الإهــداء
زياد...
سأخبرك عن الحياة التي كان من حقِّك أن تعيشها.
"مخ وأعصاب"
بهذه الجملة انتهى وجودنا عند طبيب العيون يا زياد، نخرج نحن الثلاثة دون أن ننطق بكلمة. لا أنظر إليك ولا تنظر إلى أبيك. نغادر عيادة العيون إلى عيادة المخ والأعصاب فورًا. نسير في الشارع لا نرى ما أمامنا، كركبٍ مهزومٍ. أنا في المقدمة وأنت في الوسط وأبوك آخرنا، لا يقوى على رفع قدميه عن الأرض. لا يخطر ببالي أن نستقل تاكسيًّا. يتكثف شيء غامض فوقنا! لكن أقصى شيء أخمنه عن حالتك ليس مُخيفًا. شمس يونيو تتعقب الجميع.بائعو الفاكهة مصطفُّون على جانبي الطريق. يصل نداؤهم إلى النساء الجالسات في عتمة البيوت القديمة بشارع المركز القديم. يدوس كل منا على ظل الآخر. سيارة نزح المجاري تطلق دويها، ورائحة العفونة تعم الأرجاء.
نصل إلى العيادة. الممرض يدون أسماء المرضى. لا يرفع وجهه ليرانا، يتحير أبوك قليلاً. لا يعرف ما الذي يجب أن يفعله.الممرض- في هذه اللحظة- أهم من الطبيب نفسه. هل أنت قلق يا زياد؟ العصافير تغرد بالخارج، والشمس ستنكسر حدتها بعد قليل. لن يكف الباعة عن النداء وقت خروجنا. سنستقل تاكسيًّا في طريق عودتنا إلى البيت. أعدك.. لن أنسى هذه المرة.
أثق أن مرضك وليد كل ما مرَّ بي:طفولتي الحائرة، ومراهقتي المشوَّشة، سفر بكر إلى ألمانيا وتخليه عني، طريقة زواجي بأبيك وحالتي النفسية التي دفعتني لقبول الزواج به. الظلمة التي غشيت صالة البيت. رائحة الطعام الكريهة التي كانت تنبعث من شبَّاك مطبخ الجيران، وفضول جارتنا في الدور الثالث لمعرفة ما إذا كان الدخان المنبعث من طاقة شفاط المطبخ من سيجارة أقوم بتدخينها دون علم أبيك، أم من احتراق خرقة المطبخ. لواط طلاب المدرسة الإعدادية بزميلهم أثناء حصتي. تقوّل كتاب النجع عليَّ.لا تقُل إن كل هذا حدث قبل مجيئك، انظر بعينيَّ لترَى ما أرى بالضبط، لتكتشف العلاقة، لتعرف أن كل ما يقع لنا في المستقبل وليدُ أشياء موغلة في القدم.
مرضك يعيدني بقوةٍ إلى الحالة التي كانت تنتابني، أتوقف لأستعرض كل ما مرَّ في حياتي. حدث هذا لي كثيرًا في وقتٍ مبكر. حتمًا أفسدَت القراءة المبكرة في علم النفس حياتي، لأنها أوهمتني أنني قادرة على فهم نفسي والآخرين، وكنتُ أبحث عن مواقف حدثت بيني وبين أمي أو أحد إخوتي أو رأيتها وعشتها مع آخرين لأطبق عليها ما أقرأ من نظريات، دون الرجوع إلى أحدِ لأستفهم منه إذا كان ما توصلتُ إليه صوابًا أم خطأً، بل اعتبرته صوابًا نهائيًّا وانتهى الأمر، لذا تعاملتُ معهم جميعًا على أنهم مرضى ومعقدون، وأحيانًا بحاجة إلى علاج ولو بالتخاطر، ثم دفعني شغفي لمزيد من القراءات، وأصبحتُ قارئةً نهمةً منذ أن كنتُ صغيرة محدودة الفهم، وربما لعدم قدرتي الكاملة على الاستيعاب في هذه السن فهمتُ كل شيء بالمقلوب، أو فهمته بطريقتي، لكن من أي شيء انبعثت معاناتي! فإذا كانت عبارة "الإدراك معاناة" صحيحة، فلِمَ شعرتُ بالمعاناة منذ سن مبكرة مادام كل ما توصلتُ إليه كان إدراكًا معكوسًا.
سندخل إلى الطبيبالآن.. ألم أقل لك! سندخل قبل دورنا، فقط يجب أننعطي الممرض مالاً أكثر من قيمة الكشف!عجيب.. تخيَّلت أنني أخبرتك. لا بأس. يقول الطبيب وهو يفحصك إن حالتك تتشابه مع حالات كثيرة. يتحدَّث بتعالٍ من خلف مكتبه وهو يحملق في السقف والأركان ويرفع رقبته كما لو كان به علَّة، يصمت بعد هذه الجملة. لا أفهم هل يُهوِّن من طبيعة الحالة أم يُصعِّب الأمر بكلامه، فأسأله:
"تقصد إيه؟".
يغضب من محاولتي الاستفسار، ويقول:
"أهل المريض مش لازم يعرفوا الحالة بالتفصيل".
يوجز ويطلب أشعة مقطعية. لن أعُود إلى الحديث معه، سأترك أحمد يستفهم منه أين نُجري الأشعة ومتى نعود لنعرضها عليه. يدهشني الأطباء، كيف يعتقدون أن أهل المريض لا يهم أن يعرفوا التفاصيل!هل تقول شيئًا يا زياد؟ سمعت همهمتك!نخرج لنذهب إلى المستشفى لإجراء الأشعة. يسير كل شيء الآن عكس ما أتوقع. لا أفهم مما يحدث شيئًا. ليس مهمًّا أن تنشغل بمحاولة فهم ما يحدث. سلِّم نفسك فقط للمختصين بالمعرفة. فقط، نم على السرير ذي المرتبة الجلدية واتركهم يربطوك بالأحزمة كي لا تتحرك، إذا تحركت ستهتز صورة الأشعة، وسيضطرون إلى إجرائها من جديد. سأرقبك من الخارج والفني يسحب فوقك جهازًا ضخمًا لا أعرف كيف يعمل. أنا معك وإن حال بيننا حائط زجاجي سميك، تتمتم شفتاي بكل الأدعية التي أحفظها، أشعر أنها لحظات فارقة سيغيِّر الدعاء فيها وجه الحقيقة. الفني كريم وطيب لأنه لا يمانع في جلوسي قربه وهو يوجه الأشعة لتمسح دماغك، فتتغيَّر الصور كل لحظة على شاشة الجهاز. يزفر ويشهق مع كل صورة فيقع قلبي متهشمًا إلى ألف قطعة، وأسأله بقلق:
"فيه حاجة تقلق؟".
فجيب بكلمتين كحد موسيّ:
"يظهر كدا".
تقع عيناي على كل شيء حولي. لا تستقر على شيء محدد. أبوك بجواري، لقد تذكرت وجوده الآن فقط. ربما هو أيضًا دخل دوامته الخاصة ولم يعد يراني. سيعرف ما يدور بداخلي إذا التقتأعيننا. تتضح الصورة وسوف يؤكدها الطبيب بعد قليل. لم أعرف كم مر من الوقت قبل أن يخبرنا بأن الأشعة انتهت، وليس علينا سوى الانتظار في الخارج ساعة حتى كتابة التقرير.
ألم أقل لك إن إجراء الأشعة عملية سهلة؟تستغرق الوقت نفسه الذي يأخذه قلي ثمرة بطاطس كبيرة. تعالَ،لنبقَ بالخارج. المرضى في قاعة الانتظار كثيرون كما ترى. انظر، هذا المريض لا يعبأ بهواجسه ويستمر في تناول الفول السوداني!وهذا الرجل، يستغرق في نومه ولا يبالي. هل مازلت تحب البيتزا؟ لم أستطع إتقان صنعها أبدًا.ليست غلطتي، فرن البوتجاز عالٍ، تحترق قبل النضج كل مرة. ها قد انتهى التقرير. لم يكفِ وقت إعداده مراقبة كل الموجودين.
بمجرد الحصول على التقرير.أتوجهإلى طبيب المخ والأعصاب مجددًا، الشوارع مزدحمة. بالكاد أجد الهواء،أسير على الرصيف المتآكلة حوافه. مقهى يفترش الظلال. صوت كلاكس سيارة يحذر الجميع: "انتبه السيارة ترجع إلى الخلف". أذكر هذا التنبيه، هو نفسه الذي كنت أسمعه كلما أوصلتك إلى حضانة "تحسين الصحة"قبل اثني عشر عامًا. أصل إلى الشارع الذي كنت فيه قبل ثلاث ساعات. الشمس غابت والنسوة احتللن أماكنهن في الشرفات. على الرغم من حنقي على طريقة الطبيب في التعامل، أدخل مبتسمة، وأضع صورة الأشعة على مكتبه برفق، كأني أربت على ظهر قطة. أنتظر فحصه للأشعة بصبر مكتوم، ينظر مطولاً إليَّ ويقول:
"يستحسن إجراء أشعة رنين مغناطيسي لتتضح الصورة".
ينغرز السهم في جنبي، وتطير العصافير من إفريز العمارة المواجهة لشرفة العيادة.أظل صامتة،فيكمل:
"اعملوها في أسيوط لأنها غير دقيقة في قنا".
لا يزيد على ما قاله كلمة. لايسألني- حتى – عن أسباب تعلُّق نظرتي بالسقف وهو يتحدث. أُمسك الهاتف وأتصل بأخي حسين. هو طبيب مثله، يستطيع التفاهم معه. بمجرد أن جاءني صوته على الطرف الآخر أعطي الهاتف للطبيب. كنتُ راغبة في سماع حديثه، لكنه إمعانًا في مضايقتي بدأ الحديث بالإنجليزية، ثمَّة فازة خالية من الورود جواره. فكَّرت في تحطيمها على رأسه. أمنِّي نفسي بالصبر. أسحب صورة الأشعة والهاتف وأخرج. أشكر الله أنك وأحمد عدتما إلى البيت. صورة الفازة محطمة يهيمن على مخيلتي. أدق رقم حسين مرَّة أخرى. يقول إن الدكتور يعتقد أن كيس ماء ينمو على جذع المخ، وأن الحالة– إذا كانت كذلك- غير خطيرة، لكنها تحتاج إلى جراحة عاجلة، وأوصى بعرض الأشعة على استشاري مخ وأعصاب في أسيوط. ينتهي كلامه ويغلق سريعًا، متعللاً بوجود مريض يجب أن يجري له استئصال الزائدة الدودية فورًا. أشعر بدوار. أكمل طريقي إلى البيت، لا ألحظ ما يمر بي من رؤى. تسوقني قدماي اللتان تعرفان الطريق وحدهما. لن تقلق يا زياد. أعدك. لن يحتاج تحقيق ذلك إلا إلى إخفاء الحقيقة عنك.
دعني أوضح لك يا زياد، الأمر ليس تمامًا كما ستراه أنت أو كما سيتوهَّم البعض، لا أدقِّق في تفاصيل ما يحدث لأكوِّن مخزونًا بصريًّا، ولن أستغِلَّ مرضك لكتابة رواية، لكن المواقف الصعبة تجلي البصيرة وتساعد على ترتيب الأفكار، تلقي بقعة من الضوء على أحداث ومواقف ترتبت عليها حياتي التالية بكل مواجعها، لذا إن لم آخذ الكتابة على محمل الجد فعلى الأقل سأعرف مبتدأ المواجع أين كمن! كي أصحِّح مسار حياتي، ألم تقل لي كثيرًا لماذا حياتنا مملَّة عكس الباقين، وخالية من السعادة، لماذا لا يتغيَّر أي شيء إلى الأفضل؟ لماذا أنتِ في وادٍ وأبي في وادٍ آخر؟ لماذا تهربين من حياتك إلى كتابة القصص وخلق واقع آخر بعمل صداقات على الإنترنت! سأستعرض حياتي جزءًا جزءًا. ربما نصل- معًا- إلى الخلل. إذا لم نصل إلى نتيجة ستتسلَّى بما أحكيه من قصص. تخيَّل أنك تراقب مجموعة من القرود، تقوم بأفعال مباغتة، لم تكن تتوقَّعها.
عندما أتذكر طفولتي تتراقص أمامي صورة فتاة سمراء بشعر قصير يشبه الصبيان، وبنطلون واسع يترك وسطي ويسقط كل دقيقة. لا أذكر من السنوات الأربع التي قضيتها في البلدة، قبل أن ننتقل بأبي ليبقى بجوار طبيبه في النجع سوى صور شبحية: بيت من دورين مبني من الطوب النيِّئ يطل على النهر، وسفينة ممتلئة بالسيَّاح تبحر باتجاه الأقصر. تخلف وراءها ذيلاً من الزبد، ألوِّح لهم ويُلوِّحون لي، دون معرفة ملامحهم الحقيقية. نساء بجلابيب مُبلَّلة يحملن الجرار على رءُوسهن وقت العصر. شجرة لبخ عجوز تهبني رائحةًحميمية إذا ما هزَّ الهواء فروعها، هذه الصور لا أستطيع الاعتماد عليها في القص. لم تكن ذاكرتي نشطة لتحتفظ بالقصص كاملة، لكن حياتي في النجع تعوِّض هذا القصور. اكتشفتُ الأماكن حول شقتنا الجديدة في أقل من شهر. لم أكن ألعب في النجع إلا مع الصِّبْية، أضربهم بالشلُّوت إذا ضايقني أحدهم. أبقى في الشارع طوال اليوم لا يستلفت غيابي أحدًا ولا أعود إلا تحت إلحاح الجوع.
كلما أرسلتني أمي إلى السوق المجاور لشراء شيء، تعامل معي الباعة كصبي. أعود أدراجي حاملة ما اشتريته، وبعد أن تقرِّعني أمي كعادتها لأن البائع لم يعطني سوى أسوأ ما عنده، أسألها بصوت خفيـض: "هوا أنا بنت؟" تنظر إليَّ بدهشة ولا تجيب. تعود إلى ما في يديها من عمل، فأعود إلى مخاوفي دون انتظار انفراجة بنفي ما يقلقني. عامان مَرَّا قبل أن أصِرَّ على سماع إجابتها، وقفتُ أمامها في حالة عصيان، رافضة التزحزح من مكاني ومهدِّدة بكسر زجاجات مياه الثلاجة على بلاط الصالة قبل أن أعرف:
"هوا أنا بنت؟".
جاء جوابها مُريحًا هذه المرة:
"أيوة..أنتِ بنت، لابسة حلق جميل في ودانك".
هكذا بجملة واحدة منحتني هوية، وعليَّ- كي أحافظ عليها- أن أحافظ على الحلق من الضياع. تندَّر إخوتي وأقاربنا والجيران بحرصي على الحلق. كانت مادة خصبة للحكي في الأمسيات فوق السطح وعلى بسطة السلم، ومع ضيوف أبي المهمِّين من حفظة القرآن الكريم والشيوخ. إذا غضبت أمي وجدتها فرصة لتدعو عليَّ:
"إلهي يضيع حلقك".
أقوم فورًا بتقديم كل ما يجعلها ترضى، لتسحب دعوتها. حتى جاء يوم ضاع فيه حلقي، وبحثتُ عنه كثيرًا قبل أن أشعر باليأس. كنتُ مندهشة؛ كيف تضيع الفردتان مرة واحدة؟ لقد قبل الله دعوة أمي لسبب في نفسه. على الرغم من ثقتي في عقابها كانت ملجأيالأخير الذي أعود إليه. أخبرتها بضياع الحلق، وفي فورة غضبها أنبأتني أني الآن ولد.
ليس لدَيَّ الكثير لأذكره عن إخوتي غير الأشقَّاء. لم تجمعنا الشقة في النجع بين جنباتها إلا لمامًا، في المناسبات التي طرأت كاشتداد مرض أبي، وفي بعض الإجازات الصيفية يأتون محتشدين بأولادهم وزوجاتهم. تطالبني أمي بالنوم في ركن صغير في الصالة، أو فرش كليم والنوم عليه تحت السرير، ليحتلوا سريري. إذا ضغطت عليَّ مثانتي حتى أكاد أفقد سيطرتي على نفسي أثناء استحمام أحدهم تحلُّ أمي الأزمة وتجيز لي التبوُّل فوق السطوح. كانوا ثلاثة ذكور وفتاة. كان أخي الأكبر عمر، وقت الاستعداد لتشييع جنازة فاروق الأول من مسجد الرفاعي بالقاهرة، يتأهَّب لدخول امتحان دبلوم الصنائع من قنا. لم تكن علاقته بأمي جيدة على الدوام، خضعت لتقلُّب مزاجه والتصادم الدائم الذي خلَّفه تقارب سنِّهما، لذا وجد في بقائه بقنا وقت الدراسة حلاًّ للهرب من البيت معظم السنة، ولما عاد إلى البلدة بعد حصوله على الدبلوم صارح أبي برغبته في الزواج من فتاة في بلدتنا لها جذور قرابة معنا. وافق أبي سريعًا على الفكرة، لذا لم يستخدم عمر أيًّا من أساليبه التي استعدَّ بها لمجادلته إذا أبدى الرفض.
تزوَّج عمر في غرفة بالدور العلوي، هكذا تخبرني أمي عن تلك الأيام. تتباهى بأنها أنجبتني وقت إنجاب "لولا" زوجة عمر لابنها الثاني. صرختْ بأولى آهات الولادة وقت صراخ "لولا" بالضبط، وتحيَّرت الداية بأيِّهما تبدأ، ثم تركت أمي في حماية ربَّة الولادة لتنجبني في حوش البيت قرب الفرن، وتزوَّجت فادية، أختي من أبي، من أحد أبناء العمومة بعد مولدي بعام. على الرغم من هذا التاريخ القديم فإنَّ فستان زفافها ظل معلقًا في ضلفة الدولاب حتى وقت قريب، مغلفًا بسوليفان مُغبرّ. أنجبت أولى بناتها في نفس الوقت الذي كان أبي يبحث بجدية فكرة انتقالنا إلى نجع حمادي، وعلَّمتني في وقت لاحق،أثناء إحدى زياراتي النادرة، كيف أشعل ورقة وأقربها من ساقيّ بحذر، لتلتهم الشعر النابت وتتركها ناعمة، وما كان مني إلا أن طبقت التجربة على شاربي الذي كانت شعيراته أطول من شعيرات ساقي، فأصابت النيران شفتي، ولم أقل لأحد أبدًا إن النار هي السبب، لذا رجحتْ أمي كالعادة أني كذبتُ عليها في شيء ما، وأن الله أنزل عقابه السريع على شفتي. أما محمود فعُيِّن في مرسى مطروح كمدرس للرياضيات. لا أعرف كيف تزوَّج ولا متى انتقل إلى الكويت معارًا، لكنه واظب على الحضور إلى النجع كل عدة أعوام، محملاً بهداياه من الملابس التي لم تكن تناسبني. كنتُ أتشكك في نسيانه مقاسي. حتمًا يشتري هدية لا تناسبني عادة لتستقر في النهاية في حجر ابنة فادية، أخته الشقيقة!
فضَّل سيف الابن الأصغر لأبي من زوجته المتوفاة البقاء مع أخته في البلدة، لكن زوجها ملَّ تصرفاته وشجاره الدائم مع أطفال الدرب، جلبه أبي بعد حين، فاتخذ سيف من البلكونة محلاًّ له. يأكل وينام ويسمع الراديو ويعاكس بنات الجيران. لا يدخل الشقة إلا ليتبوَّل، ويرسلني في غفلة من أمي إلى الدكَّان الوحيد في آخر الشارع لأشتري له السجائر، إلى أن اختفى من البيت. استرحتُ لأنه ترك لي مكانًا يصلح للعب. أمي كانت تقول كلما سألتها عنه لأسُدَّ ثقوب الفضول لا أكثر:
"قاعد عند أخواله في البلد".
وحينًا آخر تقول:
"قاعد مع اصحابه في أوضة مأجرينها في شارع بعيد".
ثم رسا ردها على عبارة واحدة ظلت تقولها إلى أن كففتُ عن السؤال عنه: "سكن أرض الله". لا أذكر موقفًا واحدًا ربطني به، ولا أذكر ملامحه في الطفولة أو المراهقة. أبحث عن الوجوه التي تجمَّعت يوم موت أبي فلا أجده بينها، عن وجهه يوم زفافي فلا أذكر حضوره. الأعجب أني لا ألحظ غيابه، ولا أعرف الآن عنه سوى أشياء قليلة لا تشعل فتيل الذكرى.
هؤلاء الأربعة إخوتي غير الأشقاء يا زياد. لا أعرف عنهم سوى ما ذكرته. ثمة مناسبات جمعتنا على امتداد حياتي السابقة، وتعاهدنا بعدها على استمرار التواصل، لكن علاقتي بهم لم تزدد كثيرًا، ولم أشعر بحاجتي إلى توطيدها. أستطيع أن أختلق أحداثًا كثيرةً أرويها لك إذا لم يرُق لك ما سردته. لن تهم الحقيقة كثيرًا في هذه الحالة، ولن يعرف أحدٌ أن ما أقوله متخيَّل. سيكون أمامنا متسع من الوقت لنؤلف معًا حكايات لم تحدث. لا بأس، عشت حياة طويلة في النجع، ولديَّ ستة إخوة أشقاء، تشاجرتُ معهم بما يكفي لأحكي لك أعوامًا دون نهاية. فقط.. تمسَّك بالخيوط جيدًا، وتأكد أن صمودي لن يخذلني في سحبك إلى برِّ الشفاء.
بمجرد وصولي البيت أختلي بأبيك وأخبره بما جرى، فيقرراصطحابك إلى أسيوط مع بعض من علم بمرضك من أولاد عمك في الليلة نفسها. أي تأخير سيحيلنا إلى قلق أشد، وتدهور أكبر. يرتب أولاد عمك كل شيء بسرعة، لم تكونوا بحاجة إلا إلى دفع المبلغ الذي سيحدِّده سائق أي سيارة أجرة، بعيدًا عن التعريفة المحددة.سيستغل الظروف ويوافق على اصطحابكم،متناسيًا اللصوص المنتشرين على الطرقات، وغياب رجال الشرطة المرورية. لابد أن تنتعل الكوتشي الجديد، حتى لا تفوح رائحة العفونة عند خلعه لإجراء الأشعة في أسيوط. رأيت الفني منذ ساعات يسدُّ أنفه. عندما ساعدك في ربط الأحزمة. لله الأمر من قبل ومن بعد. أودِّعكم لتتركوني في البيت، أتابع خطواتكم لحظة بلحظة من خلال الهاتف. تحضر أختي من مدينة الألومنيوم ويصطحب حسين زوجته الجديدة إلى بيتي للبقاء بجواري. تتابع أمي الأمر من الغردقة، لا يهدأ الهاتف طوال الوقت، أرد مرة وتجيب حبيبة ابنتي مرات، عندما استلم أبوك- في وقت متأخر من الليل- صورة الرنين، كان عليكم البدء في البحث عن استشاري مخ وأعصاب أخَّره القدر لمنتصف الليل في عيادته. تخيَّلتك خائفًا، تستفسر عما يحدث من أبيك بقلق، وتتساقط دموعك كل حين.
تداهمني حالة الاستدعاء الدائم للذكريات كلما خلوتُ بنفسي أو ركبت وسيلة مواصلات. لن تضر هذه الحالة أحدًا. كانت حالتي دومًا، عادة أكتب قصصي في جو مليء بالفوضى عكس ما أذكر في حواراتي التي نشرت في الجرائد عن طقس الكتابة، فكل قصصي كتبت والصحون مكدَّسة في الحوض، والغرف جميعها مشحونة بالفوضى. أترككم تطلبون دليفري وأبقى كامنة في نفسي، كلها كتبت بعد انتهاء رقصة الأرق الليلية، كلما اتصل ليلي بنهاري. وأصابتني من قلة النوم حالة من الهستيريا، أما ما نمر به من ارتباك نتيجة مرضك الآن، فيدفعنا إلى ترتيب كل شيء في وقته، والتماسك على الرغم من تمزُّق أرواحنا تحسبًا لأي تداعٍ مفاجئ في حالتك، دعني أحاول أن أتذكرها. ولن تعرف إن لم أستطعْ استدعاء بعض التفاصيل، علَّني أسقطتها برغبتي كنوع من المقاومة البيولوجية. لو ظلَّت حاضرةً كل حين في ذاكرتي لانتحرت، ولا يهم إذا قدَّمت حدثًا على آخر، فالذاكرة كأي شيء آخر لها منطقها الغامض الذي تخضع له.
ربما تذكُّري للأحداث القديمة يُلهيني عن شعوري بالخجل، لأني لم ألحظ أعراض مرضك سريعًا، تغاضيتُ عن العصبية التي وسمت تصرفاتك مؤخرًا، وإهمالك المذاكرة، وأرجعتُ ما طرأ عليك إلى عبورك داخل حلقات المراهقة. ازدياد فترات نومك، الثقل الذي تعاملت به يدك اليسرى مع الأشياء، واحتكاك قدميك بالأرض عند المشي، فسَّرته على أنه كسل. عدت بذاكرتي إلى بعض الملاحظات التي رصدتها عنك في الأشهر الستة الماضية، لكن الأحداث التي كانت تمر بمصر لم تمهلني التوقُّف عندها. كان اهتمامي منصبًّا على شاشة التلفزيون وما يحدث في النجع، لمتابعة الثورة. منذ أن بدأ "أدمن" كلنا خالد سعيد" يُرسل إلى كل المشاركين في صفحته على "الفيس بوك" رسائل تؤكد أن ثورة في سبيلها إلى الاندلاع، وعلينا الاحتشاد لها بتخزين المواد التموينية والأدوية، انصرف اهتمامي عن كل شيء. صدق ما أعلنوا عنه وبدأت المظاهرات يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير، اتصلتُ بابنتي حبيبة التي تدرس في جامعة عين شمس لأطمئن على ميعاد عودتها فور انتهائها من امتحانات الترم، فأخبرتني بعودتها يوم 27 يناير، قبل لحظة الانفجار المرصودةيوم الجمعة 28. هكذا شعرت باطمئنان،وتفرغتُ لمتابعة ما يحدث. كان الشباب في ميدان التحرير مصرِّين على إسقاط النظام. تخرج المظاهرات المتواضعة في النجع، ويساهم أخوك عبد الرحمن في تنظيمها من مدرسته الثانوية تاركًا المذاكرة، الأمر الذي لم يجعل الشجارات تندلع بينه وبين أبيك فقط، بل جعله عُرضةً للاحتكاك بأعضاء الحزب الوطني، لأنهم مُصِرُّون علىوأد الثورة، كي تظل لهم مكانتهم التي حقَّقوها في ظله. يزداد انشغالي عن كل شيء. يزداد تعنُّت النظام فيدفع بمزيد من رجال الأمن، يسقط القتلى والجرحى ويزداد عدد المفقودين. ينتهز البلطجية الفرصة ويفرضون قانونهم الخاص في كل مكان، وأنت يا زياد.. تدخل تدريجيًّا في حالة من الهدوء فسَّرتُها بطريقتي، اعتقدتُ أنك تنضج سياسيًّا، وتراقب الأحداث، تشعر بالقلق كما نشعر به، وتتمنى أن نعبر إلى النهار.
ترى هل ساعد القلق الذي شعرتَ به وقت الثورة على نمو كيس المياه في ظلمة دماغك؟ كنا نجلس أمام الشاشة كأننا داخل الزحام. أتذكر الآن يوم أن أصابني انهيار وأنا أسمع عن نهب المتحف المصري. لم أشعر بالانهيار إلا عند سماع هذا الخبر. دُرت في البيت بغير استقرار، وأطفأتُ البوتاجاز. لم يعد إكمال الطبخ يعني شيئًا. لم يكن أمامي غير أن أقرِّر إيقاظك لأقول لك: "يسرقون المتحف يا زياد". لن يُقدّر أحد أن سرقة المتحف أهم التداعيات عندي، المتحف الذي كان شاهدًا على قصة حبي. اتكأتُ هناك على مصاطب الاستراحة أرقب بكر أثناء شرحه لطلاب دفعتي. عينا تمثال أمنحوتب في البهو رأتنا نتلامس. قطع المتحف الأثرية التي شكَّلت وجداني: مجموعة توت عنخ آمون الذهبية في الدور الثاني، تمثالا بتاح حوتب ونفرت خلف العمود عند الصالة الداخلية بالدور الأرضي. أعذرني يا زياد، أبكي ضياع ما أشعر بفداحته.
"استيقظ يا زياد .. يسرقون المتحف".
كدتُ أقولها وأنا أزيح الباب المغلق عليك. كنتَ نائمًا على جانبك الأيسر وجانبك الأيمن يرتعش بطريقة لفتت انتباهي. تسمَّرتُ بجوار الباب وابتلعتُ العبارة. هل كنتَ غارقًا في الاحتلام؟ لم أر من قبل شابًّا يحتلم. مرت فترة المراهقة مع أخيك عبد الرحمن دون أن أضبطه مرة يرتعش مثلك، كنتُ أرى آثار احتلامه صباحًا على الملاءة. أدَّعي الغفلة وأغيِّرها مبتسمة. تغمرني فرحة أمٍّ تُعايش وقت اكتمال ابنها واتجاهه إلى الرجولة.
ثم رأيتُ ارتعاشك مرة أخرى، كان هذا يوم الجمعة 11 فبراير. لم تشِ الأحداث بأن مبارك سيتنحَّى نهاية اليوم، بل كان مُتشبثًا بالكرسي كأنه وريث شرعي، وعلى الشعب إن لم يقبل ببقائه أن يرحل. كنتُ قد سمعتُ الليلة الفائتة عبد الرحمن يتحدث هاتفيًّا مع شخص لم أعرف من هو، يتفقان على تنظيم مظاهرة لتخرج بعد صلاة الجمعة. وكان عليّ في هذه الليلة أن أحاول إبقاء الجميع ساهرين باختلاق أي حديث إلى وقت متأخر، كي يظل عبد الرحمن نائمًا إلى ما بعد ظهيرة اليوم التالي، وأنجح في إضاعة فرصته في المشاركة، لذا ظللتُ أناقشه طيلة الليلة عن رأيه في شباب التحرير. كانت تبهرني معلوماته، وقدرته على تكوين رؤية، على الرغم من اندلاع شجاراتنا في كثير من الأحيان، وفي ظل هذه الروح التي سادت بيننا خصوصًا في الأمور السياسية سار واحد من حواراتنا في تلك الأمسية كالتالي:
"تفتكر الشبان دول من غير رأس للثورة هيحققوا حاجة؟".
"يا ماما الأفكار القديمة دي راحت عليها، الشعب هَّوا الرأس والرِّجل".
"طيب والإخوان المسلمين.. ما هيركبوا الثورة".
"لكن شباب الفيس بوك مكانش إخوان ولا يحزنون".
"لكن الإخوان أكتر كيان منظم يا ابني افهم. والنجاح دايمًا للمنظم".
