كلما أُعلنت نتائج مسابقة ما، كلما ثارت الانتقادات، للتحكيم، والاختيارات، فلم يكن غريبا أن يعترض البعض على فوز رواية "تغريبة القافر"[i] للعمانى زهران القاسمى: بجائزة البوكر العربية للعام 2022، على إعتبار أنها تتحدث عن اشياء غير منطقية-من وجهة نظر الواقعية- متغافلين عن أن الابداع يقوم على جناحى الواقع والخيال. فإذا كان الإبداع –عامة- يعتمد الواقع كأساس وقاعدة يقوم عليها البناء، فإن الخيال هو المادة التى تصمم ذلك البناء، وتعمل على صورته الجمالية. فلم تكن تلك الصورة الخيالية، التى إعتمد عليها العمل سوى الشكل الخارجى، والمنطقي، لذلك الواقع، المرير- الذى يعانيه الإنسان –عامة- أمام سلطات باسطة كفها للبطش بكل من يسعى للتغيير، او المعارضة. فمن حيث الوضع العمانى، سنجد أن الحكم فيها سلطانى وراثى، ودستورها لا يسمح بقيام الأحزاب السياسية، وهى اللبنة الأولى التى يمكن أن نقرأ فيها رؤية "تغريبة القافر". ومن حيث التاريخ، ترجع التسمية إلى الرؤية الدينية، فمن قال أن عمان نسبة إلى عُمان بن سبأ بن يغثان بن إبراهيم الخليل، ومن قال أنها نسبة إلى عُمان بن لوط النبي عليه السلام. كما ورد ذكر"ظفار" -كأحد المدن العمانية -في أحاديث روتها أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبى بكر. أى أن البعد الدينى متجذر فى المنطقة. ليصبح استخدام الرواية لذلك البعد، استخدام منطقى تماما. كما تشير المصادر إلى تاريخ عُمان لما قبل التاريخ بنحو ثمانمائة عام، ويرجعها البعض لأكثر من ذلك. الأمر الذى يؤكد صحراوية تلك البلاد، وإعتمادها على باطن الأرض، قبل كل شئ، فكان على الإنسان على أرضها، كى يجد الزرع والسوقيا، أن يبحث فى باطن الأرض بحثا عن الماء، فكان بحث "سالم بن عبد الله بن جميل"، والمعروف ب"القافر" هو تقصى أثر الماء ، ليكشف عن فعله ورمزيته. وهو ما يدعونا إلى البحث عن سر التسمية، ولماذا أطلق عليه "القافر"، ولماذا كانت تغريبة، لمحاولة فك شفرة العمل، والكشف عن الكثير من اللبس، أو الغموض الذى أثار القارئ –غير العمانى- جراء استخدام الكاتب للهجة العمانية، التى استغلقت على الكثيرين. فنقرأ فى الموسوعة، عن العنوان:
{ القافر هو ذلك الشخص الذي منحه الله القدرة على تتبع الأثر وإقتفائه ، وهو عمل برع فيه أهل الصحاري والقِفار لحاجتهم المّاسة للماء ، وهو عمل يحتاج الى الكثير من الموهبة و الخبرة، أما التغريبة التي جذرها اللغوي " غريب " فهي تعود الى المتغرّب أو الغريب عن وطنه}.
وهو ما يفتح الباب أمامنا واسعا للدخول إلى الرواىة، والتعرف على دور الماء فيها، ورمزيته، فضلا عن الرؤية العامة خلف التفاصيل.
