»وسليمان بن خاطر كان صِدّيقاً نبياً/ أما كان كليم الله/ في رابية الطود/ وناداه ... سليمان بن خاطر/ طهّر البيت من الأرجاس وانزل أرض مصر« (مظفر النواب - أيها القبطان)
إلى علاء، علم، أيمن ومحمد، نسور ملحمة «ثأر الأحرار.« ومن ثم، بالتالي، «كان مصير مصر عربياً من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية»(1) هذه إحدى خلاصات الأجزاء الأربعة لعمل جمال حمدان الموسوعي: «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان». فعلى مدى أربعة آلاف صفحة، هي مجمل صفحات العمل الفذّ، يعود بنا حمدان آلاف السنين، ليشرح في الخلاصة (في الجزء الأخير)(2) التشكّل التاريخي لـ«شخصية مصر التكاملية». وفي خلاصة العمل الفذ، الذي يعرض في جزئه الأول «شخصية مصر الطبيعية»، والثاني، «شخصية مصر البشرية»، يستنتج حمدان أنه لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية.
وفي تفاصيل هذا العرض العبقري والتفصيلي والموثّق باستخدام منهجية «المدى الطويل»، لعلاقة جغرافيا مصر بتاريخها، لتفاعل الزمان والمكان الذي أنتج «مجالها التاريخي»، ولمكان ومكانة مصر ودورها التي أنتجتها «الملحمة الكبرى للجغرافيا»، يمكن لنا أن نعرف ونفهم حقاً من هو الشهيد محمد صلاح الحقيقي، ويمكن أن نعرف قيمته ونُقدِّر قدره. ويجب أيضاً أن نستنتج، لذلك كله وأكثر، أن الشهيد صلاح يمثّل، في ما أقدم عليه من فعل كفاحي، خلاصة روح مصر الحقيقية وصوتها القادم من آلاف السنين من تفاعل التاريخ الطبيعي والبشري الذي يربط الحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي باللاعضوي، ليعطينا فكرة مصر العظيمة التي كان صلاح في حزيران 2023 خير ممثّل لها.
التاريخ هو «لسان الجغرافيا»، يقول حمدان، والجغرافيا «تنطق من خلال الإنسان». هكذا يمكن أن نعرف ونفهم ليس فقط لماذا أقدم البطل محمد صلاح على تلك العملية البطولية، بل وأهم من كل ذلك، سنعرف لماذا يمكن أن يكون الشهيد محمد صلاح النموذج المعياري الحقيقي للشاب العربي المصري. وسنعرف، أيضاً، أن مشكلة الكيان الحقيقية لم تكن، حتى في تلك اللحظة التي فتح فيها الشهيد العربي النار، مع محمد صلاح شخصياً، وأنها أيضاً لا ولن تنتهي باستشهاده، ولا ولن تنتهي مع أي ترتيبات أمنية ولوجستية جديدة وإضافية ممكنة على الحدود (للمرة الألف لم يوجد، ولا يوجد، ولن يوجد حل تقني أو أمني أو عسكري للمقاومة كمشروع تاريخي). بل، سندرك أن مشكلة الكيان كانت، ولا تزال، وستبقى، مع تاريخ وجغرافيا ودور ومكان ومكانة وروح وشخصية مصر العربية ذاتها خصوصاً، كما مع المنطقة العربية عموماً. وسنعرف أن هذا البطل الجديد هو خلاصة روح مصر الحقيقية، خلاصة التاريخ والجغرافيا والاجتماع والسياسة والحضارة والثقافة المصرية، أو خلاصة شخصية مصر التكاملية التي أنتجها تفاعل الشخصية الطبيعية والشخصية البشرية لآلاف السنين.
