ليلتها كنُت عائدا في ظلام دامس، شققت طريقي في الخلاء، وسط عيدان قصب السّكر، كانت في أتم نضجها، أطول مني بنصف متر، كسرت عودا أخضر، أعصره في جوفي، في نصف يدي اليسرى راديو به كشاف صيني الصّنع، أحمر غامق اللّون، من النّسيم الفائح كانت أنفاسىتتنشق.. عائدا من بيت أختي بالنجع الشّرقي.. سكان الجبل لا يهابون الموت، الثّعالب تخشى طريقهم.
بمنتصف الطّريق قاطعني شباب في مقتبل أعمارهم، السّلاح فوق أكتافهم، بالسيالة قطع نحاسية من الرّصاص، حملوا الموت في جيوبهم، النّهاية كانت مرسومة على وجوههم، طريق طويل شقوه ليصلوا هنا في الحَاجِر.
ألقيت التّحية، لعلهم من أهل السّلام، ردوا السّلام المقتضب، في عجلة من أمرهم سألوا عن سبب قدومي إليهم.. بهدوء حذر كان ردي أن الحَاجِر أرضي، والزرع زرعي، والطريق طريقي، وأنني ابن الحاج فلان.. قالوا إنهم ليسوا حرامية.. طلبوا العيش والجبن والسجائر.
الخوف أحاطني، الموت في عودتي، الهرب لبيتي مخرجي من أزمتي، الفضول كان قاتلي.. ثلاثون دقيقة فقط أخذتها في طريقي للدكان، ثم كذبت على أمي بأن "قريبًا" يريد رغيفين عيش شمسي.
عدت إليهم، التّهموا العيش كله، إلا واحدا كان ينفخ في سيجارته دون شفقة برئتيه، حتى إني شعرت أن أنفاسه تتمزق في الطّريق.
جلست بجواره أدعوه للطعام، لعله محرج.. برد مقتضب "ربنا يبارك فيك"، حاولت أن أجره لحديثي، لكن الحزن لجم لسانه، فضولي وثرثرتي أغضبته، انفجر، كاد أن يقتلني، الهدوء عاد.. أحضر الشّاي، مد يده بكوباية، تناولتها، صمتي دفعه كالسيل ليخرج ما يخبئه.
تحت سفح الجبل، كنا نعيش سويا، نلعب بين النّخل والنبق - الحاميةوالفطة والشبر شبرين - نسرق البطيخ من أرض ولاد حسين، نذهب وأولاد النّجع إلى مدرسة ناصر المشتركة.. كبرنا وكبرت معنا الهموم والمشاكل، أصبح الطّفل منا شابا يلبس جِلبَابه الفضفاض وعمته المزهرة، ولا نحلق شواربنا، نتميز بالخشونة كالجندي وقت الحرب، حتى مشاعرنا كنا نخفيها وراء الكشرة.
الود ربط بيننا، كنا نتسابق المرماح، نذهب للموالد الملاح، نقف يدا واحدة في العزاء قبل الفرح، والزائر للنجع يعتقد أن السّبع عائلات، أسرة واحدة، المصاهرة جمعتنا، وجعلت لكل شاب منا خالا من عائلة أخرى.
ذات صباح ذهب ابن عمي ليجلب البرسيم للبهائم، تشاجر مع أولاد الشّحات على تحويل "فحل الميه"، انتشر في دقائق معدودة خبر العركة.
ذهبنا للغيط، نحمل السّلاح والشوم، وجدناه ينزف، المنجل بجواره.. تعالت الأصوات.. اختفى أولاد الشّحات.. حملناه للمستشفى، لم يسعفه الطّبيب.. مات بدمه.
صمت.. وقتها كانت الضّفادع تنقنق، والقصب يتمايل بحفيفه.. أشعل سيجارة، خنقها بين أصابعه، شعرت بدموع همجية تريد أن تخرج، لكنه حبسها، عاود النّفخ بغل.
رجعنا لدفنه دون عزاء، بحثنا عنهم في كل شبر، لم نجدهم، ذهبنا لبيوتهم لم نجد أحدًا، فحريمهم ذهبن لبيوت أهاليهن.. حرقنا البيوت وكل ما فيها.
بعد أيام علمنا بالخبر، البوليس قبض على الأخ الأكبر، شارك مع الأصغر في الدّم، كان يزور زوجته متخفيا في زي امرأة.
ذهبنا للمحكمة، السّلاح بين ضلوعنا، لم يحضر منهم أحد.. حكمت المحكمة على الهارب بعشر سنوات، والحاضر بخمس سنوات، رصدنا المسجون حتى يخرج، بحثنا عن الباقين.
وكلما يأتي إلينا نبأ اختبائه في الإسكندرية نذهب إلى هناك، وآخر يحدثنا أنه رآه في الأقصر فنشد الرّحال إليها.
مازال يكتم الدّموع بين رموشه، كادت تنفجر، إلا أنه ضيق عليها الخناق، انفعل بصوته الحزين المكسور.
السّبب تجار السّلاح أعدوا سوقا روجوا لها، اشتروا الأرض بملاليم.. المدارس أغلقت بالسلاسل.
علمنا من أحد أبناء عمومته، أنه سيزور أخاه، اتفقنا، رصدنا الشّوارع، لنطلق الرّصاص فتسكن بين ضلوعهم، قلوبهم، جماجمهم.
خطوات معدودة، كانت محسوبة، طلقات متتالية، أجساد مزقت، استقرت بصدورهم.. الفرحة عمت بين قبيلتنا، أقمنا سرادق العزاء.
رفعنا رؤوسنا، لقد مرت شهور، دون أن نرفعها..
ثم انفعل: فاكر يا محمود ولد حمدي عندما كان يعايرنا في القهوة.
.. سنوات انقضت، خرج من السّجن، أعلن نيته بالسلام والصلح، لم تكن نية سليمة.. كانت نية مبيتة، لقد باع الأرض، اشترى السّلاح، انتظر الوقت.
حاول الدّمع أن يفر من عينيه، فوضع فوقهما يده اليسرى، ليغلقهما، أو يمسحهما فلا يرى أحد انكساره.
ليلتها كان أخي وابن عمي يرقصان بفرح أحد أقاربنا.. سمعنا نواح الحريم.. خرجت، كمطر مندفع من هضبة عالية، يزيل كل ما يجده أمامه.. وجدت أخي وابن عمي يلفظان أنفاسهما الأخيرة، رحلا إلى الأبد.
الآن.. لم تتوقف دموعه، ولم أجرؤ على تهدئة ثورته، تركوه ليخرج ما يكبته من حزن خيم فوق قلبه.
غلى دمي، كنت كالكلب المسعور، المجنون.. لم أر أمامي إلا دماءهم.. أخذت البندقية، لم يستطع أحد إيقافي، وجدته مع أقاربه يحاول الهرب قبل أن يُقتل.. فأفرغت فيه طلقات بندقيتي.
وها نحن هنا بين عيدان القصب في حاجركم.