تأخر حمل "مريم بنت حمد ود غانم" كثيرا، فنصحها الكثيرات بالكثير من الخرافات، التى عمل زوجها "عبد الله بن جميل" فى القليل منها، حتى أصابها الصداع، الدائم الذى أخذ فى التزايد، حتى راحت تهذى وتخرج إلى الصحراء، حتى اذاع الناس بأن غريقة فى البئر، وليتجمع الناس، فيُعلَم أنها "مريم بنت حمد ودغانم. فيتم إخراجها، وبعد إخراجها من البئر صاحت خالتها "كاذية بنت غانم" { فى بطنها حياة.. فى بطنها حياة}، وقال الشيح حامد بن على ، حين احتار القوم حول ما فى بطنها، أيدفن معها أم يشق بطنها لإخراجه فقال الشيخ{بو فبطنها أولى به الدّفن}، فسحبت كاذية بنت غانم سكينا وفتحت بطن القتيلة وأخرجت الجنين من الميت وصاحت {محلاه.. صلاة محمد السلام.. يُخرج الحى من الميت، يُخرج الحى من الميت}ص15. وهكذا كان القافر" بن الميتة. وهكذا كان الماء هو الذى قتل الأم، فى الوقت الذى كان هو الدواء لها كلما اصابها الصداع، فالماء .. سر الحياة .. والشفاء . فمريم حين كان يهاجمها الصداع.. لم تكن تجد الراحة إلا بغمر رأسها فى الماء داخل الدلو ... وكان موتها غرقا فى بئر المياء.
وشاع عن "سالم بن عبد الله" إنصاته للأرض، ليسمع دبيب الماء تحت الصخور، حتى سمته خالته، أو أمه التى لم تلده، ب"القافر". واصبحت البلدان حول قريته "المسفاة" تستدعيه للتعرف على وجود الماء، ومسيرته، حتى اصطحبه والده "عبد الله" إلى إحدى تلك القرى للتعرف على مكان الماء، فانحشر الأب فى إحدى الحفر التى تفجرت فيها المياه، فمات الأب، ليصبح كلا من الأب والأم – برمزيتهما لللأجيال السابقة- ضحايا الماء. فيعلن " القافر" توقفه عن عمليات البحث، حتى يأتى رجل من إحدى القرى البعيدة بحثا عنه، ويقايضه، إن أستطاع اكتشاف الماء فله نصف البلد، التى مات كل أهلها عطشا، وإن لم يجد الماء، فله قرشان ونصف عن كل يوم عمل، وإن هلك، فتعود حقوقه لامرأته. فيوافق "القافر" على الصفقة ، ويسافر للعمل. وهناك يعانى من تلك الصخور الصماء، التى يختبئ تحتها الماء، فينصرف العمال الذين يساعدونه فى الحفر، ويسقط القافر فى "البئر" ويعانى اشد المعاناة، يعانى الجوع فيلجأ إلى العنكبوت والسحالى والسمك، غذاء. ولا من أحد يشعر به. وبينما هو وحيد فى (الجُب) وفى غرقته بالماء، والأسماك الصغيرة تأكل ساقه {فكر فى نفسه، كيف يستطيع الإنسان العيش فى تلك العتمة؟ تذكر أن أحدهم حكى له عن بخَّار المساجين فى قلعة الرستاق، كيف يُدلى فيه المسجون بحبل من فوق ثم يفلت ليسقط فى الحفرة الضيقة، ويظل يدور ويدور فى تلك الغرفة الاسطوانية حول عمود ضخم من الجص، يتحسس تحت أقدامه بقايا عظام من هلكوا قبله، ويُسمع صراخه ونداءاته وأنينه من الخارج دون أن يُنقذه أحد، حتى إذا خبا الصوت وانتهى بعد أيام طويلة عرفوا أنه أسلم روحه}ص191. وبعد طول معاناة، وإصرار على تحدى الموقف ، وضرورة النجاة، تتفتت الصخرة وينجرف الماء {على العزلة التى تمتد وتمتد، وعلى الفكرة التى لايرغب فى مواجهتها.. لم يكن يعلم أن جسد الصخرة يتداعى أمامه، كان غائبا فى غضبه، متحدا مع مطرقته فى هدم الجدران التى واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش...... تداعت الصخرة وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شئ}ص238.
فاستحضار قصة السجين، بينما هو محبوس فى حفرته، تربط بين الحدثين، حد التماهى. ثم تأتى تلك الأوصاف التى يؤكدها –الكاتب – فى تلك الأوصاف التى يصف بها "القافر" السجين{وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش}. وكأن الماء يعلن الثورة التى ستجتاح الجدران، بمطرقته هو، لا بسواها. خاصة إذا ما أضفنا إليها فعل الخوف، الذى يمنح الظالم قوة فوق قوته. فخوف النسوة من "كاذية بنت غانم" بعد أن شاع بينهن، ان كاذية تعلم سر الجن الذى يخاويه سالم حتى قالت:{ الشى اللى تخاف منه قبل ما يصير يزيد قوة من يستوى}ص75. وأصبحت كاذية من القوة التى يهابها الجميع. {لقد صار الخوف فى داخلها طمأنينة كبيرة، وفى الآن ذاته كبر فى صدورهم واتسع حتى صارت وهى المرأة العجوز الضعيفة المتوجسة تمشى بجلال وهيبة فى كل طرقات القرية}ص76.
