يواصل المبدع والكاتب سيد الوكيل التنقيب عن رموز الإبداع في فترة من أزهى فترات الإبداع المصرى، حيث من باطن المعاناة، خرج الإبداع، وكان رموزه حملة مشعل التغيير، لا فى الإبداع فقط، ولكن في كل نواحي الحياة.

«السيد في المكان» .. أمكِنة صبري موسى

سـيد الوكيـل

 

في السرد المصري، كلما ذكر المكان، ذكرت رواية (فساد الأمكنة) وذكر (صبري موسى) بوصفه علامة على نمط روائي أطلقنا عليه (رواية المكان). حيث يحتل المكان دور البطولة، على الرغم من تعدد الشخصيات وتنوعها في الرواية، لكن: "ليس البطل (نيكولا)، ليس (إيسا)، ليس (ماريو)، ليس (الخواجة) أو (الباشا) ولا حتى الملك.. البطل فيها هو المكان"[i]  ولعل هذا الحرص على تأكيد بطولة المكان، كما يشير عنوان الرواية بشكل مباشر، يظهر على نحو مضمر في روايتيه: السيد في حقل السبانخ - حادث نصف المتر.

لصبري موسى ثلاث روايات مكانية بدرجات متفاوتة، لكنه تفاوت مؤسس على مرجعيات معرفية واسعة، فلكل مكان شخصيته. المكان نص مفتوح، يمكن تلقيه وتأويله كأي حكاية. فهو في حالة تفاعل دائم مع سكانه، وأزمنتهم، وثقافتهم. إنه تفاعل يتحقق عبر ثلاثة مستويات: حسي، معرفي، وجودي.

أليست هذه المستويات التي نتفاعل بها مع المكان سمات إنسانية بالدرجة الأولى؟

في الواقع (المكان إنسان) هذا التعريف المبسط، ليس مجرد استدعاء للمثل الشعبي (جنة من غير ناس .. ما تنداس) ولا يتعارض مع كلام (نجم الدين سمان) بقوله إن المكان ليس نيكولا ولا إيسا.. ألخ. المغزى.. أن المكان بوصفه مجرد سينوجرافيا أو تكوين بيئي هو وجود بالقوة. لكن فاعلية الوجود الإنساني فيه، يجعل للمكان وجودًا بالفعل. إن هذا الوجود بالفعل يتشكل عبر قدرة الإنسان على استقراء المكان، وفهم طبيعته، وأبعاده ولا سيما بعده الزمني. وهذا لا يتحقق إلا عبر ثلاثة مستويات من الإدراك:

  المستوى الأول: هو مستوى المدرك المحسوس حيث يظهر المكان بوصفه سينوجرافيا، ندركها عبر الحواس مثل البصر أو اللمس أو الشم. وتظهر في  مجموعة العلامات الدالة على المكان، مثل الجبل أو البحر أو المسجد أو الضريح أو البيت أو الحقل وغير ذلك من العلامات المكانية، التي قد تكون طبيعية كواحدة من عناصر البيئة، أو من صنع الإنسان. لكن؛ هذه العلامات تتحول مع الوقت إلى برامج عصبية في الدماغ البشري، بحيث يسكن المكان الإنسان، كما يسكن الإنسان المكان. فأنت قد تشم رائحة ما، فتستدعي في ذاكرتك مكانًا بعينه. هذا ما نعنيه بالتفاعل الإنساني، عندما يستجيب الإنسان للرسائل الحسية التي يبثها المكان. جرب هذا.. عندما تمر بالصدفة أمام مدرستك الابتدائية مثلاً، ستشعر بخفة الطفولة وبرائتها، وربما تتألم من لسعة عصا مدرس الحساب مثلاً.    

 المستوى الثاني: وهو مستوى المدرك المعرفي: إنه يؤكد المدرك المحسوس، ويتجلى في التعريف الأنثروبولوجي للمكان، ليؤكد زمكانية العلاقة بين الإنسان والمكان. ويوجد بشكل أكثر كثافة في الرواية الحديثة. ويتعلق هذا البعد بالمنظور الذاتي للروائي، باعتبار المكان موضوعًا ثقافيًا شارحًا للهوية، سواء كانت هوية الأنا، أو هُوية الآخر كما هو في أدب الرحلات.

 المستوى الثالث: نفسي وشعوري، يلامس حدود المقدس، ويصبح مرادفًا عاطفيًا للذات، ويعكس قدراً من الانتماء العميق للمكان، ومن ثم تظهر فيه نوازع النوستالجيا، والغنائية، التي عادة توجه لأماكن الطفولة الأولى، إنه الناتج الانفعالي للعلاقة بين الإنسان والمكان، على نحو ما يظهر في رواية السيرة الذاتية، أو في الرواية ذات النزعة الوطنية، عندما يصبح المكان معادلاً للذات، إنها درجة من التماهي مع المكان تثير فينا أسئلة وجودية. 

  • وَطَني وَصِبَأي وَأَحْلامي
  • وطَـني وهَوَاي وأيَّـامي
  • ورِضـا أُمِّي وحَنـانُ أبي
  • وخُطَى وَلَدِي عندَ اللَّعِبِ يخطُو برجاءٍ بَسَّامِ

خلاصة ما سبق، أن المدركات الثلاثة السابقة، تتفاعل مع بعضها أيضًا ليؤكد كل منها الآخر، ليصبح الكل أكبر من مجموع أجزائه.