وهذه متغيرات لا يمكن لكل تكنولوجيا الكون أن تحتجزها أو تحتجز تطورها وحتمية تعبيرها الدائم عن نفسها بطريقة وأسلوب محمد صلاح. لهذا، فمحمد في تلك اللحظة كان حقاً النموذج المعياري الذي يمكن، بل ويجب، أن نتوقع أن يكون عليه معظم شباب وشابات مصر العربية – صحيح أن هذا الفدائي الجميل، محمد صلاح، ومن بينهم جميعاً، هو الذي حصل على الفرصة لأن يكون البطل الذي يحمل السلاح على الحدود في تلك اللحظة (حتى سلاحه القديم صُنع في المعادي ومحفور عليه صنع ج.م.ع). لكن، وللإنصاف قليلاً، يتوجب الاعتراف أنه صحيح أيضاً أنه هو بالذات، أي محمد صلاح، بخبرته وتجربته وشجاعته وصبره وتخطيطه الفذ، كان حينها الممثّل الأرقى والأطهر والأشرف والأجمل الممكن لهذا النموذج العربي المصري.
«لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية»، تعني أيضاً، وبالضرورة، أن المشروع الصهيوني هو ضد مصر بالذات. فهو ضد التاريخ وضد الجغرافيا اللذين أنتجا الإقليم العربي وأنتجا مصر العربية وشكّلا روحهما وهويتهما وشخصيتهما الكامنة. فآلاف السنين من تفاعل التاريخ الطبيعي والاجتماعي لم تعط لمصر (وللمنطقة العربية كلها) خصوصيتها وتفردها وتميزها واختلافها عن باقي المناطق فقط، ولم تشكل روح المكان الذي يمكن أن نستشف منه «عبقريته الذاتية» التي تحدد شخصية المكان وعبقريته، بل وأسّس لهما (لمصر وللمنطقة العربية) أن تكونا بنيوياً وموضوعياً وبحكم الضرورة التي لا مجال للالتفاف عليها أو تجاهلها، فقط وفقط وفقط (حتى ينقطع النفس) على النقيض تماماً مع المشروع الصهيوني على أرض العرب.
لهذا بالضبط، وبسبب روح مصر وشخصيتها، فإن «كل انحراف مهما طال أو صال أو جال»، كما كتب حمدان حرفياً، هو حتماً «إلى زوال»، لأن كل انحراف عن الدور الذي تفترضه وتفرضه الجغرافيا والتاريخ والزمان والمكان والمكانة والدور سوف يخلُّ بالضرورة بالتوازن ويؤسس لعدم الاستقرار بشكل مستدام إلى أن يعود الوجود إلى أصله. فآلاف السنين من التاريخ الطبيعي والاجتماعي، لا يمكن لها إلا أن تلفظ هذا الكيان وترفضه كلياً، ولا يمكنها، موضوعياً وبنيوياً وبحكم الضرورة، وبسبب من طبيعة المكان وطبيعة سكانه، أن تقبل أن يكون فيها ومنها ولو مرحلياً. هذه معضلة لا يمكن أن يتم حلها بترتيب أمني أو لوجستي أو تقني آنيّ على الحدود أو في الداخل، ولا عبر متابعة لصفحات «فايسبوك» المجندين قبل اختيارهم للخدمة على حدود فلسطين. فما يقارب من نصف قرن من المعاهدة المشؤومة لم ينتج أي تطبيع على المستوى الشعبي.
فهذه معضلة تاريخ ومكان ودور ووجود سيظل يؤرقها ويقلقها وجود هذا الكيان في كل لحظة حتى زواله. مرة أخرى، مشكلتهم مع جغرافيا وتاريخ ودور ومكان ومكانة تأبى بفعل الضرورة والموضوعية والتاريخ والمنطق إلا أن تكون عربية، لا مكان للصهيونية وكيانها فيها. وأينما نظروا حولهم، تلفظهم، وستظل تلفظهم، وترفض تطفّلهم الطارئ على قلب وطن العرب. ونحن نعرف أن الجغرافيا والتاريخ والحقيقة والعقل والمنطق هي التي ستنتصر في النهاية، لأنها طبيعة الأشياء، فالجغرافيا والتاريخ والحقيقة والعقل والمنطق، وبرغم كل شيء، دائماً تنتصر.
