الخضوع، والتخلّي عن فعل الكتابة، أو عن ثمرة الموهبة التي تمتلكها، وهو ما يمكن أن يلاحظ كثيرا في نساء بدأن ثمّ توقفن(2)، خصوصا قبل أن تتوسّع حركة التحرّر النسوية في العالم، ويكون لها تأثير ما، وإن اتسم بالمحدودية، في المجتمع العربي، والفلسطينيّ كجزء منه.

وقد يتحوّل هذا الخيار الأوّل نحو إحالة فعل الكتابة إلى عكس ما يقوم عليه، بمعنى أن تتحوّل المرأة إلى الكتابة وفق المعايير السائدة للمجتمع، ما يفرغ كتابتها من أصالتها، فتبدو في المحصلة وكأنّها لا تنجز شيئا ذا بال، وبذلك تفقد صفتها ككاتبة مبدعة، وهو حكم يمكن أن يطلق على عديد الكاتبات اللواتي يحوّلن الكتابة عن هدفها الثقافي/ الاجتماعي، وقد يتخذن منها حلية اجتماعية، تليق ببعض الفئات، لكنها تكون غير فاعلة، لأنها لا تهدف إلى التعبير عن موقف تقدّمي ثابت تجاه دور المرأة، أو إلى الدفع في اتجاه هذا الموقف، كما هو الحال مع نسبة عالية، وطبيعية، من محاولات الانتساب إلى الأدب، بين الرجال والنساء على حدّ سواء، بسبب ما تملكه الكتابة من إغراء بممارستها، وبسبب عدم قدرة الفرد أن يحكم على حجم الموهبة لديه، وهو ما يجعله يكابر تجاه حكم الآخرين عليه.

الخيار الثاني إيجابيّ، يمكن اعتباره موقف الأقليّة الموهوبة بالفعل، تلك الأقلية التي تَقبل الشّهادة الاجتماعية، في سبيل ما تؤمن به، وتُقبل عليها بجرأة وقناعة، ولا تهرب من التحدّي والمواجهة، وتتحمّل نتائج ما تطرحه من فكر، لأنها تملك هذا الفكر، وتصرّ على إيصاله، وهي نتائج غالبا ما تكون قاسية على المرأة، أيا كان الدور الاجتماعي الذي تقوم به، ليكون أدبها، كما يفترض في الأدب، نوعا من الخروج على السائد، انتصارا للمرأة ونتصارا معها للمجتمع. وهذا ما يمكن أن يلاحظ فقط في الكتابة النسوية التي تستحقّ أن ينوّه بها، وخصوصا تلك التي يمكن أن تكون مؤهلة للتعامل النقديّ بمنظار ما يسمي "النقد النسوي"، وهو أحد اتجاهات النقد ما بعد الحداثي. يهتمّ هذا الاتجاه النقديّ بإبراز ما ينجزه الأدب النسويّ من تحديد لهوية المرأة، أو من تحقيق لذاتها كامرأة. وهو يتوصّل إلى ذلك من خلال متابعة الأدب الذي يتصل باهتمامه. ومن أجل إنجاز هذه المهمة بنجاح، يتحرّك على محورين: "الأول يقوم على دراسة صورة المرأة في الأدب الذي أنتجه الرجال، والمحور الثاني يقوم على دراسة النصوص التي أنتجتها النساء"(3).

وبسبب الأهداف الواضحة التي يلتزم بها هذا الاتجاه النقدي، رغم التنوع الكبير داخل إطاره الواسع، فإنّ تركيزه يكاد يقتصر على الرسالة التي يحملها الأدب، أكثر من أية سمة أخرى فيه، مثلما يفعل كثير من الاتجاهات الجديدة في النقد، التي رتّبت عودتها إلى "سلطة النصّ"، بعد غياب طويل، وبالغت في ذلك لدرجة أنها أخذت "تحمّله أكثر مما يحتمل، وتحوّله إلى وثيقة على العصر"(4). لذلك فإن أبرز ما يمكن أن يؤخذ على النقد النسويّ، أنه يكاد يهمل "القيمة الجمالية" للنصوص الأدبية، التي تعتبر جوهرية من المنظور الأدبيّ الخالص، لكثير من الاتجاهات الحديثة والقديمة في النقد الأدبي. وقد كان هذا الموقف واضحا منذ البداية، لدرجة أن ناقدة نسوية معروفة أكدت أنها تؤمن بأهمية الرسالة في النص، وقالت إن الكتاب يثيرون اهتمامها فقط إذا كان ما يقولونه له علاقة بالإنسانية، لأن "النصّ يجب أن يقيم علاقة أخلاقية مع كلّ من الواقع والممارسة الفنية"(5)، وهو ما يعني التركيز على معنى النص دون اعتبار لقيم أخرى لا تقلّ أهمية، وفي مقدمتها القيم الجمالية.

ورغم أنّ من المناسب أن تستند المقاربة النقدية لأيّ أدب نسويّ، إلى النقد النسويّ ذاته، إلا أن الالتزام بذلك قد لا يكون كافيا، إذ لا مناص من تجاوز حدود هذا النقد من ناحيتين: هدف الأولى حصر مادة الدراسة في الموضوع المطروح، وهو هنا الأدب النسويّ الذي تكتبه المرأة الفلسطينية، وكان الخيار هنا يقتصر على قراءة نقديّة لنماذج من الأدب الذي تكتبه المرأة الفلسطينية الشابة داخل الوطن، دون التوسع نحو ما هو أبعد من ذلك، استجابة لما يتطلبه النقد النسويّ من قراءة لما يكتبه الرّجل عن المرأة. أما الثانية، فهي الاهتمام بالقيم الجمالية في النصوص التي تكتب، استنادا إلى مناهج أخرى، لأن جمالية الأدب جزء من قدرته على توصيل رسالته من ناحية، ولأن الشكل الذي يكتب به الأدب، لا ينفصل عن الرسالة التي يحملها من ناحية أخرى، ولأنّ هذا الشكل، من ناحية ثالثة، يتأثّر بالسياق الثقافيّ الذي ينتجه، تماما كما تتأثر الرسالة.

*     *     *

يشار إلى أن النقد النسوي انطلق من خلال الكتابة، مع صدور كتاب "غرفة تخصّ المرء نفسه" للكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف عام 1928، ثمّ تكرّس مع صدور كتاب "الجنس الثاني" للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار عام 1949(6)، بعد مبادرات قديمة سابقة، من قبل كاتبات أيضا، أشار إليهن تاريخ الأدب النسوي، أو هو في الواقع بحث عنهن وأبرزهن، حتى يثبت أن صوت المرأة كان موجودا في الكتابة منذ القدم، لكن صوت الرجل ظلّ يكتمه. كلّ هذا يؤكد أن الكتابة ذاتها كانت حافزا لنهوض الحركة النسوية، وأن محاولة تقنين ما تحتاج إليه الكتابة النسوية من نقد، كانت حصيلة لذلك.

لن يكون غريبا إذن أن تعتبر ممارسة الكتابة، في حياة الكاتبة الفلسطينية، نوعا من الانتصار على الفشل(7)، باعتبارها واحدة من أبرز النوافذ التي تطلّ منها المرأة على باب ما من الحرية، لا تجده في واقعها الاجتماعي المجسّد، فتبادر إلى التوجه نحو البحث عنه "في داخلها"، من خلال واقع فنيّ بحت، هو في المحصلة واقع متخيّل، سوف يلمسه النقد النسوي كثيرا.

تأسيسا على ذلك، فإن من السمات التي يمكن أن تلاحظ في الكتابات النسوية في فلسطين، أن الكاتبة كثيرا ما تلجأ إلى "الكتابة داخل الكتابة" في أعمالها الأدبية، فالمرأة الكاتبة كثيرا ما تقدّم نفسها من خلال عملها الأدبي، بشخصيتها الواقعيّة، أو شخصيتها التي تحلم بأن تكون لها: كاتبة تسجّل انطباعاتها عما يجري، وتحيل ذلك إلى فنّ كتابي. وربما تنطلق المرأة الكاتبة نحو ذلك بدافع لاشعوري، يهدف إلى الإيحاء بأنها تحاول البحث عن ذاتها، أو التعبير عنها، من خلال البوح عن طريق الكتابة، باعتبارها وسيلة حياة أو تعبير، يمكن أن تُحتُمل اجتماعيا، أو أن تكون بديلا أقلّ إثارة لسخط المجتمع، من الممارسة الفعلية للحرية، رغم ما تثيره الكتابة النسوية من رفض، في المجتمع الأبوي المتسلط.

وغالبا ما تلجأ الكاتبة إلى "حيلتين فنيتين" للتعبير عن شخصيتها الكتابية من خلال الكتابة، خصوصا في تماسّها الأول مع التعبير الأدبي، لأنها ستتخلى عن هذا الأسلوب مع التجربة، ومع المزيد من الثقة بالنفس: في الأولى تعلن منذ البداية أنها كاتبة تبحث عن أبطال لقصصها من داخل الوسط الذي تعيش فيه، أو تراقبه، وفي الثانية تشير إلى أنها تلاحظ الأشياء، وتلجأ إلى تسجيلها، انفعالا بها، ثم تتخذ هذه الملاحظات، بالتدريج، وبذاتها كما يوحي النص عادة، شكل كتابة فنية، لم يكن مقصوداً أن تكون كذلك. نهيل مهنا، مثلا، تكتب بوضوح أن "ملامح هذا الرجل تناسب قصتي الجديدة"(8)، وهي كثيراً ما تترصّد الشخصيات في واقعها، كما تشير صراحة في بعض قصصها، من أجل أن تصوّرها في هذه القصص، سواء أكانت هذه الشخصيات نسائية، أو من الجنس الآخر. وفي هذا السياق تدور قصتها "السُّترة"(9) بكاملها حول الكتابة، وما يرافقها من زيف، حين يكون الرجل هو الذي يكتب. ومثل ذلك تفعله سماح الشيخ وهي تحلم بنصّ حداثي، تراه متاهة على طريقتها، تخترع فيه غابة يركضون إليها "ونستمرّ في دوائر ومنحنيات أو خيوط ضعيفة.. تتقاطع.. تتشربك ثم تنحلّ ولا تكاد تصل"(10)، بينما تكتب أحلام بشارات، قصة "المدينة مغلقة ظلّت"(11)، عن العناء الذي يرافق الكتابة، خصوصاً من أجل إيصالها، ما يجعل القصة نموذجا لاضطهاد الكتابة ذاتها، لا الكاتبة وحدها، وهو ما يفعله الحصار الذي يفرضه الاحتلال، وضغوط المجتمع الذي يحصي على المرأة/ الكاتبة خطواتها، فلا يترك لديها إمكانية للمبادرة، خارج الأوقات المرسومة لها، أو الطرق التي يسمح لها باجتيازها، بما يحمله كلّ ذلك من دلالات. أما رواية باسمة التكروري "مقعد الغائبة"، فهي تكاد تكون قصاصات متفرقة كتبت في أوقات متفرقة، ثم جمعت بعد ذلك، فتشكّل منها النص.