"والله الثورة بيقوم بيها الشرفا".
"أيوون .. لكن بيجني ثمارها الانتهازييييييين".
انتهى حوارنا وصافحته عيناي. في الصباح وبمجرد استيقاظي تفقَّدته. سرقتُ هاتفه كي لا توقظه الرنات، ووضعته أسفل شِلت الأنتريه، وخفضتُ صوت التلفزيون في الصالة كي لا يوقظه صوت المعتصمين. بمجرد أن بدأتْ خطبة الجمعة دخلتُ إلى الغرفة وأحكمتُ غلق الزجاج فرأيتك يا زياد مجددًا، كان جنبك الأيمن ينتفض بسرعة، وقفتُ أرقبك، علَّني أصل إلى السبب. لم أجد تفسيرًا، ثم أخذتني الأحداث بعيدًا عنك. استيقظ عبد الرحمن على الرغم مما فعلتُ، وأصرَّ على النزول قبل انتهاء الصلاة. طالبته بالوضوء. أن يكون طاهرًا ربما التقى الله. أعلن أعضاء مجلس الشعب المنتمون إلى الحزب الوطني- وعلى رأسهم الفولي- عدم تورُّعهم عن قتل كل من تسوِّل له نفسه الخروج للتظاهر ضد مبارك، قالوا إن البلد عزبة امتلكوها وعلى أهلها الانصياع لكل أوامرهم، ولم يستمع الشباب الثائر وعلى رأسهم أخوك إلى ما قالوه، وأصبح بين ليلة وضحاها على رأس المطلوبين عندهم.
هكذا نسيتُ ارتعاش جنبك الأيمن. فضلتُ أن أفسره بأنه احتلام الذكورة، وتفرغتُ لما يُحدِق بنا. جلستُ أمام الأخبار أدعو للثوار بالصمود.أنقل الفيديوهات الحديثة التي أجدها إلى الفيس بوك، مؤمنة بأني أستطيع القيام بدورٍ تحفيزيٍّ من مكاني. أكتب ملاحظات عن الأطياف المشاركة في الثورة علَّني أستخدمها في مقال قادم، أبحث عن دور الإخوان المسلمين في الثورة علَّني أرى ما يراه عبد الرحمن. لقد أصدروا أول بيان لهم عنها في اليوم التالي لاندلاع المظاهرات. شدَّد البيان على حل مجلس الشعب، وإجراء انتخابات نزيهة "أهذه أهم طموحاتهم!" تركتُ الإنترنت مذعورة. لم يعد لروحي مقاس جسمي، كانت تخرج وتعود إليه. أنتقل بين المحطات دون أن أدري أني سأسمع استغاثة أخيك عبر قناة الجزيرة بعد نصف ساعة من خروجه. جاءني صوت صديقه أولاً يخبر المذيع بأن منظمي مظاهرة نجع حمادي محتجزون، ثم سمعت صوت عبد الرحمن يصف ما يحدث، قال إن البلطجية الذين كُلِّفوا بضربهم يحاصرون البيت ويحاولون كسر الباب. توالت صرخاتي فاستيقظتَ وانتهى ارتعاشك يا زياد، واستيقظ أبوك. أشرت إلى التلفزيون، كي تفهما ما لم أستطع النطق به، وقبل أن يستوضح أبوك الصورة، أمسك بهاتفه واتصل بعبد الرحمن، فرن الهاتف تحت المخدات. تذكرتُ أني خبأته قبل قليل. تركني أبوك ودخل سريعًا، وقبل أن تنتهي مكالمتهما مع مذيع الجزيرة كان أبوك يُكمل ارتداء جلبابه على السلم في طريقِه للتفاوض مع الفولي للعفو عن هؤلاء الشباب.
نعم لم أستنتج أن شيئًا خبيثًا يتسرَّب إليك. نسيتك فسامحني، إلى أن ظهر حَوَلٌ خفيف ما لبث أن ازداد في عينك اليسرى، وأخذتك مع أبيك إلى طبيب العيون. لم يتحيَّر أمام حالتك أو يفحص قاع عينك. لم يقل سوى كلمتين معطوفتين على قلقي "مخ وأعصاب". كلمتان جرَّتاني إلى درب مظلم. لذا أتلهَّى عن التفكير فيما حدث لك إلى التفكير في أشياء أخرى، قديمة ومشوَّشة.
أتصل بأبيك كل ربع ساعة. الطبيب الذي وجدوه بعد جهد في عيادته ترأَّف بك. وطالب ابن عمك بإخراجك من الغرفة، ولم يكن هذا التصرف بالنسبة إليك سوى إثباتٍ بأنَّ ما ينتظرك أمرٌ جلل. جاءني صوت أبيك منهارًا بعد حديثه مع الاستشاري:
"فعلاً.. كيس ميَّهمكبِّل جذع المخ..مفيش حد يقدر يشيله غير الدكتور أشرف الأبيــض في القاهرة".
حتى هذه اللحظة يا زياد كنتُ وأبوك نعتقد أن طبيب المخ والأعصاب في النجع غير متمكِّن وأخطأ في التشخيص، أو شخَّص حالتك بمقاربتها مع حالة أخرى لمجرَّد وجود تشابه بينكما، أو أن صورة الأشعة المقطعية كانت غامضة وما ترتب عليها لا أساس له،أغلق السماعة وأبكي. اللعنة على أجهزة الهواتف، تنقل المصائب في اللحظة نفسها. ينهرني حسين قائلاً:
"استبدال الدعاء بالبكاء أفضل في هذه الحالات".
لكن تنفيذ نصيحته صعب. النار في طرف جلبابي، لن يشعر أحد مهما انزعج بالصورة كما أراها. هذا ما أحسستُ به في هذه اللحظة، أتذكرحالة أخي شادي. عندما فرتْ زوجته بابنه إلى ألمانيا وأصابه ذهول، كنا نصبّره ونطالبه بالدعاء. نقول له إنها أزمة طارئة وسترجع زوجته الألمانية عن قرارها وتجعله يرى ابنه كل حين، ندعوه لنسيان الأمر ومشاركتنا الحديث حتى يفاجئه تراجعها، لكنه يرفض، فنتركه في الغرفة بعد أن نقول جُملنا المحفوظة ونخرج لنمارس فرحنا على مرأى من حزنه. وحده كان يشعر بالفقد مهما حاولنا مشاركته في محنته.
تسلَّل الصباح وبيتي ممتلئ عن آخره، ما إن سمعَتْ أمي في الغردقة بالخبر حتى جمعت حقيبتها على عجل ولم تنس وضع دوائها والكريم المرطب، والبرفان. ركبتْ أول سيارة أجرة تحرَّكتْ ووصلتْ قبل أن تعودوا من أسيوط يا زياد. أختي عبير حصلت على إجازة عارضة بالهاتف من المديرة، كي تتابع عن كثب ما يحدث. حتى أخوك عبد الرحمن، تخلَّى عن فسحته التي قرَّر أن يقضيها بمجون بعيدًا عن أعيننا في القاهرة،ليحضر في أول قطار دون حجز مقعد. أغبط عبير لأن إخوتي وأمي يجتمعون عندها كل مرة تُزوِّج فيها إحدى بناتها. كنت أنتظر بتحفز أن يهبني القدر مناسبة لأرى هل سيجتمعون عندي أم لن يعيروني اهتمامًا، ها قد جاء تجمُّعهم وامتلأ البيت. وحدي ألحظ أن مرضك كان المناسبة.
لم نتوصَّل باستخدام جوجل إلى عنوان عيادة الدكتور أشرف فحسب، وجدنا صفحة كاملة تتحدَّث عن طرق الوصول إليه وإنجازاته وشهاداته العلمية، وصورة فوتوغرافية على جانب الصفحة. سأتصل بهفورًا يا زياد. عدة أرقام تفصلني عنه حيثما يكون. أجاب الآن. صوته هادئ رخيم. ثمَّة موسيقى خافتة تتهادى بالقرب منه وتصلني عبر السماعة.وأنت جواري تسمع ردودي عليه بهدوء. قرأتُ بإنجليزية غير مفهومة التقرير الذي أعده مركز الأشعة في أسيوط، وأخبرته بما قاله حسين على لسان طبيب المخ والأعصاب في النجع، وما لاحظته بعد أن أظهر إرهاق اليوم الأخير عليك أعراضًا لم تكن موجودة قبل يومين، كان تنميل خفيف يسري في يدك وساقك اليسرى، وازداد حَوَل عينك، والذي ذهبنا بسببه إلى طبيب العيون أمس. فقال:
"ابعتي الأشعة والتقرير إلى "الإيميل" الموجود بموقعي نفسه على الإنترنت".
أرأيت؟ لم يقل إن شيئًا خطيرًا يحدق بك. لم يقل إنك لن تكمل تدريب السباحة في النادي، أو إنك يجب أن تقلل من تناول الطعام. كل ما قاله:
"ابعتي التقرير والأشعة".
لن أدخر وسعًا. أعتبرُ تجاوبه علامة في الاتجاه الصحيح. خرجتُ سريعًا أبحث عمن يُصوّر لي الأشعة والتقارير، وقبل أن أكمل ساعة بالخارج كان كل شيء موجودًا على جهاز الكمبيوتر الخاص به. للإنترنت فائدة، لولاه ما استطعنا الوصول إلى رقم هاتف الدكتور أشرف، تراجع عن اتهامك السابق لي بأنني لا أفعل شيئًا سوى الدردشة وإقامة صداقات كما كنت تقول،لأهرب من واقع لا يروقني البقاء فيه.
الإنترنت! ذلك العالم الواسع. سأكشف لك كيف بدأت قصتي معه. كنت أرى الفضول يغزوك كلما وجدتني أبتسم أمام شاشة الكمبيوتر. تقف قبالتي مندهشًا. تسألني عما يجعلني أبتسم. أترك لك الكمبيوتر فتنسى فضولك بمجرد انغماسك في لعبة "سلك روود". لكني سأكشف لك الآن قصَّتي معه. بدأ التغيُّريطرأ على حياتي بدخول الإنترنت. لم يكن التعامُل معه سهلاً في البداية، كان يُشبه مغارة. لم أصرِّح لأحد بارتياده في ظل ما أحاط من يدخله من شبهات. كان مثله مثل طبق الدش، يشتهر مقتنوه بأنهم غارقون في مشاهدة أفلام السكس. سحبتُ سلك الهاتف ووضعته في مؤخرة الكمبيوتر، وأجريتُ اتصالاً. عندما جاءتني صفحة msn الرئيسية توقفتُ أمامها معتقدة أنها هي الإنترنت. كانت باللغة الإنجليزية، ولوقت طويل لم أعرف أن ثمة نسخة عربية منها تظهر بالضغط على زرِّ في أعلى الصفحة. حاولتُ فهم ما بها بإنجليزيتي الركيكة فلم أعرف، لذا أحضرتُ القاموس وشرعتُ في الترجمة. هكذا استمر دخولي إليه شهرًا. مُكتفية بما أجده من تغيير يومي في الصفحة. حتى تحدَّث مدرسٌ زميلي في المدرسة مصادفةً أمامي أنه ملايين الصفحات. سألتُه مستفسرة عن الإيميل، فأخذني إلى غرفة الوسائط المتعدِّدة وأنشأ لي إيميلاً. في عصر اليوم نفسه، وأثناء انشغالكم بمشاهدة التلفزيون، دخلتُ المسنجر لأول مرة. فتحته وانتظرتُ أن يكلمني أحد، وظللتُ أسبوعًا دون أن يحدث شيء جديد، فاكتفيتُ بتصفُّح المنتديات، أقرأ ما تنشره دون تسجيل بها، ثم بدأتُ أكتب أي كلمة أريد البحث عنها، وأتابع قراءة ما أجده، وفي محاولة مني للتجريب، كتبتُ اسم أبيك بالكامل، وأسماء كل من أعرفهم، معتقدة أن جوجل قادر على إدراج كل المعلومات عنهم، لكنني لم أجد شيئًا، فكتبتُ اسمي، وفوجئت عندما قرأت خبرًا عني في جريدة لم أتوصَّل إلى اسمها، مُفاده أني مع كاتبتين في النجع أسَّسنا نادي أدب نسائيًّا! أقمت احتفالاً بما وجدته، وشعرتُ بالزهو. اتصلتُ بيوسف وأخبرتُه، وفي محاولة لضبط النفس لم أذكر شيئًا أمام أبيك عندما جاء، لأني كنتُ أدخل في غيابه، معتقدة أنكم لا تعرفون بأمر دخولي، لكن عبد الرحمن كان قد كبر في غفلة مني، وعرف به من أصدقائه. وعلى الرغم من محاولاتي ضبط الوقت كي لا أثقل فاتورة الهاتف، كانت الساعة التي خصصتُها للتصفح تتسرَّب سريعًا، ومع الوقت لم أعُد أهتم كثيرًا بالمُدَّة التي أقضيها، كل ما فعلته أن قرَّرتُ الذهاب قبل أبيك لدفع الفاتورة، وعندما وجدتُ المبلغ ثلاثة أضعاف ما اعتدناه، دفعتُ قيمتها ثم قمت بتمزيقها قبل عودتي إلى البيت.
لم أكن أتخيل أن ثمة مفاجآت ستتكشَّف لي مع مرور الأيام، عندما وصلتُ بعد دورة المتاهة إلى معرفة المواقع المتخصِّصة في نشر الإبداع. سجلتُ في أحد المواقع وبدأتُ أنشر قصصي. مع توالى النشر، وتعقيب الآخرين عليها بدأتُ أعي مَوَاطن الضعف والقوة. أشعر بأنني على الطريق الصحيح إذا امتدح أحدهم القصة، وبالعداء تجاه كل من ينتقدها. لم يستلزم ضبط مشاعري سوى قليل من الوقت لأعرف أن هناك بروتوكولاً غير معلن يجعل الأعضاء يمتدحون نصي لأمتدح نصوصهم. دون قراءة جادة أحيانًا. على الرغم من كثرة هؤلاء وجدتُ من أخلص للإبداع،دون اعتبارٍ للكاتب. لم أجد صعوبة في اكتشافهم. في المقابل كان ثمة من يرى في ما أكتبه إبداعًا حقيقيًّا، ويستشعر أن وراءه امرأة تحمل الكثير.
لن أخجل من البوح يا زياد. كنت أدرك أنكم تعرفون كم أنا بائسة،أنت وعبد الرحمن وحبيبة.أبوك كان يعرف أيضًا. البوح تطهر، وأنت قد لا تسمعني على كل حال، لأني أحكي بصمت. وأثق أنك ستفهمني إذا نجح تخاطرنا. كان هو.. كاتب لا يُعقب كثيرًا، ولا ينشر إلا نادرًا. كنتُ أجد في تعقيباته المقتضبة على كل قصة أنشرها نوعًا من الانتصار، حتى إذا اختزل إعجابه في جملتين قصيرتين، يكتبهما بفائض انتباه، كي لا تتعدَّيا الإعجاب بالقصة. مع هذا، كنتُ أفسر كل كلمة يقولها بأكثر مما تحتمل. يسعدني تفسيري،عندما بحثتُ عنه باستخدام محرك البحث جوجل وجدتُ إيميله. كان من السهل إضافته إلى المسنجر دون أن يعرفني، لأن الإيميل الجديد الذي قضيتُ ليلة كاملة في إنشائه لم يحمل سوى اسمٍ هيروغليفيٍّ غامض، وهو اسم لم يكن يعرفه أحد. بعد يومين وجدته يقبل إضافتي وأضاءت أيقونته باللون الأخضر. ارتبكتُ، كانت لحظة مضيئة، لم أجد غضاضة في ظِلِّ جهلِه بي أن أكون على حقيقتي، أو بشكل أكثر دقة، أكون أنا التي أتمناها، بجرأة فائضة. ودون رتوش، سألني بلغة فصحى:
"من أنت؟".
ووجدتُ أن الرد بالفصحى يليق بي وبه:
"أنا كاتبة".
"جيد.. وماذا تكتبين؟".
"القصة القصيرة".
"أحب الاطلاع على إنتاجك".
كان لديَّ عدة قصص لم تنشر على الإنترنت من قبل، لذا أرسلتُ إليه أفضلها. توقعت أنه يُريد أن يتأكد من كوني قاصة بالفعل كما أخبرته، ومنحته عشر دقائق ليقرأها. قضيتها في تخمين رأيه فيها، وبعد أن انتهى سألني:
"منذ متى تكتبين؟".
"منذ بضع سنوات"، فقال:
"أنت رائعة.. أرسلي إليَّ قصة أخرى".
حمدتُ الله أن عدة قصص لم يطلع عليها مازالت عندي، فأرسلتُ إليه قصة جديدة. قرأها ومرة أخرى أخبرني بروعتها. هكذا أسستُ لعلاقتي به، وكانت القصص مدخلاً إليه. أتذكر أوقاتي معه فأشعر بنسيم يهب من جهة غير معلومة، كلما أضاءت أيقونته ليلاً، يختفي العالم المحيط ويُطِلُّ مكانٌ آخر لا يمت للواقع بصلة، يسألني:
كيفك أنت؟
فلا أجد سوى إجابة واحدة، أحسها بالفعل في هذه الأثناء على الرغم من كثرة الأعباء:
"بخير".
نسترسل في حديث عن الأدب، يحدثني عن فرجينيا والف، وهرمان هيسه، يتلو عليَّ بعضًا من أفكار محمد المخزنجي، ويوسف إدريس. كان عالِمًا بالقصة القصيرة، يستطيع أن يقول رأيًا صائبًا في كل كتابة مهما كان تصنيفُها. يتوغل بحديثه فيحكي عن الاغتراب الذي يُعانيه، لأن الإنسان يشقَى بوعيه، خاصة إذا لم يجد من يفهمه، ويحزن، لأن الوعي لا يورث، بل يموت مع صاحبه. في إحدى المرات، أخبرني أن الأغبياء سعداء، لأنهم يعيشون كالقطيع، ويفكرون بأرجلهم، مع هذا لم يتمنَّ يومًا أن يسعد بالطريقة نفسها. كانت أسبابُ معاناته جديدة على عالمي، لم يقل إنه يشقى بالفقر أو بوطأة العمل، لم يحكِ عن تعاسته مع زوجته، كان يشقى بوعيه. أسباب شقائه كانت مختلفة. رفاهية لا يملكها من وُجدوا في مجتمعي. كلما رحل أشعر أنه خلف وراءه ضوءًا أبيضَ ونسيمًا ربيعيًّا يغلفني حتى لقائنا التالي. حدثته بجرأة في إحدى المرات:
"ربما أعانك حب طارئ على شقائك".
فسألني:
"كيف؟".
"أن تترك نفسك للحب.. تحب بحق أو تُوهم نفسك به".
لكنه أجاب بحسم:
"المرأة التي ستدهشني ذابت.. أعتقد أنني في مرحلة شيخوخة الروح"، ثم أكمل: "ربما أيضًا هي حالة الهدوء الذي يسبق العاصفة".
كان لاختياره كلماتٍ بعينها صدًى بأعماقي. شيخوخة الروح! كم ظللتُ أعوامًا أشعر بهذا الإحساس، دون التوصُّل إلى كلمة معينة تجسِّد المعنى، كان يمتلك القدرة على التعبير عما يحسه بكلمات محددة، لم أجد أحدًا قبله يملك هذه الملكة. في لحظةٍ ما حاولتُ أن أثبت له أن هذه المرأة أنا. كان الغموض يثير شهيتي للجرأة أكثر، والتوغُّل معه إلى أماكن أبعد من المكان الذي انطلق منه أول مرة.
يرنُّ هاتفي. فتفرُّ ذكرياتي.تعودإلى مكانها في الصندوق. كان رقم الدكتور أشرف. مرت ساعة على اتصالي به. حتمًا اطلع على بريده الإلكتروني. ها نحن نستقبل اتصاله بلهفة، يلتف حولي الجميع. أشعر أنك سعيد بمرضك لأنه جعلك محط اهتمامنا ولهفتنا.. هل قصرت في حقك يا بني لتجعل من مرضك فرحًا سريًّا لك! لست مضطرًّا إلى الإجابة.. كيلا أندفع في تأنيب نفسي. لا عليك. افرح باهتمامنا.. لقد أكد طبيب القاهرة ما قاله الطبيب في أسيوط، هو كيس مياه نما في غفلة على جذع المخ وأعاق حركة العين. الحالة الناتجة من الكيس تسمَّى "حوَل شللي" وهو في حد ذاته عرض لكي يزول يجب معالجة المسبب له، لأنه يكبل العصبين الثالث والرابع للعين، فلا يجعلها تتحرك باتجاه العين الأخرى، كما يصيب جفن العين بشلل مؤقت يزول إذا تم علاج المسبب، وأهم أعراضه الازدواج في الرؤية واعوجاج في الرأس كي يرى المريض الأشياء طبيعية، ويتعرض المريض فيه أحيانًا لـقيء نتيجة الرؤية المزدوجة للأشياء.
"هيّاالحالة خطيرة؟".
سألته بتوجس أمامك يا زياد، فأجاب:
"لا.. الحالة دلوقتي شائعة".
لست قلقة يا زياد. كل ما هناك أني لا أفهممعنى عبارة "الحالة شائعة" التي يقولها الأطباء. هل تعني أن الحالة بسيطة؟ هل يبدو عليَّالقلق؟ عجيب. تناولت طعامي مع الجميع. اللقيماتلم تتوقف في حلقي عند البلع! مازالرأسي في مكانه ويدي أيضًا. مجرد كيس مياه ينمو على جذع المخ. سيتم التعامل معه بحِرَفِية. ستعود المرونة إلى يدك ورجلك، لن تعاني من الحول بمجرد إجراء الجراحة. مجرد فتح بسيط وإدخال أنبوبة ثم يتم سحب المياه. لن أفكر أثناءوجودك بغرفة العمليات سوى في الاحتفال الذي يجب أن نجهزه لاستعادتك العافية. كم صينية كيك يجب أن أجهزها، وعدد المدعوين للاحتفال. لا يبدو عليَّ أي قلق أبدًا. اعتدت يا زياد صمتي وسكوني، وغيابي عنكم في متاهات التذكُّر. تصدق ما أقوله لك عن سفريإلى الجزيرة المسحورة، تضربني برفق في جنبي لتسحبني من خيالاتي وتسألني:
"مجبتيليش ليه التفاحة المسحورة؟".
كنت مثلي تطلق لخيالك العنان. أسألك:
"تفاحة إيه؟"
"التفاحة اللى بتخلي الواحد ميموتش أبدًا.. تفاحة الخلود يا منى".
أضحك، ليس لأني نسيت كذبتي عن الجزيرة المسحورة، بل لأنك لا تنادينيبـ"ماما" كباقي إخوتك إلا كلما هممت بضربك. كيف استطعت أن تكون مختلفًا عن أخويك! تلحظ ما لا يلحظانه. وتحاول تغيير ما استسلما له. أنتَ أكثرهم تذمرًا. لم يصبك الاستسلام لإيقاع حياتنا الرتيب. كلما كنت أشعر بضيقك، تتلبَّسني روح عاقلة وتستعرض عليّ كل ما مَرَّ، وتتركني عازمة على أن أغيّر حياتي وأبدأ بروح شغوفة من جديد، لكني وبدلاً من التفكير بإيجابية، أتذكر أحداثًا كثيرةً، أو بعض المواقف العصيبة التي مرت بي وتركت جرحًا، أنزوي عن عيونكم وأبكي بحرقة. أستغل وقت ما بين تمدُّدي على السرير واستغراقي في النوم. أصب لومي على أبيك الذي لا يعرف كيف يتعامل معي، ولا يفكر في التقرُّب إليّ أو ملاطفتي، كأني تحوَّلتُ بعد زواجنا إلى دولاب خشبي لا يشتكي من تكدس الملابس. أحاول أن أحلل أسباب عدم إحساسه بي كامرأة تحتاج إلى الشعور بالدفء والحنان كي تواصل الحياة بقلب نَمِرة. أحاول أن أكون حيادية كي أجد إجابة لسؤالك الحائر:
"لماذا تليَّفَتْ حياتكم وصرتم غير متحمسين لأي جديد قد يُجمّلها؟".
سأجيبك يا زياد الآن. سأصرح لك بكل ما أرَّقني. لا تسألني لماذا الآن. أنا لا أعرف تحديدًا. صورتي كامرأة في الأربعين بهية ومكتملة، كانت تأتيني من مخيلتي وتغيب عبر الحائط، فأتساءل بصمت: "ألا أعجب أباك؟".كيف لا أعجبه وأنا ألمح نظرات الإعجاب في عيون معظم الرجال الذين أتعامل معهم بحكم عملي في المدرسة من ناحية، وكتابتي للقصص عن العلاقة الملتبسة بين الرجل والمرأة من ناحية أخرى! أبكي حتى تتورَّم عيناي، ثم تجرني كائنات بيضاء إلى دوائر النوم. أستيقظ في الصباح منساقةً إلى عاداتي اليومية من حمام صباحي وتنظيف مطبخ ثم تناول النسكافيه. عندما تدق السابعة والنصف أخرج سريعًا لألحق بميعاد المدرسة. تصيبني الدهشة عندما أكتشف في وقت لاحق من النهار أنني قد نسيتُ ما كنتُ قررته ليلاً، بما في ذلك قراري بتغيير حياتي والبدء من جديد.
نرتب على عجل السفر إلى القاهرة، تعود أمي إلى الغردقة مصطحبةً حبيبة، كيلا أهتم بأحد غيرك. سبقنا يوسف إلى هناك لتذليل كل العقبات: التأكد من حجز المستشفى. ووجود ممرضات يبتسمن في وجهك عند وصولك. رابض أخوك عبد الرحمن في محطة القطار بالنجع حتى حصل على تذاكر بضعف الثمن تضمن لنا البقاء جالسين طوال رحلة السفر، لن تشعر بضجر، لقد جهزت لك ساندويتشات الكفتة التي تحبها. حزمنا حقائبنا وبدأنا رحلة علاجك. لا نخالف الخطة التي رسمها الدكتور أشرف، عندما قال عبر الهاتف:"أدخلوه مستشفىمعهد ناصر مساء يوم الخميس 14 يوليو"ليتم تجهيزك للجراحة حتى صباح السبت. سنصل ظهيرة الخميس. اليوم السابق لجمعة الإنذار الأخير.
الركاب يتدافعون، ورائحة البول تخنق المكان. كل شيء يسير بشكل عادي، أتجنب الحديث عن أي شيء يخص مرضك. توهم أننا ذاهبون في رحلة. القطار يمتلئ بالمسافرين الذين يصطحبون أطفالهم. يمتلئ المكان بالصخب. كيف يفرح الآخرون وفي قلبي كل هذا القلق! هذا المعنى نفسه قرأته في قصيدة، لم أعد أذكر كاتبها. ربما انزاحت فكرة القصيدة قليلاً لفكرة أخرى. لا يهم. تذكرني جلستي الآن في هذا القطار برحلة قديمة. على الرغم من كثرة أسفاري. كان هذا يوم أن كنتُ عائدة من الجامعة لقضاء الإجازة الصيفية، انشقَّت الرؤى أمامي قبل أن يصفر القطار مغادرًا محطة رمسيس عن شاب يسحب امرأة عجوزًا. من أول وهلة أدركتُ من الشبه الكامن في ملامحهما أنها أمه. ظل يتنقل مراقبًا أرقام الكراسي حتى وصل إلى الكرسي المواجه للذي أجلس عليه. أجلسها ورفع طرف جلبابها كي لا يدوس العابرون عليه في الممر، وضع حقيبتها على الرف. قبَّلَها على وجنتيها ثم أوْلاها ظهره، وهي مبتسمة في رضا مثير. لم تكن ابتسامتها بانفراج شفتيها فحسب، بل كانت ملامحها تشع نورًا. عاد ابنها قبل أن يبتعد،أمسك يدها وقبَّلَها بحنو، وذهب قبل أن يحتجزه القطار بتحركه السريع. ظللتُ طوال الوقت أرقبها، حتى في غفوتها، وأخذتني الرؤى بعيدًا، اكتشفتُ أني لم أقبّل يد أمي قط، هذا التصرف لا يمنح الأم رسوخًا بقدر ما يمنح ابنها صك انتماء، جميل أن يكون لدى كل منا إنسان نرتاح بمنحه قبلة على اليد. بقيتُ طوال الرحلة أتخيل الطريقة التي أفتح لي معها بابًا للحديث، أن أقول لها إني طالبة في كلية الآثار بالقاهرة، أقضي نصف عامي محرومة من أمِّي، لكني عائدة الآن، وسأرتمي في حضنها بمجرد أن أراها، وسأقبِّل يدها أيضًا. في الوقت نفسه كانت الحقيقة تفترسني، أستشرف وصولي فأرى أمي وهي تطبع قبلتين لا حياة فيهما على وجنتي، وتتركني مُسرعة قبل أن تستنشق أنفي رائحتها إلى المطبخ، لتباشر بالطعام الذي استعدَّتْ به لاستقبالي والاحتفاء بي. حتى اقتربتُ من الوصول إلى النجع، وكان عليّ- لأنزل على الرصيف قبل أن يتحرك القطار مغادرًا- أن أسحب أمتعتي وأقف بجوار الباب بالضبط. قمتُ وقلبي يخفق بما قررت فعله، أمسكتُ يدها وطبعتُ قبلة مرتعشة، لم تهزها المفاجأة، كانت يدها طيعة فلم تسحبها. تخيلتُ أن جميع الركاب مندهشون مما فعلت، لذا أسرعت بالمغادرة دون أن أتلفَّت ورائي. ما أشعرني بالأسى يا زياد، أنَّ قبلتها لم تمنحني شيئًا، وأن أية حزمة حنان طارئة من امرأة عابرة لن تعوِّض احتياجي وحرماني إلى هذا الإحساس الغامض، الذي يبعثه حنان الأم في النفس. بل ستزيدهما تعطشًا.
نعم يا زياد، هذه هي طبيعة علاقتي بأمي. ثمة أحداث وقعت قبل مجيئك، لكني مصرَّة على أن ما يقع لنا في الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل. بعد زواجي، وظهور أعراض التعاسة عليَّ جلية، حمّلتها كل ما يمر بي، كان يُعصِّبني إصرارها على الاكتفاء بما أقوله من إجابات عن حياتي، وكلَّما هممتُ بالإفصاح لها عن تعاستي أدارت دفة الحوار إلى اتجاه آخر، كأنها لا تريد أن تعرف. تكتفي بأنها أنجبتني وربتني وأخيرًا اكتملتْ رسالتها بتزويجي. لا تقوم بالدور نفسه مع إخوتي الذكور، إذا وخز أحدهم دبوسٌ تصرخ، تستنجد بي وعبير لنقف جوارها في هذا المصاب. لذلك شرعتُ في زعزعة إحساسها بالأمان تجاه استقرار حياتي، أردتُ فقط أن أُقلقها، ولأنها لم تُعطِ لي فرصة الشكوى من أيِّ شيء. كنتُ بقليل من الكلمات أوصل إليها ما أريد، أتنهد بلا سبب واضح. أحيانًا كنتُ أدَّعي السرحان بعيدًا عن الجلسة. ومرات، ما إن أدخل حتى أترك أخويك وأنعزل في غرفتي القديمة متأمِّلة السقف،ثم في النهاية اكتفيتُ بارتداء "تايير" واحد كل يوم، يشبه في تقشُّفه زي الجيش، لم أكن قادرة على تغييره. لم يكن فيما أفعله ادِّعاء، لكنني انسقتُ إلىهذه الطريقة مدفوعة برغبة خفية، بعد أن قررتُ أنه إذا كنتُ تعيسة بالفعل، فلا داعي لتحمل عبء التظاهر بعكس ما أشعر به. لم أكن بحاجة إلى وضع خطة محكمة أسير عليها. كان كل شيء يتم وحده بمجرد جلوسي معها. عند زيارتها لي في إحدى المرات سألتني:
"ليه يا بنتي سايبة الشقة تقلِب تعدِل كدة؟".
