لحظة وداع، هى ذاتها لحظة عرص مسيرة حياة، خالية من الحب (الفعلى) فعاش على تصور الحب، وتصور إنسانة فى الخيال، ليموت وحيدا، رغم كونه جاب الأرض -كبحار- مهنته الانتقال بين جهات الأرض جميعا. رؤية إنسانية شفافة، تحمل من السرد الشعرى ما يدفع للتعايش مع لحظتها المكنوزة بالكثير من المشاعر.

رسائل البحار السبعة

سمير لوبة

 

(1)

بعد أن التهم الزمن فصول عمره الأربعة في سفره الطويل بين موانئ العالم ، يقرر البحار العجوز للمرة الأولى أن يغادر السفينة ينظر إلى البحر يستنشق هواءه بقوة كان اليوم شديد البرودة ، فلا يُسمع سوى دوي الرياح ، مع الغروب يخرج من الميناء يبحث في الجوار عن حانة قريبة يسهل منها الرجوع للميناء ، ها هي الحانة وما أن دخلها حتى انزوى في كرسي بعيد ، يخلع العجوز قبعته ينزع الكوفية. تأتيه نادلة تضع أمامه قائمة وتنصرف، لا يلتفت إليها بل ينشغل بالنظر في أرجاء الحانة، ثم أخرج من جيب معطفه رسائل وضعها أمامه وأخذ يرتبها، يخرج نظارته يمسحها ثم يرتديها يفتح أولى رسائله المطوية، وهو ينظر عبر زجاج النافذة التي تنسال عليها زخات المطر إلى الشارع و الرصيف التي خلت إلا من بعض المارة يهرولون، تطمس السحب الداكنة ما تبقى من ضوء هزيل فتنسكب أضواء السيارات حمراء وصفراء على أرضية الشارع ، تحلق ذاكرته بعيدا يعود لرسائله والتي خطها بيده، وفي صمت يقرأ في الرسالة الأولى

حبيبتي .. أجوب دهاليز الليل وحدي؛ أفك شفرة الصمت ، أسبح في فضائه بلا جاذبية ، تجتاح حدودي رعشة إعصاره ، سهام لحظك تخترق عرشي ، تغريني بلقاء يجمعنا على شاطئ الغرام ، قيثارة عشقك صلاة لي ، ونغم همسك رقية شرعية ، وحدنا تحت غسق الليل تعانقين شغاف جسدي المرهق ، أرقص معك بجنون درويش يراقص فتاة غجرية ، فتضاء شوارعي ، وتبدد الظلمات ، تتهدج أنفاسي أسقط مفترشا رمال الشاطئ أناديك :

- ألا تكفيك حالي ؟

تضحكين فيفور موج البحرِ تجيبين:

- ما زالت للحكاية بقية .

 

(2)

يفض الظرف بروية وما أن نظر لرسالته حتى تندت عيناه فيمسحها ويقرأ الرسالة الثانية

حبيبتي .. أتذكرين يوم رأيتك صغيرة تلهين ، وبأناملك الدقيقة تحتضنين الألوان والأوراق ، فيتعانق اللون مع اللون ، ترسمين وردة وفراشة ، وتدور الأيام فتطفئين شمعات السنين ، تأخذنا الغربة ، كبرت الأصابع ، بهتت الألوان ، تمزقت الأوراق ، بينما أنا في أرجوحة العمر ، يهرم صبري في متاهات الزمان ، أود أن أودع أوجاعه ، وأترك خلف قضبان النسيان آهاته ، في ليل الغربة كم رويت للنجوم حكاياتنا ، حبيبتي حلمت ذات مرة أننا في ميناء التقينا ؛ وفي صالة الوصول تاهت بيننا الكلمات ، فخطفنا منها الابتسامات ، راقبت عيناي اكتمال الزهرات ، يتناثر على وجهي رحيقها ، فأطلت من عينيك زهرات الياسمين ، يهمس بشوق عطرها الفواح ، فانطلقنا تحت جفن الليل ، ووضعت على بابك أكاليل الزهر ، فشربنا من كؤوس القبلات ، وبهمس دافئ باح لسان عشقي :

- هَيا اخلعي عنك ثوب الاشتياق ، وهلمي فلنشرب معا كأس العناق .