وتقترب رواية مايا أبو الحيات، "حبّات السكر"، من النمط ذاته حين تنقل الكاتبة مذكرات رجل كان يسجّلها كتابة وهو في السّجن، عندما كان مشروع حبيب، يحول الواقع الضاغط عليه دون أن يتحقق، وهو في غالبيته واقع دينيّ هذه المرّة، لكنّه يبدو أقوى من السياسيّ، وأكثر تطلّبا منه، لأن قناعات الحبيب المفترض تمنعه من أن يتحوّل إلى حبيب فعليّ، رغم أنه يحلم بذلك، لكن حلمه يتناقض مع قناعاته التي ترى أن في الحبّ معصية تدخله في باب المحرّمات. الكاتبة أضافت إلى استخدام الكتابة كجزء من أسلوب، بعدين آخرين أكثر عمقا، يتعلّق الأول منهما بأهمية الكتابة، كفعل نفسي، بالنسبة للمرأة، يكاد يتحول داخل الرواية إلى بديل للحياة، فقد استمرّت إحدى شخصياتها النسائية، تكتب وتكتب، ثمّ "توقّفت عن عرض كتاباتها"(12) على صديقتها الراوية، عندما بدأت تمارس الحياة ذاتها، ممارسة فعلية، من خلال قصة حبّ، يفرض عليها المجتمع أن تبقى في الخفاء، حتى عن الصديقة المقرّبة، وهو ما يتّفق مع وجهة النظر التي ترى في الكتابة سرقة لخصوصيات الآخرين، لأنّ الكاتب "بلا فضائح، لا يكتب، بل لا يعيش"(13). أما البعد الثاني، فهو يشير إلى سمة غير خافية، في الكتابة النسوية، ولكنها غالبا ما تفسر نقيضا لمصداقيتها، وهي أن المرأة/ الحبيبة هي التي تفتح للرجل/ الحبيب نافذة للبوح. يمكن أن تعتبر هذه النافذة سمة خاصة في الكتابة النسائية، تتصل بتجربة المرأة في الحب، عندما يكون حقيقيا. وهي سمة علمية، من وجهة نظر نفسية واجتماعية، تشير إلى أن المرأة حين تحبّ، تنسى ما يدور في الواقع من حولها، (بينما يبقى الرجل منتبها لكلّ شيء)، وتصبح أكثر جرأة في سلوكها، ولذلك تكون أكثر قدرة على المبادرة. يحدث ذلك بشكل خاص في المجتمع المتخلّف، لأن الرجل فيه يخشى أن يتّهم بالتحرّش، وهو أمر معيب في مثل هذا المجتمع، إذا انكشف، إضافة إلى ما فيه من خروج على القانون، خصوصا إذا لم يلق الرجل المبادِر استجابة من الطرف الآخر، بينما لا يقدم المجتمع على اتهام المرأة المبادِرة بأيّ شيء، حتى وإن لم تحظ بالاستجابة، مع أنها غالبا ما تحظى بها.

المرأة ببساطة، حين تملك الفرصة، لا تتردّد في عبورها، وهي لا تخشى ردة فعل تصل حدّ الشكوى، كما يخشاها الرجل، ولذلك تعبِّر عن هذه المبادرة في كتابتها بمنتهى الوضوح. والوضع يكون مختلفا بالنسبة للرجل، على المستوى الواقعي، الذي يبدو مناقضا للمستوى الكتابي، ولظاهر السيطرة القمعية التي يمارسها ضدّ المرأة بشكل عام. هذا الرجل، حتى بعد مبادرة جريئة تقدم عليها امرأة، يظلّ مترددا من وجهة نظر المرأة الكاتبة، حتى وهو يدرك أن "المرأة التي أمامه... ستختفي من حياته بعد قليل، بعد بضعة أمتار. بل هو متأكد. خمسة أمتار، هل يبدأ بالحديث معها؟ يسألها بشكل لطيف كم هي الساعة، ثم يسألها أن تسمح له بالجلوس معها على المقعد قليلا، أجل، لأنه يريد أن يحدّثها بموضوع مهمّ، فيحكي لها عن حلم الليلة، يفتح لها قلبه، وتفتح له قلبها... ثمّ من يدري، فربّما يعرف أهله بالموضوع، ويتبرّؤون منه بعدها"(14)، ثم يكتفي بلقاء ظليهما معاً فوق الساحة! المبادرة الكتابية، التي تتفق تماما مع طبيعة المرأة، والتي تنمّ عن صدق موضوعيّ، يتكيف مع نفسية المرأة من ناحية، ومع ظروف المجتمع من ناحية أخرى، كثيرا ما تكون سببا مهمّا من أسباب اتهام بعض الكتابة النسوية بالجرأة، أو بالخروج عما هو مقبول اجتماعيا. وربما يجيء ذلك كردّ فعل من قبل الرجل، الذي يفترِض ـ تاريخيا ـ لنفسه، كما تفترض له الطقوس الاجتماعية السائدة، أن يكون هو البطل في لعبة الحب، ما يضايقه أن يشعر بأن المرأة، وهي تبادر، تسرق دوره في هذا الشأن الحسّاس، الذي يعزّز به سيادته.

في رواية باسمة التكروري "مقعد الغائبة"، كما في معظم الكتابات النسوية، ترد مثل هذه المبادرة، وتكون سلبية أول الأمر، ثم تصبح إيجابية بعد ذلك. تبدأ الكتابة في هذه الرواية كوسيلة لمقاومة الحبّ الذي يعرضه الحبيب/ الشاعر/ الغائب/ العائد (في الشعر والحبّ معا)، الذي لم تقرأ له حبيبته يوما، وهي ترفض قبوله حين يتقدّم لها، بشكل غير مبرر، سوى "خوفٍ زرعه الأب تجاه الرجل، لأنّه من جنسه"(15)، لا يستمرّ في منعها من أن تعود وتتمنّاه وتقبَله، فيما يشبه المواجهة لموقف الأب، الذي سوف يحاول أن ينزف حبرا (في الكتابة أيضا)، كوسيلة للتطهّر من كونه عاند الحبّ في حياة ابنته (كأنثى)، رغم أن واقعه (كرجل) كان قصّة حبّ متصلة، شكلت حياته. وبسبب موقفه المتناقض، بين ما يخصّه، وما يخصّ المرأة، في حالة الحب، لم يعد يشفي الأب، من وجهة نظر الكاتبة، إلا تنهيدة يهديها للورق، جزاءً على ما ارتكب من أثم، وما لم يرتكب.

*     *     *

روايتا "حبّات السكر، و "مقعد الغائبة" نموذجان للكتابة داخل الكتابة، لأن الشخصيات الرئيسة فيهما تسجّل ما تريد أن ترويه، من خلال كتابة لها صيغها المتعددة. لكن الكتابة داخل الكتابة، إذا لم تعمّق شخصية الكاتبة داخل النص، تكون مجرّد ركون إلى الاستسهال في اختيار أسلوب السرد، أو في تبرير سلوك الراوي من خارجه، كما يحدث في اختيار الرسائل كأسلوب(16)، وهو ما يمكن أن يتسبّب في ترهّل السرد، بسبب إضافات يستلزمها هذا الأسلوب أو ذاك، من مقدّمات تشرح الأسباب، وتفاصيل شكليّة لا ضرورة لها، خصوصا إذا كانت الكتابة مجرّد بوح خارج عن السياق العام للنص.

ويمكن القول إن الكتابة داخل الكتابة، في غالبية النصوص النسائية الفلسطينية، لا تشكّل ما هو أعمق من نافذة البوح التي سبقت الإشارة إليها، لذلك فإن وجودها في العمل الأدبي ككل، يكون ظاهريا أو شكليا، لا وظيفيا، وهي لا تكون مؤثرة في القدرة على السرد، إلا في موضوع تبسيطه، كما أنها لا تسجل نجاحا في استخدام ذلك داخل النص، بأي شكل من الأشكال، إلا بقدر قليل، غالبا ما يتصل بعلاقة النص باللغة، حين تكتب بإتقان، وكل ذلك يجعل من الصعب أن يحسب اختيار هذا الأسلوب، في هذه النصوص النسائية الفلسطينية، تحديثا، أو ولوجا إلى عالم الخصوصية الذي تنتمي إليه المرأة، وفقا لمعيار النقد النسوي.

لكن السرد عن طريق الكتابة داخل الكتابة قد يطرح بعض الاستثناءات، ليصبح قادرا على تجاوز استخدامه العام. يحدث ذلك عندما تقدّم الكاتبة ظروف كتابتها، التي تواجه معيقات اجتماعية كثيرة، تحاول اقتحامها بحرية، في توازٍ مع صورة الاضطهاد الذي تتعرّض له في حياتها الشخصية الواقعية، كأنثى في مجتمع ذكوريّ متخلّف، وتحت نوع من الاحتلال، يضاعف الضغوط في حياتها بشكل خاص، إضافة إلى ما يفعله في مجتمعها بشكل عام، وهو "يحاول أن يقتل كلّ شيء"، أو أن يعيق كلّ شيء، في هذا المجتمع، كما تكتب أحلام بشارات، التي تعدّدت قصصها حول الكتابة، مادّة وعناوين، والتي كانت واضحة في تعبيرها عن هذا التوازي، لأنها حين تشير إلى أنها تكتب "من أرض محتلة"، لا تكتفي بأن تعني الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ الذي يتسبب في كثير من معاناتها، بل تربط ذلك بوعي حاد، يصوّر حركة المرأة في المجتمع وسط "طرق ملتوية للذبح بسكّين ثلم"، ثم لا تتردّد في أن تصرخ في سادة مجتمعها الأبويّ، الذي يرسم لها طريقا تابعا لا يسمح بأن تحيد عنه: "لا تبتروا يدي، لن أكتب. لا تطلقوا الرّصاص على رأسي، لن أفكّر. لن أحاول فهم أشياء ينبغي أن تظلّ خافية"(17). ورغم ما في هذه الصرخة من مباشرة، إلا أن المعنى الذي تحمله هو المعنيّ هنا، كمثال.