"أبدًا.. ماليش مزاج أعمل حاجة".
"طيب.. قومي بينا ننضَّفها".
"لا خليها.. حاسَّة إنها كدة شبه حياتي".
"وليه بطلتي تهتمي بنفسك.. وهدومك؟".
انخرطتُ في البكاء بحرقة. أخيرًا سألتني، لكنني لم أجب. اكتفيتُ بما نقلتُه إليها من مشاعر، ربما أرّقها حالي. لو بدأتُ في الشكوى لن أصل إلى حلّ. لم تُلِحّ في معرفة أي شيء. ما ضايقني أنها اعتبرتْ عدم البوح نوعًا من التعقُّل، وعادتْ إلى اطمئنانها، وقارنتْ بيني وبين عبير، التي تكبرني بعشر سنوات، مع هذا، يسمع الناس في البلدة المجاورة آخر أخبار شجارها، وتسحُّبها من غفوة القيلولة لتشهد على جنون زوجها عصام معها.
حتمًا طبيعة علاقتي بأمي تلتبس عليك يا زياد،لكن إيضاحها يستلزم الكثير من سرد القصص. القصص تكشف خبايا النفس. لابد أن تقرأ رواية "هكذا كانت الوحدة"، لا تناسب عمرك لكنها ستستقر في مكان ما بداخلك حتى يأتي وقت استيعابها. هل لديك القدرة على الاستماع؟ هدير القطار يوترني،فلا أستطيع إمساك خيط الحكي. يدخل محطة رمسيس الآن. تمنيتَ كثيرًا أن نسافر معًا. أن تزور حديقة الحيوان لتطعم القرد، وتتأكد أن مؤخرته حمراء فعلاً كما قال لك أصدقاؤك! نشق طريقنا وسط الزحام، لا أحد يشعر بمرضك، تقاوم تنميل ذراعك، تصر على إمساك حقيبة السفر بالذراع نفسها، سأتركها لك فاحملها، لن أعترف بتنميلها، لا تتقافز في مشيك كما كنت تفعل الشهرين الماضيين،بل تضغط على قدمك اليسرى لتشبه خطوتها القدم اليمنى. كن صبورًا يا بني، فأبوك لا يستطيع مجاراتك. صار رجلاًكهلاً مريضًا منذ أن أحيل إلى التقاعد. خالك يوسف يتصل على هاتفي. سأجيبه الآن. حتمًا ينتظرنا في مكان ما خارج الزحام. هل تسألني عن أسباب زواجي بأبيك؟ ولماذا قبلت رجلاً يكبرني بعشرين عامًا،أم ترغب في الاستماع إلى القصة بالترتيب؟ لا وقت للإجابة. سأقص عليك كل شيء في حينه. دعنا نبحث عن خالك الآن،لقد وصلنا إلى القاهرة.
تتحرك بنا سيارة يوسف الكيا الحمراء. ليسير باتجاه مستشفى معهد ناصر. أراقب الطريق وأنت إلى جواري في المقعد الخلفي، تخيم علينا غيمة صمت رمادية، تسند رأسك على كتفي. دخولك المستشفى ليس ساعة الصفر. تسقط في النوم، وتستيقظ فزعًا كلما انحرفت السيارة لتتقدم قليلاً بين صفوف السيارات المتوقفة إثر إغلاق إشارة المرور. هذه هي القاهرة التي وددت رؤيتها كثيرًا. يليق بك تفقُّدها من النافذة. استيقظ يا زياد. لا تأخذني رسومات الجرافيتي أو العبارات المكتوبة على الجدران واللافتات وبعض السيارات المارة. كانت تعبر جواري فقط؛ يسقط النائب العام/ لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين/ الإسراع في محاكمة رموز النظام السابق/ تسقط حكومة عصام شرف. لا يهمني سواك الآن يا زياد. سنمر بعد قليل على ميدان التحرير، كنتُ أتمنى منذ أسبوع أن أكون فيه. لن أنظر إليه،لن يلفت انتباهي انتصاب الخيام البيضاء الصغيرة للمعتصمين. لم يعد ما يحدث في بؤرة اهتمامي؛ صار هامشًا للأحداث. يستحوذ القلق على كياني، لا يا بني. لست قلقة عليك،حالتك ليست خطيرة. حتمًا تعرف أن حرارة الطقس تسبب القلق!سيجهزون كل شيء لتكون مستعدًّا وقت حضور الدكتور. من الصعب إقناع أبيك بأن الممرض الليلي لن يغتصبني. لذا سيبقى ليرافقك، وسأبيت ليلتي مع يوسف في شقته بمدينة 6 أكتوبر. آه يا زياد. ألحظ مرضك بصمت وأتظاهر أن كل شيء على ما يرام. أعرف أنك ترى دمعاتي تتساقط فتتغافل عن رؤيتها. يقتلني تريُّثك وقدرتك في إخفاء توترك، لماذا لا تسأل عن كيفية إجراء العملية؟ لماذا لا تضجرني ببكائك؟ سأعود صباح اليوم التالي لأتفقَّدك وأقضي معك الوقت المسموح بالزيارة. يمر الوقت كتساقط حبات الرمل بصعوبة من ثقب ضيق. تتقاطر الحكايات والأحداث، الحزن والفرح والاكتئاب، من أعلى إلى أسفل، يختلط مذاق كل شيء، كوكتيل غامض. سأختصر الوقت بالحكي. لا يقاس العمر إلا بأشياء هلامية، أهمها كم مخزوننا من القصص.
لفظتنا السيارة المرسيدس العتيقة موديل 1950 في شارع المحطة. ودَّعنا عم عوض السائق وعاد. العمارات قليلة ومتفرقة، ونبات العاقول الشائك يُغطي الأراضي. وجَّهنا أبي الذي سار ببطء تحت ثقل شلله الرعاش إلى طريق مختصر، عبرنا منه فوجدنا عمارتين تابعتين لمجلس المدينة، أحاطت بهما مساحة واسعة من الفراغ. كانت الشقة التي سنعيش فيها في إحداهما. في الناحية الأخرى كان قطار القصب يعبر على قضبانه متجهًا إلى مصنع السكر خارج النجع. أول تحذير تلقيته كان الابتعاد عن القضبان، ولأني لم آخذ بنصيحة طوال حياتي، كان أفضل أوقاتي هو انتظار عبوره. ألقي للحارس الجالس على إحدى العربات رغيفًا مليئًا بالجرجير وبيضة مسلوقة، فيلقي لي بأعواد القصب. يمضي القطار سريعًا مُخلفًا الأعواد التي أجمعها من الأرض.
كانت نجع حمادي عام 1970- وقت نزوحنا- مدينةً فسيحة تطل على النيل، ويربطها بالناحية الشرقية كوبري حديدي عتيق كأنه بُنِيَ منذ ألف عام. مكونة من ثلاثة شوارع، لم تكتمل المباني لتحدد معالم كل شارع بالضبط. وصلنا وقت أن كانت المخاوف مازلت قوية من تسلُّل طائرة إسرائيلية ثانية إلى عمق مصر لتصل مجددًا إلى النجع دون أن يدري بها الدفاع الجوي المصري، لتقصف الكوبري كما حدث من قبل. في محاولة منها لفصل مدن شرق النيل عن مدن غرب النيل وتعطيل حركة التنقل. لم يكن أبي ولا أحد من سكان نجع حمادي- ككل المصريين آنذاك- على ثقة من قدرة مصر على ردِّ الصفعة لإسرائيل بعد النكسة، لذا تأفف الجميع من سيارات الجيش كلما أتت من معسكراتها المحيطة لأخذ حصتها من الخبز، وتعطيل الطوابين حتى ينتهوا. يرمونهم بعبارات السخرية قائلين:
"يا دفعة يا دفعة".
عندما ينظر إليهم العسكري يكملون ساخرين:
"حوش اللي وقع منك".
حتى البيان الذي أذاعه الراديو في نفس الأسبوع الذي وصلنا فيه إلى النجع عن ضرورة دِهان النوافذ باللون الأسود لم يلق قبول أبي، وقال عنه:
"الأجدر بقواتنا الجوية حماية سمائنا لا أن تأمرنا بطلاء النوافذ".
ولم أفهم وقتذاك كيف لأبي أن يطالب قواتنا الجوية حماية السماء الواسعة بهذا الشكل! بمجرد تلبية الأوامر صارت كل النوافذ الزجاجية مدهونة بطلاء أسود، كيلا ترى الطائراتُ الإسرائيلية الإضاءة، وتُصبح هدفًا هينًا لقذائفها. أبي لم يدهن النوافذ كالباقين، طلب من أمي أن تغلِّفها من الداخل بورق الكربون الأزرق، الذي يستخدمه حسين أخي الأكبر الشقيق، لطبع الدروس. لم تمض أيام حتى أعلن الراديو عن عبور الجيش، وتحطيم خط بارليف. ظل الراديو يردِّد الأغاني الوطنية أيامًا كثيرةً، وغنينا في الحضانة نشيد "بلادي". في الوقت الذي كان الجميع منهمكًا في محاولة إزالة الدِّهان- الذي لم يمض عليه أسبوعٌ- بالتنر والبنزين والأسيتون، كانت أمي تنزع الشرائط اللاصقة عن ورق الكربون لتتسلل أشعة الشمس مجددًا إلى داخل الغرف.
لا أعرف الكثير عن نشاط أبي وصورته خارج البيت. كل ما أعرفه حُكِي أمامي. كل قصة حُكيت بوجهة نظر مختلفة وزاوية مختلفة، مع بعض الإضافات التي تجعلها مغايرة. في النهاية خلقتُ له تاريخًا لا أعرف على وجه الدقة إن كان حقيقيًّا أم لا. تخرَّج أبي في مدرسة المعلمين في قنا، وكان ثالث متعلم على مستوى البلدة. عُين مدرسًا في المدرسة الابتدائية التي بنيت حديثًا وكان له شرف اختيار اسمها، ليكون "مدرسة النهضة الابتدائية"، وبدأ حياته المهنية بروح تواقة للتغيير،ثم تزوّج ابنة خاله، فأنجبت له ثلاثة ذكور وبنتًا في عشر سنوات حافلة بالأحداث. ملأت حياته بكل ما يشغله عن حياة أخرى خارج النطاق الأسري، ثم ماتت دون إنذار، فلم يستعد لما سيلاقيه من حيرة مع أولاده بعد رحيلها، ووحدة تجثم على صدره كلما دخل غرفته. قضى أعوامًا يُصرِّف أمور شهوته في أحد بيوت الفرفشة في الإسكندرية، لكنها لم تصبح آمنة لممارسة الحب تحت نيران قوات المحور والحلفاء. كل ما تبقى من هذه الفترة، صورة لفتاة عوراء بثوب عاري الأكتاف من "التافتاه". لم يعرف أحد على وجه التحديد هل كان ينوي الزواج منها، أم أن احتفاظه بالصورة لم يكن سوى امتنانٍ لما قدمَته له من مسرة.
بعد وقت ليس بالقصير تزوَّج أمي. كان عمرها آنذاك أحدَ عشر عامًا، وكان شيخًا هرمًا. حكت كثيرًا أمامي أنها كانت صبية لم تبلغ بعد، لذا أبقاها بين أولاده حتى تنضج، ودخل بها في تكتُّم ليلة أن أخبرته أمه بطهارتها من أول عادة شهرية ألزمتها الفراش أربعة أيام. تعاملت أمي دومًا معنا ومع أبي والجيران دون أن تنسى أصلها العريق، فهي الابنة الصغرى للشيخ حسن وافي، ناظر المدرسة التي كان أبي فيها معلمًا للغة العربية. نزح من محافظة المنوفية ليتولى مقاليد العمل التربوي في قرية تبعد مئات الأميال عن القاهرة، وقَبِلَ هذا البعد مرضاة لوجه العلم فقط كما كانت تقول. زوّجها لأبي لأنه التحق مثله بالعمل الميري على أمل الترقي في المناصب، لكن أبي ظل معلمًا إلى أن اضطره المرض إلى التقاعد. دومًا كانت تُذكرنا بأنها الوحيدة من إخوتها التي تزوجت في الصعيد، وبقيت من أجلنا بعد انتقال عائلتها إلى القاهرة، ليطلقوا عليها إذا زارتهم مصطحبة معها طابور من أنجبتهم تباعًا لقب"أم الصعايدة" لم أعرف أبدًا ما الخيار الآخر الذي كان من الممكن أن يتاح لها إذا لم تضحِّ من أجلنا وتبقى. كانت دومًا تتباهى بخال أمها الباشا الذي عمل نائبًا لوزير الري في السودان وامتلك فيلا لها حديقة واسعة في مصر الجديدة. اختصرت درجة القرابة عند حكيها عنه مع الجارات فأصبح خالها فقط، وليس خال أمها، وأبناؤه أولاد خالها، وعلى الرغم من التعالي الذي يُقابل به كل من يزوره من فرع عائلتها احتفظت بصور أسرته ككنز داخل صندوق جميل كان قبل استخدامه لحفظ الصور مليئًا بقطع الشيكولاتة. خبأته في ضلفة دولابها، وسمحت لنا برؤيته كل حين.
دخل أبي المعتقل كأحد أعضاء الإخوان في الفترة بين عامي 1964و1967. جاء ثلاثة رجال قبل الفجر بقليل، ودقوا الباب مرتين، قبل أن ينزل أبي من سريره ليستطلع الطارق كسروا الباب ودخلوا، ووجدهم بالقرب من "المزيَرة" عندما خرج من غرفته بلباسه الداخلي. كانت أمي نائمة وبجوارها يوسف بأعوامه الثلاثة مستيقظًا، لا يعرف ما الذي يحدث.. على سرير صغير في ركن الغرفة استغرق حسين وعبير في نوم عميق تحت حرام صوفي. إخوتي الكبار ينامون كالعادة في غرفتهم بالدور العلوي. لم أكن وُلِدت لكني رأيتُ كلَّ ما حدث بمخيلة فتاة سيُقدّر لها بعد ثلاثين عامًا أن تجرب كتابة القصص والروايات وتجد في كتابتها لذة غامضة، مستعينة بترتيب الأحداث كما روت أمي كثيرًا عن هذه الحادثة التي أسمتها محنة. لم يكن هناك سبب معروف لاعتقاله، بعض أصدقاء أبي من المتعلمين في البلدة آنذاك أرجعوا السبب إلى تسرب أسماء عن متورطين جدد في تدبير محاولة اغتيال أخرى لجمال عبد الناصر، خلاف اغتيال المنشية، لكن بحثي في مقالات المعارضة والمراجع التي تتناول تاريخ "الإخوان المسلمين" فيما بعد بهدف المعرفة وإكمال الصورة، أوصلني إلى أن اقتياده كان نتيجة رغبة جمال عبد الناصر في القضاء على نشاط الإخوان المسلمين المتنامي بسرعة في النجوع والكفور، بعد أن انفض عن التحالف معهم نهائيًّا، رغبة منه في الانفراد بالسلطة، التي وضعوا أعينهم عليها منذ اللحظة الأولى لدخول الجماعة إلى العمل السياسي. ربما كان هذا هو السبب الصحيح فعلاً، إذا كان أمر اعتقاله حقيقة ولم يكن تمثيلية قام بها أصدقاؤه لإقناع أمي وإيجاد مخرج لأبي كي يقضي إجازة طويلة بعيدًا عن الأعباء.
لا يعرف أيٌّ من إخوتي ما إذا كان انتماؤه إلى الإخوان حقيقة أم مجرد وشاية، فأبي لم يعد إلى الإسكندرية منذ أن تزوج، ولم يكن له علاقات غامضة. ولم يفصح بشيء حتى بعد خروجه من المعتقل. وصل إلى البيت في صحبة أحد الأشخاص. قال أبي إنه كان زميله في الزنزانة، ومكث في البيت يتحرك ويأكل ويشرب كأحد أفراد العائلة، وبمجرد رحيله بعد أن أكمل ثلاثة أشهر أعلن أبي أنه لم يكن سوى مخبرٍ تكلف بحراسته، ولم يجد أبي بدًّا من قبول عرضه لرفع الحرج بأن يقول إنه زميل الزنزانة الطيب. على أي حال، اعتاد الجميع عليه، ولاعب يوسف بأن وقف جاعلاً من عمامته هدفًا يصوب إليه أحجار النبلة، وبعد حين عرضت أمي عليه أن يزورهم مصطحبًا زوجته وأولاده. رحيله ترك فراغًا في البيت، وتذكره الجميع بالخير مطلقين عليه لقب العم عن طيب خاطر.
أنجبني أبي في العام التالي للمحنة أثناء مداهمة أعراض المرض الذي نهشه في زنزانته ولازمه سنوات ما بعد خروجه، وانتهى بشلل رعاش، فاضطررنا إلى الانتقال إلى النجع مع أثاثنا العتيق والسرير النحاسي ذي الشخاليل في أعمدته الأربعة تاركين بلدتنا الصغيرة ليقيم بجوار الأطباء، لكني كنتُ شاهدة في مرحلة من طفولتي على قيامه بكتابة خطبة الجمعة للخطباء الذين توالوا على جامع المحطة. وقيامه بقراءة القرآن على رءوس المرضى الذين يأتون خصيصًا له من أماكن شتى، أتذكر أيضًا كتابته بعض الآيات على طبق يسكب المريض فيه فور انتهاء أبي بعض الماء، فتذوب الكلمات تدريجيًّا وتتحول إلى شعيرات حبرية عائمة، ليشربها داعيًا لأبي بطول العمر. فكرتُ كثيرًا أن أكتب رواية ألصق كل أحداثها المختلقة بالنصف الغامض من شخصية أبي، لكن ضيق الوقت وقلة المراجع جعلا الأمر صعبًا ومتروكًا لوقت آخر أصبح فيه على أهبة الاستعداد.
عند باب المستشفى يوقفنا الأمن، فيُخرج يوسف بطاقته الشخصية. لن أتركك الآن، مازال أمامنا بعض الوقت، ننهي فيه إجراءات دخولك إلى المستشفى. الممر طويل ومظلل بالأشجار. لم ألحظ أن قامتك أطول من قامتي إلا الآن. نسترشد بالعلامات التي تؤدي إلى قسم جراحات المخ والأعصاب. لا تقلق من المسمى، اعتبره "قسم السكيت بورد" أو "رياضة الغطس" التي تحبها. سيكون كل شيء جيدًا. سنرجع البيت قبل حلول شهر رمضان. لن أسمح لأيٍّ من أخويك بتعليق فروع المصابيح الصغيرة في البلكونة احتفالاً بحلول شهر الصوم؛ أنت من سيفعل هذا كعادتك.ينزوي أبوك في ركن ولا يتحرك معنا لإنهاء الأوراق. يترك المهمة لي ولخالك كعادته في التخلي عن كل مهامه. نلتقي بمرضى كثيرين، يستلقي بعضهم على الكراسي المرصوصة في صالات الانتظار. ينام البعض الآخر على الأرض وفي الأركان،ويقف من لم يجد مكانًا. يبدل ارتكاز جسمه من ساق إلى ساق. هل يصدمك منظرهم يا زياد؟ لا تقلق. لن تقف مثلهم. لا يصيبني القلق كما قلت لك سابقًا. لا يرتجف قلبي. هناك خطأ ما. نحن ندخل مستشفًى مميزًا. لا ينسى العاملون فيه آدمية المريض. حتمًا ثمة خطأ ما. لدينا تأشيرة من الدكتور أشرف، ربما تعاملوا معنا بخلاف تعاملهم مع الآخرين. آه، انظر: هذا القسم للعلاج المجاني،لكننا سندفع فاتورة العلاج كاملة؛ خدمة خمس نجوم، لا يقف مريض يعالج بهذه الطريقة. أبوك لا ينطق بحرف، ربما ابتلع لسانه دون قصد! نعم يا بني، لم أنس سؤالك. تريد أن تعرف أسباب قبولي الزواج بأبيك. سأقص لك الآن. فقط سأذهب هنا وهناك أثناء الحكي. ابقَ جالسًا هنا، سيصلك كلامي كله. لن يستمر ازدحام المرضى حولك،سينفض الجمع بعد قليل.
استطاعت أمي كزوجة بحراوية أن تصبح محط أنظار سيدات البلدة، وجدت فيهن آذانًا صاغية لكل ما تحكيه دون مراجعة، فهن لا يعرفن عن القاهرة شيئًا، وأمها التي زارتها في بيتها عدة مرات قبل أن يعود جدي مصطحبًا إياها إلى القاهرة، رحلت، وتركت ابنتها التي لم تحنكها التجارب أمانة في عنق العمات الباقيات في ظلال الدرب الضيق. كانت أكثرهن بياضًا، ساقاها ملفوفتان وللغتها لكنة أهل القاهرة، ولأنها دخلت في منافسة مع الفتيات اللاتي تزوَّجن في التوقيت نفسه، ودخلت أيضًا في مقارنة بينها وبين زوجة أبي المتوفاة، لم تدخر وسعًا في تعلم عجن الدقيق وتقريصه ليختمر في الشمس، وحلب الجاموسة وعزل القشدة وعمل الجبن، إضافة إلى ترتيب بيت عريض، وتربية الدجاج على الفائض من الطعام، وإطعام الحمام وسقايته بفمها، كما لم تدخر وسعًا في الحبل والإنجاب، بعد عام بالتمام أنجبت حسين، وبعد عام آخر أنجبت عبير، وتوالت الولادات التي لم تُبقِ يدُ القدَر على أيٍّ منها، حتى جاء يوسف، قبل ولادتي بخمس سنوات كاملة، أنجبت أمي في أثنائها ابنًا مات متأثرًا بالتيفود الذي انتشر في القرى كالنار في القش، ثم أنجبت بنتين ماتتا فقط- كما قالت- لأن الله أراد ذلك.
بعد إقامتنا في النجع بقليل، انخرطت في محيطها الجديد. بعد أن حضرت جارتنا في الأسبوع الأول بحجة الترحيب بوجودنا، ولم يفتها تفقد كل شيء بنظرة أفقدت أمي تريثها، بدأتها بنظرة قرف إلى الكنبات الثلاث العاريات من الكسوة، ثم انسحبت نظرتها إلى المطبخ الخالي إلاَّ من ترابيزة جريدية بدورين أهدتها العمة رتيبة لأمي قبل رحيلنا، تحتوي في الدور الأسفل على سحارة لحفظ الجبن القريش بعيدًا عن الذباب، ثم استطالت نظرة الجارة عندما وقع بصرها على السرير النحاسي. تعالى صوت أمي في وجهها وقالت: "شرفتي ونورتي". لم تكن تقصد بعبارتها سوى إنهاء الزيارة قبل أن تنفقع مرارتها، وكما حاولت أمي أن تحتل المقعد الأول بتفوقها على جيرانها في البلدة، سارعت إلى المقاعد الأولى في النجع بالحماسة نفسها. افتعلت مشاجرة صغيرة مع أبي للحصول على مبلغ من مكافأة إحالته للتقاعد. بدأت بإصرارها على خمسين جنيهًا. علا صوتها في محاولة منها لحسم الأمر، لكنَّ أبي لا يقبل بالخضوع تجنبًا لصوتها العالي، هكذا قال، وأكمل بلغة عامية لا ينطق بها إلا عند الشجار:
"ورحمة أمي ما هتاخدي مليم أحمر".
هكذا حُسم الشجار الأول لهما في الشقة، لكنها استطاعت أن تحصل على كل ما أرادت وأكثر بعد يومين، لأنها أعدت له عشاءً خاصًّا من البيض المقلي مع فصوص العجوة، وجلست جواره باشة، ثم كررت الطلب.
كانت جارتنا زوجة لابن عمِّها المفتش الزراعي. سلمه العمل موتوسيكلاً جديدًا ماركة "ياماها" ليتنقل كل صباح ويتأكد أن الحشرة القشرية لم تصب أراضي الإصلاح الزراعي المزروعة بالقصب، وأن الخضراوات نضجت بما فيه الكفاية لتتعاقد الإدارة مع التجار على بيعها. كان يقيم احتفالاً كل عصر لغسل الموتوسيكل. تنزل بناته الثلاث مرتديات الشورتات القصيرة والبلوزات الخفيفة للمساعدة، ويمزحن بصوت عالٍ حتى ينظر جميع الجيران إليهن، أما ابنهما الوحيد فكان في هيئة مخنثة، لا يكف عن وضع إصبعه في أنفه، ويخرجهبـ"بربور" لزج ويجري يريد تلويثنا به. قالت جارتنا إنهم من طنطا، لكن الأسر لا تبقى في مكان. صنفتها أمي بعبارة واحدة "ست كليشنكان". ارتاحت بهذا التصنيف. كانت بيضاء ممتلئة، تصبغ شعرَها كل شهر باللونِ الأحمر، فكان يبدو كعرف الديك وقت هياجه.على الرغم من تحفظاتِ أمي عليها نَمَت بينهما مودة كانت كالإيمان تزداد وتقل حسب الظروف، في كثير من الأوقات تشاجرتا على أشياء تافهة كتقسيم السطح وبناء كل منهما عشة للفراخ. استيقظت أمي كما اتفقتا للبدء في التخطيط والبناء، فوجدت زوجها سبقهما وبنى جدارًا قسم به السطح إلى قسمين، قسم كبير والآخر صغير، وقال بمجرد أن رأى أمي:
"المكان دا كوووولوه بتاعنا"
ثم أشار إلى باقي السطح وقال: "والمكان داا بتاعكم". لم تصدق أمي أنه فعل هذا دون أن يخبر زوجته، لكن أوان التراجع عن الشجار كان قد فات. اعتدنا فيما بعد على حالة الصلح والخصام تلك، إذا جاءت الجارة لتفطر عندنا وتطلب من زوجها أن يشتري الخضراوات الرخيصة لأمي من المزارعين فهما سمن على عسل، وإذا أغُلق البابان وبدا كل شيء هادئًا فهما في دور الخصام.
لم تمنعني مخاوفي وبعض تحكمات أمي من الاستمتاع بطفولتي. كل ما كانت تقوله أنساه بمجرد خروجي. كانت تحذرني من الرجال الخبيثين الذين يعشقون لحم الفتيات الصغيرات، ومن اختطاف الصغار وذبحهم لأن دمهم يساعد في اكتشاف الزئبق الأحمر في مقابر الفراعنة، ومن الهدايا التي تلقي بها الطائرات الإسرائيلية من أقلام ملونة وبرايات ولعب ليست سوى قنابل صغيرة تنفجر في يد من يمسكها.كنا بمجرد وجودنا في الشارع نكوِّن مجموعات ونبحث عن هذه الهدايا، لكنني لم أجد أيًّا منها. حتى الخنادق الضيقة المحفورة عند مدخل شارع 30 مارس لم تُخفني، نزلت درجاتها وفوجئت في أحدها بمدخل يؤدي إلى غرفة مغلق بابها بقفل كبير، وظلت باقية بعد عبور جيوشنا كما هي، كأنها لم تعرف شيئًا عن نصر أكتوبر.
هكذا حللتُ كل مشكلات نقص اللعب بجعل كل ما تقع عليه يدي صالحًا للعب، حتى البلاط المكسر جمعته من حول مدرسة الكلاب البوليسية الواقعة عمارتنا أمامها. كانت بناءً عجيبًا، يحيط به رصيف ذونقوشبارزة، من الداخل قُسّم إلى غرف صغيرة لكل منها باب ومربط حديدي متين. انتظرنا كثيرًا اليوم الذي سيأتون فيه بجيش من الكلاب البوليسية لبدء التدريب، وتحسّب بعض الجيران بأن وضعوا قضبانًا على نوافذهم خشية مهاجمة أحد الكلاب أولاده، لكنها ظلت مهجورة، ومع الوقتبدأت جدرانها في التشقق. قال أبي إنها أحد إنجازات ثورة يوليو التي لم تخرج إلى النور، ولم أفهم ما علاقة الثورة بالكلاب.الأهم أنها كانت مرتعًا خصبًا للعبي مع أبناء الجيران، خاصة إذا طفحت المجاري في بعض الأيام ولم تقم سيارات مجلس المدينة بتفريغ البالوعات سريعًا، وجفت بعد أيام تاركةً لنا سجادة من العشب الأخضر، المليء بكل أنواع الحشرات والديدان. كانت لنا بين المباني مخابئ لا يعرفها أحد سوانا. نجمع أغطية زجاجات الكولا وصفائح السمن الفارغة وصناديق السجائر والمشابك التي تسقط من البلكونات، وكل ما تقع عليه أيدينا،نرصه في كرتونة لاستخدامها في وقت لاحق.
ثم بدأ أخي يوسفينضم إليّ في اللعب. كان هذا قبل دخوله مدرسة السادات الثانوية بقليل،وكنتُ في الصف الرابع الابتدائي. إذا استيقظتْ أمي بمزاج عصبي ومنعتني من الخروج يجد لي عشر ألعاب على الأقل تلهيني. ما كان عليه في إحدى هذه المرات إلا أن يجلب صندوق الحذاء الذي اشتراه أبي من "باتا" ويصنع منه ثلاجة صغيرة بقليل من القص هنا واللصق هناك. يرسم موتورًا من الخلف بالقلم الرصاص، ثم يضع فيه كوبًا من الماء لمدة نصف ساعة. ضحك أبي وأخبرني أنه يخدعني، لكن أحدًا لم يكن قادرًا وقتذاك على إقناعي بهذا. أعطاني يوسف الكوب لأشربه وسألني: "الميهساقعة؟". قلت: "أيوة ساقعة". ضحكت أمي وتندَّرَت بغبائي. اندهشتُ مما قالته، لأنه ببساطة كانت المياه مثلجة. مذّاك التوقيت أصبح يوسف الشريك الأقرب في ذكرياتي وتكوين مفاهيمي. صدقته في كل ما قال، وعندما أخبرني أن تشابه الصينيين يرجع إلى رجفة الرعب التي انتابتهم فور سقوط قنبلتي هيروشيما ونجازاكي صدقته، ولم أجد سببًا مقنعًا أكثر منه. كنتُ أضحك بشدة كل مرة فيما بعد، لأني اكتشفتُ أن القنبلتين لم تقعا على الصين. إلى أن قرر فجأة أن يسافر مع أصدقائه للعمل في العراق، بعد عامين كاملين ملأنا فيهما المكان ضجيجًا حد إزعاج الجيران.