أفضل العرب
«عَمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية. ولكن نفّذتها وأنا أضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية من بعدي.» تقرأ نص الرسالة الأخيرة (أعلاه) للشهيد عدي التميمي فتتعجب وتصاب بالدهشة من الرسالة، بالقدر ذاته من الدهشة والعجب اللذين تستتبعهما العملية البطولية ذاتها. كيف يمكن لشاب لم يتجاوز الثانية والعشرين أن يحمل على كتفه هذه المسؤولية الهائلة؟ كيف لهذا العشريني أن يعتقد أنه فعلاً يتحمّل هذه المسؤولية (تحريك المئات لحمل السلاح دفاعاً عن الوطن)، وحتى أن يكون على استعداد لأن يقدّم حياته ثمناً من أجل ذلك؟ أي نوع من الرجال عدي هذا؟ أي نوع من البشر عدي التميمي هذا؟ بل، أي نوع حتى من الأبطال هو؟ فهو لم يكتف برفع السقف الكفاحي عالياً جداً جداً لمن يأتي بعده فقط، وهذا وحده كان كفيلاً بأن يكون إنجازاً هائلاً لأي إنسان، ولكنه وضعنا ووضع العدو أيضاً أمام معضلة: كيف نفهم كيف يمكن لابن الثانية والعشرين أن يكون على هذا المستوى الخرافي والخارق من الوعي؟
قبل فترة، قال لي والد الشهيد البطل بهاء عليان إنه لا يمكنه أن يُفَسر بطولة واستثنائية الشهيد المقدسي (22 عاماً) بالتربية العائلية وحدها (وطبعاً لا نستطيع استثناءها). كان أبو البهاء، المناضل الشرس في حملة استعادة جثامين الشهداء المحتجزة (كابنه الشهيد بهاء) يقصد، محقاً، أن هناك شيئاً آخر نحتاج إليه لتفسير وفهم ظاهرة هؤلاء الأبطال جيداً وحقاً. لا أعرف كم ألف عام علينا أن نعود للخلف حتى نستطيع تفسير عملية خلق وتَشَكُّل هؤلاء الأبطال على هذا الشكل المدهش (وهذه منهجية في علم اجتماع التاريخ لتفسير الظواهر التاريخية الكبرى، وهو بالضبط ما فعله جمال حمدان في تأريخه لتشكل شخصية مصر وشخصية الإقليم عبر آلاف السنين).
لهذا ربما يقولون عن أمثالهم، محقين، في مصر «ما ولدتهم ولّادة»، في إشارة إلى أن هناك حاجة إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد البعد الفردي والبيئة المباشرة لتفسير صفاتهم وأفعالهم التي تبدو فوق طاقة وإمكانية البشر العاديين. فهؤلاء الأبطال، فعلاً، أكبر بكثير من مجرد تجسيد لمواصفات شخصية أو نتاج لتربية عائلية أو مدرسة أو حزب. بل، هم تجسيدٌ، وتجسيدٌ فذ حقاً، لتاريخ أمتنا الطويل كله، وحضارتنا المدهشة بكل إنجازاتها وعبقريتها، وثقافتنا الجميلة منذ نشأتها، وقيمنا العظيمة بكل رقيها وسموها. صدق السيد نصرالله (وهو الصادق دائماً) في رسالته لمجاهدي المقاومة الإسلامية في حرب تموز حين خاطبهم: «يا إخواني، أنتم أصالة تاريخ هذه الأمة، وأنتم خلاصة روحها، أنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعشقها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتها.»
ما وصلته، وتصله، الجغرافيا والتاريخ والزمان والمكان لا يمكن فصله وقطعه بأي قوة. فالانتماء إلى فلسطين، القضية والوطن والفكرة، هو الانتماء الحقيقي والضروري والوجودي لأي عربي في أي وطن كان، حتى لا يصبح كل وطن عربي فلسطين محتلة أخرى. فأيّ من هؤلاء الأبطال هو أكثر بكثير من مجرد شاب عشريني متحمّس. هكذا، أيضاً، نعرف وندرك أن من يتواجه، وسيتواجه حتماً، في الميدان ليس «جندياً» من المستوطنين الغزاة مسلحاً بأحدث الأسلحة الغربية وأكثرها كلفة في مقابل مقاوم عربي متواضع التسليح. بل إن الذي يتواجه، وسيتواجه دائماً، في الميدان حقاً هو حضارتنا العريقة وثقافتنا الغنية وقيمنا العظيمة وعقيدتنا العربية الثورية وتاريخنا الطويل مع من لا تاريخ ولا ثقافة له، حتى لا نقول شيئاً عن انحطاط الحضارة التي ينتسب إليها.