*     *     *

محاولة فهم أشياء ينبغي أن تظلّ خافية، هي الجزء الأهمّ من وظيفة الكتابة عموما، لذلك يصبح اعتبار التخلّي عنها تخلّياً عن الكتابة ذاتها، أو انسحابا من صراع يرى النقد النسويّ في مواجهته ضرورة نسوية، أو جزءاً من آليات تخصّ حركة تحرير المرأة، التي تهدف، ضمن أمور أخرى، إلى "نقض خطاب الآخر"(18)/ الرجل، عن طريق "تأسيس خطاب أصيل.. يتعدّى الإضافات الكمّية إلى أفق الاختلاف والمغايرة، ونقض الخطابات من داخلها"(19). وتسير هذه المواجهة في كتابة المرأة في اتجاهين، بينهما كثير من التداخل الزمنيّ والوظيفي، لكن الأولوية فيهما تكون للكشف الداخلي الخاصّ بالمرأة، انسجاما مع العمل على تحقيق ذاتها، أو تأكيد هويتها الجنسوية، كهدف أول للكتابة، على أن يتحوّل الاهتمام بعد ذلك إلى الاتجاه الثاني، وهو الكشف الاجتماعي لما هو خارج الذات، ليكون التركيز، في هذه الحالة، على ما يحول دون المرأة وتحقيق هذه الذات أولا. إن تركيز المرأة على الذات، وما تتعرّض له من اضطهاد، يجعل كتابتها مختلفة عن كتابة الرجل، رغم وجودهما داخل الظروف الاجتماعية ذاتها، ففي حين يركّز الرجل على القضية العامة، وغالبا ما يرصد ما يفعله الاحتلال بشكل دقيق في كتابته، تركّز المرأة في كتابتها على ما يحدث لها بفعل الاحتلال، إلى الحدّ الذي يتحول فيه الاحتلال، والقضية برمتها، إلى خلفية للكتابة، يكون الحديث عنها في الغالب ضمنيا، لا مباشرا، لدرجة أنه يكاد يغيب في بعض الحالات. إن رواية "مقعد الغائبة" مثلا تكاد تبتعد عن الإحساس بوجود الاحتلال، وهي تتعامل مع علاقات حبّ فيها شيء من التركيب. وهي لا تشير إلى الاحتلال إلا كفعل مؤثر في غياب الحبيب، بعد أن شارك في الانتفاضة التي لم تعن لبعض الآخرين شيئا(20).

وقد لا تكتفي الكتابة النسوية بهذا المرور العابر بقضية الوطن والاحتلال، فتتوسع في الحديث عنها، ولكنها لا ترصد المعارك، أو النضال السياسيّ، أو الوقائع المباشرة، بقدر ما ترصد مدى تأثير ذلك على حياة المرأة، وعلى حياتها اليومية بشكل أساس. قد يبدأ الأمر بطرح حكم عام، كما هو الحال لدى عدنية شبلي، حين تسجل أن "الأوضاع لا تبعث على الطمأنينة"(21). ليس لأنها لا تعيش هذه الأوضاع من داخلها، أو لأنها تعيش داخل الخط الأخضر، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، لأن الفلسطينيّ في أيّ مكان يعيش هذه الأوضاع بالضرورة، واقعا أو مشاعر، ولأن عمومية شبيهة في الحكم تلاحظ عند سماح الشيخ مثلا، وهي تعيش أصعب هذه الأوضاع داخل قطاع غزة، ومع ذلك لا تكتب في قصصها إلا عن "أحداث يوم عاديّ"(22) وسط ساديّة الظروف التي يتعرض فيها الجميع للسّلخ، ما يعني أن التركيز على حياة المرأة داخل الظروف، يصنّف كسمة في الكتابة النسوية، وما يعني أيضا وجود خيار حرّ للزاوية التي تنطلق منها كتابة المرأة، لأن لها علاقة خاصة تربطها بالكتابة، مختلفة عن علاقة الرجل بالشأن نفسه، مع أنهما يعيشان في الظروف نفسها.

هذا الخيار لا يخرج عن الحياة اليومية للمرأة، استنادا إلى واقعها. وربما من هذا المنطلق، تكرّس مايا أبو الحيات روايتها لموضوعين متّصلين بالاحتلال، أولهما هو حظر التجوال، الذي يفرضه الاحتلال على المدينة وقت اجتياحها، والذي لا يكتفي بمصادرة حياة الناس وأوقاتهم، ولكنه يفرض نفسه حتى على الموتى، الذين يضطر الأحياء أن يدفنوهم "في جنازة جماعية سريعة"(23)، في مقابر مستحدَثة، لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى المقابر، كما أن الاجتياح، وما يتبعه من حظر للتجوال، مع امتداده في الزمن الروائيّ لفترة طويلة، يفرض على الجميع أن يبتكروا وسائل جديدة للاتصال، ولممارسة الحياة، بالقدر المتاح منها. أما الموضوع الثاني في الرواية، وفي غيرها من الكتابات، فهو موضوع السجن، الذي يخصّّ المجتمع بكامله، لأنه تجربة مريرة لا يفلت منها أي بيت فلسطينيّ. وفي هذا الشأن تقترب كتابة المرأة من كتابة الرجل، وهي تصف عذاب الوصول إلى زيارة السجناء، طُرُقا وسوء معاملة، لكنها تصوّر ذلك بعاطفة أوسع، خصوصا وأن معظم النهايات الكتابية تفشل في تحقيق غاياتها، فلا تتمكن المرأة الأمّ أو الزوجة أو الحبيبة من إتمام الزيارة، لأن الاحتلال يحسن مراكمة العقبات منذ بداية الرحلة حتى نهايتها. في الرواية، تصل المرأة متأخرة عن موعد الزيارة، كجزء من حالة الإحباط التي تصوّرها الكتابة النسوية، وهي تسلك طريقها الشاقة، دون أن تكفّ عن الحلم بتغيّر نحو ما هو أفضل، حتى وهي ترى أن الحياة تحت الاحتلال تستمرّ "ليلاً عاصفا بالقنابل والصواريخ كزخّ المطر"(24)، كما تلمس الموت وهو يكمن في زاوية، وتشعر بعذاب الاعتقال والتحقيق في الزاوية الأخرى، بين حدّي حظر التجوال الذي يحاصر الجميع، والسجن الذي يوسع الحواجز بين الجميع.

*     *     *

التوجّه الذاتي في الكتابة، حتى عند تصوير أحلك ليالي الاحتلال، لا ينكره النقد النسويّ، بل يعمد إلى التصريح أن الكتابة عن الذات جزء من طبيعة المرأة الخاصة، ومن سماتها النفسية التي تتصل بالصدق النفسيّ والفنيّ معا، وهي بالتالي سمة أدبية نسوية أولا، وإيجابية ثانيا، كما أنها غير مفتعلة، والنظر إليها كظاهرة سلبية، يأتي عادة من النقد السائد، الذي يتعامل مع هذه الكتابة كتهمة جاهزة، يلقي بها في وجه المرأة وأدبها، استنادا إلى السيطرة المطلقة للرجل على المدارس النقدية لفترة طويلة من الزمن، في غياب صوت المرأة عنها، ما حوّل مثل هذه التهمة إلى ما يشبه تحصيل حاصل، يكون أول ما يرد على ذهن الناقد الرجل، وذلك ما حفز النقد النسويّ على أن يعمل على نقض هذا الموقف المسبق بشتى الأدوات الأدبية والفلسفية والنفسية التي يستخدمها في قراءته لأدب النساء. وهو حينما يتعامل مع مقولة "أن السائد والمهيمن هو حامل المعنى"(25)، إنما يرسم تشخيصا لواقع النقد، من أجل أن يحاول تغيير هذا السائد، وهو يضع في مقدّمة مقولاته قاعدة تقول إن محاكمة الأدب النسوي لا يجوز أن تستمرّ بمعايير ذكورية، لسبب شديد الوضوح، من وجهة نظر هذا النقد، هو أن "الجنسوية تعتمد على الاختلاف"(26).

وحين يكون التأمل داخل الذات مقبولا كظاهرة أدبية نسوية، يصبح من السهل تتبعه في الكتابة النسوية، وملاحظة أن التأمل قد يشغل المرأة عمّا حولها، لدرجة أنها تصبح قادرة على أن "تطلّ بعينها من نافذة الحافلة، محاوِلة أن ترى شيئا، أيّ شيء، إلا أنها لم تكن لتفلح في ذلك، فالمنظر الذي ما فتئ يرتسم في داخلها: كان يشخَص، ثمّ يأخذ في العلوّ شامخاً، حاجبا عن عينيها كلّ شيء، إلا ذلك الداخل"(27). ويقدّم النقد النسوي تبريرا لمثل هذا التركيز على الداخل، من ناحيتين: الأولى تتصل بوجهة النظر التي ترى اهتمامات الكتابة في مستويين: "مستوى العالم، باعتباره محورا يستقطب اهتمام الرجال، ويستدرّ كتاباتهم، ومستوى الذات التي تتمحور حولها كتابات النساء"(28)، أما الناحية الثانية فتتضح من خلال العودة إلى تاريخ هذا النقد، الذي لم يستطع "دخول ميادين النقد المعاصر، وتوصيل مقولاته، والعمل على انسجام مادّته النظرية والتطبيقية، إلا من خلال تبنّي الحديث عن معطيات علم النفس، والتحليل النفسي"(29). وتحتل الأنا مركزا مهمّا في علم النفس الفرويدي، إحدى مرجعيات النقد النسويّ، خصوصا لدى تلاميذ مؤسس هذا العلم، الذين ركّزوا كثيراً على تقديم دراسات هامة حول نفسية المرأة (كما فعل لاكان)، أصبحت تشكّل منارة لمن يمارسن هذا النقد، لأنه يناسب الاهتمام بأبرز أهداف الحركة النسوية، وهو محاولة تحقيق فرادة الأنثى، والحدّ من طغيان الرجولة، انطلاقا من "مقولات الاختلاف"، التي تشير إلى أنه "لا يمكن أن تكون المرأة والرجل إنسانا أو كائنا واحدا"(30) .