لم أحك عن أبيك يا زياد. ألم أقل لك؟ للذكرى منطقها العجيب، دعنا من هذا كله. غرفتك في دور علوي. تستطيع أن ترى نيل القاهرة من الشرفة. مكيفها يصدر أزيزًا عاليًا فقط. لا تقل إن نظرات عينيك حزينة! سأكون هنا في الصباح الباكر. ستنام الآن ولن تشعر بغيابي. قالوا إن تجهيز العملية لا يتضمن حلق الشعر،مجرد بقعة صغيرة في مقدمة الرأس. سنختلق الحيل بعد الجراحة لإخفائها. تستطيع أن ترتدي طاقية. لن يجد فيها أصدقاؤك سوى موضة يقلدونها، وسينمو الشعر أسرع مما تتخيل.الممرضة المكلفة بك جميلة، لمحتها في الكريدورأثناء تفقدي الغرفة،لها ساقان ملفوفتان وخصر جميل. أعرف أنك ستلحظ جمالها بنفسك. لا تترك أباك يسحب البطانية ليلاً كعادته. ضع طرفها أسفل جسمك. إذا حاول سحبها ستستيقظ في الحال. سيمر الوقت كما قلت لك. ستعتبر في وقت لاحق كل ما يمر بك الآن ماضيًا، حتى إذا احتوى على منغصات، ثق في كلامي. الآن، مقارنةً بما حدث لي في بداية حياتي مع أبيك، أرى أنه شيء طيب، عكس ما كنتُ أراه وقتذاك. ثق أن الماضي يُضفي على الأحداث التي مرت بنا حميمية وألفة، تصبح كائنًا أبيض بوبر ناعم، ككلب مخلص، وقد نستعين بتذكره على ما يلم بنا في الحاضر، وما يخبئه لنا المستقبل.
الطريق إلى مدينة 6 أكتوبر مزدحم، القاهرة في هذا التوقيت مثل خلية نحل تنغل بالحركة، السيارات تتخبط في الطرقات، أتركك خلفي يا زياد لكن روحي معك. أراك تضطجع على السرير بعيني خيالي. لا تبهرني المباني الشاهقة على جانبي الطريق. كل شيء يمر خارج النافذة، لا ينعكس عليها من الداخل سوى هواجسي. يوسف يحاول جرِّي إلى أي حديث، يستشيرني عما أريد من طعام على العشاء. ليشتريه قبل العودة إلى البيت. أشعر بامتنان له، جاء من الغردقة خصيصًا ليكون جواري. ترك مؤخرات السائحات تهلل لأشعة الشمس.مازال الأقرب إلى روحي على الرغم من المسافة، وما وقع بيننا في السابق من مشكلات. أي خطأ في العملية سيخلف أثرًا يا زياد، إذا لم يصبك بعاهة مستديمة سيقتلك. كيف يستطيع طبيب المخ والأعصاب المجازفة كل مرة يهم فيها بإجراء جراحة دقيقة؟ كيف تكون حالته، وإحساسه بعد نجاحها أو إخفاقها؟ ترى من ذلك الشخص الذي شبَّه أصابع الجراح بأصابع الموسيقي!.
أعود إلى ذكرياتي، كي أتلهى عن غيابك، دعني أحكِ لك عن أبيك أشياء لا تعرفها، حدثت قبل مولدك بأعوام كثيرة. اختلاف صورة أبيك التي تعرفها عما سأقصه عليك الآن سيجعل الاندهاش يغزوك، كما حدث معي منذ سنوات. لا بأس.. ولد أبوك عام 1950 في الوقت الذي كان إضراب عمال مصنع السكر في نجع حمادي يدخل يومه الخامس مضيفين بند حقهم في صرف غلاء معيشة إلى جانب مطلبهم السابق في حقهم في زيادة الحد الأدنى للأجور إلى عشرة قروش، لكن الحدث الأبرز وقت وصوله فكان خروج أهل بلدته لرؤية الكائن الغريب الذي مات فور ولادته بعد أن أنجبته "حمارة" مملوكة لأحد المزارعين، كان الكائن برأس حمار وجسم إنسان، لذا شك الجميع إن لم يكن هذا الكائن نذيرًا باقتراب يوم القيامة فمن المؤكد أن صاحب "الحمارة" ضاجعها في بعض الليالي. كانت القرية التي عاش فيها أربعين عامًا قبل أن ينتقل بزواجه بي إلى النجع مطلة على النهر. تميزت منذ وقت لا يعرفه أهلها بزراعة المانجو، أشجار تغطي معظم مساحات الأرض التي يملكونها. لم يكن هناك أسوار تفصل بين جنينة وأخرى حين كان مالكو الأرض أفرادًا قليلين، بل كانوا يستمتعون بأنها أراض ممتدة لا فاصل بينها، مع بقاء الاحترام المتبادل للحدود الوهمية التي يعرفها بدقة كل فرد عن حيازته.
كان أحمد الابن الأخير لأسرته. أنجبته أمه بعد أربع بنات وثلاثة ذكور. تخرَّج أخوه الأكبر محمد في كلية المعلمين بقنا وعمل مدرسًا لمادة الرياضيات، في الوقت الذي كان فيه أبوه يبحث عمن يساعد أحمد في شرح هذه المادة ليجتازامتحان الإعدادية دون ملحق، ينكد على الأسرة صفو الإجازات. لم يفكر في اللجوء إلى ابنه ليحل له هذا الإشكال، فأحمد لم يكن يصبر على تلقي الشرح منه، يتسرب كالزئبق من بين يديه إلى أماكن لعبه بعيدًا، بينما المعلومات لم تفارق الكتاب بعد. لم يكن مدللاً من أبيه وأمه لأنه الأخير فحسب، لكن إصراره على تقبيل كل منهما صباحًا ومساءً ومسامرته لهما في كل الأشياء العادية التي حدثت طيلة اليوم، ومناكفة أمه أثناء انشغالها في أعمال البيت دفعهما لتدليله. من السهل الحكم على هذه التصرفات بأنها سهلة، وأن بعضًا من إخوته كان من الممكن أن يفعلها بسهولة، ليصبح في مكانته الأثيرة عند أبويه، لكن أحدًا من إخوته لم يستطع المواظبة على القيام بها، واعترفوا له في النهاية بأن قدرته على فعل هذا لا ترجع إلاَّ إلى طبيعةٍ منحه الله إياها، وكنتيجة للعلاقة بينه وبين أبويْهِ تغافلا عما يُسببه لهما من مشكلات مع أصحابه إذا خرج للعب أو ذهب لمشاهدة مباراة بين فريق قريته وفريق القرية المجاورة، بمجرد دخولِهِ خافضَ الرأس يقول له أبوه:
"إيه هيَّا الحاجَة اللي مخبِّيها وجاي تقول غيرها؟".
فيخر باعترافه كاملاً؛ مرة اعترف أنه جدع أنف ابن الجيران، ومرة كسر شجرة أثناء تسلقه لها، كان من الممكن أن تأتي بثمار وافرة، ومرة كاد يُغرق ابن خاله في الترعة وهما يمزحان أثناء العوم. لا يعنفه أبوه مطلقًا، بل ينتهي الأمر دومًا كأن شيئًا لم يكن. يتلاشى غضب أبيه لأن أحمد انفرد بطريقة ثابتة في تلقي العقاب، يقول كلما واجهه إنه مخطئ وسيتحمل العقاب كله، ولا يعد بتغيير نفسه لأن التغيير أقوى منه. إزاء اعترافه بالخطأ وضعفه أمام التغيير ينسى الأب ما حدث وتسير كل الأمور كما كانت من قبل. حتى في المدرسة لم يخلُ الأمر من منغصات، كان المعلمون يأتون إلى أبيه حاملين الشهادة التي لا تدل سوى على الاستهتار. أما طريقته في معاملة المدرسين فكان من الممكن التغاضي عنها إكرامًا لأبيه، فمدرسو المدرسة أقرباء من ناحية الأم أو الأب، وإن لم تكن هناك درجة قرابة واضحة فمن الممكن اختلاقها أثناء الجلسة لتصبح الشكوى كما لو كانت رصاصة أطلقت في الاتجاه الخاطئ، وعليهم تحمله بصبر لا ضفاف له. يرحل الشاكي غير مَعْنِيٍّ بأثر التدليل على شخصيته في المستقبل. الأهم أنه أدَّى رسالته في التبليغ وانتهى الأمر. حتى وصل أحمد إلى مكانة لم يصل إليها أيٌّ من إخوته، لذا أدرك إخوته أنه كي يستطيع أي منهم الحصول على شيء ما من والديه، عليه أولاً أن يكسب رضاءه، بالتملق والتدليل، ثم يتخذه سبيلاً لتحقيق غرضه، بأن يتحدث معه بصفته القادر الوحيد على إقناع أبيه. لم يكن الأمر خبلاً منه بقدر ما كان استغلالاً متبادلاً للموقف من الطرفين، مادام أحمد سيصبح سيد الموقف. لقد خُلق كما كان يعتقد لأن يكون في مكان الصدارة، حتى إذا ترتب على هذا الأمر خسارته في بعض الأحيان.
وصل إلى سن السادسة عشرة بعد أن عرف كل شيء عن طرق تطعيم شجر المانجو بفروع من شجر آخر أكثر عطاء وجودة، بعمل حفر غائر في ساق الشجرة الأم كأنه جرح سيندمل في القريب، كان يدس الغصن الجديد في الحفرة برقة التعامل مع فتاة عذراء بالضبط، ويلفه لتثبيته بكيس بلاستيكي أو بقماش قديم، مَزَّقَ- لأجل الحصول عليه- أحد قمصانه، أو بتغطية مكان التطعيم بقطعة من ليف النخيل. إذا لم يجد أيًّا منها استبدل بها قطعة من القطن وأحاطها بشاش أبيض يشتريه من الصيدلية، كأنها عملية جراحية يجب أن تكلل بالنجاح، بعد حين يجد الغصن الغريب التحم بساق الشجرة ونبتت عليه أنسجة جديدة. مع دخول الدفء أول الربيع يصبح الغصن البض فرعًا عفيًّا يتلمس طريقه إلى الأعالي، وقد يطرح ثمارًا من النوع الأكثر جودة بعد عامين، وقتذاك يبدأ في قطع الفروع القديمة التي لا تنتج سوى ثمارمانجو رديئة لا تباع إلا بثمن بخس، وكما عرف طريقة التطعيم مبكرًا قبل أن يصبح تطعيم شجر المانجو في البلدة أمرًا عاديًّا، عرف كيف يحل أزمة شح الأيدي العاملة المدربة جيدًا على كسر القصب وتهذيبه، ليصبح جاهزًا للتحميل على عربة القصب ليذهب إلى المصنع. فُتح الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يحصل على القالوح لإطعام البهائم بالمجان. ليس عليهم سوى أن يكسروا الجزء الذي تتغذَّى عليه الحيوانات بأنفسهم وترك العيدان بدونه في كومة يتولى هو وإخوته بأنفسهم جمعها وترتيبها في العربة. سارع الفلاحون للمشاركة، بل راجعوا بأنفسهم جدول الشركة ليعرفوا موعد تخصيص عربات فارغة لتـحمل القصب المكسور من أرضهم. كانت نظرات الإعجاب تحوطه من أبيه وإخوته، يصبح ما قام به محور حديثهم وحديث أهل البلدة في حلقات السمر التي كانت تتجمع في عدة أماكن لعدة أمسيات. وهو نجاح كان من الممكن أن يدفعه لمزيد من الابتكارات، لكنه كعادته التي بدأت في سن مبكرة ولم تفارقه طوال حياته، ينصرف عن الشيء ويفقد حماسه الكامل به بمجرد إتقانه له وتجربته مرة أو اثنتين فقط.
إلى جانب فتوحاته مَرَّ بفترة النزق، امتدت من سن الحادية عشرة إلى سن السادسة عشرة. بدأ المرحلة بصيد الخفافيش الليلية من مدخنة ماكينة الري القديمة في الركن المهجور بالقرية. يصيدها وهي معلقة نفسها في عصوات المدخنة الداخلية نهارًا، ويتلذذ في ذبحها وتشريح جسمها كما فعل مدرس العلوم، كما اعتقل عشرات السحالي والجرذان داخل برطمانات كان يجدها ملقاة بجوار الجمعية الزراعية، واستطاع أن يعبر النهر في عدة مسابقات عائمًا إلى جزيرة طرح البحر، التي تظهر كلما انخفضت المياه قبل الفيضان، ويتسلق أعلى أشجار المانجو كي يصل إلى ثمرة في فرعها الأخير، يأكلها دون استخدام يديه. يظل متشبثًا بالفرع بينما فمه يلتهمها وتسيل عصارتها لتبلل جلبابه ومَنْ وقف يراقب المشهد من الصبية أسفل الشجرة، عندما ينتهي منها يتركها معلَّقة من الزر وما يربطها بالبذرة من أنسجة. يرتفع تصفيق أصدقائه من حوله. تَعَرّفَ على كل وسائل التسلية التي كانت متاحة آنذاك، واستطاع أن يصنع صنارة من الغاب أو شبكة يصيد بها الأسماك الكبيرة من الترعة التي تشق البلد نصفين، كما استطاع أن يستخدم غربال هز القمح في صيد العصافير، يوقفه على إطاره الخشبي ويربطه بحبل طويل، يضع أمامه حبوب الذرة والقمح، يطمئن إلى أن كل شيء في مكانه الصحيح ويبتعد مختفيًا، إلى أن تتجمع العصافير أمام الغربال بالتمام لالتقاط الحب، عندها يتحرك بهدوء شديد، يشد طرف الحبل الذي يمسكه فيسقط الغربال ليصيد عدة عصافير.
ثم توقَّف عن هذه التصرفات بشكل مفاجئ، عندما كان يعبر قبل منتصف الليل على بيت جارهم، في طريق عودته بعد انتهاء جمع الأصحاب عند الجسر. على الرغم من انشغاله بما سيلاقيه من تقريع أبيه ككل مرة يتأخر فيها. سمع بالصدفة صوت غنج زوجة جارهم يعلو فاعتقد أنه يضربها، فما كان منه إلا أن أصاخ السمع. لم يقده هذا التصرف إلا إلى نافذة البيت، وفي الوقت الذي مارس فيه الجار الجنس مع زوجته بطمأنينة من لا يتلصص عليه أحد، كان أحمد يرصد كل حركة يقومان بها، بعدها تحرّج من الوقوف في الشارع لمراقبة ما يدور كل ليلة داخل الغرفة، فبحث لنفسه عن مكان فوق السطح لا يصله إلا بالصعود على سطح بيتهم ثم النزول بحذر إلى سطح جارهم. كانت أوضاعهما تختلف كل مرة، رآهما نائمين على بعضهما في التحام لم يعرف معه أين ينتهي الجسم اللين وأين يبدأ الجسم الخشن، يتماوجان بوتيرة هادئة تشتد ويرتفع معها أنين المرأة بعد حين، ورآهما والمرأة تشلح قميصها فتبدو مؤخرتُها الضخمة في مواجهة المكان الذي تنثني فيه شيكارة ملح اليوريا، التي سد بها جارهم خرق الباب. تميل المرأة حتى تركع. كلما مالت اتخذت مؤخرتها وضعًا أكثر وضوحًا، ثم يأتي زوجها ليسد عليه الرؤيا تمامًا بالوقوف خلفها وإعطائه ظهره. لم يؤثر ما رآه إلا على معرفته وظيفة العضو المستكين بين فخذيه، فبخلاف التبوُّل لم يكن يعرف له وظيفة أخرى، وكان سعيدًا باكتشافه الذي نقله إلى أصحابه. بعد ذلك، عندما كانت هذه الرؤى وحدها ما يُؤجج عقله، كان يستدعيها بخفة ويشتعل جسمه فلا يجد سوى حركات الرجل نفسها لتنقذه من هذا الطوفان. مع طي مساحات الخجل بين أصدقائه استعرض كل منهم قضيبه أمام الباقين في طقس احتفالي اتَّسم بالسرية خشية عقاب الأهل. يقف كل صديق رافعًا جلبابه في مباهاة وسائلاً أحمد: "الجن دا يشبه بتاع جاركم؟". يأتي جوابه مخيبًا لآماله. كلما قال: "لا". يعود الولد إلى ستر نفسه وإسدال الجلباب، ليستعرض صديق آخر "بتاعه" كما أطلقوا عليه آنذاك. كان من نتيجة الاحتفالات أن أحصى كل منهم مميزات ذكره وعيوبه بمقارنته بالآخرين، لذا تباهَى بعضُهم بطول وسُمك الذكر، وتباهى آخرون بنمو شعر العانة أكثر من غيره، ومع الوقت عرفوا أن الانتصاب لا يحدث بوجود امرأة فقط، وإنما بمداعبته والنظر إليه وتخيل القصص وحكِّه أحيانًا بأي شيء.
نصل إلى الحي الذي يقطنه يوسف. نصعد الدرج. الضوء خافت. صوت أقدامنا يسري في السكون، ورائحة حياة منسية في الشقة. يتركني يوسف، لابد أن نستريح كلانا.أتذكر الآن، ما قاله الدكتور أشرف، سيستخدم جهاز جراحات المخ ثلاثية الأبعاد. أحاول تخيل شكل الجهاز فلا تسعفني مخيلتي بأي شيء. الحذاء أدمى قدميَّ.ما إن تنفستا حرية حتى شعرت بألمهما. أتناول تفاحة ثم أقرر النوم،أريد طي الوقت، لكن النوم لا يأتي بقرار! بقيت أتأمل شكل أثاث الغرفة في الظلام. تعالت طلقات نارية متوالية، كان الليل ينتصف. أستيقظ من حلم مشوش. هل نمت؟ أتوجه إلى النافذة. كل شيء على ما يرام: الظلام الأليف يغلف المكان،البنايات نائمة في أماكنها، والقطط تعربد بين أكياس الزبالة المكوَّمة جانب الطريق. أتناسى أمر الطلقات وأعود إلى اللاب توب الخاص بـأخي يوسف، أستجلي ما استغلق عليّ عن طبيعة الجهاز الذي سوف يُستخدم في الجراحة، ومدى أمان العملية. أكتب في البداية اسم الجهاز،أحاول التوصل بقراءة الموضوع إلى الإجابة عن سؤالي:
"كيف سيتم استئصال كيس المياه في جذع المخ؟".
أضغط دوبل كليك على العنوان فتنفرد صفحات أختار أولها وأقرأ المطلع:
"معزيادة حجم الورم تنشأ أعراض أخرى مثل فقد القدرة على الاتزان بسبب زيادةالضغط على جذع المخ، وحيث إن المنطقة المحيطة بجذع المخ حساسة للغاية وتحتويعلى الأعصاب التي تتحكم في كل وظائف المخ، فإن خطورة وحساسية موقع الورم تجعل الجراحة بجهاز جراحات المخ الدقيقة العميقة الموجه بالكمبيوتر هي البديل الوحيد لتحديد نوع هذا الورم".
يصيبني سأم. هل ما تعانيه ورم؟ أم يُستخدم الجهاز مع كل الأجسام الدخيلة على الدماغ؟ لا أجد الإجابة. أشعر أني أقرأ إعلانًا عن جهاز نزع الشعر الزائد بدون ألم. أحرك الماوس إلى آخر الصفحة وأقرأ مجددًا هذه الفقرة:
"ومن خلال متابعة النتائج اتضح أن 85%من المرضى يتخلصون من الألم بعد سنة".
أغلق الصفحة وتتساقط دموعي. لن يكتبواسوى هذه العبارات للترويج للمستشفى والجهاز. لا أملك سوى التصديق يا زياد، سأصدق كل ما سيقولونه: الطبيب وإخوتي وموظف الخزينة وعاملة النظافة في المستشفى. سأصدق أن الجهاز هو الحل السحري الذي سيقضي على مرضك أو يُقلصه. أذهب إلى الحمَّام وأتوضأ، أفرش سجادة الصلاة. يغلبني البكاء أثناء الصلاة فأنسى كيف تُقرأ الفاتحة. استبدل بها دعاءً متواصلاً أن ينتهي هذا الكابوس، وأتذكر مقولة لا أذكر لمن: "الدعاء هو الإيمان".أترك السجادة مفرودة، رسالة مبطنة تشي بأنني ممن يحرصون على قيام الليل والدعاء، حتى إذا كانت تحت الظروف الطارئة فقط، وأن ابني أصيب لأن المؤمن مبتلى. ستقول سجادة الصلاة المفرودة لأخي كل شيء، لأبقى على الكرسي أحاصر الليل لينصرم قبل ميعاده.
ترى أية عين حسود أصابتك؟ كان جسمك فارعًا بالمقارنة بأقرانك وبالنسبة لسنك الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة بقليل، لم يتفوَّق عليك سوى زميلك حسام المشهور بسرقة ساندويتشات الطلاب. اجتزت امتحان الصف الإعدادي بدرجات النجاح الصغرى، لكنها لم تكن قليلة بالنسبة لما وهبته من وقت للاستذكار. تتعجل المستقبل بالآمال العريضة، وتصر كلما سخرتُ منك وعنفتك أن بلطجي النجع "حمام الكموني" مثال يجب أن تحتذي به، وتخطط أن تصبح صديقًا لألف فتاة على الفيس بوك. سأقص عروسة بعد رجوعنا للبيت وأخزي بها عين الشيطان، سأذكر كل من رآك ولم يصلِّ على النبي. لا تتهمني بالخبل يا زياد، فقأتْ أمي عين أم سامح وأم أمل وزوجة عبد الحميد ومنى الهبلة زوجة فاروق جارنا عندما كان أخي الأصغر شادي مريضًا. بعد شهرين بالتمام تعافى بعد أن فشل الأطباء في معرفة سبب التهاب كليتيه. أغمض عينيك عمَّا سأفعله، سأضع قطعة الصاج بعيدًا كي لا يُضايقك الدخان المتصاعد من الفحم المتجمر عليها، وسأضع بعضًا من بخور الصندل وفصوص المستكة ولبان الدكر. سأغرز الإبرة في العروسة. كل غرزة تستهدف عين كل من حسدك. إذا لم نربح الشفاء ربحنا الحلم به.كما حدد الدكتور أشرف، سيتم إجراء العملية في الحادية عشرة صباحًا. يجب أن أربت على كتفك قبل ذهابك، وأن أطهر المكان من الأرواح الشريرة بتلاوة سورة يس. ثق أنك ستخرج سليمًا، لا يهم أن يوقع أبوك على إقرار بتحمله النتيجة. التوقيع على مثل هذه الإقرارات مجرد روتين وشكليات. سيمر وقت إجراء الجراحة بعبور صور الذاكرة القديمة، التي تنفرد بي بمجرد صمتي.
في الوقت الذي كنا نزعج الجيران بضجيجنا في الشارع، وأمي منشغلة بتحضير الحليب لأخي الصغير شادي، الذي ودعنا بولادته بيتَنا في البلدة. كانت أختي عبير غارقة في الحب. تقف في بلكونة المطبخ مدعية إطعام الحمام، لتشاغل الشاب العازب المقيم في العمارة التي تواجهنا. تنتظر بملابس المدرسة خروجه للعمل في مصنع الألومنيوم وتعيد الكرّة عند عودته. في الوقت الذي كانت تعتقد عبير أن تصرفاتها سرّ كنا جميعًا نعرف. اتفقت معه على إشارات معينة يعرف منها ما تود قوله؛ إذا وضعت يدها لتتخلل شعرها الأسود فلا يعني هذا سوى أنها تحبه، وعندما تعلق المشابك في الحبال فهي بهذا تذوب فيهوتتمنى له السلامة. أتلصص على إشاراتها من شباك الحمام،وأنقل كل ما تفعله لأمي. أخبر عبير أثناء ذهابنا إلى المدرسة ما تنوي أمي القيام به لتعاقبها. تسألني: "هتعمل ايه يعني؟". فأقول بثقة: "هتقول لأخوكي حسين!". هكذا كنتُ أكفر عن وشايتي عنها بإخبارها عما ستفعله أمي. أقسم حسين في أول زيارة له، أنه لن يدخلها سوى معهدٍ في أسوان، حتى إذا تفوقت في الثانوية العامة، كي تكون في رعاية أخي عمر، الذي انتقل للعمل في شركة أتوبيس الوجه القبلي هناك، بعد أن ترك البلدة وقت انتقالنا إلى النجع.
لم يُمهلني جمال، الشاب العازب، لأكسب ودّ أمي بالتلصص على عبير، بمجرد اجتيازها امتحان الثانوية تقدم لخطبتها. انتظر انتهاء صلاة الجمعة واصطحب أبي وحسين في رحلة العودة. في المساء زارنا وجلب معه علبة حلوى مغلفة بسوليفان أحمر. جلس في غرفة الجلوس مع حسين حتى يقابله أبي. انحزتُ كليًّا إلى عبير ونقلتُ لها ما رأيتُ. أما أمي فظلت في المطبخ القريب من غرفة الجلوس تتسمع ما يقولونه. بعد خروجه اتجه أبي مباشرة إلى غرفتنا، التي لم يكن يدخلها إلا في المناسبات. كان حدثًا كبيرًا دخوله إليها، لم تستعد عبير له فظل لباسها معلقًا على عمود السرير، وفوطة العادة مبقعة بدم قديم لم تزله المياه ملقاة بين الدولاب والحائط، قال أبي لعبير جملة واحدة:
"مبروك.. جمال سيحضر أسرته لتخطبك".
أخي حسين لم يمنحها حريتها لتجلس مع جمال كلما جاء إلينا محملاً بالهدايا إلا عندما كانت توافق على تلبية طلبه. كان يتحجَّج بأن الخطبة لم تكتمل بعد، وأنه سيترك لها الحبل على الغارب لتجلس معه عندما تأتي أمه لزيارتنا، لذا لم يكن يتهاون معها إلا إذا حملت رسائل حبه إلى نادية ابنة صديق أبي، الذي نزح إلى النجع بعد أن منحته إدارة الإصلاح الزراعي بيتًا بحديقة نظير عمله كمفتش زراعي. ما إن تُسلم عبير الرسالة لنادية، حتى تأخذها وتجري لتقرأها في مكان آخر، فيما بعد عرف حسين أنها تتلقى رسائل من حيدر أيضًا، صديق أخيها، الذي يزورهم مرة كل أسبوع عند رجوعه من كلية الحقوق في أسيوط، وأن والدها وعده أن يزوجه إياها إذا استطاع أن يُدبِّر نفقة الزواج. ظل حسين طوال الأسبوع مهمومًا، لا يخرج من باب الشقة، حتى أخبره صديقه خيري ليهوِّن عليه، أنه تبادل معها الرسائل فترة، وقبَّلها في بعض الليالي التي سمح فيها أخوها أن يبيت عندهم. بمجرد خروج خيري استفرد بعبير في غرفتنا. سألها إن كان خيري قبَّلها من قبل. كان يبيت هنا في بعض الأحيان، وتركه يتحدث مع عبير أثناء إحضاره بعض الأشياء من الداخل، ثم تحول إلى شقيق نادية، وسألها الأسئلة نفسها. كان متوترًا. تذكر كيف غاب عن مراقبتها أثناء بقائه في أسيوط طيلة العام الدراسي. على الرغم من نفي عبير لكل ما اتهمها به، فإن خيري ومحمد لم يعودا لزيارتنا.
على صراخ أمي المدوِّي استيقظتُ. لم أفهم لماذا تصرخ، لكن عبير تكفَّلت بإخباري دون إلحاح: "أمك بتولد". عرفتُ أن سرة أمي ستفتح الآن مجددًا، كما أخبرتني عبير في السابق عن كيفية خروج شادي. أنجبت أمي الأخ العاشر، الذي اختارت له اسم هادي يوم السبوع. تمنيتُ لو كان بنتًا، لا لشيء سوى ليتعادل فريق البنات مع البنين في البيت. كنا حتى هذه اللحظة أقل منهم. لم أحسب حسابًا لإخوتي الآخرين في هذه المعادلة، مادامت مداركي تفتَّحت ولم أجد أيًّا منهم ليشاركني اللعب.
بعد ولادة هادي بأسبوع، استيقظنا على خبر مفجع. انقلب أتوبيس عمال الألومنيوم من الجبل أثناء نقله للعمال. صرخت عبير. أحست أن جمال مات على الرغم من أن أتوبيسات الألومنيوم تنقل صباحًا عشرات العمال من القرى البعيدة! لم يعد إلى شقته بعد أذان العصر. لم تنتظر عبير وارتدت ثوبًا أسود كانت أمي تدخره للجنازات، على الرغم من تعنيف الجميع لها، وظلت جالسة في البلكونة كأنها تنتظر عودته. كنتُ أودع الشارع وقتذاك بآخر ألعابي. أحوم مع الأولاد حول شقة جمال وأتخيله في الداخل بهيئة الميت. يمشي ويأكل ويشرب ويحب أختي عبير من وراء الشيش بهيئة الميت. نقترب من الباب فنجد قفلاً ضخمًا معلقًا والتراب يغطي العتبة، والعنكبوت ينسج بيوته الصغيرة المتصيدة الناموس بين فلقة الباب والحلق الخشبي، فلا يدل هذا إلا على عبوره برجل الميت التي لا تترك أثرًا على الأرض، حتى إذا ناداه "عزت ونيس" صديق طفولتي بصوت عال من الخارج نسمع صوت الميت الصامت يستفسر عمن ناداه.
حتى كان اليوم الذي زارتنا فيه أمه، كنتُ في الشارع كعادتي. توقفت سيارة "فيات" قديمة وأطلت منها سيدة سألتني عن "بيت الشاوري" فقلتُ إني ابنته، واصطحبتها مع اثنتين متدثرتين بـ"بردة" واحدة حتى باب الشقة، ثم تلصَّصتُ على ما قالته من مكان خفي قرب باب غرفة الجلوس. هكذا أرادت أم جمال، أن يتم كل شيء بسرعة. أعجبتها عبير على الرغم من هيئتها المبعثرة وشعرها المنكوش وقميصها الممزق، وقالت:
"جمال كان بيحبك يا بنيتي واحنا شاريينك".
بكت كثيرًا ومسحت بربور أنفها بمنديلها ثم أكملت:
"جمال مات لكن عصام عايش".
