حلت في شهر مايو الماضي الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر الكبير أمل دنقل، ونعيد هنا احتفاء بقيمة هذا الشاعر الفذ وإنجازه نشر واحدة من أبرز القصائد التي كتبت عنه، لشاعر حافظ هو الآخر على قيم القصيدة التي رسخها دنقل ودورها النقدي في الواقع. وكتبها عنه في حياته، وقد علقها الراحل على جدران غرفته رقم 8 في معهد السرطان.

زبرجدة لأمل دنقل

حسن طلب

 

قالَ: فِضْ، قيلَ: فاضْ!

وجَرَى السَّيلُ بالويْلِ..

حتّى إذا طَمَرَ البَرلَمانَ

وأغرَقَ دارَ الحُكومةِ

واللّافِتاتِ الطِّوالَ العِراضْ!

قالَ: غِضْ، قيلَ: غاضْ!

ونَهَى النِّيلَ- قِيلَ- عنِ المُنكَرِ..

احتَدَّ وهْو يُشيرُ عليهِ بهدْمِ السُّدودِ

وردْمِ الحُدودِ..

ورَىِّ الحِياضْ!

....................

قلتُ: مَن ذلكَ العارِفُ الفَذُّ؟

هذا الذى يتألَّمُ.. والنَّاسُ تلتَذُّ!

قيلَ: امرُؤٌ يَتنبَّأُ باسمِ الأجِنَّةِ قبلَ المَخاضْ!

قلتُ: فلتَذْهَبوا بِى إليهِ

ذهبْتُ.. فألْفيْتُ لوْنَ المُلاءاتِ أبيَضَ

تاجَ الحَكيماتِ أبيضَ

مَصْلَ الأنابيبِ.. وجْهَ الطَّبيبِ!

سألْتُ: فما خَطْبُهُ؟

قيلَ: سفَّهَتِ السُّفهاءُ بليْلِ الهزائمِ أحلامَهُ!

ثُم سوَّدَتِ الهُدنَةُ.. الهُدنتانِ.. الثَّلاثُ

جميعُ صُنوفِ التَّهادُنِ أيَّامَهُ!

فتوَحَّدَ باللوْنِ.. خبَّأَ فى اللوْنِ آلامَهُ

ومضَى يتقلَّبُ فى درَجاتِ البَياضْ!

...............

قلتُ فلتَدْخُلوا بِى عليهِ.. دخلْتُ..

- عليكَ السَّلامُ

- ‏السلامُ مَضَى.. والسَّلامةُ فى إِثْرِهِ!

- والعَلامَةُ؟

- ‏أنَّ جَناحَ الحَمامةِ هِيضَ.. وأنَّ صباحَ النَّدامَةِ آضْ!

- ‏والخَلاصُ؟

- ‏البَقاءُ على أُهْبَةِ الموْتِ.. مَهْما استدامَ!

- ‏ إلامَ؟

- ‏إلى يومِ أنْ نسترِدَّ الأمانَ..

وأنْ نَستعيدَ الزَّمانَ..

- متَى نَستعِيدُ؟

- ‏ إذا الدِّيكُ باضْ!

..............

‏إنِّما أفسَدَ القَومَ قبلَكَ حُبُّ النِّهايةِ قبلَ البدايَةِ!

- ‏والنَّصرُ؟

- ‏مَحْضُ افْتراضْ!

يَشهَدُ اللهُ أنِّىَ ما قلتُ.. إلا الذى قد علِمْتُ..

فهيِّئْ سِلاحَكَ.. إنَّ صلاحَكَ فى الحرْبِ..

- إنَّ سلاحِى: القَصيدةُ..

- ما الشِّعرُ عندَكَ؟

- عِندى القَريضُ:

فُيوضُ الجَلال ومُطلَقُ آياتِهِ

وغموضُ الجَمالِ إذا شفَّ عن ذاتِهِ

إنهُ كالزَّبرجَدِ فى الرَّونَقِ المحْضِ..

أو كالبنفسَجِ فى الرَّوْضِ..

وهْو الرِّياضَةُ والمُستَراضْ!

- ‏هل نَظمْتَ القَوافىَ

- بلْ رُبَّ قافيَةٍ قُلتُها .. قِيلَ: مَن قالَها!

- ‏وعشِقْتَ؟

- أجلْ .. وسلبْتُ المَليحَةَ جِرْيالَها!

- ‏أفْسدتْكَ العُيونُ الصِّحاحُ .. المِراضْ!

- ‏فوَهِمْتَ .. وأوهَمْتَ

ليس القريضُ كما قد علِمْتَ!

- فكيفَ تَراهُ؟

- ‏القريضُ اعتِراضْ

وكَلامٌ مِن القلبِ .. يَجنَحُ لِلشَّعْبِ

- كلُّ اعتراضٍ جَمالٌ

تَخلَّصَ مِن رِبقَةِ الشَّكلِ ..

وهْو جَلالٌ تَملَّصَ مِن قَبضةِ الكُلِّ!

- لا شكَّ أنَّكَ تلعَبُ بالمُفرَداتِ..

فهلْ لكَ فى الشَّارِداتِ الأوابِدِ؟

- ‏ هَبْكَ "جَريرًا" .. وهَبْنِى "الفَرزدَقْ"

‏وتَعالَ لِننظُرَ مَن سوفَ يُسبَقْ!

- مَن سيبدَأُ؟

- أنتَ .. فهاتِ...

....................

- أجِزْ:

- ‏دَمٌ يَغْلِى وصبْرٌ ليسَ يُجدِى

- وأجْفانٌ مُكحَّلَةٌ بِسُــــــــــــــــهدِ

- وصدْرٌ ضاقَ بالأوطانِ ذَرْعًا

- وبالدُّنيا تُعيدُ بهِ وتُبـــــــــــدِى

- ‏ تَنفَّسَ مثلَ بُركانٍ وأرْغَـــــــــــى

- كمَوجِ البحْرِ فى جَزْرٍ ومـــدِّ

- فهلْ تَزكُو سواعِدُنا ونَـــــبنِى؟

- كما بَنَتِ الأوائلُ كلَّ مَـــــــجْدِ!

...........

وعلى حينِ غِرَّةٍ توقَّفَ وقال: ذلك يَكفيكَ فلا فُضَّ فُوكَ

ثم جعلَ يضحكُ ويقول:

ها أنتَ قد استدُرجْتَ للفخِّ

فأين ما كنتَ تدَّعِى؟

أين الجمالُ والقبحُ!

وأين الشِّعرُ القُحُّ!

قلتُ: فيا لكَ مِن مُخاتِلٍ

وصاحبٍ مشاغِبٍ!

تاللهِ لإنَّكَ أنتَ القنَّاصُ

وآلتُكَ الأشْصاصُ!

فقال: وإنكَ أنتَ الجوَّابُ

وآلتُكَ الأَسْطُرلابُ

قلتُ: فناشدتُكَ اللهَ

إلا ما أعْلَمْتَنى: فيمَ امتزْتَ على أقرانِكَ؟ وبِمَ بززْتَ أترابَك؟

- ‏قالَ: بحاجَةٍ مُباحَةٍ

دانَتْ لَها دِيباجَةٌ مُبيحَهْ!

.......

- ‏قلتُ: ألَا يا واحِدَ النَّدَى

رِقَّ لِواحِدِ القَريحَهْ!