****

 

ثلاث وردات أخوات

ليس في الأمر مبالغة لو قلنا إن (صبري موسى) كان مدركًا للمكان على هذا النحو التفاعلي المركّب. هذا الإدراك لا يتجلى في كتاباته الإبداعية فحسب، بل في كتاباته الاستكشافية أيضًا، تلك التي نطلق عليها أدب الرحلات وكأنها درب من السياحة الترفيهية. وهذا تصور سطحي لأدب الرحلات، أخرجه من المعنى السردي، فلم يأخذ حقه في الدراسات النقدية. الواقع أن كل رحّالة يقدم سردية مختلفة عن نفس المكان وفق قدرته على تفعيل مدركاته الحسية، والمعرفية، والنفسية"، إذ لكل مكان سرده، والرحالة الذين يجوبون الأرض يعرفون ذلك. وما يختص به مكان من حكايات لا يتشابه تمامًا وإن بدا كذلك"[ii]  

غير أن السرد الروائي وفقًا لفاعليات التخيل والتحليل الجمالي - وهما  بلا شك عنصران يضفيان على المكان سحرًا خاصًا - يجعله مميزًا عن المكان الطبيعي. فمهما كان المكان الطبيعي مرجعًا للروائي، ومهما كان المكان الروائي مقاربًا، أو مشابهًا للمكان الطبيعي، يظل المكان الروائي مميزًا ومختلفًا، حتى أنه يحتل موقع البطولة في الرواية. صحيح أن فساد الأمكنة استلهمت تفاصيلها من المكان الطبيعي، لكن (السيد في حقل السبانخ) خلقت مكانها المُتخيل تمامًا بوصفها رواية عن المستقبل. لكن المدهش أن حادث النصف متر، لا تحفل بالمكان كثيرًا، إنه مكان عابر ومؤقت، لكنه ترك في شخصياته أثرًا ظل يتطور ويتزايد على امتداد الزمن. وإذا كان الزمن في فساد الأمكنة واضح في علاقته بالمكان، عندما نرى الحاضر عدوانًا على أماكننا الجميلة ومهددًا لتراثها بالزوال. فإنه أكثر وضوحًا في (السيد في حقل السبانخ) عندما يصبح المستقبل مهددًا لحاضرنا. بل وتستدعي أسئلة أكثر وضوحًا أيضًا من قبيل: لماذا هجر (هومو) حقل السبانخ، وطنه الذي ولد وعاش فيه؟ هل هو الملل كما يذهب الكثير من قراء الرواية ونقادها؟ أم البحث عن هوية تخصه، وتعطيه الحق في أن يفعل شيئًا خارجًا عن برامج التشغيل الإليكترونية؟

 إن سؤال الهوية هو سؤال مستقبلي بامتياز، في عالم يتحوّل إلى قرية صغيرة، تقوده حفنة من المبرمجين. عالم تتماهي فيه الهويات الثقافية والمعرفية وتتداخل فيما بينها لتهدد الوجود الإنساني بحالة من السيولة، فلا يمكنك أن تميز نفسك عن الآخرين، أنت فقط مجرد (هومو). كان هذا هو السؤال الذي لم تطرحه الرواية على نحو مباشر، هو داعي القلق الوجودي للسيد (هومو) ومن ثمّ  تبدو لي (السيد في حقل السبانخ) جوابًا لقرار تغنت به (فساد الأمكنة) في شجوها عن الماضي المهدد بالزوال. الأزمة إذن ليست فُقدان المكان، بل فقدان هوياتنا، لأن الهوية هي فعل ماضٍ. إنها مجموعة الموروثات الكامنة في أرواحنا، من عادات وتقاليد ومعتقدات وذكريات. بهذا المعنى، فإن جدلية العلاقة بين المكان والزمان هي هويتنا. فعندما تكون بلا هوية، تكون بلا مكان. وعندما تكون  بلا مكان، تكون بلا زمان. هكذا  استسلم هومو وقال:(لا أمل..).

المكان الطبيعي في فساد الأمكنة، المكان الافتراضي في حقل السبانخ، المكان العابر في حادث النصف متر.. مثلث الأمكنة هذا يأتي في مقابل ثلاثة مستويات للهوية: هوية قديمة لم تعد قادرة على حماية نفسها، هوية افتراضية لجميع البشر يعد بها المستقبل. هوية قلقة وعابرة في حادث النصف متر وكأنها هوية رحالة لا يستقر في مكان. وسنرى دواعي القلق الذي يعتري الذات الساردة في رواية قصيرة وعابرة بين روايتين كبيرتين. بما جعل منها خْلقا فنيًا وجماليا مدهشًا على كل المستويات، لترمي بظلالها على أسئلة الماضي والمستقبل معًا. ومن ثمّ  تبدو الرواية ذات نزعة تفكيكية، تُساءل الكثير من المركزيات الثقافية والمعرفية، ومقولاتها المتوارثة عبر تاريخ البشرية. وعلى الرغم من رسوخها في الوجدان الإنساني إلا أنها مازالت مؤرقة، منها على سبيل المثال: ما الحب؟ وما الغريزة؟ وما الذكورة، والأنوثة؟

***

كيف تسكنننا الأماكن؟

نعتقد طوال الوقت أننا نسكن الأماكن، وإذا فارقناها، نكتشف أنها التي تسكننا. هذا الشعور الذي يغمرنا في كل مرة نبعد عن أماكننا، يجدد علاقتنا بها، لنكتشف كم هي قوية فعلاً. هذه الفكرة أثارت فضولي لأبحث عن سر العلاقة بين صبري موسى والأماكن. إنه شغف، لا يتجلى في كتاباته الإبداعية فحسب،  بل في كتاباته الاستكشافية للأمكنة، التي من قبيل أدب الرحلات. لهذا لن ألهث وراء التفاصيل السردية لرواياته هنا، بقدر ما أبحث عن أسئلتي الضائعة بين تلك التفاصيل.  

في لقاء تلفزيوني حول تجربة صبري موسى، جمعني بالأديب أحمد زحام. استرعى انتباهي قوله: ولد صبري موسى في قارب صيد. الجملة لم تستوقف المذيعة، لكنها استوقفتني. بعد انتهاء اللقاء سألته مداعبًا: هل ما قلته مجرد تعبير مجازي أوحى لك به اسم (موسى) الذي ألقته أمه في اليم فعانى الشتات بحثًا عن المكان؟

لمحت ابتسامة ساخرة كنت أتوقعها: ما قلته حقيقة.. إنه من عائلة صيادين، وضعته أمه في قارب صغير حين جاءها المخاض.. صمت قليلاً وأردف: أنا وصبري نسايب.. ألا تعرف هذا؟ لقد حكى لي قصة ميلاده الأسطورية. لقد ظل يتأرجح فوق الأمواج لساعات قبل أن يصل إلى البيت، وينعم بمكان مستقر.