 

(3)

 على مقعده ينزع نظارته يلقي برأسه للمسند يحملها ، يعاوده ذات الوخز في قلبه الذي يأتي ويروح ولم يفلح معه علاج الطبيب الذي نصحه بالابتعاد عن الشراب نهائيا ، يمط عينيه الناعستين عبر زجاج النافذة ، يدق قلبه مع هبة نسيم قد باحت بعطرها ؛ فتشعل وهج عشق لم يطفئه طول الفراق ، يطلب شرابا تضع النادلة أمامه كأسا وزجاجة يمد يديه يشرب كؤوس ذكريات لقائه الأخير بحبيبته ، يبتسم ابتسامة خفيفة ، يرتدي نظارته يطالع الرسالة الثالثة

حبيبتي .. أسكرتني لوعة الاشتياق ، أمطرت سمائي أهات الاشتياق لدفء العناق ، في واحة الذكريات ، تتهادين في خيلاء الفراشات ، وقد تمايلت الزهرات تقبل شفاه الغروب ، فأمد يدي أدعوك للرقص ، فتغوص عيناي في أعماق عينيك ، تتوسدين صدري ، ترقصين على أنغام نبضي ؛ أبتسم فتشتعل وجنتاك حمرة ، تتوارى عيناك خلف أجفان الخجل ، تطوقين عنقي بذراعيك ؛ تلتصق بخصرك النحيل راحتاي ، فيقطر البوح من شفتينا شهدا .

يرفع رأسه من على المسند لا يشعر بنفسه إذ ينادي طيفها بصوت مرتفع :

- أغدا أَلقاك ؟

 

(4)

تأتيه النادلة ظنا منها أنه يناديها

- هل من خدمة أقدمها لك سيدي ؟

- عذرا .

يفتح رسالته التالية وعلى سطورها ترتعد الكلمات تتبعثر ، يلملمها لينسج منها الذكريات ، يلفه ضوء شمعة تتوسط المنضدة أشعلتها النادلة وانصرفت ،فيعكسُ ضوؤها شريطا سينمائيا لحياته ، يسير بين صوره القديمة على حافة الصمت ، يرافقه كأسه وفي شرابه يرى طيفها ، يتنهد يقرأ الرسالة الرابعة

حبيبتي .. بين ثنايا العشق ترسم ريشتي ملامحك تواشيح عشق تفوح بعطر الياسمين ، يعزف نبض قلبي لحن " جانا الهوى" يهمس آهات الشوق على أنغام " أمل حياتي " ، أعدو في مروج الذكريات معك لا تسع أحلامي المسافات ، ألهو معك تحت زخات المطر ، فيفوح عطرك ينعشني ، نهرول معا فوق غيمات أغانينا ، تغوص الشمس في عمق البحر ، يعانق القمر حضن السماء ، نوقع بشفتينا ميثاق الحب ، لا نكترث بدقات الساعة ، وعقارب الزمان تدور .

يطوي البحار الرسالة التي تبوأت مكانها في أرشيف الذكريات واستحالت لاصفرار في كتاب الحياة مع مثيلاتها ، يصب كأسا يشربه على مهل ، ومن نافذة الشرود يرنو إلى الوجوه.

 

(5)

يضع الكأس الثالثة على المنضدة وقد فرغت ، تحلق به الذاكرة بعيدا حيث زمن الصبا في بيتهم القديم.  بجوار النافذة ينتظر أن تطل من نافذة بيتهم فيراها ، حوله شقشقة العصافير ، في ذلك البيت القديم ، تعانق أبخرة قهوته رائحة كتب هي كل أصدقائه ، ينفث في الزجاج ، يرسم بأصبعه قلبا ، تتناثر زخات المطر على الزجاج ، فتتوه كل الوجوه إلا وجهها يناجيه فيجيبها :

- منذ آتيتيني لم تغادريني

يفض رسالته ينزع نظارته يمسحها وبمنديل يمسح جبينه يمرره على عينيه ثم يرتدي النظارة يقرأ الرسالة الخامسة

حبيبتي .. أتذكرين يوم كنت في مرسمك ، تعزفين على لوحتك بفرشاة وألوان ، تسألينني الرأي أتأملها فتوقد الألوان وجداني ، فتمزجين سمرة وجهي بحمرة شفتيك فأهمس في أذنيك.