ومع فهم "الأنا" كطبيعة نسوية، يمكن قراءة الأدب النسوي بعيدا عن الموقف النقديّ المسبق، ويمكن تفهم مجموعة السمات التي يتصف بها هذا الأدب، ومدى تأثير المجتمع في حدود طاقته التعبيرية، من ناحية اهتمام هذا الأدب بالشؤون الصغيرة التي تخصّ المرأة. إن من الصعب على الرجل مثلاً أن يتقن الكتابة عن أسلوب المرأة في إعداد ليلة زفافها، كما تفعل أحلام بشارات وهي تصف حركة قلم الروج فوق الشفتين، وغير ذلك من تفاصيل هذه العملية الدقيقة(31)، كما يصعب عليه أن يصور علاقة المرأة بأغطية الفراش، وقدرة هذه الأغطية على شرح تحوّلات المرأة العاطفية، كما فعلت سماح الشيخ في قصة "أردية الفراش"(32). كما أن كتابة الرجل لا تلجأ إلى التأمل الفلسفي بالكثافة التي تلجأ إليها كتابة المرأة، كما يتضح من وقفة باسمة التكروري مع موضوع الموت الذي تراه "كذبة تختبئ الشياطين وراءها كي تهرب بالحقيقة"(33)، ومن كثير من وقفات التأمل، التي لا يعني مجرد وجودها أنها توحي بعمق في التفكير في أحوال كثيرة، وإنما تهدف الإشارة إليها إلى توضيح اهتمام المرأة بالتأمل، المتصل بطبيعتها، وهو تأمل قد يكون بسيطا في البداية، وقد يطرح أسئلة ساذجة، لكنه يزداد عمقا مع تراكم التجربة الحياتية والكتابية. وإذا تذكّرنا أن ما بعد الحداثة، التي ينتمي إليها النقد النسوي، "كما يجري فهمها بشكل عام، تتضمّن قطيعة جذرية مع ثقافات وجماليات سائدة"(34)، ثمّ أضفنا إلى ذلك، ما يتعلّق بالجسد الأنثوي، كموضوع، وهو ما تتطلبه المرجعية الفرويدية لهذا النقد، فسوف نتبين أن الكتابة النسوية الفلسطينية تعيش داخل حدّين شديدي الصعوبة، يصعب الإفلات من قيودهما بسهولة، أو دون ثورة نسوية حقيقية، تتعامل مع الواقع من داخله، ولا تكتفي بالقشور.

كان ممكنا بالنسبة للنصوص النسائية أن تجد وسائلها الفنية للحديث في موضوع القطيعة مع السائد، عن طريق الطرح العام لقضية المرأة في الحرية والمشاركة والمساواة، من خلال مقولة إنه "لا يمكن الرجوع إلى الوراء والتقدّم في آن"(35) مثلا، أو من خلال تحميل الاحتلال نسبة كبرى من مسؤولية الجمود أو التناقض، حين يتحوّل إلى سجن "يحدّد لك متى تجوع ومتى تمرض، ومتى تقفل فم أطفالك"(36)، ما يجعل موقف المرأة ممزّقا بين ثلاثة محاور: "الرّقص لهم، والنوم معه، وقلبي لك"(37)، أو من خلال التركيز على نقد جوانب سلبية في حياة المجتمع، تجعل المرأة "كلّ خمس خطوات تبصق على الرصيف غضبا من حياتها، وسخطا على الدنيا التي ألقتها في أحضان الفقر... تفتح عينيها على البيوت المترفة حولها فيضيق قلبها، ثم تنفث غيظها وتتمتم: لماذا أنا دون هؤلاء؟"(38)، أو من خلال توجيه التهمة إلى الرجل الذي يسيطر ويتحكم ويرفض مشروع المساواة ويكيّف الواقع، أو يصرّ على تثبيته لصالحه، ما يجعلها ترى أن الرجال لا يقبلون المرأة التي تعي ذاتها، لأنهم "يبحثون دوما عن امرأة ينامون معها في الفراش، وأخرى يحلمون معها بذلك، وثالثة يكتبون معها عن الاثنتين، ويفرّون، دوما، من رابعة تتقن كلّ ذلك، لأنّهم أضعف من أن يمتلكوها"(39). أما الجزء الأصعب فيما تواجهه الكتابة النسوية في المجتمع الأبوي الفلسطينيّ تحت الاحتلال، فهو ذلك الجزء الذي يتعلق بحرية الجسد، التي تشكل إحدى القواعد المهمة في الخطاب النسويّ التحرّري، بوضوح لا لبس فيه، حركة وسلوكا وممارسة. هذا الخطاب يرى في حرية المرأة تجاه جسدها، من ناحية التحكّم به، مطلبا يحتاج إلى مساحة فكرية واسعة للتعامل معه، وللتعامل مع الجنس بعد ذلك، باعتباره أهم تمثيل لحرية الجسد/حرية المرأة، وهو في الوقت نفسه أبرز المحظورات الاجتماعية التي تعيق حرية المرأة كإنسان، ما يستلزم مواجهته بقوة، بهدف تحطيم منظومة المحرّمات من حوله، لأن "وجود الإنسان هو وجود جسدي... وبه (الجسد) تتحدّد علاقته بالعالم"(40).

*     *     *

من الصعب القول إن الكتابة النسوية الفلسطينية، التي نتحدث عنها هنا، تعاملت مع الجسد، كجزء عضويّ من المرأة/ الأنثى، له وجوده، وله حاجاته الإنسانية المعروفة، وله موقفه من الصراع ضدّ امتهان المرأة، جسدا وروحا أيضا. غياب هذا التعامل، يعطي دلالة بليغة على واقع المرأة، حتى من خلال تهرّبها من المواجهة، أو من وجهة نظرها كامرأة. إنها تمتنع عن استنفار هذا العامل في صراعها الاجتماعي، رغم أنه يملك من عناصر الصدام، ومن قوّتها، أكثر مما يملكه أيّ عامل اجتماعيّ آخر. ويؤكد الغياب (الإرادي تقريبا) للتعامل العلمي والفكري مع هذا العامل، في الكتابة النسوية الفلسطينية، أن المرأة ما تزال بعيدة عن امتلاك الحقّ في التصرف بكثير من القضايا التي تخصها وحدها، وعلى رأسها التصرّف بجسدها بالحرية التي تطرحها الحركة النسوية، أو حتى عن المطالبة بهذا الحقّ، عن طريق الكتابة، على أقلّ تقدير، ما يعني أنها ما تزال بعيدة عن الحرية ذاتها، ولا تملك الجرأة على أن تطالب، كتابة، ببعض أساسياتها، مع أن كاتبات سبقن هذا الجيل، طرقن الموضوع بقوة، وأثرن كثيرا من الضجة حول ذلك، وهو ما يشير إلى أن "الرجوع إلى الوراء" فقط، هو خيار المجتمع في ظروفه الحالية، وهو خيار يقف ضدّ المرأة، إنسانة وكاتبة، وضدّ تطور المجتمع نفسه.

الجسد الذي يظهر في الكتابة النسوية الفلسطينية، داخل السور، لا يكاد يكون جسدا حقيقيا، بل هو بضاعة لا تمتلكها صاحبته، ولذلك لا تستطيع أن تطالب له بحقّ، أو أن تحميه، أو أن تكون لها فيه كلمة عليا. إنه جسد منهك، يمكن أن يستقيل من وظيفته التي فرضت عليه، كوعاء لمتعة الرجل، أو للخدمة والإنجاب. وهو لذلك جسد يشعر بالإرهاق بسرعة، حدّ اعتبار السادسة والعشرين، حين تجتازها صاحبته، "مرحلة عمرية حرجة"(41). وهو فوق ذلك جسد مستباح، أو مغتصب، يكاد يكون منفصلا عن صاحبته، إلا من خلال الألم الذي يرافق اغتصابه، من قبل زوج، هو رجل قد يكون من أي مستوى، حتى وإن كان عميلا، تحتقره المرأة وترفضه، لكنّها تجبر على الزواج منه، حتى يُخرج أخاها من السجن. وهي عندما عمدت بعد ذلك إلى تجنب معاشرته، "دأب على طرحها أرضا واغتصابها، واعتادت على غرس أظافرها في لحمها وهي تئن وجعاً حتى تسيل الدماء منها"(42). هذا الجسد، إضافة إلى ذلك، وبسبب تراكم قديم من التقاليد، بات يشكّل عنصرا سرّيا في ثقافة اجتماعية سائدة، تقوم على المحظورات، لذلك يعمد الاحتلال إلى التحرّش به، واستخدامه وسيلة تهديد أو إهانة، عند الاعتقال، أو عند زيارة السجناء، أو أمام الحواجز التي تقطع شرايين الوطن، إذ يحدث مثلا أن يجتمع جنود الاحتلال حول المرأة/ العروس داخل السيارة التي تنقلها إلى زوجها المقبل، ويتفحصونها، ومن معها، من وراء الزجاج. "أحدهم فتح باب السيارة: "إنزل عروس"، فتنزل، يرفع الطرحة عن وجهها فترتفع"(43)، ثم يأمرونها بالرقص ولا تملك أمّها، أمام وقاحتهم، والخوف منهم، إلا أن تأمرها، فترقص، وكأنّها لا تعرف إلا الطاعة التي تعوّدت عليها منذ طفولتها، حتى تجاه الذين يعذبونها بالضحك منها، في يوم يفترض أن يكون يوم فرحتها الكبرى. وقد قدمت الكاتبة ما يوحي بأنه لن يكون يوم فرح، لأن زواج الحبّ الأول لم يتمّ، بسبب استشهاد الحبيب، ولأن محاولة الزواج الحالية، وهي الثالثة في حياة المرأة/ الصبيّة، كانت تهدف إلى الخروج من حالة النحس التي رافقتها، فصارت دخولا آخر فيها، لا ينتهي إلا بالهروب الوحيد الممكن: الموت.