عندئذ فكرت: هل يمكن أن يكون هذا الميلاد الاستثنائي سببًا لشغفه بالأماكن، ومؤكدًا لدأبه في استكشافها؟ لم لا!! من وجهة نظر النقد النظري، يبدو كلامي سخيفًا وبلا معنى؛ ولكن في لغة الوجود الإنساني فلا شيء بلا معنى.

 في سياق التحليل النفسي، يُعتقد أن لحظة ميلاد الإنسان تمنحه الانطباع الأول عن الوجود. لكنه بالطبع لا يملك أي درجة من الوعي تمكنه من فهم أو تفسير الأمر، فيظل مجرد انطباع، ملتبس بمشاعر غامضة تسكنه، وتكمن في لا وعيه، تخايله في نومه وصحوه، بحيث يمكنها أن ترسم المخطط الحيوي له. لا أستبعد أن شغف صبري موسى بالأمكنة ولد مع لحظة ميلاده. ماذا ننتظر من وليد غادر دفء الرحم للتو، فوجد نفسه في عرض البحر؟ شعور عميق بالتيه. لا حدود، لا معالم، لا شيء حوله غير فضاء، تحته فضاء وفوقه فضاء بلا نهاية. فيا لها من أوديسا.

 النابغون من الفنانين والعلماء ورجال السياسة والقادة يدركون جيدًا أنهم منساقون وراء شغف ما يطاردهم من المهد إلى اللحد. المكان هو شغف صبري موسى، حتى ولو كان نصف متر داخل أتوبيس عام..

يخبرنا (مارسيا إلياد) في كتابه (المقدس والمدنس)[iii] عن قلق الإنسان الأول وعلاقته بالمكان، تذكر الأسطورة أنه ظل يجوب الأرض بحثًا عن المكان. في الليل يغرس عصاه في الأرض وينام بجوارها. وفي الصباح يبدأ البحث من جديد، وذات مرة استيقظ فوجد عصاه قد اخضرت وأنبتت ورقًا، فعرف إنه المكان الذي يورق فيه وجوده. إنه المكان المقدس الذي بداخله. للمكان هكذا حضور غريزي في الإنسان

لا أدرى إذا كان (صبري موسى) قد فكر على هذا النحو، لكنه وفقًا لرواية (أحمد زحام) فأسطورة ميلاد صبري موسى شكلت شغفه الأول. لهذا فعلاقته بالمكان أكبر من كونها موضوعًا روائيًا كما مارسه أبناء جيله من أمثال: عبد الحكيم قاسم، أو خيري شلبي، أو سعيد الكفراوي، الذين تميزوا بحضور المكان في أعمالهم. بين صبري موسى والأمكنة، علاقة خاصة، تنعكس في لغته المتدفقة، وطاقته الشعورية والحسية بمفردات المكان على نحو ما يظهر في شخصيات (فساد الأمكنة) وعلاقتهم بجبل الدرهيب، وارتباطهم التاريخي والروحي به: "هذا ذهبنا، لون روحنا، حفرنا بأعصابنا كيما نقطفه من رحم الجبل. انظر إليه.. يلمع مثل ضمائرنا، إنه لنا، وهم يسرقون تبر الأمكنة"[iv]

إنه تواصل يتعدى حدود المكان ومفرداته وناسه، إلى أزمنته: تاريخه، وحاضره، بل ومستقبله على نحو ما نرى في (السيد في حقل السبانخ) التي يمكن أن تكون استشرافًا لتفشي ظاهرة الهجرات غير الشرعية، واللجوء السياسي، والنزوح القسري لملايين من البشر، نتيجة للنزاعات المسلحة، ومظاهر الاستبداد السياسي والاقتصادي التي تستعيد عهود العبودية بطرائق مراوغة وتحت مسميات مقدسة مثل: القانون أو الدين أو الوطن. كما أن مستقبل الحياة على الأرض يزداد قتامة بتسارع ظاهرة الانبعاث الحراري، وتداعياتها المدمرة حتى تصبح الأرض برمتها مكانا فاسدًا..  صحيح أن الرواية لا تشير إلى تلك الظواهر على نحو مباشر، لكن ما يميز الخطاب في رواية المستقبل، أنها مكتنز بطاقة تخيلية واسعة ومنصتة في نفس الوقت لظواهر كانت تهمس لحظة كتابتها، ولكنها تعد بتجليات تؤكد – مع الزمن - صدق الحدس بها. ومن ثمّ يلعب الزمن دورًا رئيسًا لا يمكن تجاهله في رواية المكان عند صبري موسى. وذلك - على كل حال - متلازمة (زمكانية) لسرديات المكان. غير أنها عند (صبري موسى) تنهض في سياقات معرفية، تظهر أصداؤها في رواياته الثلاث: (فساد الأمكنة، السيد في حقل السبانخ)، وواسطة العقد، (حادث النصف متر).   

 فإذا كان الفضاء الدلالي في (فساد الأمكنة) يعبر بنا من الحاضر إلى الماضي مشيرًا إلى تراث إنساني عريق مهدد بالزوال، فإن السيد في حقل السبانخ يرنو إلى مستقبل غامض، يهدد الوجود الإنساني بالفناء، لهذا فالمكان الذي يبحث عنه (هومو) ليس مجرد تشكيل جيوغرافي، وليس حيزًا محدودًا بقدر ما هو فضاء وجودي للذات لا يتحقق إلا عبر عمليات من التواصل الشعوري والحسي مع المكان. إنه تواصل يتحقق في فساد الأمكنة عبر علاقة تاريخية بين الإنسان والمكان، لم يجدها السيد (هومو) في حقل السبانخ كونه ليس مكانًا بقدر ما هو حيز وظيفي يتفاعل معه عبر برامج وأوامر جعلته - هو نفسه - مجردًا من أي مشاعر، مفتقدًا لأي هوية. هكذا.. فلا السيد هومو إنسان، ولا حقل السبانخ مكان. لهذا فالسيد (هومو) لم يفهم معنى المكان، ولم يجده. بعكس ما رأينا في (فساد الأمكنة) من عمق العلاقة بين المكان وناسه، وعبرت عنه اللغة بذكاء: "هذا ذهبنا لون أرواحنا، يلمع مثل ضمائرنا"[v]. إن إحساسنا بالمكان ينشأ عبر تواصل، يتأكد عبر الزمن كأنه (جين) نتوارثه من الآباء والأجداد. لقد فشل حقل السبانخ أن يمنح (هومو) هذا الإحساس بالوجود الحيوي للمكان والانتماء له.