هذا هو بالضبط منطق المقاومة وعقلانيتها التاريخية وقانونها وسبب انتصارها الأكيد، ألا يفسر هذا أنه في كل مرة يتواجه فيها مقاوم عربي واحد متواضع التسليح من هذه الفئة المدهشة مع أكثر جنودهم تسليحاً وتدريباً وتدريعاً وحتى مع وحداتهم الخاصة يسقطون أمامه كالذباب ويهربون (يركضون بلا أرجل/ وتدلت خصاهم من الرعب، يقول مظفر النواب). هذه ليست قصصاً من الخيال، فلقد رأيناها بأمّ العين في لبنان (في عيتا الشعب وبنت جبيل ووادي الحجير)، في فلسطين (في الشجاعية وعلى حاجز شعفاط وفي تل أبيب والقدس)، الجيش العربي السوري في لبنان (في معركة السلطان يعقوب)، وأبطال الجيش العربي السوري والمصري (في حرب تشرين/ أكتوبر)، وأخيراً على معبر العوجة مع الشهيد محمد صلاح.
عليك فقط أن تعيد مشاهدة البطل عدي التميمي، أحد أفضل الفلسطينيين على الإطلاق، يترجّل بثقة مدهشة من السيارة على حاجز مخيم شعفاط ليواجه وحده وبمسدس يتيم ومن نقطة الصفر عشرات من جنودهم المسلحين حتى الأسنان بالعتاد والآليات والدروع. لم يكن هذا شاباً تلده النساء فعلاً. كان عدي حينها، تماماً مثل محمد صلاح، خلاصة تاريخ وثقافة وحضارة وقيم لا يمكن لها إلا أن تنتصر، خصوصاً مع عدو من هذا النوع. هكذا أيضاً، وهكذا فقط، نفهم أي نوع من الرجال والأبطال، وأي نوع من البشر هو الشهيد عدي التميمي (الفلسطيني)، الشهيد محمد صلاح (المصري)، الشهيد خالد أكر (السوري)، الشهيد ميلود بن ناجح نومة (التونسي)، الشهيد سمير قنطار (اللبناني) وغيرهم من أبطال العرب.
فمحمد صلاح، العشريني أيضاً، المصري المولد، عرف أنه لا يمكن إلا أن يكون فلسطينياً بالاختيار حتى لا يصبح فلسطينياً بالضرورة وبفعل الأمر الواقع (كما يردد الصديق العزيز، أستاذي منير العكش، دائماً أنه «سوري بالمولد فلسطيني بالاختيار»). فما وصلته، وتصله، الجغرافيا والتاريخ والزمان والمكان لا يمكن فصله وقطعه بأي قوة. فالانتماء إلى فلسطين، القضية والوطن والفكرة، هو الانتماء الحقيقي والضروري والوجودي لأي عربي في أي وطن كان حتى لا يصبح كل وطن عربي فلسطين محتلة أخرى؛ (وعامل وجود الكيان في خراب كل بلد عربي كان أساسياً، إن لم يكن الأساسي، من العراق إلى سوريا، ومن لبنان إلى اليمن، ومن السودان إلى باقي أوطاننا التي تم تخريبها بالوسائل العسكرية أو غير العسكرية لصالح الكيان ووجوده المؤقت.)