والتعامل مع الجنس لا يخرج عن التلميح إلا نادرا، وهو لا يتطرّق إليه كحاجة إنسانية لدى المرأة، إذ إن من النادر أن تعبّر المرأة الفلسطينية الكاتبة داخل مجتمعها المغلق عن هذه الحاجة، رغم بداهتها. وهو تعامل لا يتسم بطابع الثورة على الواقع، أو التمرّد الذي تطرحه الحركة النسوية، لأنه يلمس موضوع الجنس بحياء شديد، ودون دخول في أية تفاصيل، وغالبا ما يدور الحديث فيه عن شخصية أخرى، لا توحي بأيّ احتمال لتفسير ما يروى عنها كتجربة شخصية للكاتبة، وهو يهدف في معظم الأحيان إلى فضح المجتمع الأبويّ، لأنه لا يكنّ أيّ احترام للمرأة كنوع إنساني، ولا يسمح لها بأي خيار يخصّ حياتها، بينما يتيح للرجل ما يتجاوز حدود السلوك السويّ. يجري التطرق إلى موضوع الجنس مثلا، بهدف الكشف عن تحرّش يقوم به زوج منحرف، يحاول أن يقيم علاقة مع شقيقة زوجته، ما يضطرّها إلى الهروب من واقعها، بأن تتزوج بسرعة(44)، من أول من يتقدّم لها، متخلية عن إكمال دراستها، لأنها تجد نفسها في مأزق لا يسمح لها بالخضوع للرجل، ولا بإبلاغ شقيقتها بما يفعل، حتى لا يحدث تهديد لزواجها. يضاف إلى ذلك عامل ضاغط، يحتمل أن يفرض على الشقيقة أن تدّعي عدم التصديق، أو أن تعمد إلى الاتهام، من باب الحفاظ على الاستقرار الظاهريّ لحياتها، كنوع من النفاق الاجتماعي. كما أن التعامل كتابيا مع الجنس قد يحدث في وضع مشابه، عند الحديث عن الانتقام غير الأخلاقي الذي يمارسه زوج، يدرك أنه مخدوع، يحاول الاعتداء الجنسيّ على ربيبته(45)، ابنة زوجته التي كان يوهم نفسه بأنها ابنته، رغم أنه يعرف مسبقا أنه لا ينجب. هذان المثالان قد يحدثان صدمة تشير إلى أن الكتابة النسوية ترصد الفساد في حالتين من حالات الاعتداء الجنسيّ، في حدوده القصوى، وهي الاعتداء على المحارم، كظاهرة قائمة داخل مجتمع يتظاهر عبر ثقافته السائدة كلّها بأنه متمسك بالحفاظ على الشرف، من خلال عدم الاعتداء على جسد المرأة، الذي يكرّسه التخلف رمزاً وحيدا لذلك.

أما الجنس، في حالته المباشرة، فيمكن أن يلاحظ بكثرة، في كتابة عدنية شبلي، لكنه يبدو مجرّد افتعال ليس له موقع في البنية الروائية، وذلك من ناحيتين: الأولى أنه لا يدخل في السياق الطبيعي للأحداث، والكاتبة لا تعنى مثلا بأن تقدم أي تبرير، منذ البداية، لحادث مهم، هو أنّ الأم "فرّت مع رجل آخر"(46)، ما يوحي بأن الجنس كان وراء ذلك، لا الموقف الوطنيّ تجاه الأب العميل. كما أن الجلسة الأولى بين رجل وامرأة، يصعب أن تقبل فنيا، حين تكون مجرّد حادثة عابرة يمرّ بها رجل، "بدون أي علاقة مع رغباته وأحلامه، سببا غير واضح في أن يجد نفسه جالسا في بيتها مبهوتا لا يتحرّك من مكانه، كسحلية ترقد في ظلال قرميد أحد البيوت في يوم قائظ، هي تمسك بيده وتنقلها فوق صدرها ثم بقية جسمها، غامرة إياه برغبة حلوة وناعمة لم يعرف عن وجودها في هذه الدنيا. فانقضّ فوقها"(47)، وهي صورة (إضافة إلى ما تتّصف من ركاكة وافتعال، وتناقض في استخدام اللغة) تبدو مقصودة بذاتها، وربما بالتعبير الأخير فيها فقط، لتدّعي الكتابة نوعا من الجرأة، لكن في غير مكانها، لأنها تقدّم صورة غير مرتبطة بمقدّمات أو تفاصيل لعلاقة منطقية. ويتكرر مثل ذلك في مشاهد الجنس لدى الكاتبة، وهي تقفز إليها دون مناسبة: ففي مقطع منفصل عما قبله تماما، وينتهي بفاصل نجوم عما بعده تقول: "صحوت من النوم ووجدت باب الغرفة مغلقا. لا أدري من أغلقه. مددت يدي إلى عانتي وبدأت أستمنى بهدوء. أعدت يدي إلى أنفي وأثارت فيّ الرائحة الدموع. هيا، نبكي"(48).

مثل هذه المشاهد لا تدخل الجنس كعنصر طبيعيّ في حياة المرأة، ولا كعامل تحدّ اجتماعي، لذلك لا تكون ناجحة في النصّ الأدبي، وهي لا تخرج عن كونها مجرّد تقليد عاجز للكتابة في مجتمعات أخرى، تشبّهاً بها، أو اقتباسا منها، خصوصا تلك الكتابة الغربية التي ارتبطت بالوجودية، في زمن تجاوزته الكتابة الحديثة. كما أن هذا الافتعال، قد يكون استجابة لمقولات نسوية نظرية، تنزع من إطارها الاجتماعي، ثمّ تطبق دون منطق يبرّر ذلك. وهناك ما يوحي بأن الصورة الجنسية السابقة مأخوذة من إشارة تتحدّث عن جدلية النص/ الجسد في النقد النسوي، تقول إن النصّ أصبح جسدا، وأصبحت الكتابة استمناء. ومثل هذا يلاحظ بكثرة في روايتي الكاتبة، حتى في المشاهد التي لا تكون لها أية علاقة بالجنس.

*     *     *

بسبب الخشية من التعبير بأسلوب مباشر عن الجنس، كغريزة، حاولت الكتابة النسوية أن تستعيض عن ذلك، أو أن تومئ إليه، بالتعامل مع الحبّ، كعاطفة، وبذلك قامت باستبدال الجسد، الذي يثير الشبهة، بالقلب، الذي يثير التعاطف، واكتفت بأن تتوقف عند ذلك. ومع أن الكتابة عن الحبّ تكون أسهل من الكتابة عن الجنس، إلا أن علاقة الحبّ لا تحتلّ مساحات واسعة من الكتابة النسوية، وهي علاقة لا تصل إلى نهايتها الطبيعية، في الظروف غير الطبيعية التي تعيشها المرأة، ويعيشها الرجل، ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب الموضوعية، يكون واحدا منها أن مثل هذه النهاية لا تستطيع أن تهرب من الجنس، وهي نتيجة تجعل الكتابة النسوية تحمل ثلاث سمات يتفق عليها النقد النسوي، أولاها أنها تنتهي بالإحباط، والثانية هي أنها تنتسب إلى الاتجاهات الرومانسية في الكتابة، بكل جدارة، وفي معظم الأوقات، إضافة إلى أنها تجعل الذات مركزية فيها، بحثا عن تعويض ما تتعرض له في المجتمع من كبت.

والرومانسية صفة لا تتبرأ منها معايير النقد النسوي، الذي يرى أن "الغالبية من الكتابات النسوية تكرّر نزعة رومانسية متشيئة أو محبطة، وتعرض انفجارا للذات المفتقرة إلى الإشباع النرجسي"(49). ومع ذلك، فإن مثل هذه الكتابة تظلّ محفوفة بالخطر، لأن المرأة التي تحبّ تكاد تشعر بأنها "تمارس الحبّ كفراً، حبّا خارجا عن النصّ"(50)، أو لأن الحبّ، كفكرة محرّمة، لا توجد "وسيلة يمكن أن تجعله مقبولا في مجتمع الرغبات المكبوحة"(51). ويبدو الحبّ محكوما بالشعور بالنّحس في مثل هذا المجتمع، وتستطيع نهيل مهنا أن تصوّر ذلك في قصة "ثلاثية الحبّ والبقاء"(52)، حين تقبل المرأة على الحبّ بقناعة وشوق، تسبقها لهفتها، وتشدّها من يدها كالطفلة لتسرع، ويقبل الرجل أيضا، لكن المكان الذي سيتمّ التواعد عنده، يحترق، قبل أن يشهد لقاء نادرا يجمع بين ضفتين. بالرغم من كل ذلك، يستطيع الحبّ أن يؤكد للمرأة هويتها، حين يجعلها تشعر مثلا بأن العلاج "لم يكن يستهدف كتفها المشلولة فقط، بل قلبها المحطّم. وما اعتقدته بأنه أسوأ ما حدث لها في حياتها، أخذ يتحوّل من حيث لا تدري إلى شيء جميل، أعاد إليها إحساسها بإنسانيتها. لذا وبعد كلّ هذا، لم يعد أمامها خيار إلا أن تحبّه"(53). مثل هذا الإحساس تعيشه بطلة رواية باسمة التكروي، امتدادا لسيرة الحب في حياة والدها، وهروبا مثله، ثم تمرّدا على هروبه، وهي بذلك تخلط حبّ الأب بحبّ الزوج، حتى يكاد اتحادهما يتحوّل إلى شخصية واحدة. كما تتكرر مثل هذه العلاقة المتداخلة في قصة أماني الجنيدي "لآلئ من عرق"، لتكون علاقة قصيرة وحادة بين امرأة مسنة ورجل شاب، تحمل نكهة العلاقة الأوديبية، بين أمّ وابنها، بينما تكون تلك العلاقة سريعة جدا بين شاب وصبية أكبر منه سنا في "على ضفاف الحب". وتروي مايا أبو الحيات بعض قصص الحبٍّ السوية وغير السوية، لكن كلّ هذه العلاقات تنتهي محبطة، بهذا القدر أو ذاك، لأن الأب ميت في "مقعد الغائبة"، بينما يختفي العاشقان في "لآلئ من عرق"، ويكون الحبيب في السجن في "حبّات السكر".