وإشارة إلى أن البحث عن الماء، البحث عن الحياة، البحث عن الصعود إلى مرتبة الإنسان الحر،عبر الأجيال، ممثلا فى العم إبراهيم المهدى، وصولا إلى القافر، حيث نجد التشابه فى إبراهيم المهدى عندما غادر إلى المجهول وحط فى قرية كان يستصلح الأرض بالماء . ثم يتركها ليستصلح أخرى. وعندما ذهبت إليه زوجته .. راح يتحسس الماء- الذى لا تراه هى- {يشير إلى الأرض حيث وقع وهو يكرر (ماى ..ماى). تعتقد أنه عطش فتمتد يدها إلى الكوب، تملؤه بالماء وتعطيه لكى يشرب لكنه يهز رأسه ثم يشير مرة أخرى إلى المكان ذاته ويكرر (ماى .. ماى). يفلت من قبضتها ويركض مسرعا ليحنى جسده ثم يلصق أذنه بالأرض، ويضيق عينيه كمن يحاول رؤية شئ ما فى العتمة، ويصيخ السمع كأن أحدا يناديه فى الأعماق} ص65. ويفعل الطفل (سالم) ابن التسع سنوات فى الصحراء نفس الشئ، وهو ما يزيد توجس الأب، فينهره، ليقول الطفل :{ ماى، اسمع صوت الماى فى الأرض}ص68. فينتشر الخبر عن طريق الناس .. ويُشاع{ قالوا: يكلموه أهل تحت. وقالوا: تو تأكد أنه ود الجن} {وكانت تلك الأحاديث كافية ليبتعد الناس عنه وعن "كاذية بنت غانم" بأنها تعلم سره علم اليقين وكتمته لأن أهل العلم السفلى يراقبون كل كلمة تتلفظ بها وصارت النساء يهربن من طريقها} ص73.
ويتواصل الحرمان من (نور الحياة) المتمثل فى (الماء)، نجد أنه بعد أن صارت المياه شحيحة، وراح الناس يُصلون صلاة الاستسقاء حتى : {لم يبق فى القرية إلا نبع ماء ضيئل يسيل من صخرة صماء مُنسكبا فى حوض صغير فى مزرعة سلام ود عامور الوعرى، وكان الجميع يتناوبون على ذلك الحوض آخذين منه حصتهم من الماء}ص100.
كما تأتى إشارة أخرى، تتوافق ورؤية ذلك المجتمع، بما يعانيه من تخلف وفاقة، وجوع، نجد أن عملية البحث عن (الماء) أو السعى إلى الحياة، تم إلقاؤها بالكامل على عاتق الرجال، بينما النساء لم يكن أمامهم إلى الجلوس فى البيت، إنتظارا لعودة الرجال، حتى لو غابوا سنينا، مثلما فعلت "نصرا بنت رمضان" زوجة "القافر" التى غاب عنها زوجها فى سفرته الأخيرة، بحثا عن الثروة التى ضاعت، والعيشة الكريمة، حتى عادها أهلها –فى غياب "القافر" ظنا أنه مات، وعرضوا عليها الزواج من آخر، وهى لا تعلم عنه شئ. وكأن الكاتب يبحث عن (الرجال) للقيام بهذه المهمة.
التقنية الروائية
استخدم الكاتب، صياغة ألف ليلة وليلة للتشويق والإمساك بالقارى .. حيث يبدأ الفصل بالحديث عن أحد شخوص الرواية، ثم ينتقل إلى غيرها، وليعود إلى الشخصية من جديد فى نهاية الفصل. مثلما بدأ الفصل الرابع –مثلا- عن إبراهيم، وتنبؤه بالماء تحت الأرض، ثم ينتقل إلى زوجته "آسيا" وذكرياتها مع أمها، وطفلها ( سالم الذى أرضعته).. وقبل نهاية الفصل، يعود السرد للحديث عن إبراهيم.