وفلسطين العربية، الوطن والقضية والفكرة، هي الانتماء الحقيقي لمصر والمصريين بالذات، لأن مكانة ووزن ودور مصر ليست حتى مثل أي بلد عربي آخر. لهذا كانت مصر حاضرة في الجزائر، واليمن، ولبنان، وسوريا، وطبعاً فلسطين، كلما اقتضت الحاجة - في ٢٤ آذار/ مارس 1955، بعد أربعة أشهر فقط من بداية ثورة نوفمبر العظيمة في الجزائر، انطلقت باخرة السلام «دينا» من بورسعيد محملة بالسلاح للثورة الجزائرية بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر لتصل إلى السواحل المغربية في مطلع الشهر التالي، ليتبعها بعد أشهر قليلة، في الثاني من أيلول/ سبتمبر السفينة «انتصار» من ميناء الإسكندرية نحو ميناء الناظور على سواحل المغرب، هذا عدا شحنات أسلحة أخرى سبقتها براً عبر ليبيا إلى الجزائر – أليس لهذا أيضاً أرادوا أن تدفع بورسعيد الثمن في عدوان 1956؟
اللافت أن هؤلاء الأبطال، برغم استثنائيتهم، ليسوا، ولن يكونوا أبداً، مجرد حالة طارئة ومؤقتة واستثنائية في بلادنا. فمن يعرف ولو قليلاً من تاريخ أمتنا الحديث سيعرف أنهم سليلو فئة من العظماء، وسليلو نهج وتقليد ثوري عربي عظيم يمتد لمئات السنين في تاريخنا العربي الحديث، ما يؤكد عبقرية تأريخ حمدان للإقليم ولمصر. فمنذ أكثر من قرنين، في 14 حزيران 1800، قام الشاب السوري، ذو الأربعة وعشرين ربيعاً، سليمان الحلبي، بطعن قائد الحملة الفرنسية وخليفة نابليون، جان باتيست كليبر. وفي طريقه من الشام، توقف الحلبي في غزة لعدة أيام حيث اشترى السلاح الذي سيطعن به كليبر، وحين حانت الفرصة في حي الأزبكية، أرداه قتيلاً بخنجره الغزاوي، فاجتمعت الشام وفلسطين ومصر للتخلص من قائد الحملة الاستعمارية الفرنسية وتجسّدت في شخص الشهيد سليمان الحلبي(3). ثم جاء الشهيد عز الدين القسام ابن جبلة السورية، حيث قاوم الاستعمار الفرنسي أولاً، وناصر ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي، ليطلق باستشهاده في معركة بطولية قرب يعبد جنين، شرارة الثورة الكبرى في فلسطين 1936-1939، في سعيه لصهر الكفاحين السوري والفلسطيني ضد الاستعمارين الفرنسي والبريطاني لبلادنا حينها. وأخيراً، وليس آخراً، طبعاً، كان البطل الاستشهادي جول جمال، ابن اللاذقية السورية، الذي استشهد في «معركة البرلس» البحرية في مواجهة البحريتين الفرنسية والبريطانية في عدوان 1956 على مصر وإغراق البارجة الفرنسية جان بارت.
كيف نوصف هؤلاء الأبطال، إذاً؟ كان الإغريق يعجزون دائماً عن توصيف وتفسير ما يعتقدون أنها بطولات خارقة أظهرها بعض أبطالهم ولا يمكن تفسيرها بشرياً، فينسبونها وينسبون أصحابها إلى سلالة إلهية وفعل إلهي. لهذا كانوا يصفونهم ويصنفونهم أيضاً بـ«أفضل الإغريق». فـ«أخيل»، مثلاً، الذي مَثّل مصفوفة مفهوم البطولة عندهم، كان لشجاعته المطلقة «أفضل الآخائيين (الإغريق)» على الإطلاق. هكذا وصفه هوميروس في غير مكان في الإلياذة (النشيد 1: 244 و412، 16: 271 و274). ولأن هؤلاء الأبطال العرب جسّدوا في فعل بطولي أو أكثر كل هذه المعاني الهائلة والكبرى، ولأن هؤلاء الأبطال أيضاً جاؤوا بالذات في عصر الردة والتطبيع والخيانة الرسمية، فهم ليسوا أبطالاً عاديين، أو حتى أبطالاً خارقين فقط. هؤلاء هم أفضل العرب على الإطلاق.
هم بالقطع أفضلنا وأشرفنا وأطهرنا وأخلصنا وأجملنا. والشهيد محمد صلاح لم يقدّم روحه فقط، وفي هذا الوقت بالذات، ليساهم في إعادة الاعتبار لتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وقيمنا، وليدافع عن إنسانيتنا وكرامتنا اللتين يريدون انتهاكهما بالقبول بالذل والخضوع للقهر، وأكثر ليؤكد جدارة أمتنا التي يمثّلها بطل مثله بالحياة الكريمة والعزيزة، بل أصبح، كذلك، ودون أن يدري أو يخطط، ليس فقط أحد أفضل العرب على الإطلاق، بل أحد الأشراف والأطهار والخُلّص في عصرنا.