كانت إدارة مصنع الألومنيوم رحيمة عندما قبلت بتعيين عصام بديلاً عن أخيه المتوفى، وسكن مكانه في الشقة التي فتحت شبابيكها أخيرًا وتأكدنا وقت أن ساهمتُ في تنظيفها وسمحتُ للأولاد برؤيتها من الداخل، أن جمال لم يعد بها بهيئة الميت. وعلى الرغم من مجموع عبير الذي كان يؤهلها لدخول الجامعة، لم تختر سوى معهد فني تجاري في أسوان، ليس لأن حسين أصر على أن تكون تحت وصاية عمر ومراقبته، بل لأن فترة الدراسة في المعهد سنتان فقط، وبعدها لن يكون أمامها سوى الزواج الذي لا تريد سواه.
انظر يا زياد، هذه صورة احتفظتُ بها من حفلة زفاف عبير، كنتُ صغيرة كحبة البندق وسط المدعوين. انقلبتْ صينية أكواب الشربات على فستاني في الدقيقة الأولى من الفرح، وضمني أبي إلى صدره غير عابئ باتساخ جبته وقفطانه. كانت آخر صورة لي معه. لم يقم من سريره في العامين التاليين إلا للاستحمام. كانت أمي لا تجد سواي لأعاونها على نزع ملابسه. أراه عاريًا تمامًا، وأغمض عيني كي لا أرى عورته. أساعدها في سكب المياه لنزيل الصابون عن جسمه. لا أريد تذكر تلك المواقف، يؤلمني تذكر رؤيته عاريًا. لماذا لم يكن شابًّا فتيًّا يومًا؟ لماذا يصر الآباء على إنجاب أطفال صغار سيتركونهم وحيدين؟ ولماذا نحبهم على الرغم من عجزهم؟سامحني.. وقعتُ في الخطأ نفسه وتزوجتُ رجلاً يكبرني، لينجبك بعد أن أصبح هرمًا يجر مرضه. دعنا من هذا الحديث وانظر إلى أبي، يبدو باشًّا على الرغم من مرضه، وتبدو أمي في غير الهيئة التي تعرفها، صغيرة لها شعر أسود، تغطيه بطرحة من الشيفون. في الركن تظهر عبير بقامة نحيفة وبجوارها عصام، بشارب يلتف حول شفتيه وشعر مفروق من الجانب، بعد أن استبدل الموت بالعريس أخاه. وهذا يوسف، بشعره الطويل وتي شِرته البني، ونظرة عينيه الحالمة. حتمًا حسين كان في استقبال المدعوين، لأن أبي لم يكن يستطيع الوقوف، وهذان الوسيمان الصغيران شادي وهادي، خالاك يا زياد. كلنا قلقون عليك، ندعو الله أن يحفظك لنا.
آاه، حتى هذا التوقيت لم أكن أرسم خريطة لمستقبلي، كان الحاضر فقط هو ما يشغلني، لم أكن أتصور في صغري أن أكون هذه الشخصية المركبة التي لا تجد في أي شيء حولها ما يستحق التفاعل. أين مني هذه الفتاة الصغيرة الحالمة! أنا الآن عجوز شائخة في جسم امرأة تبدو معافاة وقوية. لم تكن لديَّ هموم سوى كيفية أن أبدو بنتًا مطيعةً. ترضى عنها أبلة عزيزة، لذا كنتُ أدَّعي الانتباه في الفصل، مُركزة عينيَّ حتى تصابا بحوَل طوال الحصة على المسمار المدقوق فوق السبورة، ذراعاي متصلبتان على صدري وشفتاي ممطوطتان، حتى أرى المسمارَ عشراتِ المسامير، وأدخل في دوَّامة من التخيل تنتهي بغفوة يوقظني بعدها جرس الفسحة. لم يكن همِّي سوى أن أكون بالنسبة لأمي بنتًا طيبة لا يشتكي الجيران منها لأنها تبصق في أوجُه أولادهم وتضربهم بالشلوت، لذلك كنتُ أسارع- بعد أن أفعل التصرفين- إلى استرضاء ابن الجيران قبل أن يعود ليشتكي إلى أبويه، حتى إذا لزم الأمر أن أعطيه مصروفي، أو كراسة الرسم التي اشتريتها. آااه يا زياد.. تأخذني أفكاري بعيدًا، أمسك بالأشعة المقطعية التي أوصى طبيب العيون برسمها في النجع فلا أستطيع فهم شيء. أستبدل بها أشعة الرنين المغناطيسي. أقلب الصفحات علَّني أصل إلى شيء لم يتنبَّه الأطباء إليه. أعود مجددًا إلى خيالاتي، فأراني داخل عتمة دماغك، أعبر من الفص الأمامي إلى جذع المخ. لا تقدم لي مخيلتي سوى تشبيهات أعرفها، فأرى جديلة مراكز الحس كجذع النخلة، وكيس المياهيتشبث به. كم يؤرقني صمتك يا زياد، ومحاولتك المزاح وقت إحراق الدموع المحتجزة لزاويتي عيني، كي تخفف عني، كأن المرض أصاب دماغي. كنتَ مستسلمًا لكل ما ننوي فعله. ترى هل أصابتك الصدمة بالجلد كما أصابتني! لم أكن أتخيل أن أتعامل مع الموقف بكل هذا الصمود، وكنتُ من قبل أنهار لأشياء أقل وطأة بكثير.
اليوم جمعة، هذا ما اكتشفته في الصباح. لا أعرف كيف سقط اليوم من تقويمي. أخبرني يوسف وهو يجهز الشاي في المطبخ. لكن للجمعة ميزة في المستشفيات، الزيارة متاحة حتى العصر. يصبرني يوسف بالمعلومة. سأكون عندك بعد قليل. سنستعد الآن للخروج. يأتيني صوتك عبر الهاتف"صباح الخير يا منى"،"صباح الخير يا حبيبي". الخير! دعاء عظيم نقوله لمن نلتقيه صباحًا دون أن نقصده تمامًا،مجرد اعتياد. لا أقصده بمعناه سوى الآن. أنتظر احتساء يوسف للشاي بضجر مكتوم، وفائض صبر. تتراءى لي وأنت جالس في غرفة المستشفى كشبل حبيس، مقيَّد الحركة. لم تعتد السكون، دائمًا تستمتع بتفاصيل الحياة في كل لحظة تمر بك. هل ستجد ما يشغلك في غرفة لا تتعدى الأمتار الأربعة؟ تتصل أمي من الغردقة للاطمئنان، أنا بخير، نمت جيدًا، سأقبل لك جبين زياد. تخبرني أنك اتصلت بها قبيل الفجر، توقظها للصلاة. جدتك تستيقظ عادة بمجرد أن ترن ساعتها البيولوجية! أعرف أنك كنت تريد أن تأنس لأحد ما، ربما تريد أن تستزيد من الشعور بأنك مركز الاهتمام.لا تعرف أنني لم أنم،ظللت طوال الليلة أهرب من الخيالات المشوشة، أسقط في غفوة وأستيقظ فزعة بعد قليل.
يقود يوسف السيارة باتجاه المستشفى. اليوم إجازة، والطريق هادئ، يشعل سيجارة، يعطيني إياها، أنشغل كعادتي في متابعة لوحات السيارات المعدنية. (س ح ب) حبس، (س ف ر) فرس- رفس. (أ ك ن) كان. كان كل شيء محتملاً قبل مرضك. الآن أكتشف هذه الحقيقة. أنتبه من خيالاتي على هبة هواء تطير زهرة السيجارة. "لا شيء يقلقني". يتعالى صوتي، فيربت يوسف على يدي، تعود يده لتقبض على مقود السيارة،ندور حول صينية ميدان جهينة. الحالة شائعة كما قال الطبيب. سنقطع طريق المحور الآن وعما قليل سنصل. ليس هناك أصعب من التدخين في سيارة مسرعة. تنتهي السيجارة قبل أن تحدث مفعولها. كانت السيجارة تستمر في يد أحمد ربع ساعة كاملة. لا تستمر دقيقتين في يد زميلي أستاذ الجيولوجيا في المدرسة. يدعي أنه يتحدث مع صديق له في الهاتف، لكن الطالبات يسمعن ضحكات أنثوية ماجنة. زادت أسعار السجائر بعد الثورة، لم يعد هناك رقابة على أي شيء. يقوم عمال الطوابين بضرب مفتشي التموين كلما حاول أي منهم ممارسة عمله. يغلق يوسف زجاج السيارة ويشغل المكيف، تشعرني هذه الحالة بالوجود داخل مكوك فضائي، على الرغم من أنني لم أركبه من قبل. حتمًا لن تمنح الحكومة مكوكًا فضائيًّا لكل مدرس إلا في الألفية الرابعة. وقتذاك سأكون شعاعًا كونيًّا يسبح في الفضاء. كل شيء بالخارج يتحرك كبانوراما صامتة. تبزغ من بعيد وتقترب بسرعة ثم تتفرق على الجانبين. يتلاشى كل ما أراه وأعود يا زياد.. سأقص لك الآن عن لحظة ولادتك.. هل تسمعني؟
أكمل زواجي سبع سنوات قبل وصولك إلى الحياة بشهرين صارخًا ككل الأطفال العاديين، جاءت لحظة ولادتك وقت عدم توقعي وصولك، هجرنا شقتنا وبقينا عند أمي وسط فرحة حبيبة وعبد الرحمن خمسة عشر يومًا انتظارًا لمجيء الطلق. في النهاية عدتُ، بعد تنظيف البيت وترتيب أوضاعنا مرة أخرى شعرتُ بأول خيوط الألم، كنتُأجلس في "الصالة" آكل البطيخ. بعد أن تناولنا الغداء. حذرني أحمد من أن كمية البطيخ التي التهمتها ملأت بطني ولم يبقَ لك مكان فيه؛ ضحكتُ من المزحة، ثم شعرتُ بأول خيوط الألم، كان ألمًا قويًّا ومفاجئًا،كأني أعيشه للمرة الأولى. كنتَ يا زياد تريد أن تهدم حائطًا لتخرج، غير عابئ بألمي. هرع أحمد إلى جلبابه وارتداه سريعًا، لم يكن لدينا هاتف بعد، لذا تركني وحيدة مع أخويك أتسمَّع صوت الألم. تواريتُ عنهما في الردهة بين المطبخ والحمام، وفتحتُ ساقيَّ لأخفف الضغط الذي أشعر به، لكن صراخي انفلت وجاءت حبيبة مدفوعة بفضولها لترى ماذا يحدث. بصعوبة دخلتُ غرفتي وواربتُ الباب، ونمتُ على السرير ساحبة الملاءة فوقي. ما إن وصل الطبيب وأمي حتى بدأ يوسع لكَ بأصابعه طريقًا للخروج، كلما فعلَ شعرتُ بالراحة ووجدتُ في صراخي تنفيسًا للألم. أذهب بعيدًا إلى مكان مظلم وأعود بقوة إضافية، وكلما حثني على أن أكتم صراخي وأخرجه في صورة قوة طاردة فعلتُ. بعد أقل من ساعة قضيتها على هذه الحالة اندفعتَ خارجًا، مغطًّى بالمخاط والدم، فتناولتك أمي بقبضتها، وغسلت جسمك مما علق به تحت الحنفية، ثم أعادتك إليَّ ملفوفًا في الأقمشة، لأنها لم تجد شيئًا تلبسك إياه، بعد أن تركتُ ملابسك الصغيرة عندها تحسبًا للولادة هناك.
منحني وصولك إلى حياتي الطاقة التي ساعدتني على المواصلة. كنتُ أستيقظ بروح مغايرة، كأني نِمتُ في مكان آخر، يُشبه الواحة الظليلة، وعدت بروح المكان وسكينته، قادرة على إسعادكم حينًا من الوقت. في هذه الفترة كنتُ أنظف البيت بمهارة وأجهِّز طعامًا وأضع قليلاً من الترتيب في مظهري. تبدو حياتي لمن يراها من نقطة خارجية طبيعية تمامًا، كما استطاعت حبيبة أن تنمي بذور الأمومة بداخلها مبكرًا، كنتُ أضعك على حجرها فلا تبدوان معًا إلاَّ كنموذجين مصغرين للأم وابنها، ثم اعتبرتك ابنًا بارًّا عندما أعفيتني من الالتصاق بي بعد عدة أشهر، ورفضتَ مصَّ حلمتي وفضلتَ عليهما الحلمة المطاطية.
كنت سعيدة بوصولك على الرغم من أن خبر حملي بك نزل عليّ كصاعقة. كنتَ تتكوَّن بداخلي دون أن أعرف، إلى أن شعرتُ أن قرموطًا يقوم بحركات بهلوانية في بطني فاتجهتُ مذعورة إلى الطبيب. أخبرني بآخر شيء كنتُ أتوقعه:
"إنتي حامل في الشهر الخامس يا مدام!".
ثم مصمص شفتيه وأكمل:
"نسوان إيه دي اللي متعرفش إنها حامل إلا لمَّا العيّل يلعب جوا".
عدتُ سريعًا بالخبر إلى البيت، وقت أن كان أبوك يرتدي جوربه بالضبط استعدادًا للخروج، قلتُ له بفرح طفولي:
"أنا حامل".
ابتسم ولم ينطق إلا بكلمة واحدة:
"طيب".
اعتقدتُ أن رده كان على خبر آخر، كأني أخبرته أن الغداء جاهز، فقلتُ له مرة ثانية:
"بقول لك أنا حااااااااااامل".
نظر إليَّ قائلاً:
"ما قلت طيب..إيه.. أستعد بالموغات من دلوقتي؟".
ثم أكمل ملابسه في صمت وغادر. لم أفهم موقفه، استبعدتُ أن يكون فرحًا لكنه لا يجيد إظهار هذا الفرح. صببت حنقي على نفسي معترفة في هذه اللحظة بأنني أمٌّ فاشلة، ولم يكن هناك داعٍ لإنجاب المزيد من الأبناء التعساء، وأن حياتي مظلمة، لذا حسمتُ أمري في لحظة قبل أن أغيِّر ملابسي، بأن أتخلص من الحمل هذه الليلة، حملتُ الكمودينو وجريت به جيئة وذهابًا وسط دهشة حبيبة وعبد الرحمن في الطرقة، التي امتدت بطول المطبخ والحمام. كي أتخلص منك. كان ممتلئًا بالكتب المغبرة منذ أن تزوجتُ. لم أكن أقرأ إلا نادرًا واكتفيتُ بالصحف وأخبار الحوادث وبريد الأهرام، لكني احتفظتُ بها كذكرى لفترة سابقة. في غمرة إرهاقي سمعته يا زياد، الصوت الرخيم، كان صوت أبي يقول:
"لا.. لا تفعلي هذا.. أبقِي عليه.. سيكون هذا الابن خيرًا لك.. سيكون طريقًا إلى درب النور".
توقفتُ تحت إلحاح الصوت منهكة، أردد ما التقطه سمعي بصوتٍ عالٍ.
أترك يوسف عند الباب الرئيسي ينهي إجراءات الزيارة. وأدخل إلى عمق المستشفى. العصافير لا تكف عن الزقزقة، وصوت كلاكسات السيارات على الطريقلا ينقطع. أستقل المصعد، وأقطع الكريدور حتى أصل إلى غرفتك.لا أجدك، أبوك يجلس ضامًّا ساقيه إلى صدره، كأنه يتألم. أسأله عنك، فيقول إنك تزور مريضًا في الغرفة المجاورة، أجرى استئصالاً لورم كان في إصبع رجله اليمنى! هل بدأت تشارك الآخرين محنتهم ليشاركوك محنتك، أم وحَّد المرض بينك وبينه فذهبت لتواسي نفسك فيه؟ لا تفعل بي هذا يا ولدي!يدخل يوسف فيسأل عنك، أبتسم ولا أجيب، يخبره أبوك بمكان وجودك وسببه. يقترب مني ويربت على كتفي،أشيح بوجهي بعيدًا. المراكب تتراص قرب الشاطئ، وأشعة الشمس تتلألأ على سطح المياه.
"لو مكانش المنظر دا من شباك مستشفى!"
قال أبوك شيئًا أخيرًا. شعاع شمس ينفذ وينكسر على الجدار المواجه للسرير. يمنح الغرفة فائض ضوء. صوت كبيرة الممرضات يعلو في الكريدور، رأيتها عند وصولي. ذكرتني بزينات صدقي وهي تصرخ قائلة في فيلم لم أعد أذكر اسمه"مفيش راجل يتجوزني؟". ألملم نفسي من شتاتي وأسأل أبوك:
"جهزوا لعملية زياد؟".
يجيبني بإشارة من رأسه فقط، لا ينطق بكلمة. يسحبني يوسف إلى الخارج قائلاً:
"تعالي نشوف عملوا إيه؟".
فأقول بصمت:
"أنت السبب في الجوازة دي يا يوسف.. ربنا يسامحك بقى".
أعود لقطع الكريدور. نعرج على صالة الانتظار في الدور الرابع. المصعد معطل. دون تبادل أي كلمة نتجه إلى السلم،نهبط متجاورين،أنزل إلى ذكرياتي، أسحبها من قاع الصندوق، وأعيد تحريكها أمامي.
سافر يوسف إلى العراق في يونيو 1980، قبل ظهور نتيجة امتحانه في الصف الثاني الثانوي. أصر على أن يذهب مع أصدقائه للعمل فترة الإجازة. لم يستمع لتوسلات أبي له بالبقاء، ولا لرفض أمي. قال إن كل أصدقائه يعودون بالمال الوفير، موفرين على أسرهم تكاليف دراسة العام المقبل. كان أبي متأكدًا من أن أصحابه يفعلون هذا، لكن يوسف لا يستطيع أن يُقلدهم، لأنه ببساطة لا يُقدر قيمة القرش. بعد وصوله إلى بغداد بأسبوعين أرسل خطابًا باسمي. لم يُصدِّق ساعي البريد أن الخطاب لي، لكنَّ أمي أنهت حيرته بتسليمي الخطاب أمامه ومطالبتي بفتحه. كان أبي جالسًا في مهب نسمات البلكونة، يستعد لتلاوة القرآن، وشادي وهادي أخواي الصغيران يتشقلبان على الكليم كجروين صغيرين. توقف الجميع انتظارًا للأخبار، لكن خطابه كان مقتضبًا، لم يحتوِ إلا على عبارتين: "أنا بخير.. ما أخبار نتيجة امتحانك؟". سبَّته أمي وبدأ أبي في الدعاء له. كنتُ في الصف السادس، أستعد لدخول المدرسة الإعدادية، كتبتُ له أني نجحت، ولم يكن ينقصني كي أتفوق سوى مائة وعشرين درجة فقط. هكذا أصرت أمي على أن يكون شكل الخطاب، قاصرًا على أخباري فقط. لم تقل له إن أبي حزين لغيابه، وإن حسين نجح للعام الثاني على التوالي في كلية الطب بتقدير جيد. لم تقل له إن عبير أنجبت بنتًا، وإننا اشترينا غسالة كهربائية.
لم أكن أصدِّق أن أمي تحبه إلا بعد أن رأيتها تنزوي في ركن من المطبخ وتبكي بحرقة. أعلنت أمي هدنة بينها وبين جارتنا، وواظبت على أن تجلس معها وبناتها كل صباح لتحكي عنه لأول مرة، وتجد فيما كان يفعله أشياء جميلة. تكتشف في البعد كم كان ولدًا طيبًا، وترى في عدم رغبته تلبية طلباتها من شراء الخضراوات من السوق مَقدرة لم تكن له، ويجب ألا تحاسبه بعد عودته على رفضه القيام بها. كنتُ أندهش من عينها الجديدة التي تراه بها. لم تهتم أمي به يومًا. لا تجهز له الطعام قبل مجيئه كما تفعل مع حسين. يندلع شجارهما لأسباب تافهة ويصيبني نصيب من ضربها إذا حاولتُ أن أصدّ عنه. كنتُ السبب فيما ناله من عقاب في إحدى المرات، عندما ضربني يوسف لأني ركبتُ الدراجة خلف ولد من شارع قريب، يظهر كل حين ويلعب معنا، وعدني أن يُعلمني القيادة إذا قبلت بالركوب خلفه. وافقت وبدأنا ندور، وفي كل مرة يبتعد قليلاً عن محيط عمارتنا، حتى أصبحنا في مكان لا أعرفه، ثم رأيتُ يوسف، كان واقفًا مع أصدقاء له ولمحني خطفًا. أدار وجهه مع الدراجة ليتأكد مما رآه. في البيت انتظرني وعيناه تقدحان شررًا. دخلتُ سريعًا واختبأتُ تحت السرير، لكنه شدني ومسحتْ ملابسي التراب الناعم المتراكم على البلاط. صفعني على وجهي وكاَلَ إليّ اللكمات، لكن أمي تدخلتْ. أمسكته من ياقة قميصه وردَّت له الصفعة. انفجر زاعقًا،وبَّخها لأنها تلهت عني حتى ركبتُ الدراجة خلف الغرباء. ازداد ضربها له حتى أن يدها لم تعد تميز موضع الصفع، فكانت الصفعات تصيب فمه وعينه. صرختُ فيها أن تكف. اعترفتُ أني مخطئة، وأنه كان يجب أن يؤدبني على ما فعلتُ. لاحقا، كنتُ أدافع عن تصرفاته حتى إذا لم تكن لصالح حريتي. ثمة شيء ربطني به عندما كان يضربني. عاطفة غامضة نمت تجاهه مع الوقت. كلما ضربني وضربته أمي لأنه يفعل هذا، ربما لأني لاحظت أن أمي لا توليه حبًّا، وأني لا بد أن أعوضه عن هذا النقص.
عادة أمي تصطفي ابنًا تقربه بإسباغ الاهتمام عليه، والتلهف لسماع أخباره، وانتظاره إذا كان بعيدًا. لم أعرف مقاييس اختيارها لمن تصطفيه، ربما نجاح حسين أجبرها على حُبه، كما أجبرَنا حبها له على احترامه والاستماع لكل ما يقول، حتى إذا بدأ في حديث طبي عن تشريح جسم الإنسان. هذه الرهبة نفسها التي تحيط حضوره وانصرافه دفعتني إلى مشاركة أمي يومًا في نقع الهيكل العظمي الذي جلبه معه في المياه المغلية وتخليصه من القاذورات. أصابتني هذه الواقعة بالرعب كلما بقيتُ في ظلام دامس، أجد الهيكل يأتيني من ركن معتم. يتخبط ويحدث صوتًا يشبه نقرات الدجاج المتلاحقة في صحن الحبوب، يربت على كتفي ويقول بصوت الأموات: "فِزّي قومي اغسليني". أخبرتُ أمي بما أراه في الظلام، وطالبتها بتركيب سهارة في الصالة، تظل مضاءة ليلاً، لكنها استهانت بما أرى كي لا ترتفع فاتورة الكهرباء، وقالت:
"هما الأموات ليهم صوت؟".
الاصطفاء نفسه أغدقته لاحقا على شادي، ربما لأنه أصيب بالتهاب في الكلى، أقعده عن الذهاب لتدريب الكرةفي نادي الألومنيوم الرياضي، ولأول مرة وقف بدلاً منه حارس مرمى آخر. بدأ لون بوله يتحول تدريجيًّا إلى الأحمر القاني. أرجعت أمي سبب ما يحدث له إلى الحسد وحده، لكنها حتى يومنا هذا لم تكن تعرف أيًّا من عيون الجارات أصابته. حار الأطباء في حالته، الأمر الذي دفع حسين إلى اصطحابه إلى القاهرة، كي يعرضه على الأطباء، بعد أن أرسل محمود من الكويت مبلغًا من المال مساهمة منه في علاجه. كانت تضع رأس شادي في حِجْرها وتُغرقه بالحواديت. تعد له وجبات خاصة تعبر من أمامنا إليه. لم تكن تنتبه إلى نظرتي وأنا أتابع تصرفها بغيظ مكتوم، لأني لم أحْظَ طوال حياتي بوضع كهذا، وتمنيتُ في هذه اللحظة لو كان المرض داهمني لينالني من التفاتها ولو قليل.
عندما اندلعت الحرب بين العراق وإيران، كنتُ أستعد لدخول المدرسة الإعدادية بشراء الأدوات من المكتبة. سمعتُ الراديو يُسرِّب الأخبار، فجريت مسرعة لأخبر أمي. وجدتها تولول، وأبي في الغرفة يبكي بصمت. حملتْ أختي عبير ابنتها وجاءت،التصقتُ في أقرب مكان للراديو، وبدأتُ لأول مرة أهتم بالسياسة، عبور الوحدات البرية العراقية إلى الحدود الإيرانية/ مخاوف عالمية من نقص النفط/ مخاوف عربية من امتداد الحرب إلى الخليج. كنتُ أدون كل ما أسمعه،أذهب إلى الخريطة نفسها التي كان يوسف يفردها أمامي ويقول لي:
"هاخد القطر واطلع على اسكندرية ومن هناك هركب الباخرة وامشي في البحر".
يرسم بالقلم الطريق الذي ستسلكه الباخرة على المناطق الزرقاء في الخريطة، حتى يصل إلى جبل طارق، يتوقف عنده ويقول لي:
"وهنا هاشوف المغرب من الناحية دي وأسبانيا من الناحية التانية".
أتذكر كل ما قاله وتغرق عيناي بالدموع:
"بعد كدا أبحر في المحيط الواسع لغاية كندا.. بعدين أبعتلك تحصليني".
كيف تغيرت خطتك لتصبح العراق محطتك الأخيرة يا يوسف؟ لم فكرت في هجرنا والسفر بعيدًا؟ هكذا تساءلتُ وقتذاك. على الخريطة حددتُ موقع العراق، وموقع إيران، ومكان بغداد من مناطق الاشتباكات. شعرتُ بأول غصة حقيقية في حلقي، وبدا لي أنني أفتقد سطوته وقسوته بالقدر الذي أفتقد حنانه. أدركتُ أنه كي يعود سالمًا عليّ أن أعرف أسباب اندلاع الحرب، لكني أرجأت بحثي لوقت آخر.
على الرغم من سعادتي برجوعه أصبتُ بخيبة لأنه استطاع العودة بسهولة، وطوى مغامرة كان من الممكن أن يعيشها ويُمتعنا بالحكي عنها. هرب وقت أن بدأت قوات صدام حسين تُجند كل الشباب بصرف النظر عن جنسياتهم، وركب سيارة بيجو أقلَّته وأصحابه إلى الحدود الأردنية، ثم سلموا أنفسهم هناك إلى السلطات. في الوقت الذي كنتُ أتخيله يهرب ويراوغ بالاحتماء بالبيوت من زخات الرصاص. كانت أمي تطعم الدجاجات في بلكونة المطبخ، وأبي في غرفته عندما سمعتُ نداءه من النافذة. نظرتُ فوجدته، واقفًا بقامة نحيفة وملابسه نفسها التي سافر بها! بعد شهرين فقط، ترك لحيته تنمو، واستعار جلبابًا أبيض من جلابيب أبي التي لم يعد يلبسها. قال إنه سيواظب على الجلوس مع الإخوة في المسجد، ليتعلم تلاوة القرآن قبل أن يفوت أوان التعلم. فرح أبي، لأن نوبات جنوحه هذه المرة كانت بنوايا طيبة وفي مكان قريب من البيت. عاد ليبدأ طورًا جديدًا من أطوار شخصيته وحده. كنتُ قد بدأت أدخل دوامة الأنوثة الأولى، منفصلة عنه في طريق يخصني وحدي. بدأ يغيب تدريجيًّا بالمبيت في المسجد في بعض الليالي، حتى وصلنا إلى المرحلة التي لا نشعر فيها بالقلق عليه إذا غاب عدة أيام متتالية. يظهر بعد أن أشتري الخضراوات من السوق وأمر على الصيدلية لشراء دواء أبي، بعد أن نودع ضيوف أبي، الذين تضطر أمي لارتداء طرحتها الشيفون والفستان الحريري كلما جاء أحد منهم. تجلس على طرف الكنبة القريبة من الباب، وفي الوقت الذي يعتقد فيه الضيوف أن خجلها يمنعها من رفع وجهها إليهم، كانت تحصي في ذهنها كل الأسماء التي تجاهلت زيارتنا في هذه المحنة، لترد لهم الصاع صاعين في أول محنة تمر بهم. بمجرد دخول يوسف كل مرة تصرخ أمي في وجهه: "ليه جيت دلوقتي.. كان لازم تيجي من أربع ساعات على الأقل"، فيخرج مجددًا بعد أن يلقي نظرة دامعة على أبي. كنتُ أفتقده، لكن فكرة مكاشفته بهذا الافتقاد كانت تخجلني.
في هذه الظروف، فوجئنا في إحدى الليالي بصوت يوسف يُجلجل في ساحة مدرسة الكلاب بين العمارات التي بنيت تباعًا، ولم يكن مُلاكها سوى من المسيحيين القادرين على الادخار بربط الأحزمة طوال العام متحججين بالصيام الذي لا يفرض عليهم سوى أكل الفول والعدس والخضراوات والطبيخ البايت بالزيت، والابتعاد عن اللحوم والألبان والبيض وكل ما من شأنه صرف ما في الجيب، لذا كان البناء في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها مصر أوائل الثمانينيات من نصيبهم فقط، ثم قصروا التسكين في هذه العمارات على نظرائهم المسيحيين حتى اعتقد بعض المسلمين أن تصرفهم نابع من توجيهات الكنيسة. نظرتُ بين فتحات الشيش من خلف أمي فوجدته واقفًا مع مجموعة من الرجال. كان مرتديًا زيه الجديد مع غطاء رأس أبيض له شراشيب. عرفته أمي وأشارت ناحيته بإصبعها. كان ذقنه طويلاً، يشبه إلى حد كبير الرجل الذي أوقفني أثناء عودتي من السوق ودعاني كما قال بالحسنى إلى الحجاب، تركته ومشيتُ فمشى جواري وقال همسًا: "الحجاب فريضة يا أختاه"، ثم أكمل بنبرة تهديد: "والدعوة له بالحسنى أضعف الإيمان".
كان يوسف المتحدث باسم الجماعة،اتفقوا في وقت سابق على أن يكون كل شخص منهم المتحدث باسم الجماعة في المنطقة التي يسكنها، لهداية المسيحيين أو دفع الجزية. لم تكن هذه أول حادثة في النجع، لقد بدأت هذه الأحداث تزداد منذ عامين بإصدار رئيس الجماعة فتوى تكفِّر كل من يتعامل مع المسيحيين. أمي لم تعد تتعامل مع جارتنا "المقدسة أم عوني" التي سكنت في أول الشارع إلا في أضيق الحدود، كلما احتاجت إلى الغربال السلكي.
المرة الثانية كانت أثناء وجود عبير أختي في الإدارة التعليمية التي التحقت للعمل بها. كان المبنى قريبًا من شارع الصاغة في قلب سوق الخضر، عندما هجمت جماعة مسلحة على محلات بيع الذهب في شارع المركز القديم، يرتدي أفرادها زيًّا أبيض وشيلانًا بيضاء ويغطون وجوههم بشرابات لحم الهوانم،لم يعرف أحد ملامحهم. قتلت أصحاب المحلات واستولت على المصاغ. حدث هرج في السوق وجرى الناس في كل اتجاه، واختبأت النسوةُ في مداخل البيوت القديمة تاركات سلال الخضراوات على أرضية الشارع، وتعالى إطلاق أعيرة النار في كل اتجاه، ثم أعلنت الجماعة مسئوليتها عن الحادث، وقالت إن هذه السرقات حلال لأن مالها سيذهب للجهاد. لم تهتم أمي بسرقة المحلات، ظلت تصرخ من بلكونة المطبخ حتى سمعها الجيران. عندما ظهرت عبير في أول الشارع، حمدت أمي الله كثيرًا، لأنه أعادها كي تتحمل جهد تربية بنتيها وترحَمَها مما كان ينتظرها من عبء إذا أصابها مكروه.