ولا يكون إحباط المرأة قاصرا على العلاقات الثنائية التي غالبا ما تمثل فيها دور الضحية، ولكنه يكون على المستوى الفرديّ أيضا، ويتسبب في تشويه نفسية المرأة، كما يشوّه حياتها، لذلك تتكرر شخصية المرأة العانس، والمطلقة، والخائنة، والمتهمة في شرفها، في الكتابات النسوية، وهي شخصيات تحمل بعض السمات التي تحتاج إلى علاج يستفيد من التحليل النفسي، الذي قامت أسسه الأولى على تحليل الشخصيات غير السوية، من المرضى النفسيين. لذلك يلاحظ النقد النسوي أيضا أن الكتابة النسوية تكثر من تقديم الشخصيات المريضة، إذ "ترسم معظم الروايات (النسوية) شخصيات مجنونة، أو على حافة الجنون"(54)، كما أن الكتابة النسوية لا تخفي "الاحتفاء بالهستيريا، بوصفها لغة "أنثوية" خاصة، تتعدّى حدود العقلانية"(55). في كتابات أماني الجنيدي نماذج كثيرة لمثل هذا الاتجاه داخل الكتابة النسوية، فهي كثيرا ما تخرج بكتابتها القصصية عن الحدود الواقعية، لتنتقل إلى عالم من الفانتازيا، يحاول التعالي على الواقع، في مزيد من المقاومة لصورته المشوهة، ما يجعل كتابة الجنيدي أكثر نضجا، وأكثر توجّها نحو السّرد الحديث، في مثل هذا النوع من الكتابة، الذي يغطّي مساحة القصتين اللتين تشكلان مجموعتها القصصية، "سكان كوكب لامور".

إحدى الشخصيات النسائية في قصة "على ضفاف الحب" يشحنها الظلم بقوة رمزية خارقة. لقد أقدم شقيق هذه المرأة على محاولة قتلها، بسبب تهمة ظالمة تتعلق بالشرف، لكن ضربته لم تكن قاتلة، دون أن يعرف بذلك، واستطاع الراوي (الذّكر) أن ينقذها، وأن يضعها في حماية رهبان الدير في مدينة الخليل، بمساعدة جارة شابة، وعصرية، ثم قام بنقلها إلى منزل امرأة عجوز ساعد ابنها في مدينة أخرى، فهربت منه، وهي تحمل في داخلها حقدا، تحوّل في القصة إلى نار حقيقية، توجّهت نحو من ظلموها، وعلى رأسهم والد الرواي. أما في قصة "لآلئ من عرق"، فقد كان الظلم الذي تعرّض له طفل ولد مشوّها، سببا في تميّزه بقوة خارقة أيضا، جعلته قادرا على تحريك الأشياء والأشخاص بتركيز النظر إليها، لتتساقط الدموع من عينيه بعد الجهد الذي يبذله، وتتحول إلى لآلئ. وفي الحالتين، كما في حالات أخرى للكاتبة، في مجموعتين لها سابقتين(56)، لم تأت هذه القوة الرمزية من فراغ، ولكنها استندت إلى مقولات شعبية، وتحوّلت على يد الكاتبة إلى صيغة فنية تميّز كتابتها.

*     *     *

هذا الأسلوب، يشير إلى صفة أخرى يراها النقد النسوي في الكتابة النسوية، تقول إن "النساء يسجّلن التجارب، ويعبّرن عنها بشكل يختلف عن الرجال"(57)، ولذلك عني هذا النقد بدراسة الاختلاف، خصوصا ما يتعلق منه بموضوعين لهما شيء من الخصوصية في الكتابة النسوية: اللغة التي تستخدمها النساء، وما تتصف به دون اللغة الذكورية، عند التعبير الأدبي الذي لا يصدر عن نزعات هامشية اجتماعية، بل يكون "نتيجة لاختلاف جنسي"(58)، ثمّ الراوي، الذي يأخذ خيار الأنا النسوية في الغالب، لكن بعض ظروف المجتمع، أو ظروف الكتابة نفسها، فنية أو اجتماعية، تجعل الخيار يتجه نحو الراوي ـ أو البطل ـ المذكّر. في موضوع اللغة، التي يعتبرها النقد النسويّ "عاملا محدّدا وحاسما لبيان دلالة كلّ الظواهر الاجتماعية والرمزية"(59)، يسجل تاريخ النقد النسوي أن اللغة تنحاز تاريخيا إلى الرجل، حتى في أدقّ تفاصيلها. وتكتب سماح الشيخ، استنادا إلى وعيها بذلك، قصة رمزية بعنوان "لغة"، تقرّ فيها بمفاجأة مقرفة "رآها الجميع مرأى العين: ذكَرٌ يقيم وراء اللغة أعياها"(60). مع ذلك، هناك شبه اتفاق لدى النقد النسويّ ـ وغيره ـ على وجود "جملة نسائية"(61) لها ما يميزها. وتشير الدراسات منذ البداية، إلى أن كتابة المرأة تميل إلى استخدام "الجمل القصيرة"(62)، وهو ما يلاحظ فعلا في الكتابات النسوية، كصفة ملازمة، حتى حين لا يستدعي النصّ ذلك: "أربعة أجنة تسكن الرحم والمشاعر. حلم كلّفهم الغالي والرخيص. قطعة الأرض الوحيدة المنْْجِدة من غدر الزمن. أخذها في حضنه، عله يتّسع لهمها، وبقايا الحلم"(63). كما أن اللغة النسوية، وهي تتطلع إلى التحرّر، تعمد إلى استخدام اللغة المجازية، التي سيطر عليها الرجل طويلا، لأنها حين تستخدمها "يمكنها خلخلة تلك السيطرة الذكورية"(64). وهي من خلال الاستخدام القصدي للغة المجازية، تحدث تغييرات غريبة في دلالات الكلمات، فتتوالد تعبيرات تدل على لغة أنثوية، بعضها يحمل الجمال الأنثوي بكل وضوح. لقد سبق الاستشهاد ببعض التعابير النسوية، وسوف ترد في السياق استشهادات أخرى، لكن تعبيرا من مثل "جسدها ينطوي داخل الورق"(65)، يمكن أن يطرح كمثال على هذه اللغة النسوية المعنية بكل سهولة، لا بجماليته وحسب، وإنما بخصوصيته التي يصعب أن تجعله صادرا عن رجل. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أن العناية باللغة من صفات المرأة الكاتبة، وهي تحمل معها جمالياتها الخاصة، كما يتضح في صورة مثل "طرق تلتف حول الطرق الالتفافية" (66)، أو في تعبير "هي حالة مرَضية، كما أقرّ المجلس الأعلى للأشياء"(67)، أو في وصف المدينة وهي في حالة رعب: "ركضت المدينة على غير هدى: الخوف الأصفر في وجوه النساء. الجبن الأسود على جباه الرجال... كلما هدأ الركض قاموا، بوّقوا أيديهم حول أفواههم وصرخوا: رَوْحوا"(68)، أو في كثير من التعبيرات التي تمتلئ بها كتابة نهيل مهنا، ويمكن أن يشار إلى أمثلة منها: "ضباب كلام كثيف يحلّق في الغرفة"، "شعر وكأنه يرى الأشجار خضراء والطيور جميلة لأول مرة"، "نظر إليّ بحدس الرجال، ابتسم ابتسامة ماكرة لا تشبه الابتسامة الخجولة"، "لا توجد حلقة أفكار فوق رأسها"(69)، إلى غير ذلك.

ويمكن ملاحظة الاهتمام باللغة لدى معظم الكاتبات، حتى بين من تتسم كتاباتهن بالضعف الفني، وهي في العادة لغة تضيف متعة إلى القراءة. لكن ذلك لا ينفي وجود ضعف في توظيف اللغة، وفي بنائها، وفي قدرتها على التعبير عن المعنى، خصوصا لدى الكاتبات في بداياتهن. كما يمكن ملاحظة المبالغة التي تخرج عما هو مطلوب، لأنها تدخل لغة الشعر، أو التأمل الفلسفي المنفصل، الذي لا يناسب النصّ القصصي، في بعض قصص نهيل مهنا وسماح الشيخ. كما أن ذلك لا ينفي وجود ضعف بالغ في اللغة، تصعب معالجته، كما هو الحال في كتابات عدنية شلبي، التي تبدو عنايتها باللغة، حتى لا يقال معرفتها بها، شبه غائبة، خصوصاً في رواية "كلنا بعيد بذات المقدار عن الحبّ" التي تعاني من ركاكة واضحة، ومن ضعف في التراكيب، إلى حدّ يفاجئ القارئ، ويجعله يشعر كلّ الوقت بأنه لا يقرأ ما هو مكتوب بلغته الأم، بل مجرّد ترجمة سيئة من لغة أخرى. ويمكن التدليل على ذلك باختيار عشوائي لأية فقرة في أية صفحة لتكون مثلا، مع المحافظة على ما في التنقيط من خلل: "رفع رأسه مرتبكا بعض الشيء، ليقع نظره على فتاة ساحرة، فأسرع يرسم على وجهه ابتسامة مصطنعة حتى لا تعتقد أنها سحرته، ما حدث بالضبط. سألته عن شامبو لا يصنع رغوة، وعاد هو إلى ترتيب علب الذرة بجانب علب البازيلاء قائلا إن قسم مستحضرات التجميل في الصف الثاني في بدايته من جهة اليمين رفّ الشامبو، فعادت تقول بصوت ثابت، بأنها تفضل لو أنه ينظر إليها حين يتحدث معها"(70). وللطرافة، فإن هذا المشهد يكون مقدّمة لعلاقة جنسية، سبقت الإشارة إليها، وسبق اقتباس التعبير عنها بلغة لا تختلف.