خاتمة: يعيش محمد صلاح
منذ عام 1964 وإلى ما بعد النكسة، كان المفكر العربي جمال حمدان يكتب في مجلة «المجلة» التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية. ولهذا، كان حمدان حينها حاضراً بقوة في النسيج الثقافي المصري والعربي، وكان أحد صُنّاعِه (والتعبير والمعلومة للصديق العزيز الدكتور كمال الطويل). لكن حمدان لم يكن وحيداً. وليس ذلك لأن رئيس مصر والعرب حينها كان جمال عبد الناصر، وهو من هو في تاريخنا، بخلفيته العسكرية ودراسته لـ«تاريخ حملات فلسطين ومشاكل البحر» أو دراسته لتاريخ المنطقة، عدا فهمه العميق لتاريخ مصر ذاتها، كما أشار في فلسفة الثورة، وبالتالي إدراكه للبعد الفلسطيني والعربي العميق للنيل. بل أيضاً لأن ثلة من عباقرة مصر أدركت هذا البعد جيداً وجدياً حتى منذ عهد محمد علي ومشروعه الذي تجاوز في مداه الجغرافي مشروع صلاح الدين والمماليك بوصوله حتى جبال طوروس، وعكفت على دراسته وتوثيقه وفهمه، والأهم تعميمه ونشره كفكر وثقافة سائديْن في مصر والوطن العربي.
ورغم أن عمل حمدان، الذي ربما يكون أفضل من قدّم الفكرة وللفكرة العربية، يأتي في المقدمة، إلا أن المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال صاحب «تكوين مصر» الذي كلّفه الرئيس عبد الناصر بإعداد «الموسوعة العربية الميسّرة»، وصبحي وحيدة صاحب «المسألة المصرية»، وغيرهما الكثير من الذين أدركوا الفكرة ولم يتخلوا عنها، علّمونا أن حب المصري لمصر يقاس بمدى عروبته، وأن المصري الأكثر مصرية هو المصري الأكثر عروبية. وبعد رحيل الرئيس عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1970 ودخول الوطن العربي المرحلة الساداتية، كان حمدان قد انتهى من تنقيح الجزء الأخير من «شخصية مصر»، لكنه لم ينشره أو لم يستطع نشره. فحمدان أدرك أن سدنة المرحلة لن تسمح بوصول فكرته الخطيرة إلى القارئ، كما قال. لكنه أكّد، رغم ذلك، أن الخلاصة الأهم للكتاب الموسوعة ليست فقط أنها لا تحتاج إلى أي تنقيح، بل إنها ستبقى خالدة في صحتها ودقتها وتبعاتها: لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية.
لهذا، ربما لم يعرف، أو حتى يهتم، الشهيد محمد صلاح حين قطع الحدود الوهمية بين فلسطين ومصر أن آلاف الشباب والشابات الفلسطينيين لن يترددوا، أيضاً، ولو للحظة في تقديم أرواحهم من أجل مصر، تماماً كما قدّم روحه الطاهرة من أجل فلسطين. وإذا كان المعلم العظيم جمال عبد الناصر قال مرة إن «رفح ليست آخر حدودنا» وإن «القتال في فلسطين (للمصري) هو دفاع عن النفس»، فإننا نعرف، نحن الفلسطينيين بالتجربة وبالدم، أن رفح (وأريحا والجولان والناقورة) ليست آخر حدودنا ولا يمكن (ولن نقبل) أن تكون، وأن الدفاع عن مصر (وعن أي بلد عربي) أيضاً هو دفاع عن النفس والوجود ودفاع عن فلسطين. فما تصله الجغرافيا والتاريخ، وما عَمَّدَهُ ووصله الشهيد محمد صلاح والأبطال العرب من أمثاله بالدم، لا يمكن لقوة على وجه الأرض أن تقطعه. يعيش محمد صلاح.
كاتب عربي
هوامش:
(1) جمال حمدان: «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان»، القاهرة: دار الهلال، ص: ٦٣٨.
(2) الجزء الثالث أو الجزء الرابع، حسب الطبعة المعتمدة.
(3) «مجمع التحريرات المتعلقة الي ما جرى باعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كلهبر» - القاهرة، مطبعة الجمهور الفرنساوي.
عن (الأخبار) اللبنانية