وفي الوقت الذي كان الوضع يسير على حافة هاوية بين الطرفين انتهت مخاوف أمي ولم تعد الحادثة بالنسبة إليها سوى وليمة لجلسات السمر في الأمسيات. بعد ساعة من وقوف شباب الجماعة ويوسف في المنتصف يهلل بصوت عالٍ طالبًا منهم تفويض شخص للتحدث باسم "نصارى المنطقة" كما قال، خرج عم "غني عبد الملاك" البقال الذي نأخذ منه ما نحتاجه "شكك" حتى موعد صرف المعاش، وتوجه إليهم مباشرة. تحدث مع يوسف حديثًا قصيرًا وبصوت خفيض، وعاد إلى بيته. بعد ذلك مشى يوسف في المقدمة وتبعه الجميع. وكأنه لا يسكن هنا عَبَرَ جوار عمارتنا وأكمل دون أن يرفع نظره، ليختفي فترة قبل أن يظهر من جديد. عندما بدأت أمي محاولتها في استعادة علاقتها الطيبة بأم عوني وزوجة عم غني والأخريات، لم يكن عليها سوى الجهر بالشكوى من يوسف بينهن، قالت إنه يُقدم على تصرفات لا تعرف كيف تغزو فكره، وإنه لا يسمع الكلام الصحيح ويسلم دماغه لمن يحركونه في الاتجاه الخاطئ. وأنها ظلت صديقة لبنات استاورو- قبل أن تنتقل إلى النجع- بنات استاورو اللاتي سكنَّ "شق"· النصارى وظللن يبعن القماش بالقسط للنساء حتى قام أهل البلدة بطردهن كما طردوا كل النصارى من القرى المجاورة في حادثة شهيرة عرفت باسم التطهير.
أعود إلى الغرفة فأجدك يا زياد. وجهك منشرح، تبادرني قائلاً:
"كنت بازور العيان اللى جنبي..مسكين.. أصله عمل عملية في رجله".
هل يعرف هو أنك ستجري جراحة في مخك؟ أبوك يستلقي على السرير الوحيد وأنت تجلس على الكرسي. كيف نمتما ليلة أمس؟ هل تذكر صديقك حسام؟ كان بدينًا جدًّا. قال مدرب السباحة عندما رآه إنه سيرفع من منسوب الحوض حتى يفيض على الجانبين. كنت تقفز من المسافة القصوى. المتدربون اعتقدوا أنك ما جئت إلا لتستعد لاختبارات التأهيل في الكلية الحربية، فأخفيتأنك على أعتاب المدرسة الثانوية. ذكرت لهم فقط الفتاة التي أعطتك قلمًا هدية، إذا بدأت الكتابة به فاحت رائحة قرنفل! ثم أشرت إلى حسام دون داع، فانصرف انتباههم إلى تأمل كرشه.
يوسف ينتهي من سيجارته خارج الغرفة ويعود، في الوقت الذي كان العامل يوزع الطعام على الغرف،أشحت بوجهك بعيدًا. أعرف أنك لن تأكل هذا الطعام. كنت سابقًا تتودد إليَّ لأتركك تجهز المكرونة، أقول لك إن المكرونة ليست بالطعام الملائم قبل النوم، تجعلنا نضرط طوال الليل، فتخبرني أن تمرينات السباحة تحتاج إلى تركيز وجهد، وأن آثار المكرونة لا تعني شيئًا بالمقارنة مع مذاقها اللذيذ. تطالبني بالخروج الآن لشراء طعام شهي، أقبل بالطبع، سأخرج. أنا بحاجة إلى تدخين سيجارة بعيدًا عن المستشفى. أبوك أيضًا يحتاج إلى طعام. لن أنساه حتى بعد تحوله إلى شبح صامت، سأخرج مع يوسف للبحث عن مطعم قريب. لم يكن أبوك كذلك في أول عهدي به،كان يضحك أحيانًا، يكسو الشعر نصف رأسه. يسير مزهوًّا بما تبقى من وسامته، ولا يتجاهل الفتيات الجميلات السائرات في الشارع. لا تندهش يا زياد. ما يصير إليه الإنسان ليس تمامًا مشابهًا لبداياته. كنتَ عند ولادتك مجرد قطعة لحم لا تزيد عن ثلاثة كيلوجرامات، نموذجًامصغرًا لبني آدم حقيقي،لا حول ولا قوة له،معرضًاللالتهام من كلب جائع. كنتُ أتساءل كلما نظرت إليك، ما السر الغامض الذي يجعل الأمهات يترأفن بأبنائهن فيقمن على رعايتهن وإطعامهن حتى يصبحوا أشداء. أي سهو، حتى لو كان ترك البزأثناء الرضاعة ليستند على أنفالطفل أو فمه، من شأنه كتم أنفاسه والقضاء عليه. نعم مر أبوك بفترة الشباب، تاريخه الموثق بالأدلة يشي بهذا.. دعني أحكِ لك ما أعرفه عن هذه الفترة أثناء إحضاري الطعام.
عرض أخوه الأوسط صلاح على أبيه- تقربًا منه- أن يُجرِّب أبوك الانتقال معه إلى مدرسة في بور سعيد، حيث يقيم ويعمل مدرسًا لمادة العلوم في مدرسة بورسعيد الثانوية، كي يبقى تحت عينيه لا يفارقهما ويبتعد عن أصدقاء السوء، هكذا لخص أسباب إخفاق أحمد. وافق أبوه بسرعة غير متوقعة، ولم يكن أمامه سوى جمع ملابسه في حقيبة والاستعداد للانتقال إلى عالم آخر لم يكن يعرف أنه موجود. احتوت المدرسة على طلاب من طبقة راقية، أبناء المديرين العاملين في إدارة قناة السويس وأبناء اليونانيين الذين أطلق عليهم البورسعيدية اسم الاجريج. رحبوا بالتعرُّف على الشاب الصعيدي القادم من آخر الدنيا، وحطم لديهم نموذج ابن الجنوب ببشرته البيضاء المشربة بحُمرة خفيفة تزداد وضوحًا إذا بقي على الشاطئ وقتًا طويلاً.
لم يجد أحمد صعوبةً في تغيير هيئته منذ الأسبوع الأول الذي قَدِمَ فيه إلى المدينة، ما كان عليه سوى أن ينزل إلى المحلات القريبة من الفندق ويختار ما يروقه وفق نماذج علقها صاحب المحل على الحوائط. كانت معظم صور أحمد عن هذه الفترة كما لو كان هو نفسه الممثل محمود ياسين، ببنطلون شارلستون، ضيق عند الوسط ورجل الفيل الواسعة من الأسفل، وقميص يلتصق بالجسم وتفتح أزراره حتى منتصف الصدر وأحيانًا إلى السرة. أما الشعر فكان طويلاً ومفروقًا من الجانب بالضبط مثله.
في الفندق الصغير الذي اختاره صلاح ليقيما فيه في مواجهة قناة السويس رأى من شرفته فتاة تسير عارية إلا من مايوه أحمر وحذاء فضي. شعرها الذهبي يتطاير خلفها بينما يدها تجر حبلاً في طرفه رُبط كلبٌ أبيض من عنقه. تكرر الأمر نفسه لعدة أيام، حتى صار يعرف انحناءة خصرها، ومتى تتلفت يمينًا ويسارًا قبل عبور الشارع، وأين تختفي قبل أن يبتلعها الشارع الملاصق لحائط الفندق. ما كان منه إلا أن استفسر عن الطعام الأفضل للكلاب الراقية، فدَلَّهُ أحدهم إلى خبز معجون بالتونة، لا يُصيب أمعاء هذه الكلاب بالتلبك! اشترى قطعتين، وانتظر عبورها في التوقيت المعتاد، ما إن لمحها صاعدة من سلم الشاطئ حتى أخرج الرغيف من الكيس الورقي ومده لينشر الهواء رائحته. واظب على هذا التصرف خمسة أيام كاملة، لم تُغيِّر فيها رد فعلها، كان الكلب بمجرد عبوره بمحاذاة أحمد ينحرف ويتجه إلى الرغيف رأسًا، تنهره الفتاة بلطف وبلغة لم يعرف إلى أيِّ البلاد تنتمي، لكن الكلب لم يكن يمتثل، فتتركه في النهاية ثم تشكر أحمد بابتسامة وتكمل طريقها.
بعد أسبوع واحد فقط سألته بلغة عربية من أين يشتري وجبة الكلب، لتقصد المحل وتوفر عليه عناء ابتكار الحيل. ما كان منه إلا أن ابتسم وسار بمحاذاتها، يتبادلان الحديث بألفة كأنما يعرف أحدهما الآخر منذ سنوات.. هكذا أدرك، أن الطريق إلى العلاقة مع الفتيات يبدأ بتصرف صغير ومباغت. قَضَيَا وقتهما في الشهور التالية في الذهاب إلى البحر والفنار والميناء الشرقي وسينما النورس. توارى الكلب في البيت ولم تعُد تحرص كعادتها على اصطحابه، ولما حلَّ الشتاء وكان عليهما مراوغة الريح الباردة لجآ إلى الحدائق المشمسة وشوارع بور فؤاد في الضفة الأخرى من القناة.
كان عليه أن يكلل علاقته بها بشيء له أثر أكبر. على الرغم من أنه أرجع إليها الفضل في إزالة التلعثم الذي يُرافق الشباب عادة في أول علاقة، وهو الشيء الذي استثمره جيدًا مع "نهلة" فيما بعد، وإلى جانب هذه الخاصية التي غرستها ماريا فيه دون أن تدري، علمته كيف يُوفق ملابسه بكثير من الاستهتار ليظهر في النهاية بشياكة غامضة تبدو كأنها أصيلة وغير طارئة. كان من الممكن أن يكتفي منها بما قدمته من وقت وحديث وفسح، لكن غرور الشاب بداخله أبى أن يختم علاقته بهذا الشكل. كان المتبقي له في بورسعيد شهرًا، سيضيع الشطر الأكبر منه في الاستذكار وأداء الامتحان، تحت رقابة صارمة من أخيه، لذا حاول جاهدًا أن يطوي ما تبقى من علاقة رسمية، وينصب شباكه حولها بعقلية شاب أتى للتو من الصعيد، ولم يفهم طوال المدة التي قضياها معًا، أنه من السهل أن تستغرق معه في قبلة أو عناق أو ما هو أكثر، لكنه لم يطلب هذا ولم يُوح برغبته فيه، لذا في الوقت الذي طبعت أولى القبلات على شفتيه كان أحمد مأخوذًا بالبساطة التي قامت بها لتحقيق رغبتها. كانا جالسيْن على قاعدة تمثال دليسبس، سعيدًا بزُرقة المياه وخلو المكان. تلفت إليها واحتضنها،كان يشعر أنها تذوب بين ذراعيه كقطعة ثلج صغيرة، ولما كان عقله يفكر ما إذا كان من الممكن أن يغطي جسمها بجسمه ليشعر بليونته ثوانِيَ معدودات، كانت تدعوه برقة متناهية للذهاب معها إلى بيتها.
نجح أحمد، ليس برشوة المراقبين،ولا بتوصية صلاح أو ورق الملخصات التي سرَّبها بكُمِّ قميصه. حدث ما لم يكن في الحسبان، كان ابن أحد التجار الأثرياء يجتاز الامتحان في اللجنة الملاصقة للجنة أحمد. لكي ينجح لم يجد أبوه بدًّا من تأجير سيارة بميكرفون تظل سائرة حول المدرسة، تنبعث الإجابات الدقيقة منها وتنتشر في الهواء. لم يعرف أحد كيف تسرَّبت ورقة الأسئلة إليه ولا من قام له في زمن قياسي بكتابة الإجابات. لم يستفد ابنه فحسب، بل كتب الطلاب كلهم وراء من كان يُملي الإجابة بالميكروفون. حينما سمع أحمد رقم جلوسه مدرجًا ضمن الناجحين بمدرسة العصفوري الثانوية ببورسعيد ينبعث من الراديو، كان جالسًا في الساحة بين البيوت في البلدة. هلَّل الجميع ووزَّعوا الشربات على الجيران والعابرين بالصدفة.
تخلص في طريق العودة من كل الأدلة التي تثبت علاقته بماريا. اكتفى بأنصاف صوره معها فقط، بعد أن مزق الجزء الذي تصدرته من كل الصور، بهيئته التي تظهره للوهلة الأولى كما لو كان محمود ياسين في أوج نجوميته. في كثير من الصور ظهرت أجزاء منها، كان من الصعب قصها وإلا سيجور القص على هيئته الكاملة، فظهرت في إحدى الصور خصلة من شعرها الأصفر تهفهف قرب رأسه، أو عُقل من أصابعها كلما حرصت على إحاطة خصره في شارع فلسطين. ألقى بقصاصات الورق والصور من نافذة الفندق. قبل أن يطرق صلاح غرفته ليغادرا بدقيقة. لم يكن خائفًا من أن يُراجع تصرفاته أحد، بل كان مستعدًّا ليرسخ لقدرته وغزواته ويتباهى أمام أقرانه أن يحكي تفاصيل ما حدث كله، وهو ما فعله فعلاً بعد عودته، لكنه تخلص من كل شيء لأنه يريد العودة بذهن صاف، واعتبار الفترة التي قضاها في بورسعيد تمرينًا يساعده على ما سوف يقدم عليه في البلدة. لأن أخبار "نهلة" كانت تصله من الخطابات القليلة التي أرسلها إليه أصدقاؤه.
كانت البلدة تزخر بكثير من العمال عند عودته. سبقتهما القرية المجاورة في إدخال الكهرباء وسمع الناس عن تبدل حالها بعد أن أصبح الليل مثل النهار منيرًا. فرَّتْ عفاريتُ الليل إلى القرى البحرية التي لم يدخلها النور بعد. بدّل اللصوص خططهم التقليدية، حاولوا سرقة بهائم الشيخ فتحي في الظهيرة مستغلين احتماء أهل البيت من القيلولة بالغرف الرطبة الداخلية، بعد أن أصبح السهر تحت المصابيح في وسط البيت عادة قطعت عليهم فرص التحرك ليلاً. كانت الأعمدة ترقد على جانبي الطريق بعضها على بعض، مواسير طويلة ورفيعة وفارغة من الداخل. لم يسعف الخيال الكثيرين ليعرفوا كيف ستنير الطرقات بعد انتصابها، إلا مَن أسعده الحظ بزيارة النجع ليلاً ليجده غارقًا في مهرجان الضوء. الشيوخ لم يُرحبوا بدخولها واعتبروها بداية عهد جديد تقل فيه البركة، ثمة من ربط بينها وبين ظهور بعض الأمراض العجيبة التي لا تترك الجسم السليم إلا هامدًا. لكن الشباب رأوا فيها تطورًا يجب أن يواكبوه. ظل الجميع في ترقُّب حتى جاء العمال يحملون أدواتهم ويحفرون. تخلى البعض عن خصومته مؤقتًا مع الآخرين وعمل يدًا بيدٍ مع العمال لينتهي العمل سريعًا. لم يكن أحمد مبهورًا بما يحدث كالباقين، رأى المروحة وهي تدور لتجفف العرق عن وجه ناظر مدرسة الشهيد خيرت في النجع، وحكى ذلك بمجرد عودته أول مرة لأمه. ثم اعتاد وجود الكهرباء في بورسعيد، لم يكن يلزمه لمعرفة أهميتها سوى إنارة الغرفة بالضغط على زر بالحائط قرب الدولاب، أو كلما سمع أزيز صاعق الناموس، إذا دفع حظ الناموس العاثر بواحدة منها إلى الصندوق المعلق في الشجرة بنادي الجمارك. كان أحمد يستعرض معلوماته أمام أصدقائه عن الأجهزة التي من الممكن أن تعمل بالكهرباء كالثلاجة والغسالة والمدفأة، وتساعد على جعل الحياة أكثر بساطة مما هي عليه في البلدة. كانوا يستمعون إليه بأفواه مفتوحة وخيال محلول من عقاله، واكتسب أهمية بين أهل بلدته فاقت أهمية مخترع الكهرباء نفسه، ودون الكثير من التفكير أدرك أن للسفر سبع فوائد أولها أن يعرف ما لا يعرفه الآخرون، أو على الأقل قبل أن يعرف الآخرون، ويتاح له استعراض معارفه عليهم. وقتذاك نطق بأولى قناعاته:
"الواحد ممكن يبقى زعيم.. ميلزمهوش غير شوية جُهلا".
عندما كان أبوك يبدأ مغامراته شرقًا وغربًا كنت بالكاد أحبو. لا أحتاج إلا إلى نصف متر من القماش لتحيك لي أمي فستانًا بكرانيش. تستطيع الوصول إلى هذه الحقيقة بطرح سنوات عمري من سنوات عمره. أسمع سؤالك الآن: "لماذا تزوَّجت رجلاً يكبرك هكذا؟". فكرت كثيرًا في هذا السؤال، لكنني ربما لم أكن جادة بما يكفي لأصل إلى الإجابة. معك أفكِّك الماضي وأعيد تركيبه، قد نصل معًا إلى إجابة شافية. وإن لم نصل، دعنا نقطع الوقت إلى شرائح صغيرة. يسلك يوسف طريقًا خلفيًّا للعودة إلى المستشفى. المتظاهرون يتجمعون في شارع شبرا بعد انتهاء الصلاة للذهاب إلى ميدان التحرير. بائعو الأعلام والسميط والعرق سوس يهرولون هنا وهناك. الطريق مغلق والجو خانق،رائحة الكباب تنبعث من الأكياس البلاستيكية في المقعد الخلفي. أصر خالك يوسف على الاحتفاء بأبيك. قلت له يكفي شراء جبن ماصخ، لأن الكباب سيزيد من تدهور صحته، لكنهاعتقد أنني لا أريد تكليفه مالاً زائدًا. لا بأس يا زياد، سيفرح أبوك بالكباب،لن تهمه صحته في هذه اللحظة. يركن يوسف بالسيارة جانبًا كي تمر المسيرة، أجده يخرج رأسه من شباك السيارة ويمطرهم بعبارات التأييد، يرد عليه نفر من الخارج:
"يا أهالينا انضموا لينا"
أعرف أن يوسف يتمنى التوجه إلى التحرير معهم، لكنه يبقى أداء لواجبه تجاهي. أنا مثله، أتمنى التظاهر،ليس لأن أداء عصام شرف لا يروقني، بل لأصرخ بهواجسي. لن يستمع أحد لما سأتفوه به. كل شخص يسمع نفسه، ولا ينتظر سوى صدى صوته. مرضك بعثر أمنياتي، يكفيني الآن أمنية شفائك،بعد ذلك سأفكر في صبغ شعري بلون زاهٍ. لا يهم.. أريد قبل عودتي إلى المستشفى أن أكمل لك قصة حب أبيك مع نهلة. ما أجمل أن ننفصل عن الواقع باستحضار الذكريات. نبقى في الحاضر بأجسامنا فقط، مادامت المقدرة على صياغة الواقع مقيدة. سأحكي لك قصتهما منذ البداية..
رأى أحمد نهلة عند مغادرته البلدة مع أخيه صلاح. كانا يقفان على الجسر في انتظار سيارة مارة تقلهما إلى النجع، كي يلحقا بالقطار المتجه إلى القاهرة مساء، ليصلا في صباح اليوم التالي ويبحثا عن ميكروباص يقلهما إلى بورسعيد. في الناحية الأخرى من إسفلت الجسر كانت ثمة سيارة تتوقف، لينزل منها الحاج حسن، ابن عم أبيه الذي ترك البلدة منذ سنوات بعد أن فضل بيع أرضه في البلدة مكتفيًا بالإبقاء على منزله الطيني المكون من دورين فقط، ليشتري قطعة أرض لم يتجاوز سعر المتر في المنطقة التي أحاطتها وقتذاك خمسين قرشًا. كان شارعًا صغيرًا متفرعًا من شارع عباس العقاد. لم يكن يعرف أن ملاك الحظ رفرف بجناحيه العريضين عندما أتمّ الصفقة، وأصبح الحي فيما بعد من أرقى أحياء مدينة نصر. قابلهم أحمد بترحاب، سار الحاج حسن في المقدمة. خلفه زوجته وابناه اللذان ماثلا أحمد في السن. يحملقان في كل شيء حولهما، ويرصدان التغيير الذي حدث لمدخل البلدة في غيابهما. في الخلف كانت ابنته الكبرى نهلة تتهادى بأنوثة مكتملة على الرغم من أن سنواتها لم تتجاوز الست عشرة. شعَر بحسرة لأنها قابلته وقت رحيله، وسيتركها لمحاولات أصدقائه لفت نظرها، وحمد الله سبع مرات في سره لأنها لم تره منذ عامين عندما اختار لنفسه موضة تناسبه كما اعتقد وقتذاك، ترفعه درجات عن أصدقائه الذين قُدر لهم الالتحاق بالمدرسة نفسها. لم يعترض أبوه الذي تميز بالصرامة مع جميع أولاده، قاده في أحد الأيام قبل بداية عامه الدراسي الأول إلى شارع القيسارية، واشترى ثلاث قطع من الترجال، تفاوتت درجاتها بين الأسود والكاكي والرمادي الفاتح، وكَلّفَ عم عيد الخياط بحياكة ثلاث بدلات، لكل جاكت منها فتحتان من الخلف وثلاثة أزرار في نهاية كل كُمّ، ولم يعد أحد يفرقه عن طبيب الوحدة الصحية المبنية حديثًا عند مدخل البلدة، واستمر يرتديها لأعوام متتالية.
واظبت عائلة الحاج حسن على زيارة البلدة. يحضرون ليعيشوا طقوس القرى كأسرة مدنية، ترى الفنتازيا في كل ما يحدث. نهلة نفسها أحبت الاستيقاظ مبكرًا لرؤية عمتها تعجن في ماجور من الفخار وتُقرّص قطع العجين على مقارص من الجلة، وأحيانًا تذهب مع بنات الجيران لترى كيفية حلب الجاموسة، أو كيف تذبح ابنة عمها الحمام بعينين مفتوحتين وتتركه يدور حول نفسه من حلاوة الروح. وجدها الشبان فرصة حب مختلفة عما تتيحه البلدة، ومساحة من الخيال تعربد فيها أحلامهم الجامحة، فالكل يعرفها كلما مرَّت لتتمشى قرب الجناين مع أختها أو عند مَرْسَى قوارب الصيادين على النيل بثوبها القصير وشعرها المموَّج، تضع عطرها ليصبح كما لو كان شالاً حريريًّا تمس رفرفته قلبهم. لم تقصر اهتمامها على أحد، بل منحت الاهتمام للجميع، بكلمتين موجزتين "السلام عليكم" لذا لم يمتلك أحد دليلاً واحدًا ضدها.
تلقف شبان البلدة أحمد بمجرد وصوله. حكوا له كل ما كانت تقوم به. بمجرد عبورها تسري روح شفافة بينهم وتجعل من حركاتهم شيئًا لا معنى له تحديدًا، يقف من كان جالسًا، ويصفر البعض بألحان أغاني العشق، بينما هي تذهب بضوئها كما جاءت لا تنظر إلى أحد. ولم يكن عليه سوى أن يبحث عن مدخل ليبدأ الحديث معها بصورة تبدو عفوية. بقليل من التركيز وجد الطريقة التي ستقربه منها بسهولة واستطاع أن يدلدل لسانه للباقين من شرفة بيتها بعد أسبوع واحد من اتخاذه القرار،بأن ملأ قفة من بلح نخلة الجدة، وأرسلها إلى بيت الحاج حسن كهدية، فما كان من أخويْها سوى أن حضرا لدعوته إلى قضاء الأمسية معهم.
بعد اجتماع أبيه بأخويه قرروا ذهابه مع أخيه محمد للدراسة في ليبيا. جاء الأمر كما لو كان القدر لا يقدم له سوى التسهيلات، عندما تعاقد محمد مع مدرسة ليبية للعمل هناك، واقترح كما اقترح أخوه من قبل أن يصطحب أحمد معه ليدرس في جامعة قاريونس الجديدة وقتذاك، لأنها كانت ترحب بالطلاب من مختلف الجنسيات، ليجنبه الإخفاق الذي قد يلاحقه، إذا درس في جامعة مصرية. قبل أن يستخرج أحمد جواز السفر كان الشبان في البلدة يحسدونه على ما سوف يلتقيه هناك.
عَجَّلَ هذا الخبر الذي انتشر في القرية، من إقدام نهلة على خطوة تصنف بغير المسبوقة وقتذاك. اتجهت إليه أثناء جلوسه قرب الزروع. سألته إن كان الخبر صحيحًا. كان مجيئها مُربكًا، نسيَ كل شيء وهب واقفًا أمامها يمسح ما علق من تراب عن جلبابه، ثم ابتسم وأجاب:
"أيوة.. هاسافر بعد شهرين".
سارا على ضفة النهر، ومنذ ذاك الحين اتخذت العلاقة فيما بينهما شرعيةً ما، ولم يحرصا كثيرًا على ما قد يفهمه الآخرون عنها. عندما كانت تعبر بمحاذاته إذا كان مع الأصحاب، يعرف أنها ما خرجت إلا لتراه. وقد تأتي إلى بيتهم في زيارة خاطفة لتسلم على أمه وأخواته البنات، يستقبلنها بإجلال خاص، مازالت ابنة المدينة الكبيرة. تتحدث وتمشي وتجلس برقة كما لو كانت زجاجًا معرضًا للتهشم. بعد حين أصبحت زيارته إلى بيتهم عادية، يلتقيها وسط أسرتها في الأمسيات ويتحدث كما لو كان وسط عائلته، يُخصص قفصًا من المانجو يذهب إلى بيتهم قبل أن يرسل أبوه إلى بناته المتزوجات في النواحي القريبة نصيبهن. في النهاية اعترف أمام أبيه بحبه لها، فما كان من إخوته إلا أن تعايشوا مع ما يشعر تجاهها مع الحرص على عدم تصنيف العلاقة، لقد سُميت علاقة قرابة استطاع أحمد أن يجعلها قوية، وكان الآخرون عند حسن الظن فلم يلمحوا في وجود أحد منهم إلى هذه العلاقة قطّ. ظلت علاقتهما بوتيرة ثابتة طوال الشهرين. فاجأت الجميع فيما أطلقوا عليه الاحتفال الذي أقامته العائلة بمناسبة رحيل ابنيها إلى ليبيا. وافقت أمها على ذهابها بعد قليل من الإلحاح. كانت حتى ذلك الوقتتعاملها كطفلة لا يُرفض طلبها. استقبلتها أسرته بحفاوة كبيرة. وفي غمرة الانشغال بالعشاء وجدا نفسيهما بمفردهما في المندرة، فما كان منه إلا أن أمسكها من يدها وسارا إلى الركن خلف الباب، ألصقها في الجدار والتصق بها. ذكَّرَه جسمُها بماريا. كان لجسمها طراوة الخبز الشمسي. اضطر إلى أن يثني ركبتيه قليلاً ليحتوي صدرُه صدرها ويعشق أصابعه في أصابعها. كانت كعجينة لينة لا تدفع إلا لمزيد من الهرس، وفي الوقت الذي كان الجميع منشغلاً في الخارج، أقاما احتفالهما الخاص بأن غابا في ملكوت قبلة طويلة.
نفاجأ عند وصولنا إلى باب المستشفى أن موعد الزيارة انتهى. لا يكفي يوم القاهرة إلا لشراء وجبة غداء! قال لي ناقد مرة: "إنتاجك غزير لأنك بعيدة عن القاهرة.. حيث الوقت مازال بخيره". حتمًا لم يجدني جميلة بما يكفي ليحفزني على الانتقال إلى القاهرة، أو على طلب الطلاق من زوجي! لا أصدق أنني لن أبقى معك اليوم، كل ما استطاع يوسف فعله، بعد أن منح الحارس بعض المال، أن وعده بحمل كيس الطعام إليكما في الغرفة يا زياد. أرفع وجهي، أبحث عن شرفتك بين الشرفات الكثيرة المطلة على الواجهة، يلهمني الله الاتصال هاتفيًّا بك:
"احنا تحت يازياد.. بس معاد الزيارة انتهى"
"طيب والأكل يا منى؟".
أبتسم رغمًا عني، ألا تهتم برؤيتي؟ مازلت كما أنت، لا تتذكرني إلا في حالات جوعك، كخروف صغير لا يركن إلى أمه إلا وقت الرضاعة. كنت أستبقيك للاستحمام بصعوبة. بمجرد خروجك من تحت الدش تجري باحثًا عن لعبك، فأجري وراءك بالملابس. تفاجئني برغبتك في إغلاق الخط قائلاً:
"يالا بقىارجعوا قبل السكة ما تتزحم".
إذن وصل الطعام إلى غرفتك. حسنًا،كن بخير. مازال هناك وقت غدًا لأراك قبل إجراء العملية. سأدعو كثيرًا هذه الليلة. غدًا السبت، لا يوجد التباس هذه المرة. العملية ستجرى في الحادية عشرة صباحًا كما حدد الطبيب، ساعة ونصف من شقة خالك حتى المستشفى، إذا كان الطريق عاديًّا. كل جيدًا، لا تترك أبوك يأكل القطع الجيدة. أعرف أنك تتشاجر معه إذا آثر نفسه كعادته. كل شيء يبدو حسنًا هذا اليوم، وبائع المثلجات أمام باب المستشفى منشرح بما حققه من مكاسب. كن بخير كما قلت لك،سيمر الوقت سريعًا.
في المدرسة الإعدادية للبنات تأكدتُ أني بنت! يستقبل أولاد المدرسة الثانوية ومدرسة الصنائع عبورنا كل صباح بتلويح وغمز، وأحيانًا يقذفون صديقاتي بقطع الشيكولاته، أما الناظرة فتستقبل كل بنت بفحص هيئتها وما إذا كان شعرها مصابًا بالقمل، وأظافرها مقلمة أم لا. أكدت لي صديقتي في الدُّرج، أن البنات يُغرقن لباسهن بالدماء مرة كل شهر، إذا حدث لي ما يحدث لهن فأنا بنت، ويبدأ هذا الحدث في الصف الثاني الإعدادي، بعد امتحان نصف العام بقليل، وعليَّ أن أنتظر لأتأكد بنفسي. سألتها: "ولو محضرتش الامتحان طيب؟". لكنها لم تجبني.