 صحيح أن الإنسان لا يمكنه تحديد مكان مولده وزمانه، لكنه يستطيع أن يصنع سرديته الزمكانية وفق المبدأ الحواري. أي عبر التفاعلات الموروثة، والمتبادلة بين الإنسان والمكان، هذه العلاقة الحوارية تتجلّى في صور حكائية. يشير (باختين) إلى هذه العلاقة المركبة بين الحكاية، والإنسان، والزمان، والمكان في الرواية بمصطلح (الكرونوتوب) كون هذه العلاقة تحدد استراتيجية السرد في الرواية، سواء ظهر المكان على نحو (غيوجرافي) محددًا ومعينًا كما في (فساد الأمكنة) أو على نحو افتراضي كما في (السيد في حقل السبانخ) ففي الأولى هو مدرك ومحسوس، جبال وصخور، أو عيون ماء، وحفائر تحمل علامات الزمن على نحو ما يفكر (نيكولا)  في فساد الأمكنة: (.. إن كومة العظام هذه، كانت جملاً، يدقق فيها النظر فيجدها منهارة متناثرة. فيعرف أن الموت قديم، وأنه فاجأ الجمل وهو يمشي فتهالك على نفسه، وأحيانًا يجد نيكولا الجمل قد مات وهو جالس يتأمل الصحراء في عظمة، وأن جوارح الصحراء قد نهشت لحمه الميت لتبقى عظامه علامات ناصعة البياض على الصخور مئات السنين"[vi] لعلنا انتبها إلى القلق الوجودي لـ نيكولا.

كانت (إيليا) مثل أبيها (نيكولا) تدرك فلسفة المكان في ثنائية الوجود، والعدم. إذ كان يتمنى أن يموت فيه وتتحول عظامه إلى صخور. عندما انهار (جبل الدرهيب) على (إيليا) لم تفكر في شيء إلا أن يكون (نيكولا) بجوارها ليتوحد جسديهما مع الجبل، فراحت تصرخ عليه. لكن للمكان إرادته. ماتت إيليا في الجبل بدونه، لتكتمل رحلة اغترابها. عندئذ قامت الطبيعة بعملها، لتغسل جبل الدرهيب بسيول تغمر كل جوانبه، وتغسل جسد (إيليا) المسجى بداخله، لتطهره من فساد الأمكنة.

 هكذا تتشكل العلاقة بين الإنسان والمكان لتخلق سردية مصيرية يصبح الإنسان ضالعًا في تشكيلها وضحية لها في نفس الوقت. إنها تراجيديا الطموح البشري. نراها في فساد الأمكنة سعيًا وراء الثراء، والرفاهية، والتملك.. ومن ناحية أخرى، إن ربط الأمكنة بالزمن والبشر، يلقي بظلال أيكولوجية قلقة، تتمثل في سؤال وجودي بالأساس: هل ما نظنه من صور التطور الحضاري، حضاري فعلاً؟ أم هو سعي الإنسان إلى حتفه على نحو قدري، لينتهي مصيره إلى مصير السيد هومو؟ 

أظن، أنه قلق الحضارة على نحو ما يشير إليه (فرويد) في كتابه الشهير (قلق الحضارة)[vii] كونه هاجس يلح على أصحاب الذوات الحساسة، التي تمتلك وعيًا فلسفيًا منشأة حساسية شعورية ونفسية. يظهر هذا المعنى على نحو أكثر وضوحًا في (حادث نصف المتر) كما سوف نرى. ولكن قبل أن نتطرق إلى هذه الرواية القصيرة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام قدر ما أخذت (فساد الأمكنة، والسيد في حقل السبانخ) نؤكد على أن صبري موسى، حاضر بذاته في كل رواياته، يظهر هذا في مستويات من التأمل والتحليل الفلسفي والنفسي في السرد، كما يظهر على ألسنة الشخصيات. ومن ثمّ  يمكن القول إن مفهوم السرد في وعيه مختلف. السرد ليس حكيًا فحسب، ولا محاكاة للواقع، ولا رسالة دعوية مؤدلجة تستهدف تغيير الواقع. السرد عنده دعوة للتفكير. هذا ما فعله الإنسان الأول، عندما عبّرت الأساطير عن رغبته في فهم الوجود من حوله. كانت الأساطير وسيلته لتفسير الظواهر الطبيعية والحيوية، بل وتلك التي كانت ما وراء الطبيعة أيضًا.

نصف متر يحتوى الوجود

عندما قرأت رواية (حادث النصف متر) لأول مرة، كنت تقريبًا في عُمْر بطلها، ذلك الشاب المعذب باغترابه، فيما هو يعاني تاريخًا جسديًا مشوشًا ومرتبكًا بين عدة حضارات وعدة اغتصابات ينحدر عنها.

إنه شاب مصري مثل ملايين غيره، يبحث عن الحب، وهو مثقل بتاريخ سري، تسري فيه أرواح الأساطير والمعتقدات الشعبية والدينية التي كبلته بالمخاوف والظنون والهلاوس المعرفية عن الحب وقساوته، فانتهي إلى رغبة دفينة في وأد جسده داخل جسد من يحبها؟ ياله من تراث يجعلنا عاجزين عن الحب.. هل هذه رواية عن الحب أم عن الجسد أم عن الوطن أم عن الهوية؟ تبدو لي أنها رواية متعددة الدلالة. تطرح أسئلتها بسخاء قلق، لتؤكد طابعها الحجاجي.