استخدم الكاتب عناصر الطبيعة، ببعديها الجغرافى والتاريخى، ليتسلق عليها بالخيال، المستمد من روح ألف ليلة وليلة، حيث جاء استخدام الطبيعة، كقاعدة تنطلق منها الرؤية العامة، أو الكشف عن البيئة التى بنى عليها الكاتب ظروف معيشة الشخصية، الصحراوية البدائية، وكأننا أمام بدايات الإنسان على الأرض فكان تحديد الاتجاهات والساعات :{وعندما يسطع الصيف بلهيبه يخرجان إلى سطح البيت ويفترشان أرضه تحت النجوم الساطعة، فيضع رأسه فى حجرها مستلقيا ينظر إلى تخوم السمء بنجومها البعيدة وهو يسمّى كل نجمة ويحدثها عنها، وعن دورها فى مواقيت الفلج، ومتى تشرق ومتى تغيب}ص202. فضلا عن استخدام العصى الواقفة، أو طول رجل الفرد، تحدد مدى إحتياجه للماء. وأيضا قيام "صابرا" بجز الفرو وغزل الصوف. كلها كانت عناصر تحدد طبيعة تلك الأرض التى تعيش على بدائية الكون.
وإزاء تلك (البدائية) كان الجوع، الذى يعانى منه كل أهل البد –والذى يدعو للثورة علي كل ذلك التخلف والجوع، نقرأ أنه بعد أن استطاع "سالم بن عبد الله" ان يتعرف على مكان المياء تحت الصخر، رغم استهزاء الشيوخ وكبار السن منه، كانت صخرة أعيت الجميع إزاحتها حتى يخرج الماء، وكان لإزاحتها الاحتياج للثوم، فهو وحده القادر على إزاحة الصخرة . ومن أين لهم بالثوم وقد أكل القحط كل مخزون البيوت. واستمهلت كاذية، سالم وأبوه قبل الخروج.. ولتأتى لهم بالثوم المخبأ فى الحظيرة: فيقول لها عبد الله: خلى منه للبيت. فقالت : بيجى الجديد، مادام القافر معك. وكانت تشير إلى سالم، وقد أطلقت عليه القافر ليلتصق اللقب به ولا يُعرف بسواه}ص122.
الإشارة التى جاءت بأول الرواية، حيث تم إكتشاف الجنين فى بطن الغريقة، وبسؤال (الشيخ) أفاد بأن يُدفن الجنين مع الغريقة، فتجاهلت العمة تلك الفتوى –من الشيخ- وتم شق البطن وإخراج الجنين، حيا. تلك الواقعة، وحيث جاءت فى بداية الرواية، فلابد أن تلقى بظلالها على أحداث ووقائع الرواية، وهى التى تجعلنا ننظر إلى الرؤية الدينية، وتجذرها فى المجتمع، أن ننظر إليها رؤية مغايرة، تحدد الوقف من تذلك التأثير الممتد، والذى يمتد عبر السنين والأجيال.
حيث تأتى الإشارة إلى تأثير الرؤية الدينية، فى السلوك وفهم الإنسان المنتمى إلى تلك البيئة، وللتعبير عن ثقافتها. فمثلا يتخير النبى سليمان، الذى عُرف بحديثه إلى الطير والجن، مستخدما إياها لتفسير الطبيعة التى عليها المنطقة {لأنه يعرف الحكاية القديمة التى يعزو الناس فيها حفر الأفلاج إلى النبى سليمان، ومفادها أنه مر بعمان وهو على بساط الريح، وقد أصابه شئ من العطش، فقرر الهبوط إليها ليشرب، لكنه وجد البلاد قاحلة، جافة، فأمر جنوده من الجن بحفر الأفلاج فى كل مكان، فحفروا فى الصحارى والوديان وشقوا الصخور والجبال وأجروا المياه فى قنواتها حتى قيل إنهم حفروا اكثر من ألف فلج فى ليلة واحدة}ص219. كما يمكن أن نستحضر قصة يوسف عليه السلام، وإلقاء إخوته له فى الجُب، فنرى هنا "القافر" وقد حُبس فى الجُب، والفعل نفسه ليس ببعيد، إذا ما علمنا أن سبب البحث عن (الماء) -الذى هو سر الحياة فى الرؤية المباشرة- والماء برمزيته هنا، هو ظلم إخوته -فى الوطن- له، والبحث عن الحق فى الحياة. خاصة أن الجد –والد عبد الله- ترك أرضا بها الكثير من الخير، استولى عليها الغير.. وعندما عاد "عبد الله" يبحث عن خيرات أبيه، أنكره من استولوا عليه، بدون وجه حق. فعاش "عبد الله" وابنه سالم من بعده يعانون الفقر والحاجة، ولم يكن أمامهم إلى العمل لدى الغير.- فبعد أن كانوا ملاكا، اصبحوا مستأجرين.