بالصدفة وحدها تعرفتُ على أميرة. كانت فتاة سمراء. صديقة هدى الفتاة التي حرصت أمي على أن نذهب إلى المدرسة ونعود منها معًا، كان على صديقتي أن تذهب إلى والدة أميرة لإحضار طريقة إعداد بسكويت الفول السوداني لأمها. دخلتُ معها إلى صالة البيت حتى تنقل أميرة الطريقة من دفتر يخص أمها. لفت انتباهي وقتذاك وجود مكتبة كبيرة تلتهم الجدار كله وتقف في شموخٍ بصالة البيت، مرصوصة بعناية بالغة ومليئة بالكتب والمجلدات. سألتها حينما كانت منهمكة في تدوين الطريقة: "إنتي قريتي كل الكتب دي؟"، فأجابت: "الكتب في الناحية دي بتاعة بابا.. لكن الكتب دي بتاعتي وقريتها". تنبَّهَتْ لوجودي وقت نطقي بالاستفسار عن الكتب. نظرت إليّ مَلِيًّا وتفحصتني. كانت في مثل سِنِّي تقريبًا. يبدو من مظهر البيت أنه مختلف عما عهدته من بيوت الصديقات. احتوى على كثير من الأشياء الملوَّنة والغريبة. من باب جانبي ظهرت غرفة احتوت على سريرين كل واحد بدورين، الأمر الذي بدا لي عجيبًا، وفي الركن ألعاب كثيرة لم أعرف طريقة اللعب بها، حدسي الداخلي فقط هو الذي أخبرني بكونها ألعابًا. يعمل أبوها في السعودية، ويعودون كل إجازة، وبقوا هذا العام لأن أباها قرَّر أن يلتحق أولاده بمدارس مصرية. عرفتُ الكثير عنها. فيما بعد سألتها إن كان بإمكاني أن أستعير كتابًا فقبلَتْ بودّ، الأمر الذي أدهشني. أخذتُ الكتاب دون معرفة طبيعته وخرجت، كانت قصة تان تان والكابتن هادوك. من القراءة فهمت أنها سلسلة طويلة من القصص، وهناك الكثير من المغامرات التي يجب أن أقرأها لأعي تمامًا شخصية الاثنين. تذكرت فورًا أن أميرة تمتلك كل إصدارات السلسلة، ويجب أن تصبح صديقتي الحميمة إن رغبت في قراءة كل القصص.
هكذا بدأتُ أعرف القراءة، استعرتُ ألغاز المغامرين الخمسة، والشياطين الـ13. مجلدات ميكي، ومجلات سمير وكابتن ماجد. أدخل الكتاب من مجلده الأول ولا أخرج إلا من مجلده الأخير، على الرغم من نداء أمي الممطوط كثيرًا أثناء القراءة. كنتُ ألبِّي لها كل ما تريده قبل البدء، ووجَدَتْها أمي فرصة ضغط عليَّ بعد أن عرفت نقطة ضعفي الجديدة، فطالبتني كي تتركني للقراءة بتنظيف المطبخ ومسح بسطة السلم والبلكونة، ثم قررتُ في وقت لاحق أن أجلس في عشة الفراخ على سطح البيت أثناء القراءة، متحملة الرائحة النتنة وصوت صياح الديك ورغباته الجامحة مع الدجاجات. وقتذاك لم يكن لديَّ شك أن أبطال هذه القصص موجودون في أماكن متفرقة بعيدة، وأن الصدفة قد تجمعني بهم أو بأحدهم يومًا، وعليّ أن أستعد للقائهم بشكل ما، ثم لفتَ انتباهي أن والد أميرة لا يشتري الأعداد الجديدة من هذه السلاسل، فأخبرتني أنه توقف كي يبدأ إخوتها في الاختيار كل حسب ذائقته وميوله، فاتجه أخوها الذي يكبرها بسنوات إلى كتب الميكنة واتجهت هي إلى شراء كتب التطريز. امتعضتُ، وتعجبتُ من غبائها، كيف تترك الخيال في القصص لوخز الإبر في كتب تعلم غرز المفارش والملاءات! حثثتها على الاستمرار في قراءة الألغاز، لكنها لم تهتم، لذا لم تستمر صداقتي بها سوى الفترة التي كنتُ أستعير فيها القصص من مكتبة بيتهم، وبمجرد أن انتهت صفوف القصص لم يكن هناك ضرورة للاستمرار.
تغيَّرت مفاهيم كثيرة لديَّ في وقت لاحق، بمجرد تأكدي أني فتاة فعلاً. توصلتُ بشكل ما إلى أن بعض الكذب يُضفي نوعًا من السحر على الحكايات التي نقصها. لم يهمني مساحة الكذب في قصص الصديقات، مادمت أسمعها فقط ليسمعنني أيضًا. حكيتُ عن طالب دبلوم الصنائع الساكن في أحد بيوت الطلبة بالقرب من بيتنا، ومحاولاته لفت انتباهي، وكيف حاول أكثر من مرة أن يُرسل إليَّ خطابًا. آخر محاولاته التي باءت بالفشل كادت تُودِي بي وتفضحني أمام أمي، عندما لَفَّ خطابه حول حَجَر صغير وقذفه باتجاه بلكونة بيتنا وقت استذكاري وقبل امتحان الصف الثالث الإعدادي بقليل، فخبط في شيش غرفة أمي المجاورة للبلكونة، واستيقظتْ على الصوت، فدخلتُ سريعًا قبل أن تنسحبَ خيوطُ النعاس من جفنيها وتعي حقيقة ما حدث. تمددتُ على الكنبة في غرفة الجلوس مُدعيةً الاستغراق في النوم. ألقتْ أمي نظرة سريعة على أركان البيت، ونظرتْ من البلكونة. الشاب تحول إلى شبح أسود وتلفع بالعتمة، وأنا أقوم بتمثيل دور المستغرقة في سابع نومة على الكنبة. إذا أدركتْ بقليل من التبصر ما حدث فلن أعترف. حتى إذا ذنَّبتني أمامها في محاولة جادة منها لمعرفة الحقيقة.
كل ما قلته للصديقات عمّا حدث لي مع الشاب كان مختلفًا، قصصتُ بثقة أن خطابه وصلني، وأنه كتب لي يعترف بحبه، وأني جميلة، أجمل بنت رآها، وواعدني قرب قصر البرنس يوسف كمال. قلتُ أيضًا إنه اشترى لي هدية سيعطيني إياها في اللقاء. هذا ما حكيته لهن. لم أغفل بث ما أود إيهامهن به على لسان الشاب عن جمالي، كي أغيظهن، وانتظرتُ يومين وحكيتُ لهن ما حدث أثناء اللقاء، وكيف كانت لمسة يده، ودفء شفتيه، وارتباكه. طالبتني صديقتي هند برؤية الهدية التي قدمها لي، فلم أجد إلا زجاجة كولونيا "خمس خمسات" عطر أبي بعد الحلاقة، لأستعيرها صباحًا قبل ذهابي إلى المدرسة داعية من الله ألا يلحظ اختفاءها حتى أعيدها ظهرًا، وتحملتُ سخرية صديقتي من الهدية، وشك الأخريات في كونها هديته، مشيرات إلى نقصانها واستخدامها كثيرًا قبل الآن. ما لم أحسب حسابه أنني سأغرق في تصديق ما قلته، وأني بعد حين كنتُ أتذكر كذبتي على اعتبار أنها حقيقة وأنها قصة حبي الأولى التي أرَّقني عدم اكتمالها وقتذاك.
أبي بدأ ينسحب من حياتنا ليتقوقع داخل آلامه، قبل أن تتشابك خيوط حياتي بخيوط حياته. لا أذكر أننا تحدثنا مرة كأب وابنته. ما رَسَخَ في مخيلتي عنه نومه الدائم في غرفته، وقيامه في الضحى للجلوس في الصالة، يُشرّعُ المصحف على مسند التلاوة ويبدأ في تنغيم صوته بالآيات. قد يتغير وقت التلاوة ليصبح بعض صلاة العصر وقت إعداد أمي الشاي له. أذكر في وقت موغل من طفولتي قيامه باصطحابي لنتمشى على الطريق الزراعي. نستنشق هواء ما بعد الفجر، بعد أن نصحه الطبيب بضرورة القيام بهذا الطقس يوميًّا، كي أشفى من سعال ديكي أَلَمَّ بي، ولم تكن نوباته تتركني حتى بعد اندهاش ديوك أسطح الجيران من صياحي الدخيل عليها. سمعته مرة يحكي لعمتي التي أتت خصيصًا لرؤيته. كان الوقت صباحًا وأمي مشغولة في الطبخ فاقتصرت الجلسة عليهما، ولم ينتبها لجلوسي بالقرب. سَأَلتْه مِمَّ هو قلِق، لم لا يترك ملاك الموت يزوره ويصطحب روحه بخفة لتحلق في الملكوت النهائي مع كل من سبق؟ لم يلتفتْ لفظاظتها. توقفتُ عن العبث بما كان في يدي. أرقب ردَّ فعله. نظر نحوي وبكى، قال بصوت مبحوح بعد أن أشار إليَّ: "وهذه البنت.. من يرعاها؟". تأثرتُ بما قال وقتذاك، وكلما تذكرتُ كلامه في وقتٍ لاحق كنتُ أبكي بحرقة، لكن تأثري كان ينقلب إلى سخط عليه أحيانًا. لأنه لم يكن مماثلاً للصورة التي ترضيني عن الأب، وعندما اصطحبني في رحلته الشهرية لاستلام المعاش، رسخ ما حدث لسخطي ووفر مبرراته، كانت صحته متدهورة، أمام رغبة أمي في بقائه أصرَّ على الخروج، قلتُ لها إني معه.التقت يدانا في منتصف المسافة، ربما أمال قامته قليلاً لتصل إلى مستوى يدي. سرنا على جانب الطريق. كان حريصًا على أن أسير بالداخل خوفًا عليّ من السيارات المسرعة. لا يرفع قدميه عن الأرض بعد أن اشتدَّ به المرض. عند عبور الشارع، وفيأقصى الأماكن ازدحامًا سقط، فتَجَمَّعَ المارة وأثَارَ شفقتهم كلها. وجدتُ نفسي خارج حلقة التجمع، لا أعرف ماذا أفعل! رفعهأحدهم، وسأله آخر هل أصابه شيء؟ وجدتني أتسللُ إلى جواره أنفضُ عن جلبابهالتراب في صمت. شعرتُ بخِزي، كم تمنيتُ ألا يكون أبي في هذه اللحظة، أردتُأبًا فتيًّا يحملني ويرفعني عاليًا كي أقطف الغيمات، كما يفعل أخي غير الشقيق عمر مع ابنه الذي في مثل سني. شعرتُ أنه ليس أبي، وعلى الرغم منصغر سني تساءلتُ: لم لا يختار الصغار آباءهم؟ سالت دموعي واختلطت بالغبار الملتصق بوجهي. سألني أحدهم عندما رأى دمعاتي:
"الراجل العجوز دا جدك؟".
لم أنطقبشيء؛ أعجبني اختياره لدرجة القرابة التي قد تربطني بهذا الرجل، أومأتُ بالموافقة في سكون. أمسكتُ يده وسرنا مُبتعدين، وانصبَّ الخزي الذي شعرتُ به علىنفسي؛ لأني في الوقت الذي كان يجب أن أُصرّحَ بدرجة قرابتنا تخاذلتُ، وحملتُوزر هذه الفعلة على كاهلي في كل أيامي.
دعني أوضح بعض الأشياء التي لن تعرفها إلا بتفسيرها لك يا زياد. لم يُصِب المرض أبي فقط، بل كنتُ ممن أصابهم مرضه في مقتل، بعد أن زحف الشلل الرعاش إلى باقي جسمه ولم يعد محصورًا في الإبهام. كنتُ أحيانًا أمسك يده مدعيةً إسناده للوقوف، بينما لا أقصد من هذا التصرف سوى إسكات رعشته. أتحامل بقوتي وأمسك كتفه أيضًا. يتنبه لأفكاري فيصاب بعصبية وهو يُنحِّيني جانبًا ويحاول المشي بمفرده، مُمسكًا بكل ما تقع عليه يده خشية السقوط، وملصقًا قدميه بالأرض كي لا يختل توازنه. المرض حياة أخرى يا زياد. حياة لك بمفردك، لن يعرف الآخرون مهما أحبوك وأغدقوا عليك من وقتهم وحنانهم أين يضع سياجه لتبقى بداخله معزولاً بما تشعر. مع هذا لم ألتمس له العذر، وفي أحيان كثيرة بينما هو يتأوه بصوت مكتوم متواتر أطلب منه أن يلاطفني بربتة حنون أو يتناقش معي في أمور لم تكن تهمه في حالته.
بعد تدهور صحته فُتِحَ باب البيت على مصراعيه لاستقبال زائريه. لم يعد البيت مُبهجًا. لا ندرك حقيقة الأشياء إلا بعد تغيرها، لذا استشعرتُ هذا بعد أن ضاق حيز حركته واقتصر على البلاطات بين الحمام والسرير. لم يعد يُلقي علينا النكات في الأمسيات بلغته الفصحى. لم يعد صوته يعلو مستعجلاً الطعام. لم يقترب من المصحف ويفض انغلاقه على مسند التلاوة. ظهر يوسف في البيت أخيرًا ليبقى. كان على السادات أن يُقتل ليعود حليق الذقن يرتدي الجينز نفسه الذي ذهب به، كأنه لم يمر بمرحلة الذقن والجلباب. فوجئنا باغتياله أمام عدسات الكاميرات عند حضوره الاحتفال المعتاد بحرب أكتوبر، والذي لم يفوّت أبي مشاهدته على الرغم من مرضه. لم يقُم من رقدته، طالبني فقط بتوجيه شاشة التلفزيون ناحيته، وعندما بدأ الحادث اهتزت الكاميرا، وانقطع البث المباشر. ظل أبي قلقًا، لأنه توقع أن حادثًا كهذا لن يقتصر على مقتل نائب الرئيس وبعض الحضور. في المساء أذاعت رويتر خبر موته. بكى أبي كثيرًا، لأنه رأى أن أيَّ أحد مهما تمتَّعت شخصيته بكثير من مواصفات القائد فلن يقدر على أن يحل محله. بعد يومين، أخذ الأمن على عاتقه القبض على أفراد الجماعات الإسلامية. في النجع، بدأ كل منهم يحتال بالعودة إلى مظهره الأول، ويستعين لإقناع الآخرين بأنه لم ينتمِ يومًا للجماعة ببعض الاستهتار، كتدخين السجائر وشراء البيرة من محل مكاريوس قرب مبنى السينما، ومعاكسة كل امرأة تمر في الطريق بكلمات خارجة. ليكتب له سجلاًّ حافلاً بالبذاءات كدليل براءة يُبعده عن شبهة الانتماء إلى الجماعات. رجع يوسف إلى صوابه تمامًا بعد حادثة مر بها. عندما كان عائدًا مع صديق من صلاة الفجر. بينما هما يسيران في شارع 15 مايو توقف جوارهما بوكس الأمن وبدأ في فحصهما. كان ذقن يوسف محلوقًا للتوِّ لذا أثار حيرتهم، وفي الوقت الذي كانوا يُدخلونه غصبًا في البوكس لمجرد سيره مع رجل يطلق لحيته، سبَّ الدين للعسكري الذي كان يقبض على ذراعه،فما كان من الضابط في مقدمة البوكس إلا أن أمر بتركه. عاد سالمًا يشكر الله لأنه ألهمه سب الدين في الوقت المناسب، ليشاركنا حالة الصمت والحزن، مترقبين نهاية أبي. غطت أمي التلفزيون بمفرش أبيض، كما وضعنا جهاز التسجيل الجديد والخلاط بمطحنتيه ودورقه وكل ما جلبه لنا أخي محمود من الكويت في الدولاب خوفًا من السرقة أثناء هجمة المعزين. ثم ذبحت الدجاجات، وأمرتني وعبير بتنظيفها جيدًا، حفظنا بعضًا منها عند أم أمل جارتنا في الدور الأرضي، بعد أن امتلأ فريزر ثلاجتنا إلى آخره. عندما دخل أبي في غيبوبته الأخيرة رشت العشة بمبيد الدي دي تي وأغلقتها بالقفل جيدًا، ونبهت على أم سامح أنها ستعود إلى تربية الفراخ في وقت لاحق، كيلا تنتهز الفرصة وتضمها إلى عشتها الواسعة. ثم أمرتنا بترتيب الشقة وغسل جميع الأطباق، كي لا يعيرنا الجيران بالإهمال عند وفودهم إلى البيت إذا انطلق صراخنا في أي لحظة.
ثمة أشخاص يجب أن يموتوا كي نخلق لهم أسطورة تعيش بداخلنا، لنعتقد دومًا أن مستقبلنا الأفضل أخفقنا في تحقيقه بسبب موتهم، ونجد المبرر لتعاستنا في غيابهم. كان أبي أسطورتي. حولته إلى طيف يصاحبني ويحميني من كائنات غامضة قد تتربَّص بي في منعطفات الحياة، بل ويُزيل العراقيل أحيانًا. أستشير صورته المعلقة في غرفة الجلوس فيترك لي الرد في فكرة تطرأ عليَّ وقت تأملي، أو في زيارة عابرة قبل غفوة. عزَوْت تعاستي المزمنة إلى موته. في مرحلة تالية فسرت حبي الشديد له بأني أكفَّر عن موقف قديم كان يجب أن أعترف فيه بأنه أبي، يوم أن سقط وسألني الرجل إن كان جدي فأكدت كلامه. رحل أبي وقت أن كانت صور مذبحة صابرا وشاتيلا مهيمنة على نشرات الأخبار والجرائد والمجلات. تحوَّل اهتمامي إلى الجرائد التي كان إخوتي يشترونها، ولم أعد أهتم كثيرًا بآخر مغامرات كابتن هادوك مع تان تان. شعرت برابط بين موته وإحساس القهر مما حدث في لبنان، وعندما كنت أستجير بالورقة والقلم لأول مرة في حياتي لأسجل خسارتي وجدتني أكتب أول خاطرة. كانت عن ضحايا هذه المجزرة.
ثم دخلتُ المرحلة الثانوية، بمظهر جديد. لم أعُدْ الفتاة السمراء النحيفة التي كنتها. زارني خراط البنات كما كانت أمي تقول، عبرتُ إلى مرحلة الأنوثة بيُسر، وليس بتمزُّق جلدي وخروج فتاة أكبر من داخله كما كانت أختي تقول. عانيت الكثير من المشكلات في هذه المرحلة، لم أكن أرى الصورة التي أتخيَّلها عن نفسي كلما نظرت إلى المرآة، كنتُ أرى أخرى لا تشبهني، لا أريد لجبهتها أن تكون هكذا، ولا لشفتيها الهيئة التي بدتا عليها. كتفاها أعرض من اللازم، وخصرها لا يضيق كباقي الفتيات ليمنح الردفين استدارة وجمالاً! لكني استطعت أن أتغلب على هواجسي بإجراء بسيط، لقد توقفتُ عن تأمل نفسي أمام المرأة، واكتفيتُ بسؤال أمي عن سلامة هندامي كل مرة أخرج فيها، ولم تكن تقول سوى عبارة واحدة اكتفيتُ بها كل مرة "زيّ القمر" فيما بعد اكتشفتُ أن كل أم تقول العبارة نفسها لابنتها دومًا كي تُخلصها من الوساوس، أو كي تستريح منها. أكثر ما أرَّقني هو كبر حجم كفَّيَّ، كنتُ أحاول إخفاءهما كلما تحدثتُ مع أحد، وفي أحيان كثيرة لم أكن أستخدمهما، أسقطهما جواري. أصبح الكفان أول ما يلفت انتباهي في الفتيات الأخريات. ومن مُراقبتي لأكفهن جميعًا أحدد عيوب كفيَّ، أصابعي طويلة، وأظافري إذا أطلتها تبدو مفلطحة. باطن يدي عريض، وعروق زُرْقٌ تغشى ظهرها وتبرز بقوة إذا أملتُ يدي. لو استطعت أن أقطعهما وقتذاك لفعلت. انتهت معاناتي بشكل مفاجئ في مرحلة لاحقة، بعد أن توطدت علاقتي بـبكر. قال لي بعد تأمل يدي في وضح نهار أحد الأيام: "يداكِ جميلتان". نظرتُ إليه باستغراب. اعتقدتُ للوهلة الأولى أنه يمزح، لكنه عادة لا يصبر على امتداح ما يعجبه، نظرت إلى يدي طويلاً،ولأول مرة فردتهما بثقة.
ليس هذا ما عانيتُه فقط، ثمة قلق لازمَني طوال هذه الفترة، واعتقدتُ أن سببه يرجع إلى فقداني قصة حب حقيقية أعيشها بكل تقلباتها. كنتُ أشعر أن شيئًا ما يجب أن يحدث في القريب، شيئًا يغير حياتي وينقلني إلى حالة الاستقرار، فلا أضطر إلى التحرك داخل جدران البيت دون داع، بل أشعر معه بأن روحي مقاس جسمي وليس هناك فائض منها يعصف وجوده حرًّا بهدوئي. لم أعرف ما هذا الشيء أبدًا، انتظار حدث غامض سيأتي حتمًا في المستقبل وسيغير حياتي، حتى عندما بدأتُ أنشئ بعض الصداقات التي استمرت معي حتى نهاية المرحلة الثانوية، ثم تحولت في فترة الجامعة بعد أن التحقتُ بالقاهرة إلى علاقة تبَارٍ ومنافسة خفيَّة مع الاحتفاظ بشكل الصداقة السطحي. كنتُ كما أنا شخصية قلقة غير مستقرة،لكن هذا القلق كان داخلي فقط، لا يبدو على مظهري إلا نادرًا. على الرغم من دخولي مرحلة جديدة كنتُ أشعر أني لم أتغير، ظلت بداخلي الفتاة التي تضرب الصبيان بالشلوت إذا ما فكروا في الهجوم عليها. والأخرى فاقدة الهوية، التي لا تعرف إن كانت ولدًا أم بنتًا،وتلك التي لم تجد لَذَّتَها إلا في تلفيق القصص وتصديقها. كلهن كمَنَّ بداخلي وعاودن الظهور كل حين. كلُّ ما استطعتُ فعله هو ضبط تصرفاتي على مواصفات البنت الجديدة، الأكثر تريثًا وصمتًا والأكثر قلقًا، لكنها في الوقت نفسه قادرة على إخفائه، والتي تستطيع بشكل أفضل الاستماع إلى أحاديثِ الآخرين. تركتُ للجميع فهم صمتي ورغبتي في الانزواء كل حسب تقديره. كثيرون اعتبروه من دلائل العقل وضبط النفس. راقني ما توصلوا إليه، فتماديتُ حتى وصلتُ إلى عدم النطق في كثير من الأيام، ولأني ظللتُ أكثر ميلاً إلى اختلاق القصص والتعامل مع الشبان أكثر من الفتيات، ومع ضيق الدائرة في المجتمع الجنوبي على الفتيات الناضجات وعدم السماح لهن بالتنفس بعيدًا عن هواء البيت، لم يكن هناك حل لحالتي سوى الجنون أو الخيال، ولأن الجنون لم يكن سهلاً لم أجد سوى التخيُّل حلاًّ لِيَمُرَّ الوقت. لم يكن عليَّ سوى أن أدَّعي النوم وأدخل في قصة أضع بداياتِها وأنسج أحداثها وأقتل البطل فيها وقبل أن يمسكوا بي أرفع الغطاء عن وجهي وأذهب لأجلس أمام التلفزيون ببراءة متناهية. أمَّا القصص الرومانسية فكنتُ أدَّخرها لليالي، عندما ينام الجميع ولا تضايقني أمي بندائها المتكرر. أضع مواصفات مختلفة لمن سيرافقني في الحلم كل مرة، بعد أن يعييني البحث عن شخص جاهز أعرفه في الحقيقة، أسبغ عليه الصفات التي أريدها لتبدأ قصتي معه، لكنني كنتُ أستغرق في النوم في منتصف القصة تمامًا، بعد أن يبدأ محاولاته في تقبيلي، وفي كل مرة تالية أحاول البدء من نهاية الحلم السابق، لأتجاوز مرحلة القبل إلى حدث أكثر إثارة، لكن شيئًا ما في شخصيتي يأبى لخبطة القصة والبداية من المنتصف، لأنام كل مرة عند مرحلة القُبل ذاتها.
شعرتُ بمعاناة لأن يوسف حمل حقيبته ورحل باتجاه المنصورة هذه المرة، بعد نجاحه في الثانوية العامة والتحاقه بكلية الحقوق. اختار أبعد كلية وتركني كعادته بمفردي أعاني تبعات تعودي على وجوده. على الرغم من بعض تشدداته، أجدني ألتمس له العذر، كلما علقت أمي:
"حبيبك تبلعله الزلط.. وعدوك تتمناله الغلط".
لا أزيد إلا في حبي له. كنتُ أشعر بمسئولية تجاهه دون اهتمام بالبحث عن الأسباب. كل ما قاله إنه سيعود محاميًا يجيد الكشف عن ثغرات القانون كلها، ويستطيع بعد الانتهاء أن يُخرج أعتى المجرمين من أية قضية. استطعتُ أن أجعل مفهومه عن المحاماة هو مفهومي نفسه عنها، مهنة الدفاع عن المجرمين فقط، مادام لم يذكر عن الأبرياء شيئًا. ترك خلفه ثلاثة دواوين لصلاح عبد الصبور، ورباعيات جاهين وشريط كاسيت لفيروز. لم أحب الشعر يومًا، لكن رائحته الباقية على بعض الصفحات دفعتني لتصفحها، في المكان الذي اعتدنا البقاء فيه معًا ليلاً، أقصى ركن في البلكونة، وعلى ضوء عمود النور نفسه. حتى الأغاني التي انبعثت من الراديو بالصدفة ودفعه الضجر لسماعها- وليس لأنها أثيرة عنده- صارت هي نفسها أغانيَّ المفضلة.
بات من السهل الوقوع في الحب دون مساءلة بعد سفر يوسف في بداية العام الدراسي إلى المنصورة وقرار حسين أن يتزوج فجأة وبلا مقدمات. بدأت القصة عندما قال:
"أنا خلاص خلصت.. والجواز عصمة للطبيب من الوقوع في الغلط مع الممرضات".
في أقل من عام استطاع أن يجمع مبلغًا من المال لم يستطع الشيطان نفسه أن يعرف قيمته. بمجرد تعيينه في الوحدة الصحية في إحدى القرى القريبة، استحوذ على ضلفة دولاب وأحكم إغلاقها بقفل كبير. لم يهتم بتساؤل أمي عن سبب هذا الإجراء الأمني الذي لم يشهده بيتنا من قبل. ظل يظهر كل عدة أيام، ويدخل رأسًا إلى الغرفة بعد إغلاق الباب. يتخلص من حمولته برص المال في عتمة الضلفة ويخرج ليبقى معنا ساعات، يتناول فيها ما جهَّزته أمي من طعام خصيصًا له،ثم يُغادر البيت إلى الوحدة. إلى أن فاتَحَ أمي في الأمر، جلس بجوارها على الكنبة وترحَّمَا على روح أبي التي حتمًا ترفرف في الأرجاء، ظلا وقتًا يستعرضان بنات الجيران والعائلة والأصدقاء. أخبرها بميله إلى ولاء ابنة جارتنا الصغرى، لكن أمي حسمت الحوار فورًا بالرفض، ليس لأن أمها دخلت علينا في اليوم الأول من سكننا في الشقة وتأملت السرير النحاسي بنظرة قرف، ولا لأنها احتلت الجزء الأكبر من السطح وبَنَتْ عشة فراخ اتسعت لمائتي فرخة، ولا لتاريخ شجارنا معهم الموثق بشهود العيان، بل لأنهم فقط عائلة بلا أصل ولا فصل، نزحوا من القاهرة ولا يزورهم أحد أبدًا، هكذا نحن في الصعيد، من حقنا الحكم على أصول الغرباء لأننا لا نعرفهم، ويصبحون دومًا كلما ذكرناهم في حديثنا "بلا أصل ولا فصل". قَبِلَ حسين ما قالته أمي بلا مراجعة، وبصوت خفيض طرح اسم نادية مجددًا، وكأن حيدر لم يكن في الصورة أبدًا. وافقت أمي وأكَّدتْ بكلمات قليلة أن تصرفات الفتيات في سن المراهقة مرتبطة بتقلبات غامضة ويحكمها التشوش، لكن نادية الآن ناضجة وتدرس في كلية التجارة، وإن الفتيات اللاتي نعرفهن أفضل بكثير من اللاتي لا نعرفهن. حُسم الأمر ولم يبقَ سوى زيارة بيت سليمان، ومُفاتحة أبيها في الأمر. بعد ساعة ونصف قضاها حسين في قضم أظافره عادت أمي عابسة ولم تخبر أحدًا سوى حسين بما تم في اللقاء. بعد أسبوع واحد وفي زيارة حسين التالية أعلن لأمي قراره، سوف يتقدم لولاء ابنة الجيران. وافقت أمي دون كلمة واحدة، فتقدم لخطبتها في اليوم التالي.
لم يأخذ الإعداد للزفاف وقتًا طويلاً. بمجرد أن ترك حسين قُفل ضلفة الدولاب مفتوحًا اكتمل كل شيء. اشترى شقة في شارع قريب، جهزها بغرفة نوم بنية اللون مطعمة بالعاج، وترابيزة سفرة لها ستة كراسٍ مبطنة بالقطيفة وخمس سجاجيد ومثلها ستائر. وفر أجرة خادمة باصطحابي إليها في أحد الأيام قبل زفافه. طويتُ كل شيء بعد أن أزعجتُ الجيران بنفض النوافذ، وإغراق الأرضية والسلم بالمياه، ولم يكن علينا لكي نعيد كل شيء إلى وضعه الأول إلا أن يتخلى حسين عن عنجهية الطبيب التي تلبَّسته ويُشمّر ملابسه ويبدأ في سحب المياه بهمة معي إلى الشارع. كانت هذه هي المناسبة الأولى بعد موت أبي ليتجمَّع إخوتي جميعُهم تحت سقف واحد، جهزت أمي كل ما ادخرته لمدة شهر كامل من دقيق وسكر وزيت وسمن وذبحت كل الطيور التي كاكت لمدة عام في عشة الفراخ بالسطح. أقمنا الفرح في صوان تحت العمارة، وطالبتني أمي بكتابة اسم كل من تنقطها بالمال، وأن أضع قيمة المبلغ جوار اسمها كي ترده في أول مناسبة تحدث لها. انتهى كل شيء قبل أن أفرغ من تدوين كل النقوط، ثم أوصل إخوتي والأقارب والمدعوون حسين وعروسه حتى عتبة الشقة، وزغردت أمي وبكت في آن، وظلت تبكي طوال الليل. كنت أشعر بفقدها له، منذ أن اقترب ميعاد الزفاف وكلما دخلتُ عليها المطبخ وجدتُها تبكي. سألتها بسذاجة عن سبب بكائها فلم تجب، فأجبتُ نيابة عنها بما تشعر به: "طبعًا حاسة إن الغريبة خدت ابنك". ضربتني بغطاء الحلة، لكنني تفاديته وشعرتُ بشماتة ما تغمرني، الشماتة نفسها التي كنتُ أشعر بها كلما رأيتها حزينة فيما بعد لأن حياته وعروسه وعيادته وكل شيء آخر كان أولى عنده من الاهتمام بها.