ولكن كيف انتهي بطلنا إلى لحظة الشروع في قتل حبيبته؟

     لم أكن أعرف أن الجسد ليس مجرد آلة تبقينا على قيد الحياة. فيما بعد، عرفت أن الجسد هو وطن الذات، لهذا، فذواتنا وأوطاننا وأجسادنا، ترافقنا في نفس رحلة الاغتراب. في القراءة الثانية لحادق نصف المتر، أدركت هذا المعنى التشعبي المتراكب بين دلالات عدة: الحب، الوطن، الجسد، الذات، و.. الهوية.

 ربما انبهام المعرفة الأولى هو ما جعلني أتصور أنني أقرأ رواية عن الحب، ربما هذا هو المعنى البسيط الذي وقع فيه بطل الرواية قبل أن يتم رحلة اكتشاف ذاته بصحبة الجسد الحي لفتاة الأتوبيس. ومع ذلك، كنت كلما ركبتُ الأتوبيس، رحت أبحث بعيني عن تلك الفتاة التي ينبغي أن أقف بجوارها، في انتظار هزة عنيفة يفتعلها السائق من أجلنا، حتى يختل اتزان حبيبتي، وسأكون مستعدًا بكل رجولتي الغبية لأتلقفها بين ذراعيّ.

عفوًا.. هذا تعبير مجازي عن تاريخ الذكورة، عن الرجل المنقذ، المحتوي، المسيطر. كيف تصورت أن قصص الحب تبدأ هكذا بتلك البساطة، كما لو كانت حدثًا عاديًا وعابرًا؟ أم أن سحر الخيال الروائي هو الذي شغلني عن إدراك المعنى الأعمق في الرواية؟ ربما توقفت عند تلك اللحظة الآسرة، التي صور فيها الكاتب لحظة التلامس الأولى بين جسدين غريبين في زحام الأتوبيس. كيف يمكن لجسدين غريبين أن يأنسا لبعضهما هكذا، وبدون سابق إنذار؟ ما هذه اللغة السرية التي يتكلم بها جسدان؟ فيما كل شيء عن الحب مغلّف بأقنعة الحضارة والبراءة الرومانسية؟ من أي عمق سحيق جاءت لغة الجسد بكل هذا العنفوان؟ لابد أنه ذلك البدائي الكامن فينا. العابر للحضارات، ذلك الــ (هو.. بحسب فرويد) الأسير بداخلنا يصرخ في أعماقنا، من أنا إذن؟ كيف أحدد هويتي بين مثلث فرويد المرعب:(الهو والأنا والأنا العليا). يا لحيرتي في فهم هذه البساطة العميقة للحب في هذه الرواية، ذلك الذي يكمن لنا في غفلة من الأزمنة والأمكنة العابرة؟

عندما كان بطل (حادث النصف متر) صبيًا يلعب بسذاجة على الشاطئ، التقى فتاته الأولى، ذات المايوة الأحمر، قادته إلى بناية مهجورة، وهناك علمته أن الحب ليس مجرد معنى رومانسي معلق في السماء، بل هو فعل يدعم الوجود الإنساني على الأرض. هكذا التبس الحب بالغريزة لأول مرة في وعيه. هكذا تبدو المسافة بيننا وبين الآخر ضئيلة لا تزيد عن نصف متر، لكنها مثل رحلة مضنية عندما نفكر أن نقطعها. من المخيف أن وجودنا يتحدد ويكتمل ويتهدد بوجود الآخر، الجحيم، كما يصفه سارتر.

هكذا تبدو الحياة، التي لا نبذل أي جهد لنؤكد وجودها غير أن نتنفس، شديدة التعقيد. ربما تلك هي التراجيديا التي عاشها بطل روايتنا مع النساء.

 كان رجلًا لكل النساء، لكنه لم يعرف الحب، لأن الحب يعني أن تتنازل عن جزء من ذاتك لأجل الآخر. لم يكن بطل روايتنا (شيزويدي) بالمعنى المرضي الذي يوصف به المتوجس من الآخر، هكذا اقترب من فتاة الأتوبيس. مفعمًا بالثقة في الذات مثل كل رجل تكونت تصوراته عن المرأة/ الآخر، تكونت عبر مفاهيم مغلوطة، وتواريخ ملتبسة بصور الاستبداد والاغتصاب، عمقته التابوهات الدينية، وطمسته أقنعة المدنية الحديثة.. لا شيء تم طمسه وتشويهه عبر رحلة الحضارة الإنسانية أكثر من الحب. هكذا يرتبك بطلنا الصبي عندما طلبت منه الفتاة ذات المايوه الأحمر أن يقبلها، قال لها: وماذا نفعل بالطفل، فانطلقت تضحك من سذاجته.

 كان أبوه قد أوعز له أن الأطفال يأتون عندما يقبل رجل امرأةً. هذه ليست مجرد جذور أسرية، إنه تاريخ الجسد، وطوابع الحضارات المختلفة، إذ كان أبوه من أصول تركية، وكانت أمه عالقة في تاريخها الوجداني لحادث اغتصاب قام به جندي فرنسي، كانت مجرد فلاحة مصرية جميلة وفقيرة. وكان الابن جسدًا وروحًا معذبين بذلك التاريخ الوراثي، بين صلف التركي وانكسار فلاحة مصرية.

