اختار الكاتب المصري إحدى الأغنيات المحفورة فى الوجدان، ليلعب عليها لكشف حالة (العطش) التي يعيشها الإنسان عامة والعربي خاصة منذ طفولته، وحتى هرمه، مذيبا للزمن وحركته غير المرئية، ومماهيا للمكان، فلا يشعرك القارئ بالتنقل، محافظا على السمة الرئيسية الأخرى في القصة، وهى متعة القراءة، فضلا عن التذكر والمعايشة.

شباك حبيبي

سـيد الوكيـل

 

في ممر ضيق وجانبي بمحطة مترو الأنفاق رأيتهن. ثلاث فتيات يقفن على حدود المراهقة بزي المدرسة، يلقين بحقائبهن على الأرض، يرقصن ويغنين بصوت خافت خجول، ربما خشية أن يلفتن نظر رجل الأمن الجالس على مقعد من الجلد المهتريء في نهاية الطرقة. يغفو آمناً، حتى تدلت رأسه على كرشه المنتفخ.

واحدة منهن تقوم بدور نجاة الصغيرة، إنها تلك التي تعطيني ظهرها، فيما الأخريين في مواجهتها تتبعان حركاتها، تتمايلان مثلها، وترددان وراءها لازمة الأغنية: أما براوة براوة.. أما براوة... شباك حبيبي ياعيني آخر طراوة.*

هكذا يكون العرض مكتملاً، كل شيء يحدث هنا والآن أمام عيني: اثنتان في مواجهتي، وواحدة تمنحني ظهرها. قوام ناضج رشيق، وعلىّ أن أرسم ملامح وجهها وفق ترددات صوتها الساري في فضاء الطرقة الصامتة:

"قُلة حبيبي ملانة، عطشانة يانا.. اروح له ولا، أروح أشرب حدانا "

هل هو الخجل حقًا؟ ربما استشعرتْ المعنى الحسي لقُلة حبيبها، فداهما العطش، وجف حلقها. أنا أيضًا تسرب العطش إلى حلقي وأنا أتأمل جسدها يتمايل يمينًا ويساراً، ويدان مرفوعتان تستجديان السماء في قطرة ماء. فجأة.. يزيد حماس البنتين في مواجهتها، تصرخان: عطشانة يانا.. عطشانا يانا.

لا واحدة منهما نظرت إلىً، كأني طيف عابر، لست هنا والآن في قلب المشهد، لكني رأيت الجفاف على الشفاة، ورأيت العطش في العيون. فهمست لنفسي: أنا عطشان أيضًا.

فقط كنت أحادث نفسي، لكنهما انتبهتا إلى وجودي فجأة، هل سمعتا همسي؟.

لحظة تلاقت فيها عيوننا، فتبادلنا نوبات عطش مشفوعة بابتسامة انتصار، وكأننا وجدنا نهرا. عندئذ وضعت إصبعي على فمي: هس.. حتى لا تنتبه نجاة الصغيرة إلى وجودي خلفها، فترتبك وتتوقف عن الغناء، لكن هاجسا طاف برأسي: من الممكن أن تموت من العطش. عندئذ اتسعت ابتسامة البنتين، ونظرت كل منهما للأخرى. نظرات رضا تهمس لي: استمر أيها العابر.

لابأس من مؤامرة صغيرة، لتستمر البنت التي تعيش دور نجاة الصغيرة في الغناء والعطش. وأستمر أنا في تداعياتي، لصور قديمة، تركتها في البيت القديم..

مازال الفتي المراهق يقف أمام نافذة حجرته، وصوت نجاة الصغيرة يردد خلفة من مذياع ترانزستور صغير: ساكن قصادي وبحبه.

يذكر أن أباه جاء بهذا الراديو بعد أن انتهت خدمته العسكرية في اليمن، ويذكر حكاياته عن حال الجنود المصريين التائهين في جبالها: كنا نموت من الجوع والعطش.

في تلك اللحظة، كان الفتي لا يفكر سوى في أشياء تخصه، أن تسمع (كوثر) شجوه وهو يردد خلف نجاة الصغيرة: ساكن قصادي وبحبه. أن تهتز ستارة نافذتها الشيفون، وتشف عن وجودها الطيفي، تنزاح قليلاً إلى جانب من النافذة، ليظهر وجهها مبتسما هذه المرة. كل ما يريده الآن ابتسامة تروى عطشه، لكن يدان امتدتا فجأة، وأغلقت النافذة بعنف، عندئذ ساد صمت،

وساد شخير رجل الأمن الغافي، فيما انفرد مترو الأنفاق بضجيج اصطكاك العجلات بالقضبان الحديدية، ورنين حاد يتسرب من أذنيه إلى رأسه، ليتحول المشهد الذي أمام عينيه إلى جبهة قتال على طول قناة السويس، ذهب إليها أباه ولم يعد..

_____________________________

أغنية لنجاة الصغيرة، من ألحان محمد الموجي، كلمات مرسي جميل عزيز.

قلة: لفظ يطلق على دورق فخاري مرطب للماء، يتردد كثيرًا في الأغاني الشعبية، وهو موروث فرعوني أصله ( أرَا ).

 

888888888888888888888888

 

عندما تتكسر ألواح سفينة التائه، بين الحرب وسطوتها، وقسوة الشرطة وغلظتها، وتجاهل الأهل وغربته بينهم، وانسداد آذان المسؤلين، يصيح الإنسان التائه {اسمي (حمّو).. مشرد.. مضيع.. أوصدت الرحمة أبوابها في وجهي. كتبت.. ولم يردوا.. طرقت.. ولم يفتحوا. قلت .. ولم يستجيبوا.. وبكيت ولم يتعاطفوا} فلا يجد إلا الله يتوجه إليه السارد بشكواه. وهو ما عبر عنه القاص الجزائرى "مسعود ناهيلة" بسرد مقطع متلاهف، يعكس حالة التوتر والضياع التى يعيشها، وبلغة مشحونة بالدلالات والإيحاءت الشعرية، المسكونة بالكثير والكثير من الشحنات العاطفية، البعيدة عن الخطابة، والمعبرة بلغة إبداعية، يتنقل عبر الزمان والمكان، دون أن تشعر بتلك النقلات، حيث إنحصرت جميعها فى أعماق السارد، وكأنها الآنين الخافت الصاخب. لتخرج قصة، كم وفقت اللجنة أن تضعها على رأس الجائزة، وتمنحها "المركز الأول".