الصورة غير الكلام
(المدن): "جمال العراق الخفي" فيلم وثائقي يصور مسيرة المصور العراقي الراحل لطيف العاني، الذي نال شهرة عالمية باعتباره من رواد التصوير الفوتوغرافي في العراق والشرق الأوسط.
في أفلام الطريق، تكون الأمكنة هي مركز الحدث والرحلة حركة على خط المسافة بين محطاتها. أما أفلام العودة، تلك التي يرجع فيها الأبطال إلى أمكنة الماضي، فلعلها صنف بعينة من أفلام الطريق، تترافق فيها حركتان أو لعلهما يتقاطعان، واحدة على محور المكان والأخرى على مقياس الزمن. في العودة تسير الرحلة بعناد على عكس تدفق الزمن، والمكان الذي يعودون إليه لا يكون نفسه أبداً مرة أخرى. هكذا تكون الرحلة بين المكان وما صار إليه، في زمنين.
ينطلق وثائقي "جمال العراق الخفي" للمخرجين الكردي سهيم عمر خليفة والبلجيكي يورغن بوديت، في رحلة بالسيارة تعود بالمصور الفوتوغرافي العراقي، لطيف العاني إلى الأماكن التي وثقها بكاميرته في جهات بلاده المتفرقة بين عقدي الخمسينيات والسبعينيات. بدأ لطيف العاني (1932- 2021) عمله الفوتوغرافي لصالح شركة النفط البريطانية في مطلع الخمسينيات، ومن بعدها ظل يعمل لصالح مؤسسات الدولة العراقية وإصدارتها.
ذكريات شاهد على العصر
قام لطيف العاني بتصوير العراق لمدة 30 عامًا قبل اندلاع حروب متعددة. في سن 86 ، يسافر عبر بلده المدمر بحثًا عن الأشخاص والأماكن التي صورها في ذلك الوقت ، ويشارك صوره مع العراقيين الذين لا يستطيعون التخيل أن العالم في صوره كان حقيقيًا. فريق الفيلم رافق لطيف العاني على مدى خمس سنوات وكانت النتيجة رحلة تاريخية لشاهد على العصر يعتبر "رائد التصوير العراقي" والذي توفى في عام 2021.
في واحدة مشاهد الفيلم، يشير العاني لواحدة من صور الملك فيصل الثاني ويخبرنا أنه من قام بتصويرها، ويسترجع ذكريات يوم التتويج، حين انقطعت الكهرباء عن القصر الملكي، وقام الملك الشاب بنفسه بتوصيل مولد الكهرباء وتشغيله.
نرى صورا أخرى من تصوير العاني، واحدة ألتقطها من فوق سطح السفارة البريطانية، لأعمدة الدخان تتصاعد من بغداد على إثر انقلاب تموز 1958، الذي سيسقط خلاله الملك وعائلته، وبعدها نرى صوراً لقادة الانقلاب عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، ومن بعدهم انقلاب بعد انقلاب وصولاً لصور صدام حسين، والذي سيغادر العاني في عهده العراق إلى المنفى.
تاريخ العراق وتنوعه
أمامنا تنفض الرحلة، كإعادة سرد لتاريخ العراق الحديث وخرابه المتواصل، يرويها شاهد عن قرب، وإن كان متحفظاً في إبداء رأيه في السياسة فإن ما كان يعنيه في سجله المهني الطويل هو التقاط الجمال وتوثيقه. فعل ذلك، بغية المساهمة في صنع أرشيف لبلده من صور، صار الكثير منها أيقونات للعراق وأمكنته وشخوصه.
نرى في أرشيف العاني، تنوع العراق، بدو وكرد وأزيديون وغيرهم، ونرى عمارته وطبيعته، مساجده وشلالاته وخطوط نفطه وبيوته وسدوده. وفي أحد المشاهد يخبرنا العاني عن رحلة قطع فيها الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها بالسيارة، وعن تلك الطموحات التي تملكته هو ومواطنيه، حينها ظنّ مع آخرين أن العراق ستصير مثل أميركا. الآن ما الذي بقي من هذا كله؟
ثمة فقد مزدوج يسجله الفيلم. ففي المقارنة بين صور الأمكنة كما التقطها العاني في الماضي وبين الحاضر، يتكشف الخراب في بعده المباشر، في المسافة بين الصورة والواقع. يصطحب المخرج سهيم عمر خليفة، العاني إلى الموصل، ليريه كل الدمار الذي حلّ بمدينته المفضّلة بعد استيلاء داعش عليها. لا شيء سوى الركام والخراب، ويخبره الأهالي أن جثث القتلى دفنت تحته، لا يستطيع العاني المتقدّم في العمر مواصلة المشي ويطلب أن تحضر له السيارة.
"الصورة غير الكلام"، هذا ما يقوله العاني في أحد مشاهد الفيلم. تظل الصورة وثيقة للزمن لا يعادلها شيء آخر. لكن حين تتلف الصورة، فما الذي يبقى. هنا يتكشف البعد الثاني من الفقد، والذي طال الذاكرة أيضاً. التقط العاني أكثر 200 ألف صورة فوتوغرافية، لم يبق منها سوى ألفين، أي أقل من واحد بالمئة، بعد أن دمر الأرشيف الوطني من الصور بكامله أثناء الغزو الأميركي للعراق العام 2003. يطول الخراب عراق الحاضر وصورته في الماضي.
نعرف القليل عن الحياة الخاصة للعاني، باستثناء بضع صور عائلية تبوح بوفاة مبكرة لواحد من أبنيه دون تفاصيل عن تلك المأساة الشخصية. في المحصلة، يغزل الفيلم رثاء للعراق من نوع خاص، مفعم بالجمال أكثر من الأسى، ويخفف من مرارته حس الدعابة الحاضر دائماً لدى العاني وأريحيته خلال لقاءته بأهالي تلك المناطق التي يعيد زيارتها ويودعها للمرة الأخيرة في آن.
- شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.
- يعرض الفيلم حالياً في الصالات البريطانية