 هنا طبقة أخرى من طبقات الدلالة تمنحها الرواية للقارئ، إنه ذلك البعد الاجتماعي المركب للشخصية المصرية، ذلك القادم من بعيد عبر تراكم موروثات حضارية شتّى: ”كان الدم المصري في عروقي، يغذّي حنيني إليها، وميل بي إلى أن أحبها. لكن رواسب باقية في داخلي، من التركي القديم عثمان أغا، كانت تقف في وجه هذا الميل وتصيح بي غاضبة: كيف تعطي قلبك لامرأة كانت لرجل آخر قبلك. وكان الماجن الفرنسي المنحدر في دمائي من القرن الثامن عشر، أكثر حكمة من هذين.. فقد نزع بي عن هذه المشاغل النفسية، قائلًا لي ببساطة مقنعة وهو يسخر من رواسب التركي: وما يدريك أن هذا الرجل السابق لم تكن له معها نفس المشكلة؟! دعك من الماضي فهي جميلة حاول أن تستمتع بها".[1]

نحن أمام حالة من الصراع الداخلي، صراعنا مع التواريخ والأزمنة المختلفة، تلك هي حالة بطل الرواية الشاب، وهو يسأل نفسه، أين أنا من كل هذا الآن؟

هل هو سؤال عن الهوية؟.. ربما

إلى هذه اللحظة، لم ينجح الشاب في رأب الصدع بين رغبة جسده الغريزية، ورغبة عقله في التسامي. فعبر مشوار النشوء والارتقاء، وعبر رحلة الحضارة، تمكن الإنسان من أن ينتقل بالفعل الجنسي من منطق الوظيفة لحفظ النوع، إلى فعل وجداني بالدرجة الأولى، ولا شك أنه مر في ذلك بمراحل منها أن يكون الحب فعلاً لمجرد إشباع الرغبة لا أكثر. يمارس في حد ذاته بغض النظر عن طبيعته الشعورية. بهذه الطريقة، فكر الفرنسي الماجن الذي اغتصب أمه. وترك جيناته تسري في دماء بطلنا جنبا إلى جنب مع جينات الأب التركي، والأم الفلاحة البسيطة. الآن. لدينا شاب مرتبك؛ يبحث عن هويته في متاهة تاريخية. عندئذ يتأكد البعد الزمكاني للرواية. 

  نتيجة لارتباك الهوية (بين الأم الفلاحة، والأب التركي) انتقل بطلنا بمعنى الحب، من صورته المثالية مع فتاة المايوه الأحمر، إلى صورة برجماتية مع فتاة الأتوبيس. لكنه يكتشف - في نهاية الأمر-  أن  كل ما فعله معها أن حولها إلى مجرد داعرة. هنا الغرور التركي ينضح في معناه الذكوري، عندما كان يقود حبيبته من سرير إلى سرير دونما اعتبار لمشاعرها العميقة، دونما التفات إلى أن حبيبته مازلت تحتفظ بروح فلاحة، تكتنز التراب والماء والشجر. رغم أنه كان يشم الطزاجة التي تفوح وهي تنضد ملابسها عن جسد تعلم الصمت والخضوع، ليصبح في هذه اللحظة معملاً للحياة، ويصبح الجنس نفحة وجودية، يقول: "كنت قد قرأت في بعض الكتب التي تهتم بعلم الحب التطبيقي، أن التجربة التي تنضم خلالها الفتاة إلى عالم النساء ليست امتدادًا لعواطفها الجنسية طوال فترة نموها.. وإنما هي حادثة منفردة"[viii].

 فالمرأة عندما تحب، ترغب في أن تمنح جسدها لحبيبها،  كما يحب المسيح أن يمنح جسده ودمه لابن الإنسان، إنها شيفرة الخلق والميلاد الجديد. هكذا لم تنفع بطلنا الحضارة التي ورثها عن جده الفرنسي، ولا الغرور الذكوري الذي ورثه عن جده عثمان أغا، ليفهم الحب كما تفهمه امرأة. ما صنعه هذا التاريخ هو عداء تقليدي يحيل الوجود الإنساني إلى تراجيديا بائسة. هنا يظهر صوت المثقف، أو قل الكاتب، لا بأس.. هذا يعني مرة أخرى، أن السرد عند صبري موسى، طريقة للتفكير، يقول: "فبالرغم من أنه لا يوجد سبب طبيعي يفرض على الرجل والمرأة هذا العداء الدائم، إلا أن المجتمع الذي وضع الرجال تشريعاته.. يُصر بغباء مثير للسخرية على اعتبار المرأة أقل قيمة من الرجل، ولا تستطيع المرأة إلغاء هذا النقص إلا بتحطيم هذا التفوق الممنوح للرجل..”[ix]

من سوء الحظ أننا لم نحفل بهذه الرواية بقدر تفردها، ومن سوء الفهم، أننا تصورنا أن كتابات النساء فقط، هي التمثيل الأدبي لموضوع النسوية، وقضاياها الشائكة. على الرغم من أن أغلب الروايات ذات النزوع النسوي، ليس أكثر من شكاوى، وغنائيات موجعة، لا تفكر كما يفكر صبري موسى، فقط تكتفي بموقف نضالي ساذج، لا ينتبه إلى تاريخ العلاقة بين الرجل والمرأة، على نحو ما فعل صبري موسى هنا.

هنا حضور سردي، يكشف عن وعي نقدي لتاريخ البشرية، ويفضح المسكوت عنه. إنه نوع من التفكيك، عندما يتمركز الوعي السردي في مؤسسة الذكورة، ليقوض أوهامها، ويفضح تشوهاتها عبر التاريخ.. الرواية هكذا تغوص في طبقات من التفكيك المعرفي لمعان كبرى، فعلى الرغم من أننا بإزاء عمل إبداعي، لكنه يثير أسئلة عن تاريخ الجنسانية، ليست أقل من تلك التي طرحها علينا (ميشيل فوكو) عندما ذهب إلى أن مشوار الحضارة الإنسانية، مساوٍ لمشوار الوعي الجنسي، ومن خلالهما يمكن فهم التاريخ الإمبراطوري، وتفسير سياسات القمع التي تفشت بداية من القرن الثامن عشر.

من الصعب جدًا الجزم بأن (صبري موسى) ربط بقصد بين تاريخ الجنسانية لفوكو والتاريخ الجسدي لبطلنا الذي ينحدر عن جدين ينتميان إلى العصر الإمبراطوري، أحدهما تركي والآخر فرنسي. فرواية حادث النصف متر صدرت قبل كتاب فوكو بعام.