- ضميني نرسم معا عرشا للعشاق يغار منه الحياء .

فنرقص على أنغام التانجو تتعانق روحانا مع قوس قزح ، لا تكاد أقدامنا تلامس الأرض ، ترقصين بخفة الفراشات تهديني السوسنات البنفسجية قبلة الحياة، فنتأبط أيامنا بشغف، نحيب الناي يصدح بالأنين يعرقلنا، ننتصب وبقوة نمضي نرقص على نغمات تعزفها أوتار الحياة فنصيح معا:

- هي رقصتنا نرقصها مرة واحدة .

 

(6)

يصب كأسا ، ويهيم وحده في الذكريات يبحث عنها ، يناديها بكلمات حب تزين بالورد حروفه، يشرب كؤوس العشق، لا تطفئ ظمأه، تسكن حروفه خرائب السطور العارية ، يفتش في رسالته الغافية ما خطت يداه في الرسالة السادسة: حبيبتي.. كل الحروف بلا حبك تفقد عطرها، أستحث زهرات الياسمين لتخبرك بأن تلبي ندائي. كلما جن الليل، تعتريني رعشة البرد، فأغمض عيني، أضم زهر شفتيك، تداعب أنفاسك الدافئة شغاف قلبي فتمطر سحائب أشواقي عشقا يرويني. أدور في تلك الحلقة الرخوة حتى ألبستني ثوب المشيب، يبكي بداخلي طفل عمره خلف القضبان مسجون، بينما حبه نقش فرعوني لا تمحوه نيران الأيام، الآن لا أخشى إن كنت فوق الأرض أو ثاويا تحت ترابها، لم يمت حبي بعد .

*****

(7)

فرغت الكأس بين يديه يتركها ، يشعل سيجارته ينفث دخانها يتأمله، يشير للنادلة تأتيه مسرعة يطلب منها ورقة وقلما، يطفئ سيجارته وبيمناه يمسك القلم بينما تحمل راحته اليسرى ثقل رأسه فيخط رسالته السابعة

حبيبتي .. تحت عباءة الليل الصامت فتحت صندوقي الخشبي القديم، وفيه تعانق الذكريات عطر رسائلي القديمة، التي تثير عاصفة وجداني وأشجاني، بين غيمات الواقع الداكنة في خريف عمري تتساقط أوراقي، أنظر إلى تلك الصورة التي جمعتنا في ربيع العمر على شاطئ البحر وقد كتبت على ظهرها بحبر صار باهتا " معا إلى الأبد، أين أنت الآن ؟ !!

حبيبتي صرت أحيا بين جدران وحدتي، أغط في صمت عميق مع مقطوعات" موزارت "، تزدحم ذاكرتي فيقاطعها صخب نوتة " باخ " ، تحوم روحي محلقة تبحث عنك في كل ميناء، يصرخ الصمت في داخلي :

- لقد اقتربت محطة الوصول فهل ألقاك ؟ !!

إلى جوار النافذة يتخيل طيفها تتهادى، على شفتيها الورد مروي بأنداء الصباح، خصرها الخيزران إذا هبت على قدها الريح تميل، نار الشوق تحرقه، على مقعده ينظر من النافذة، يفقد خريطته، تضيع بوصلته، فقد طال به المشوار وامتدت به بحار الغربة رفيقه الصمت، ومن نافذة الحانة تتعلق عيناه بنجمة في السماء يطيل النظر إليها، يتفصد عرقه يتنهد بارتياح، يلقي برأسه على المنضدة بجوار رسائله السبعة، يغفو غفوته الأخيرة فتغادر جسدها الروح لتنضم إلى سرب الطيور التي لا تنتمي إلى قفص.