ومن الغريب أن هذه اللغة الركيكة تغطّي مساحة الرواية الثانية للكاتبة بكاملها، بينما لا تظهر بهذا الحجم في روايتها الأولى "مساس"(71)، ما يثير شيئا من الاستغراب الذي يتعلّق بتقدّم فنّ الكاتبة أو تأخّره، أو بأية عوامل أخرى قد تكون وراء هذا التفاوت بين نصين بقلم واحد.

أما موضوع الراوي، فرغم غلبة الأنا النسوية عليه، فقد تلجأ الكاتبة إلى "التحايل على الشروط الاجتماعية للتعبير، باستئصال الرغبات من عالمها الكتابي، والنظر أحيانا بعيني رجل، واستعارة منظومته الرمزية للتعبير عن العالم"(72). وهذا الخيار موجود في الكتابة الفلسطينية، وهو يحتلّ جزءا من روايتي مايا أبو الحيات و باسمة التكروري، حيث تعدّد الأصوات، كما أن الراوي كثيرا ما يكون ذكرا عند أحلام بشارات(73)، وعند غيرها من الكاتبات. ويمكن تفسير هذا الخيار نسويا من خلال وجهتي نظر مختلفتين: الأولى فنية، ترى "قدرة المذكر الفائقة على حيازة الشمول وتجسيده في الأنا الواسعة حين يعجز المؤنث عن ذلك"(74)، والثانية اجتماعية، توردها هدى بركات على شكل سؤال، وهي تفسّر لسان المذكر في رواية لها حين تقول: "كيف لمكفوفات عن الفعل أن يكتبن أفعالهن؟"(75).

*     *     *

هذا التفسير الاجتماعي يحيل إلى المرجعية الثانية للنقد النسوي، وهي المقولات الماركسية التي تشكل خلفية لهذا النقد. وقد عمدت الحركة النسوية، في مسيرة نضالها، إلى تعديل في بعض المقولات الماركسية الشهيرة، فصار الصراع الذي طرحته الماركسية طبقيا، صراعا جنسويا في النقد النسوي، بمعنى أن طرفي الصراع هما المرأة والرجل. ولأن المقاربة التي تستند إلى هذا النقد، وتتعامل مع أيّ نصّ "باهتمام رئيسي لطبيعة التجربة الأنثوية بداخله"(76)، فإن ذلك يعني البحث عن الصوت النسويّ داخل ذلك النص، في دوره الاجتماعي، وفي صراعه مع الرجل. ومع أن من غير الممكن فصل المرأة عن الثقافة ككل، لأنها تعيش في الشبكة الاجتماعية الثقافية التي يعيش فيها الرجل، إلا أنه لا يمكن "التشكيك في وجودٍ أدبيٍّ منفصل" لها(77). صوت المرأة، ضمن هذا السياق، يبرز استقلاله من خلال عنصرين مهمّين، هما اللذان يخلقان الكتابة الأدبية: سبقت الإشارة إلى واحد منهما، وهو اللغة التي يتمّ التعبير بها عن المقولات الفكرية التي يطرحها النص، والتي تشكّل العنصر الثاني. يستند النقد النسويّ إلى مقولات ماركسية تمّ تطبيعها، ومن خلال ذلك "أدركت النساء أن عليهن أن يتحدن"(78)، (في مقابل دعوة الماركسية عمال العالم أن يتحدّوا)، لأنّ في أخوة النساء قوة. لذلك رأت الحركة النسوية في الكشف عن الخلل في المجتمع الذي يسيطر عليه الرجال، مهمة أولى في الكتابات النسوية، وهي مهمة تغلب على هذه الكتابات في العادة، حتى تصل في الغرب حدودا تطالب بالحرية الجنسية المطلقة، بينما تتواضع كثيرا في الكتابة النسوية الفلسطينية، لتستبدل الحدود القصوى بنوع من الحبّ الرومانسي الخجول، حين تستطيع، ولتطالب برفع الظلم والتمييز قبل كلّ شيء، ثم بشيء من الحرية والمساواة والمشاركة.

إن الشكوى كثيرا ما تغلب على الأدب النسويّ، حتى وهو يحاول أن يعرّي المجتمع، لتصل هذه الشكوى درجة التساؤل الذي يكاد يصوّر واقعا عاما، كما تعبّر عنه أماني الجنيدي، وكأنّها تطرح إحدى البديهيات الاجتماعية التي تتعلق بواقع المرأة/ الأم: "عمرك شفت أمّ ما بتبكي؟"(79). وفي الكتابات النسويّة الفلسطينية فيض من مثل هذه الصورة، لا يقتصر على الأمّ الباكية، ولكنه ينطلق من "صباح من خوف"(80)، ليمتدّ عبر مراحل العمر، التي تبدأ مع القمع الأبوي أولا، ثم لا تتوقف بعد ذلك، دون أن تحظى المرأة بأية حماية في أي وقت: "أبي يرفع حزامه الأسود، يضربني، كنت في الثالثة، كنت في العاشرة، كنت في الثانية والعشرين. أمّي لم تحمني"(81). وبعد ذلك يأتي دور الزوج: "أمي التي استمرّت بصمتها خمسة وعشرين عاما، قدّمت استقالة أخيرة، استقالة لجسدها الذي استعملته الحياة وعاء.."(82)، ثمّ يأتي دور أي رجل آخر "يتحرّش بأختها وهي في الغرفة المجاورة، ثم يتحوّل إلى زوج حنون ما إن تأتي"(83). الذي يتحرّش هو المجتمع نفسه، لا بحسّه الذكوري فقط، وإنما بقدرة هذا الحسّ على أن يفرض سيادته على المجتمع ككل، و يتحوّل إلى عيون ترصد حياة المرأة وحدها، خصوصا حين يحاول رجل أن يطلّ على حياتها: "طرقتُ باب حجرتها كي لا يسمع الجيران وتسمع، فسمع الجيران قبل أن تسمع، ورأيت الرؤوس تطلّ من النوافذ حاملة وجوها دميمة متجوّعة لمضغ القصص والحكايا واجترارها وقد تلوّنت"(84)، وهو ما تقول مثله سماح الشيخ عن أن "سكان العمارة أخبروا سكان الحيّ"(85).

الكتابة النسوية تكشف المجتمع بالشكل الحادّ الذي تشير إليه الصورة السابقة، وهي تحمل وجهة نظر نسوية في اتجاهين: الأول يتصل بقسوة المجتمع ودمامته وجوعه، من وجهة نظر المرأة التي تعيش فيه، والثاني بتأخّر استجابة المرأة للطَّرق على الباب، بما يحمله التعبير من دلالة عميقة، (تذكّر بطرق جدار الخزان في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس") ما يخلق لديها سلبية تعزّز سطوة الرجل/ المجتمع، رغم ما في حياة الرجل والمجتمع من نفاق، تحاول أماني الجنيدي أن تقدم صورة معبرة عنه، وهي تكشف رجلا يستغلّ الدين لصالحه في قصة "لآلئ من عرق"، حين يقوم تاجر ثريّ بتجنيد شاب يرعاه، بهدف أن يُقدم على ما يقدم عليه الاستشهاديون الحقيقيون، إنما من أجل مصالح نفعية للتاجر المتعاون مع شركاء من المحتلين. والقصة تقدّم ذلك في إطار يكرّس السّخرية من التاجر، وفي أجواء فانتازية، تجعل الصورة التي تقدّم للأحداث، مقبولة فنيا، بما فيها من تشويق يخلقه تناقض ما يضمره كلّ طرف تجاه الطرف الآخر: "وقفا وجها لوجه، بينهما مودّة كالثلج. مدّ عدنان يده الباردة على كتف جاد. هزّه سائلاً: الدنيا لا تعنيك، ما دام هدفك الجنة"(86).

وتقوم هذه القصة على نمط مسرحيّ معروف، يوظَّف كثيرا في الدراما السينمائية والتليفزيونية، ويتخذ من الشكل البوليسي أسلوب كتابة، وهو يعمد إلى إخفاء النوايا عن طرفي المعادلة، بينما تكون مكشوفة للمشاهد (القارئ هنا)، فالتاجر الثريّ، يتصوّر أن الشاب الذي تربّى في كنفه، وعمل خلال تلك الفترة بتوظيف ما يملكه من قدرات خارقة في تنمية ثروة السيد، لا يعرف شيئا عن نية السيد المبيتة في إرساله إلى الموت، وذلك ما يصطدم خفية بما يخطّط له الشاب، من توظيف لقدراته الخارقة ذاتها، كي تعمل بشكل مختلف، يكون مساوقا لحياته التي تقوم على ذلك منذ البداية. وهذه القدرات تضع مقدّمات، ثمّ تصل إلى نتائج تنسجم مع بنية القصة، التي تنحو إلى اللامعقول.

الأمر ذاته يلاحظ في قصة "على ضفاف الحب"، وفيها تعمد الكاتبة إلى كشف اجتماعي أعمق، لا يتّخذ من الفقر والغنى خلفية وحيدة له، ولا من التديّن، حقيقيا كان أو تظاهريا، ولكنه يغوص في العلاقات الاجتماعية الخفيّة بشكل حاد، ليوجّه إليها ضوءا ساطعا، يتحوّل في النهاية إلى حريق، هو فانتازي أيضا، ويولد من قوى خارقة تملكها هذه المرة امرأة تعرّضت لظلم لا يحتمل، يكشف أن رجل الإصلاح في المجتمع، ليس سوى رجل فاسد، يراود المرأة ـ المتزوّجة ـ عن نفسها، في مقابل أن يقدّم شهادة على براءتها من تهمة الخيانة الزوجية، تنقذها من القتل، وحين ترفض، يأذن لأخيها بأن يتصرّف، دفاعا عن شرف يعرف أن المرأة لم تفرّط به، حتى بمعايير مدينة لا تستحقّ الثقة، لأنها تكاد تفترس نساءها، وهي "تأكل اللحم بشراهة"(87)، سواء أكان لحم مآدب الصلح التي يتصدّرها رجل الإصلاح الفاسد، أو لحم المرأة ذاتها، الذي أراد أن ينهشه.