 لكن الوعي الجمالي للتجربة الإبداعية، يستطيع أن يقودنا إلى معرفة من نوع ما. ومن خلال هذا التاريخ تظل محاولات بطل الرواية لإدراك معنى الحب لهاثًا في الظلام بين مثالية التصورات ووحشية الغريزة الإنسانية:"ها نحن قد بدأنا البذور الأولى التي أنبتت المأساة.. فمن هذه النقطة.. من هذه الفكرة المثالية التي تنزف دمًا انطلقنا"[x]  

هل لاحظنا روح السخرية المريرة في اللغة، هل لاحظنا عمق المجاز في تعبير مثير للدهشة؟:”المثالية التي تنزف دمًا " يرجع غالي شكري روعة اللغة في هذه الرواية إلى مهنة الكاتب بالصحافة، لكن الأمر ليس مهنيًا، فالرؤية العميقة تعبر عن نفسها بدقة".   

صحيح أن رحلة بطلنا - من البداية للنهاية- هي محاولة لإدراك معنى بسيط هو الحب. فالكاتب منذ البداية يخبرنا أنها (قصة حب بسيطة) ومنذ البداية يخبرنا أن بطلها رجل عادي جدًا:"أنا رجل عادي على وجه التقريب.. وجميع غرائزي تطل برأسها من داخلي في حذر وهي ترمق قوانين المجتمع بنصف عين"[xi]

لا والله، ليست قصة حب بسيطة، ولا بطلها عادي.. اللغة تشي بما هو أبعد من ذلك بكثير.  هذا المعنى الذي يعبّر بدقة عن طبيعة الشخصية، بما يعني قدرة الكاتب عن امتلاك التصميم الكلي لحركة السرد. لهذا تقودنا الرواية، عبر محاولة فهمها في سياق معنى الحب إلى معان عديدة عن الأنا والآخر والتاريخ والحضارة والجسد. إنها شبكة شديدة التركيب والتعقيد الدلالي، تلك التي تمور في أعماق حكاية بسيطة تبدأ بحادث عابر في أتوبيس. يعكس هذا تعدد طبقات الوعي للكاتب، ويطالبني (أنا القارئ) بطول النفس والغوص وراء المعاني البسيطة لفهم كنهها. هنا تحذير للقارئ: لا تنخدع بتصدير كاتبنا لروايته بأنها مجرد قصة حب بسيطة، أو على الأقل، لا تنخدع بمفهوم البساطة في عمل أدبي، قادر على الغوص العميق في طبقات ذات مترعة بكل هذا الثراء القلق.

 يقول بطل روايتنا:  

“ورغم هذا فإنني أسأل نفسي الآن:

هل كان ما بيننا حبًا...؟[xii]

إن الحب يكون أكثر صدقًا، عندما يكون التعاطف والفهم منبعه.. وليس الشهوة.. وهذا هو معنى الامتلاك الكامل النهائي، أن يتفاعل الإنسان بكل حواسه مع الآخر، في سبيل الاستئثار به، أن يكافح في سبيل الحصول على الكنوز الباهرة في شخصية الآخر، أن تملكه ويملكك. يجب الانتباه لدقة المعنى هنا، ذلك الذي يجعل الامتلاك في الحب مختلفًا عن الاستحواذ. فعندما تستأثر بصفات الآخر، وتمتلك كنوزه الباهرة، تكون أنت هو الحب. ليس فقط أن تقبل الآخر، أو أن تمتلكه، بل أن تكون أنت هو. وبهذا المعنى، فإن الترتيب الطبقى للوعي الذي يحدثنا عنه فرويد ينهار تمامًا، فلا مسافة بين الهو والأنا والأنا العليا في تجربة الحب. لكن المشكلة أن الحب عدوان من وجهة نظر أخرى، كونه رغبة في امتلاك الآخر.

 هكذا يقترب البدائي الذي بداخلنا إلى أكثر الوجوه حضارةً وتمدنًا. لكن بطلنا لم يفهم هذا، وضع فاصلًا حادًا بين الهو الذي بداخله، وبين الأنا العليا التي تفرضها التقاليد المجتمعية والحضارية، أخفي مخالبه، وأحكم قناع الكبرياء في مواجهة رجل طويل، ينحني بكل احترام، ويطلب منه أن يتخلى له عن حبيبته فقبل بلا تردد؛ لا لشيء سوى أنه أراد أن يعيش وفق مفهومه هو:"لحظة متحضرة محاطة بكل مظاهر الكبرياء والعظمة"[xiii]. مرة أخرى يرتكب بطلنا الخطأ التراجيدي، حينما يكون الإنسان نبيل القصد، مدججًا بالمثاليات التي تتعالى على الحقيقة. حقيقة أن ما انبثق بينه وبين حبيبته، في لحظة عابرة، ومكان نصف المتر، هو التاريخ الحيوي الفاعل للبشر.

  من الصعب علينا تجاهل المعنى الوجودي الكامن في الرواية، في الرحلة كلها، ليس رحلة بطلنا فحسب، بل رحلة الإنسان منذ بدت سوءات آدم وحواء، واضطرا أن يخصفا عليها بورق من الجنة. لماذا ورق الجنة؟ إنه رمز يعبر عن المسئولية المشتركة في معرفة الآخر عبر اختبار الشهوة والأكل (معًا) من الشجرة المحرمة. لكن الرحلة لم تبدأ بعد.. كل ما حدث هو مجرد رمز، اختبار معنى التشارك في الرحلة التي ستسفر عن سوءات جديدة لنسل آدم. لا يملكون فطرة الخلق الأول النقية التي جبل عليها أبو البشر، في الجنة كان جديرًا بأن تسجد له الملائكة، إنها درجة من القداسة، منذ البداية منح آدم وسام الآلهة. لكن أولاده يولدون بمخالب بدائية، وسوءات وحشية كان عليهم إخفائها عبر أقنعة المثل العليا والدين والحضارة، أقنعة تصنع جنة بديلة على الأرض، تناسب كائنات بدائية متوحشة.