كما يمكن أن نجد استحضار موسى النبي، حين يتناص معه الكاتب، بعد طول جهد فى محاولات تفتيت الصخرة، كى يمر الماء المختبئ خلفها، ليسقى البلاد، والعباد، تفتت الصخرة و {وسرعان ما أعيد استصلاح الفلج، فًرُممت جدرانه وفرضاته التى بلغ عددها اثنتى عشر فرضة اتخذت كل واحدة منها شكلا أسطوانيا يبدأ من سطح الأرض وينتهى بقاع الفلج، وخرج الماء متدفقا يملأ سواقى الفلج}ص133. لنستحضر الآية رقم 60 من سورة البقرة {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}.
ثم ذلك التناص الكاشف، وفى ذات الموقف، الذى يعرض صعوبة الموقف الذى يعانيه "القافر" فى ذلك الجُب، كما يلقى إضاءة جديدة على الرؤية المستترة وراء سطور الرواية، وهى بعد الأمل، أو صعوبته، عندما يربطه بما يشبه المستحيل {سينتظر كثيرا هناك، سينتظر المعجزة، سينتظر أن يدخل الجمل من ثقب الإبرة كما سيحدث فى آخر الزمان}ص218. حيث التناص مع الآية الكريمة { وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} حيث يأتى هذا التعبير كناية عن استحالة هذا الأمر، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنة، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنة مطلقا.حيث لا تحدث المفارقة هنا، وإنما لينطبق المثل برمته على ذات الموقف، الذى لا يقطع الأمل فى حدوث الثورة المنتظرة. وكأن الكاتب بعد أن استخدم المفارقة طويلا، وصل فى النهاية إلى المواجهة المباشرة، التى يجب أن تحدث، وما هى بأكبر من عفو الله ودخول الكافرين الجنة. خاصة إذا اضفنا إليها تلك الإشارة، إلى تمكن "القافر" من الخروج، ثم سقوطه، ثم محاولته، تلك التى تعيد للذاكر أسطورة سيزيف، التى عانى فيها من حمل الصخرة إلى أعلى الجبل، لتسقط منه إلى أسفلها، فينزل ليعيد الكرة. فهى دعوة جديدة للمحاولة مرات، حتى إن فشلت إحداها.
رغم كل تلك التهويمات التى استخدمها الشاعر والروائى "زهران القاسمى" فى روايته الفائزة بالبوكر العربية، فإنها، ومن خلال المقابلة بين الحياة/الماء والموت، حيث يصبح الماء رمز الحياة، هو ذاته مصدر الموت، وكان السعى للحياة الحرة، محفوف بالموت –فى أوطاننا العربية، جاءت الرواية صرخة تدعو للحرية، وللتعددية، استطاع أن يقيم بنيانها على صخرة الواقع، وحلمية الأمل، وشاعرية الرؤية، فكانت جديرة بالجائزة، ولينضاف إلى العمانية –أيضا- "جوخة الحارثى" التى كانت أول من فاز بالبوكر العالمية عن روايتها "سيدات القمر"، حين اتخذت من عمان –أرضا-لتشييد بناء روائى، لا يخلو من الدعوة للأمل، وللغد، وليكون النبت حصيلة التربة، فى كلا العملين.
[i] - زهران القاسمى – تغريبة القافر- ط1 2022.