ومن الواضح، من وجهة نظر المرأة، أن سيادة الرجل هي سبب هذا الزيف، أو النفاق الاجتماعي، الذي يعيشه المجتمع، مهما كان المستوى الثقافي لهذا الرجل، لأن قبوله بالدور الذي يحدّده له المجتمع الأبوي، يلغي فاعلية الثقافة.

وقد صورت نهيل مهنا زيف الواقع الذي يحكمه الرجل في قصة "السترة"، التي يرويها رجل، عن كاتب يفترض أن يكون من النخبة، لأنه مشهور. وجاءت الصورة انطلاقا من خلفية ترى أن الكتابة صدق، وأن لها تأثيرا إيجابيا في المجتمع، فالكاتب الرجل له جمهور من المعجبين الذين يتوقون إلى التعرّف عليه شخصيا، في المقهى الذي يجلس فيه. والقصة التي تروى عنه، في غيابه، توحي بدلالات عميقة: السُّترة ـ كعنوان ـ يمكن أن تحمل انزياحا عن معنى "الرّداء الخارجي" الذي تتعامل معه بشكل مباشر، إلى المعنى الشعبيّ، المرتبط أساسا بالنسوية، وبالزواج على وجه الخصوص. كما أن الكشف الذي يتمّ صدفة، تكون له دلالته: نسي رجل سترته، وارتداها الراوي احتماء من البرد القارص، وحينما لم يجد مناديل ورقية مع صديقه، مدّ يده في جيب السترة، ليخرج قصاصات من الورق، هي مشاريع كتابية، حين يبدأ قراءتها يدرك حجم الزيف الذي يعيشه الكاتب، عند مقارنة ما يخطط له، بما يخرجه على الناس. وتكمن بلاغة القصة في اعتبار قصاصات الورق، بما فيها من مشروعات كتابية، بديلا للمناديل الورقية، التي يمسح بها الأنف المريض. وترد السترة، والملابس عموما، كرمز للتعرية في الكتابة النسوية، فهي تتمزّق في قصة سماح الشيخ، "سترة"(88)، بينما يجبر الاحتلال يافعا فلسطينيا على خلع ملابسه، عند أماني الجنيدي، ويأخذونها ويذهبون "وهم يضحكون ويتفوّهون بكلمات قذرة"(89).

ملخص القول إذن هو أن النقد النسوي ينتمي إلى تيارات ما بعد الحداثة، ويتعامل مع الكتابة النسوية من خلال مرجعيات التحليل النفسي والماركسية، وقد يستفيد بقدر معين من التفكيكية. وهو يقرأ هذه الكتابة انطلاقا من الإيمان بوجود اختلاف بين الجنسين، ويركز على إبراز هذا الاختلاف، من منطلق أن الكتابة النسوية لا مناص أمامها غير الكتابة عن الذات النسوية، شريطة ألا تتخلى هذه الكتابة عن مناوشة نواهي المجتمع الذي تتواجد فيه.  

باحث وناقد من فلسطين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ يسرى مقدم، مؤنث الرواية: دار الجديد، بيروت 2005، ص 54.
(2) ـ نتذكر عربيا، على سبيل المثال، ليلى بعلبكي، التي صدمت مجتمع الستينيات بروايتها "أنا أحيا"، رغم أنه كان مجتمعا أكثر تحرّرا بمقاييس النساء، مما هو عليه الحال الآن، ثم ثارت ضجة كبيرة حول قصصها "سفينة حنان إلى القمر"، بعضها رسميّ، وتقدميّ أيضا، فلم تكتب بعد ذلك. كما يمكن الإشارة إلى كاتبات فلسطينيات كنّ واعدات في كتابهن الأول، ثم توقفن، بسبب ظنهن أن التدين يعادي الكتابة، أو بسبب الزواج، أو أية معيقات اجتماعية أخرى، تمنع حتى من الإشارة إلى أسماء بعينها، رغم أنها أسماء واضحة في الذاكرة.
(3) ـ د. عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه: سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2005، ص 296.
(4) ـ المصدر السابق، ص 299.
(5) ـ المصدر السابق، ص 299.
(6) ـ جانيت تود، دفاعا عن التاريخ الأدبي النسوي، ترجمة ريهام حسين ابراهيم، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2002، ص 32.
(7) ـ باسمة التكروري، مقعد الغائبة، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، رام الله، 2002، 47.
(8) ـ نهيل مهنا، حياة في متر مربع، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2008، ص 28.
(9) ـ المصدر السابق ص ص 36 ـ 43، وسوف يتمّ التوسع في الحديث عن هذه القصة.
(10) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2007، ص 19.
(11) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2005، ص 73 ـ 90.
(12) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكّر، المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، رام الله 2004، ص 7.
(13) ـ نهيل مهنا، حياة في متر مربع، 33.
(14) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيد بذات المقدار عن الحبّ، مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله، 2004، ص 74.
(15) ـ باسمة التكروري، مقعد الغائبة، ص 30.
(16) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيدون...، ص 34 ـ 48.
(17) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 38 ـ 39. (الهامش يخصّ جميع الاقتباسات).
(18) ـ د. رفقة دودين، الرويّ التقريبي ومعايير النقد النسوي، مجلة أوراق، عدد 22/ 23، رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 2005، ص 220.
(19) ـ المصدر السابق، ص 218.
(20) ـ باسمة التكروري، مقعد الغائبة، ص 79.
(21) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيد... ص 53.
(22) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 24.
(23) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 31.
(24) ـ نهيل مهنا، حياة في متر مربع، ص 58.
(25) ـ د. رفقة دودين، مصدر سابق، ص 217، نقلا عن فوكو.
(26) ـ كريستا نِلْوولف، "تاريخ النقد النسوي"، ترجمة فاتن مرسي، في: "موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي"، مجلد 9، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 313.
(27) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 7.
(28) ـ يسرى مقدّم، مصدر سابق، ص 19.
(29) ـ محمد سالم سعد الله، الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، دار الحوار، اللاذقية، 2007، ص 271.
(30) ـ د. رفقة دودين، مصدر سابق، ص 217.
(31) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 11.
(32) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 88.
(33) ـ باسمة التكروري، مقعد الغائبة، ص 20. ومن الملاحظ أن الكاتبة تلجأ إلى التأمل كثيرا، دون أن يعني ذلك أنه عميق.
(34) ـ فريدريك جيمسون، مقدّمة، جان فرانسوا ليوتار "الوضع بعد الحداثي"، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 1992، ص 7.
(35) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ميم للنشر، الجزائر، 2007، ص 42.
(36) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 26.
(37) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 14.
(38) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 121.
(39) ـ المصدر السابق، ص 48.
(40) ـ محمد سالم سعد الله، مصدر سابق، ص 272.
(41) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 81.
(42) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 181.
(43) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 13.
(44) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 16.
(45) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 201.
(46) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيدون...، ص 31.
(47) ـ المصدر السابق، ص 75.
(48) ـ المصدر السابق، ص 117.
(49) ـ د. رفقة دودين، مصدر سابق، نقلا عن: جوليا كرستيفا، زمن النساء، ترجمة بشير السباعي.
(50) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 7.
(51) ـ المصدر السابق، ص 75.
(52) ـ نهيل مهنا، حياة في متر مربع، ص 24 ـ 35.
(53) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيدون...، ص 54.
(54) ـ كريستا نلوولف، مصدر سابق، ص 307.
(55) ـ المصدر السابق، ص 312.
(56) ـ امرأة بطعم الموت، مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، 2005، رجل ذكي ونساء بليدات، دار الشروق، رام الله ـ عمان، 2007.
(57) ـ كريستا نلوولف، مصدر سابق، ص 309.
(58) ـ د. رفقة دودين، مصدر سابق، ص 219.
(59) ـ د. محمد سالم سعد الله، مصدر سابق، ص 279.
(60) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 56.
(61) ـ كريستا نلوولف، مصدر سابق، ص 305.
(62) ـ د. عيسى برهومة، اللغة والجنس، دار الشروق، عمان، 2002، ص 133.
(63) ـ نهيل مهنا، الحياة في متر مربع، ص 45.
(64) ـ جانيت تود، مصدر سابق، ص 104.
(65) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 38.
(66) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 52.
(67) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 13.
(68) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 34.
(69) ـ نهيل مهنا، حياة في متر مربع، ص ص 1، 15، 25، 29 على التوالي.
(70) ـ عدنية شبلي، كلنا بعيدون...، ص 74.
(71) ـ عدنية شلبي، مساس، مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله، 2002. (وقد فازت كل من الروايتين بالجائزة الأولى في مسابقة الكاتب الشاب التي تقدمهاالمؤسسة، 2001، 2003 على التوالي).
(72) ـ د. رفقة دودين، مصدر سابق، ص 223، نقلا عن: بشرى البستاني، نظرية التلقي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1999، ص 36.
(73) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 49، 21 على التوالي.
(74) ـ يسرى مقدّم، مؤنث الرواية، ص 58، نقلا عن: لينا الطيبي، "صوت الشاعرة وضمائرها المتكلمة"، السفير 21/ 12/ 1997، ص 12.
(75) ـ المصدر السابق، ص 54.
(76) ـ جانيت تود، مصدر سابق، ص 15.
(77) ـ المصدر السابق، ص 166.
(78) ـ كريستا نِلْوولف، مصدر سابق، ص 307.
(79) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 64.
(80) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 51.
(81) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 40.
(82) ـ مايا أبو الحيات، حبّات السكر، ص 15.
(83) ـ المصدر السابق، ص 16.
(74) ـ أحلام بشارات، لأني أحبك، ص 50.
(85) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص23.
(86) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 155.
(87) ـ المصدر السابق، ص 97.
(88) ـ سماح الشيخ، الشكل المستطاع، ص 11.
(89) ـ أماني الجنيدي، سكان كوكب لامور، ص 38.