يشير ستيفان ماركوس إلى جنة النظام الفيكتوري، التي قامت على تقاليد أخلاقية متشددة، أخفت في باطنها هوسًا جنسيًا محمومًا:"أما الكلمات والحركات التي كان يسمح بها خفية، فإنها تتبادل في تلك الأماكن بسعر مرتفع جدًا. هنا فقط يمكن للجنس المتوحش أن يتخذ أشكالاً واقعية، ولكنها متجذرة، وأن تكون له أصناف من الخطابات السرية المحدودة والمرموزة. أما خارج هذه الأمكنة وفي كل مكان آخر، فإن الطهرية الصارمة الحديثة إنما تكون قد فرضت أمرها الثلاثي بالتحريم، واللاوجود، والصمت"[xiv]

منذ تلك اللحظة كانت حواء هي الضحية، تعاني انفصالاً شعوريًا وهي ترى قابيل يقتل أخيه، لا تفهم لماذا نقتل من أجل الحب. إنه بداية لتاريخ القوة. الحرب طريق إلى الحب. إذ على ذَكَر الأسد أن يؤكد قوته ليحظى بأنثاه. الحب والحرب عند (فرويد) أقوى محركين لتاريخ البشرية، لتأكيد غريزة البقاء. الغريزة الأكثر فاعلية في الوجود، كونها تشمل كل الكائنات، وإن اختلفت أساليب الحب والحرب. فالأصل الفلسفي للحب أنه عدوان، لما فيه من معاني الغزو والاقتحام المباغت، عندما نعلق في الغرام ونمتليء بشهوة امتلاك الآخر، فإن كل أقنعة الحضارة تسقط في الظلام. بطل روايتنا يدرك هذا، لكن تاريخ الفلاحة المغتصبة يؤرقه، يملؤه بالذنب فيعترف أنه جعل من حبيبته مجرد عاهرة. يعترف أن تاريخًا من القلق الوجودي للنساء يرافق تاريخ القوة. هكذا لم يكن بطلنا (نبيل القصد) يدري أنه وضع حبيبته في مأزق وجودي، قد يفضي إلى موتها:"وقد جعلها هذا النوع من الحب تتأرجح بين اليأس واللهفة لأنها تعلم أن وجودها ليس ضروريًا لوجودي"[xv]  لقد أفضى القلق إلى مرض أدى لاستئصال جزءً من جسدها، وبذلك انتهت قصة حب بسيطة لرجل عادي، عندما تقدم منه الطبيب المعالج لحبيبته وطلب منه أن يتركها وشأنها لأنه سيتزوجها.

لماذا الطبيب هو يد الرحمة التي امتدت إليها الآن؟ هل هو يد الرحمة فعلاً، ممثلاً في العلم بوصفه طبيبًا؟ ولماذا استسلم العاشق ببساطة له وتنازل؟ هل كان يريد أن يؤكد لنفسه، أنها تحولت بالفعل إلى عاهرة؟

يبدو لي، أن القصة ستبدأ من جديد مع الطبيب، الذي يرغب في معالجة الأمر عبر تصورات مثالية أخرى كرجل جنتلمان. ينزع عن الحب أقنعته البدائية، ويلبسه ثوبًا حضاريًا مطرزا بالمثل. ولكننا على أية حال، لا نضمن نهاية مثالية لقصة الطبيب، إنه أيضا رجل.

إنها رواية التاريخ السري الذي تحول فيه حب آدم وحواء إلى خطيئة، وحملها الإنسان الظلوم الجهول، فهل هي حكاية حب بسيطة حقًا، وقعت في لحظة عابرة، وفي نصف المتر؟ أم هي حكاية تاريخ شائك ومعقد لمعنى المعرفة؟ معرفة الذات، والأنا، والآخر.. إلخ.

ربما، عبر هذه الأسئلة، نستطيع أن نفهم التقنية البسيطة التي اعتمدها الكاتب، عندما بدأ الحكاية من لحظة نهايتها، لحظة أن صارحه الطبيب برغبته في الزواج من حبيبته، فانحنى له وصافحه كرجل متحضر، لنصل إلى معنى آخر من معاني الرواية، هو الأنثى الضحية، عندما يكون النظام الأخلاقي أو المقدس له معنى القربان. إذ على المرأة أن تحمل خطيئتها وحدها، ويستطيع الرجل أن يقدمها قربانًا ليتطهر.

 

[1] صبري موسى: حادث النصف متر -دار التنوير للطباعة والنشر -بيروت - 1982م

 

 -[i]نجم الدين سمان: مجلة البيان - قراءة في أمكنة صبري موسى - الكويت - العدد306 - يناير 1996م

[ii] -  إدوارد رالف: المكان واللامكان - ترجمة منصور البابو - المكتب الوطني للبحث والتطوير - بنغازي- 2005م

[iii] - راجع، مارسيا إلىاد: المقدس والمدنس - ترجمة عبد الهادي عباس -دار دمشق للطباعة والنشر - 1988م

- [iv] صبري موسى: فساد الأمكنة - مكتبة روز إلىوسف - القاهرة - 1976م

[v] - صبري موسى - فساد الأمكنة -السابق

[vi] -صبري موسى: فساد الأمكنة -سابق

[vii]- راجع، سيجموند فرويد: قلق الحضارة - ترجمة جورج طرابيشي - دار الطليعة للطباعة والنشر - بيروت - 1996م 

[viii] صبري موسى: حادث النصف متر -سابق

[ix] - صبري موسى: السابق

[x] صبري موسى: حادث النصف متر - سابق

[xi] صبري موسى: حادث النصف متر - سابق

[xii] - صبري موسى: حادث النصف متر - سابق

[xiii] - صبري موسى: حادث النصف متر - سابق

[xiv] - ميشيل فوكو: مقدمة كتاب تاريح الجنسانية - ترجمة محمد هشام -دار أفريقيا -المغرب -2004م

[xv] - صبري موسى: حادث النصف متر -سابق