وقفتُ في أول ليلة بعد فراغ البيت بشكل رسمي من الجميع، أحصي عدد الشبان الصالحين للحب. كان الشارع قد تغير منذ أن سكنَّا، إلى جانب بعض العمارات كان هناك ستة من البيوت الطينية على جانبيه. قسمت من الداخل إلى غرف صغيرة، سكن عمال مصنع الألومنيوم الذين نزحوا من القرى بيتين منها والأربعة بيوت الباقية سكنها الطلاب القادمون من الأرياف. كان الطلاب ملتحقين بالمدارس الفنية مثل الزراعة والصنائع والتجارة. تذكرتُ رسالة الشاب منذ عام ونصف، لو وصلتني ولم ترتطم بشباك غرفة أمي لكان لديَّ الآن تاريخ غرامي لا غبار عليه. لا بأس، يقولون إن الحب يأتي حين لا نتوقعه، لذا كان عليَّ فقط أن أفكر في كل شيء عداه لأجده. قضيتُ عامي الأول بين الذهاب إلى المدرسة في الصباح والنوم ظهرًا، ثم الاستيقاظ في الليل للمذاكرة، على أمل أن ألتقي أحدهم. يُجيد رمي الرسائل إلى شرفتي، أو يوسط صديقة لي تحب صديقًا له، أو يخرج عليَّ من شارع جانبي لا يستخدمه المارة كثيرًا ليقول لي "أحبك" ظللتُ أنتظر أيَّ حدث علَّه علامة ترشدني، لكن الوقت غير المتوقع لم يأتِ، فتجاهلت أمر الحب تمامًا، حتى وصلت إلى شعورٍ بأن لا أحد يستحق حبي في هذه المدينة، وانصرف ذهني لأشياء أخرى، كأن أضبط مؤشر الراديو على محطة الأغاني حتى يؤنسني الصوت فقط، كلما كانت أمي تسحب شادي وهادي بعد تناول وجبة العشاء، ليناموا في الغرفة المجاورة، ويتركوا لي الغرفة لأستذكر فيها. لم تأخذني كلمات أغنيات الحب لعوالمها، يجب أن أغرق في الحالة لتصبح الكلمة، أي كلمة لها علاقة بالعواطف، مُثيرة لحساسيتي، ثم صدقت ما كانت أمي تقوله:
"لو فيه ولد واحد في الشارع.. كان مستقبل بنات الشارع ضاع".
لذا كان خلو الحي الذي نسكنه من الشباب الملائم للحب في هذا التوقيت، وعدم ميلي إلى مشاهدة التلفزيون، ورغبتي في الهرب من أشغال البيت التي لا تنتهي أسبابًا في انغماسي الكبير في الاستذكار.
مع الأسبوع الأول من العام الدراسي الثالث في المدرسة الثانوية للبنات، أخرجت ماجدة أول رواية رومانسية قرأتُها، كانت من سلسلة روايات عبير. صنفتها المدرسات على أنها روايات إباحية لا يجوز للبنات الاطلاع عليها! الأمر الذي جعلهن يصادرنها بمجرد رؤيتها في أي حقيبة. كل الروايات كانت مُفصلة على قصة واحدة؛ البطل الوسيم الذي تلتقي به الفتاة مصادفة وتعتقد خطأ أنه رجل قاسٍ. تضطرهما الظروف إلى البقاء وحدهما وقتًا، حتى تغرق البطلة في حب البطل، لكنها تخجل من الاعتراف له بحبها، ثم يلوح الخصم من بعيد، متجسدًا في صورة فتاة يهدِّد وجودها البطلة، وعندما تثق أن بطلها ضاع إلى الأبد، يفاجئها الاعتراف بحبه، لكن التفاصيل كانت مختلفة في كل رواية، كما احتوت كل رواية على بعض المشاهد الحريفة، مثل قبلة مغتصبة أو عناق عابر أو حديث باعث على الاشتعال. في التفاصيل كَمَنَ تخيُّلي كله،أركن البطلة جانبًا وأتخيل نفسي مكانها،أعاني ما تعانيه بالضبط، وأضيف عليه الكثير من عندي، أنتعش بتسيد البطل وقسوته، وأذوب مع رقته التي لا يظهرها استكبارًا، حتى أصل مع البطلة إلى حافة النهاية، أكاد أموت مع يأسها ويشهق صدري بالهواء عندما يعترف لها بحبه. تنتهي الرواية لأبحث عن أخرى. ماجدة لم تكن سهلة، كانت دومًا تطالب برواية من السلسلة نفسها لتقبل بإعارة رواية جديدة، ولم يكن عليَّ وقتذاك، سوى أن أتعرَّف على الفتيات اللاتي يقتنين بعض الروايات، وأُنسق بينهن المبادلة سِرًّا،فتعتقد كل واحدة منهن، أني مصدر جميع الروايات. الصعوبة التي واجهتني كانت في كيفية تمرير الروايات من طابور المدرسات المحتشد لمصادرتها كل صباح.
على الرغم من كم روايات "عبير" التي قرأتها نجحتُ في الثانوية العامة. لم أحاول مراجعة الكشف كي لا أكتشف خطأ النتيجة بنفسي. رأيتُ نظرة الاحترام التي غمرني بها حسين عندما أبلغته. عرجتُ إلى شقته وأيقظته على الرغم من معرفتي السابقة بقدسية ميعاد نومه بعد نوبتجيته الليلية. أصبح من السهل أن أُمْلي شروطي وأختارأبعد جامعة عن البيت دون أن يعترضني أحد. سألني عن الكلية التي سأختارها فقلت بثقة:
"الإعلام".
ثم أكملتُ قبل أن ينطق:
"جامعة القاهرة".
شعرتُ لأول مرة أن الشيء الذي انتظرته كثيرًا وكنتُ أشعر به منزويًا في مكان غامض بدأ يظهر ويحوم حولي.
أنا في الطريق إليك، اليوم هو السبت، والساعة تقترب من العاشرة، طريق المحور لم يزدحم بعد. مئات السيارات فقط، أتساءل: ما حال المرور لو لم تنشئ الحكومة المحور؟ حتمًا تقع أرض أحمد مظهر في مكان ما هنا، رأيته منذ سنوات في أحد البرامج التلفزيونية يبكي، لأن الدولة أخذت جزءًا من مزرعة الخيول التي يملكها. قال عن نفسه إنه فارس السينما المصرية. يروق لي في فيلم "غرام الأسياد" ربما لأن لبنى عبد العزيز – في الفيلم- كانت تجاهد لتقنع الآخرين بأنها فتاة. وربما لأن الفيلم جمع بالحب ابنة السائس وابن الباشا. مازلت أعشق فكرة قصة سندريلا،مهما اختلفت الزاوية. ترى هل تشعر بالخوف الآن؟ لم يتبق سوى ساعة على دخولك غرفة العمليات. نقترب من فندق ماريوت الآن. وبعد ربع ساعة سنكون معك. كان الفندق قصرًا فخمًا في السابق. بناه الخديوي إسماعيل، كلف مصر ربع ميزانيتها آنذاك لاستقبال الضيوف المحتفلين بافتتاح قناة السويس. حتمًا لم يبنه إلا ليلتهم شفتي الإمبراطورة أوجيني في إحدى غرفه.
يصادف دخولي الكريدور خروجك منه يا زياد، كنت جالسًا على كرسي متحرك، تبًّا لهم، تستطيع أن تسبق حصانًا جامحًا. تقول بمجرد رؤيتي:
"هيفسحوني شوية يا منى.. تركبي جنبي؟"
أسأل الممرضة أين يأخذونك، فتخبرني قائلة:
"تحاليل يا مدام".
سيمر كل شيء. أعرف صمودك جيدًا. تتلفت لتنظر إليَّ قبل أن تختفي في المنعطف. يرافقك أبوك وخالك. تتركونني بمفردي. تتساقط دموعي. كنت أرتب للبقاء معك قليلاً. أذكر يوم أن التحقت بحضانة تحسين الصحة، بالقرب من المدرسة التي أعمل بها. لم يكن هناك خيار آخر بعد رفض أمي بقاء أيٍّ من أولادنا عندها. أعلنتْ في كلمة حاسمة أنها ما عادت قادرة على "مُرستان" الصباح، وعلينا أن نتحمَّل أعباء أولادنا أو نبيعهم في سوق الكويت. سلمتك للدادة فسحبت يدك إلى الداخل، أدرت جسمك ونظرت إليَّ باكيًا. ظلت عيناك في عينيَّ حتى اختفيت، لكن بكاءك رافقني وظل ملازمًا لأذني. ولأنك اغتصبتَ بشخصيتك منذ اليوم الأول صلاحياتٍ لم تكن لأخويْك، أعلنت بجرأة أن الحضانة لم ترُقْ لك، ولا المشرفة، على الرغم من قطع الحلوى التي اشترتها على نفقتها الخاصة. وبمجرد دخولك إلى الفصل وذهابي إلى المدرسة، تجلس في الركن بجوار الحائط، وتخلق عالمك الخاص، تسحب الستارة بينك وبين باقي الأطفال والمشرفة والدادة وتنام، حتى أوقظك لنعود إلى البيت بعد انتهاء ميعاد المدرسة. في مرات كثيرة كنتُ أقطع يومي الدراسي متعلِّلة بسبب مختلف كل مرة. أدخل متسلِّلة إلى الحضانة، معتقدة أن صدك لم يكن إلا لأن المشرفة تضربك في غفلة، ولا توليك العناية الكافية. تتركك وتنشغل بإبر التريكو، لكني أجدك كل مرَّة نائمًا خلف الستارة، وأحيانًا أجدها منزاحة عنك وفمك مفتوحًا على آخره أثناء استغراقك في النوم. أوقظك وأصطحبك معي وسط فرحك العارم لتقضي باقي اليوم الدراسي معي في المدرسة.
أدور حول نفسي في الغرفة، أتشمَّم السرير، رائحتك ما زالت باقية، ترى ما الرقم الأخير الذي طلبته على الهاتف؟ ومن اتصل بك بعدي؟ لا أصدق يا حبيبي. أعيد تذكر البدايات. كنتَ منذ صغرك طفلاً مبتكرًا، بوجه ذكي مستدير. في أوقات ما بعد الظهيرة، عندما كنتُ بحاجة إلى وقت مستقطع أستريح فيه، كنتَ تجد بغيتك في نومي، تُسقط الشلت التي رصصتها على الأنتريه وتشيد مدينتك الخاصة. هل أحكي لك عن لحظة ولادتك؟ لا بأس. حكيت لك عنها من قبل! عجيب.. في أوقاتٍ كثيرة كنتُ أستيقظ على صراخك، لأنك دومًا تتسلَّل إلى الحمام، تشب عاليًا وتتناول الصابونة. تُثيرك رائحتها ولونها الفاقع، تقضمها معتقدًا أنها قطعة حلوى. أندهش كلما فعلت هذا، كيف تنسى ذاكرتك مذاقها اللاذع، لتنخدع كل عدة أيام وتقع في الفخ نفسه.
الوقت يمر.. هل تأخذ التحاليل كل هذا الوقت؟ لم يتبق على الحادية عشرة سوى دقائق.. كنت أمني نفسي بقضاء هذه الساعة معك، لأربت على كتفك، وأهش عنك طائر الخوف. أحكي لك عن الأماكن التي كنت أخبئ فيها علبة سجائري وعن قدرة أبيك على التحول إلى تمثال في بعض الليالي. هل أحكي لك عن العفريت الذي حبسته في برطمان؟ أم ما زلت تفضل قصة التفاحة المسحورة؟ عند ذهابك إلى غرفة العمليات سأقرأ سورة يس. يقولون يس لما قرئت له! قرأتها كثيرًا كي يحبني بكر عبد المولى، لكنه سافر في النهاية وتركني. لو سارت الحياة كما تمنيت لأصبح اسمك زياد بكر عبد المولى، ولتغيرت حياتك تمامًا. ربما كنت تفاديت المرض الذي بسببه نوجد هنا الآن. لست واثقة تمامًا مما أقول. أشعر بدوار الآن. وهذيان يأخذني للتذكر.
إلى أن وطئت قدما أبيك أرض مقر إقامة أخيه في درنة. ظل صامتًا، يتابع ما يراه بقلب واجف. لم يضع تصورًا مسبقًا لما سوف تكون عليه الرحلة، لذا كان معجبًا بكل ما يراه. وفَّرَتْ وزارة التعليم للمعارين بيوتًا صغيرة بيضاء، من دور واحد قرب نبع عين بو منصور، بقي مع عمك محمد شهرًا استكشف فيها المدينة بجولتين فقط، ثم واصل جولاته حتى خبر معالم المدينة بالكامل، شارع الكورنيش شمال المدينة وبداية مرتفعات الجبل الأخضر في الجنوب، حتى فتيات المدينة ونسائها لم يسلمن منه، استطاع أن يعرف متوسط مقاسات صدورهن ومؤخراتهن،ثم أزف الوقت لينتقل استعدادًا للالتحاق بالجامعة. ودَّع أخاه وزوجته، واستقل سيارة، مستمتعًا بما أتاحه له الوضع من حرية وانطلاق، سلكت الطريق الساحلي ثم عرجت إلى منطقة قاريونس، ومن قلب المدينة كان من السهل الوصول إلى مقر المدينة الجامعية الواقعة مبانيها داخل الجامعة التي لم يجف طلاؤها بعد. في الصباح التالي كان في باحة الكلية المشمسة.
كان اليوم الأول له في الجامعة عجيبًا. لم يتوقع أن تكون دفعته مكونة من ثلاثة طلاب، هو وفتاتان فقط، وأن الأستاذ يعامله بكل احترام، وأن الجامعة لا تمانع في اختلاط الفتيات بالشبان، بل تشجعه بتنظيم الرحلات إلى مناطق بعيدة للتخييم في الجبل الأخضر وفي سوسة على شاطئ البحر، ونظم الطلاب رحلات إلى أماكن أثرية أخرى، ولم تكن فترات الدراسة سوى أوقات طارئة بين نزهتين. لا غبار في أن نهلة مستقرة في أعمق مكان داخل قلبه، لكن هذا لم يمنعه من التقرب إلى الفتاتين اللتين منحه القدر قربهما بضربة حظ، فبعد تقدير المسافة الشاسعة من مكانه حتى بلدته، والتأكد من خلو كلية الآداب من طلاب مصريين يسجلون تاريخ نزواته، اطمأنَّ إلى أنها لن تعرف شيئًا عن أي علاقة قد يقع فيها، أما اتهام أبيه بالاستهتار إذا علم عمَّا ينوي القيام به فكان مرتبطًا فقط بإمكانية معرفة محمد لأخباره، وفي هذه النقطة اعتمد على طبيعة أخيه الخالية من أي نية للتجسس، لذا استعد لأيامه القادمة ليس بكثير من الآمال فحسب، بل بدراسة كل فتيات الجامعة من الصف الأول حتى الصف الأخير. كانت جليلة تونسية من أصل بربري. طويلة وسمراء.. أما سارة فكانت فلسطينية لها شعر بني يميل إلى الحمرة. كان سعيدًا بوجوده بين فتاتين. بدأ يتصرف معهما- في أول رحلة للجامعة إلى منطقة الشحات- كما لو كانتا زوجتيه، أمر جليلة بإعداد الساندويتشات، ونظر إلى سارة وتفحصها كما لو كان يبحث لها عن مهمة، ثم قال:
"وانتي جهزي لنا تُرمس شاي".
في الباص، فوجئ أن سارة جلست بجوار شاب من المرحلة الثالثة، كان فلسطينيًّا وعرف لاحقًا أن اسمه نضال. يحمل وجهه وسامة خافية. شعر بغصة، لم يكن هناك مفر من الجلوس بجوار جليلة. كاد يسألها عن الشاب الذي يرافق صديقتها لكنه يعرف بالفطرة وحدها أن سؤال فتاة عن أحوال صديقتها إهانة لأنوثتها، ولأنه كان قادرًا على خداع الطرف الآخر دومًا بالظهور كمستمع جيد ادعى الانخراط في الاستماع إلى جليلة، بينما انتباهه انصب على سارة. ما إن جلست جليلة جواره حتى بدأت في سرد ذكرياتها، وعرجت على طبيعة الحياة الصحراوية في بلدتها المتاخمة للحدود الجزائرية، ثم حكت عن أخيها الذي أضجرته الحياة الصخرية فسافر إلى قليبية على الساحل، ولم يدخر وسعًا بمجرد وصوله المدينة في البحث عن متعهد لتهريب الشباب إلى إيطاليا. دفع له كل ما ادَّخره من عمله بالنجارة وما سرقه قبل رحيله من أمها، ولم يروه منذ ذاك الحين. لم يكن يستمع، ومع حميمية حديث سارة ونضال قرر الانصراف بذهنه عنهما، حتى صارت عيناه تغفوان من السأم، وعندما أخبرته جليلة بجرأة ومن دون سبب أنها ليست عذراء تلفت إليها. طلب منها إعادة ما قالته، فأكدت ما نطقت به دون خجل. في هذه اللحظة تحديدًا نسيَ سارة ولم يعد يتذكر نضال، واستدار قليلاً ليوليها كل اهتمامه.
بدأت علاقته بها تتوطد، منذ أن اختصته بسرها في الباص حتى اكتشف أنها تقوله للجميع دون الشعور بنقص أخلاقي. كان يشعر أنها ليست كباقي الفتيات اللاتي عرفهن من قبل. بداخلها شيء ذكوري لم يصل إلى حد إضاعة هويتها الأنثوية، لكنه يجنح بها عن صفات الفتيات، لم تتكشف له حقيقتها مرة واحدة، لكن بمجرد لمسه لاختلافها واصل السعي للوصول إلى كنهه، ربما إيمانًا منه وقتذاك أنه يجب أن يمارس علم النفس الذي يدرسه على من يوقعه قدره في طريقه، لذا استعان بها دون قلق ليعرف حقيقة علاقة سارة بنضال. من ناحيتها كانت تتحدث معه بكل صدق كأنها صديقه المؤتمن على الأسرار، بانحياز أكثر إليه كأنها الأقرب إلى جنسه. حكت له عن سارة كل شيء، بعين شاب لا يخطئ مواطن جمال الأنثى. قالت إنها جميلة جدًّا أثناء نومها وعند استيقاظها، وإن أصابعها دقيقة جدًّا، أجمل من أصابع الموناليزا. وخصرها منحوت ببراعة، صدرها صلب كرمانتين ناضجتين وردفاها مستديران يتغنجان أثناء المشي. كان أحمد مندهشًا، ليس لأنها تصف له سارة بهذه الطريقة فقط، بل لأن سارة لم تشتك مرة من تحرشها بها. لم تتغيب جليلة عن جلساته في باحة الكلية، تحجز له مقعدًا في المحاضرات العامة والتربوية في الصف الأمامي، وتنسخ له المحاضرة فلا يضطر إلى الحضور ويكتفي بالسكاشن الخاصة بعلم النفس، حيث كان من الصعب التغيب.
لم يُلهه بقاؤه مع جليلة وسارة عن انغماسه في صداقات عميقة مع شبان شكلت علاقته بهم تجربته، بل وجد في المدينة الجامعية ومصاحبة أقرانه حياة موازية تمتلئ بكثير من المغامرات. لا يهز ميله للنزق والاستهتار من صورته مادام باقي أصحابه يتمتعون بالمواصفات نفسها، بل كانت مغالاة أحدهم في نزقه ترفع درجاته عندهم، لذا تم التعامل معه كشاب مكتمل موثوق فيه، ولم تقتصر الأمسيات على استعراض ما يفعلونه طيلة النهار أو الاستذكار، بل امتدت إلى حياكة المؤامرات الصغيرة للحرس الذي يحمي المدينة الجامعية. شَكَّلَ من هيثم الشاب الأردني وماجد اليمني وهادي العراقي فريقًا ودشنوا إقامتهم بمغامرات لم تخرج في البداية عن محيط مبنى المبيت. يرتدون الأقنعة التي لم تكن إلا جوارب سُودًا مثقوبة عند العينين في بعض الليالي، ويخرجون عليهم وهم نيام، يفزعونهم بصراخ شياطين أتت من جهنم للتو، بعد إشعال النار في بعض الحطب الذي جمعوه خصيصًا لتكتمل المسرحية، ثم يختبئون قبل أن يكتشف أحد هويتهم، ويتركون الحرس في حالة هرج شديد، مستغلين عدم قدرتهم على الشكوى لقائدهم في الصباح، لأنه بقليل من التحرِّي سيكتشف أنهم ناموا وتركوا نوبة الحراسة الليلية.
لم يقصر علاقاته بالجنس الناعم على جليلة وسارة. قرر أحمد أن يسعى لمرافقة رؤى السورية التي تعرَّف عليها أثناء مجيئه بالباخرة إلى ليبيا، بعد إجازة منتصف العام. كانت عائدة من السويداء، ولحسن الحظ، ركبت الباخرة نفسها التي ركبها أحمد من ميناء الإسكندرية، وظلت لمدة ثلاثة أيام بعد ذلك في البحر. كان واقفًا عند مقدمة المركب عندما طار شالها، وألقته الريح بالقرب منه، التقطه بثقة وسار إليها، ومن كلمة العفو التي رد بها على جملتها "شكرًا خيي" عرفتْ أنه مصري، ومن هنا بدا الحوار. ظلا يتحدثان عن الواقع العربي، وتداعيات تحطم حلم الوحدة المصرية السورية، وحالة اللاسلم واللاحرب بين مصر وإسرائيل، وشتات الشعب الفلسطيني. تحمل حوارها السياسي المتعمق بصبر، واستعان ليجاريها ببضع كلمات لا تشي بجهله السياسي، وفي كثير من التعقيبات كان يكتفي بعبارة "أوافقك الرأي تمامًا" حتى اعتقد أن الحديث لن يخرج عن جديته أبدًا، لكنها فور وصولها أعطته رقم هاتفها، وعنوان مكتب الشئون الاجتماعية الذي تعمل به في بني غازي، ولم يكن عليه إلا أن يتصل بها في أول فرصة ليبدآ حديثًا لم يتطرقا إليه على متن الباخرة. كان حذرًا في بداية العلاقة، لأنه توقع أن يضع أبوها العراقيل إذا فكر في الخروج معها، أو خمن بأنها ربما تعيش مع أسرتها المتحررة، التي تسمح لها باستقبال مكالمات كل حين من شبان لا غبار عليهم، إلى أن أخبرته في لحظة احتياج إنساني بالحقيقة وسقط جدار الوهم الذي كان يبنيه بينهما. أخبرته أنها وحيدة تعيش مع بعض المغتربات منذ وفاة أمها وأبيها في حادث بسوريا، ومنذ ذاك الحين شهدت شوارع ليبيا قصة حبهما.
عندما يتذكرها بعد عودته إلى مصر لا يشعر بالندم لأنه استمر معها عدة شهور، أثمرت عنده معظم ثقافته السياسية، ومعارفه عن ليبيا. كان يرى الفترة التي قضياها معًا ذات طابع تثقيفي، لأنه في الوقت الذي لم يكن يريد سوى علاقة عابرة قد تقتصر على السير متجاورين والهمس بكلمات الحب، كانت طبيعتها المتبصرة التي تميل إلى سبر أغوار المجتمع الليبي وإلى عشق كل ما هو قديم فيه، تدفعها لاختيار أماكن بنكهة خاصة، من الصعب أن يزورها بمفرده أو مع أصدقاء لكل منهم جنسية مختلفة، ولا خطة ذات منهج هادف لنزهاتهم، لذا زار معها سينما البرنتيشي بشارع عمر المختار. اعتقد في البداية أنها ما اختارت السينما إلا ليجدا متنفسًا في الظلام. جلس مترقبًا حتى انتهى عرض الفيلم، وبعد الخروج بينما هو في قمة إحباطه، يسقط يديه بجواره في تعاسة. أسهبت في شرح تاريخية المكان، بعد عدة أيام سحبته من يده كطفل مطيع لزيارة منارة بني غازي التي بنيت في عهد الاحتلال الإيطالي، قرب ضريح الولي الصالح سيدي غازي، واختارت توقيتًا ليليًّا للزيارة، الأمر الذي دفعه إلى الثقة هذه المرة بأنها تجره إلى أن يتحرر من حياديته تجاه أنوثتها الباذخة، حتى أنه هم بتقبيلها عندما دارت حول المنارة، وأصبحت المدينة بعد أن واجها البحر في طي النسيان. لم تفتعل حركة تشي برغبتها، ولذلك تراجع عن محاولة التقبيل وتقوقع في نفسه كأنه ابتلع فأرًا. ككل مرة يأمل أنها ستمنحه شيئًا مغايرًا، ينتظره طوال اللقاء بطقطقة أصابعه والفوران الداخلي الحارق، حتى أنه لا يسمع أحيانًا تعقيباتها على كل ما يراه. ينتهي اللقاء كما بدأ دون شيء يذكر، ويقرر أن يقطع علاقته بها، لكنه بعد ثلاثة أيام يعود للاتصال بها تحت إلحاح صوته الداخلي الغامض الذي يؤكد له أنها في لحظة ما بين أوقات انهمار ثقافتها تلك، قد تحتاج إلى عناق طويل وقبلة شرسة، وعليه أن يصبر حتى هذه اللحظة.
لم تكن مغامرات أحمد لتلهيه عن حب نهلة، فـبمجرد عودته إلى القرية ينسى كل ما مر به.. لا يعتبر ما يفعله بعيدًا خيانة لها أبدًا. برر لنفسه بأن كل فتاة قضى وقته معها كانت تتخذ هيئتها في حلمه، ولا يجلس مع أيِّ فتاة إلا ليحصي الفرق بينهما، لذا قرر كي لا تكبله الشعارات ألاَّ يسمي المغامرات بالخيانة إلا بعد أن تكون له بشكل رسمي. كانت في انتظاره عند عودته في الإجازة الصيفية التالية. تتأهب بنضوج أكبر للصف الثاني الثانوي. لم يعرف إن كانت الأسرة اعتبرته العريس المرتقب ووافقت على أن يكون موعد زيارتهم السنوية للبلدة في موسم المانجو، وقت وجوده في البلدة يقضي إجازته أيضًا، أم كان التوافق بين وجودهم ووجوده محض مصادفة. لم يعد لاختلاق الأسباب لزيارتهم، في أول زيارة له حمل إليها مسجلاً صغيرًا في حجم الكف، اعتبر من الغرائب لحجمه وقتذاك، ومجموعة كبيرة من الشرائط الفارغة في علبة كرتونية، أما الشريط الذي حمله في جيبه فسجل عليه رسالة بكل ما يود قوله، وطالبها في آخر حواره أن تتبع الطريقة نفسها، بأن تسجل له حوارات بصوتها يحملها معه عند سفره. ما عليها إلا أن تضع شريطًا وتسجل مشاعرها نحوه، لتضع الشريط في مظروف وتغلقه جيدًا وتؤكد إغلاقه بشريط لاصق، ثم اتفق مع أخته على أن تحمل الشريط كلما زارت أمها بحجة الاطمئنان عليها. حمد الله أن هداه فكره إلى الطريقة وإلى ساعي بريد الحب الآمن في آن واحد. عندما عادت إلى القاهرة، بعد انتهاء موسم المانجو، قررا أن يكون سميح ابن خالتها ساعي بريدهما السري، كان صموتًا يحفظ السر وليس له أطماع في نهلة، لذا اطمأنا أن يكون رسول غرامهما للسنوات المقبلة، حتى أعير سميح إلى الكويت بعد عام ونصف من أول شريط حمله إليه، فاستخدما البريد مضطرين، وظلت هذه هي الوسيلة التي يتواصلان بها حتى أنهت نهلة علاقتهما على شريط، تخبره فيه بصوت يخلو من الرأفة أنها سترتبط بسميح الذي عاد من الكويت بعد عامين من إعارته، وطلبت أن ينساها تمامًا ويسقطها من ذاكرته.
لم تدخر نهلة وسعًا في استخدام التسجيل كما أوصاها، وعندما سمع أول شريط مسجل لها غرق في الضحك، كان بمفرده في المندرة، واعتقد أن تهادي صوتها من التسجيل كفيل بأن يمنحه ارتعاشة حب قبل الاستغراق في نومة القيلولة، حتمًا ستخبره بحبها الجارف وتذكر بأنها لا تنام إلا بعد أن يخرج من باب أحلامها الوردي، لكنه وجدها تتحدث عما تريد شراءه للعام الدراسي من كتب وأقلام وكراسات، وعن تعنّت المعلمات على الرغم من حُسن سلوكها. كان سعيدًا بما سمعه على الرغم من خيبة أمله، لأنه أدرك أنها مازالت طفلة تحبو نحو النضج تحت وصايته، وأنه أول من يقص شرائط أحلامها الملونة.
هذه الشرائط يا زياد بعتها في سوق الكويت· بعد أن اكتشفتُ وجودها في دولاب غرفة أبيك بالبلدة. كان يصطحبني لقضاء موسم المانجو كالعادة قبل أن أحسم أمري بعدم قضاء إجازتي مرة أخرى هناك. كان الفضول يقتلني كلما كنتُ أبقى في الغرفة لمعرفة ما الذي تحويه الضلفة المغلقة، ولم أجد أسهل من فتحها في غياب أبيك اليومي لجمع الثمار في النهارات الصيفية الحارة، بأن وضعتُ سن السكين المدبب في ثقب المفتاح فاستدار معي بسهولة وفتح على آخره. لم أجد كنزًا كما توقعتُ بل وجدتُ كيسًا أسود، وبمجرد فتحه تساقطت الشرائط الكثيرة هنا وهناك. لكي أفض الغموض الذي أحاطها أحضرتُ التسجيل من باحة البيت مدعية رغبتي في تبخير الغرفة من الأرواح الشريرة بإطلاق سورة من القرآن في الأركان، وبمجرد أن اختليتُ بنفسي مرة أخرى في الغرفة عرفت كل شيء. كانت مجموعة الشرائط كاملة. صارت تسليتي كل يوم أن أستمع إليها، لأول مرة أسمع أباك يقول كلمات عشق ملتهبة، لم أسمعه يقولها لي مرة واحدة، بل لم أكن أعتقد قبل الاستماع إلى الشرائط أنه يجيد قولها أو على دراية بها من الأساس، لذا لم يكن هناك وسيلة للانتقام منه سوى أن أستعير قلم فلومستر من ابنة عمك عبد الفتاح الصغيرة، وأكتب على كل الشرائط عبارة واحدة "الطرب الأصيل- أم كلثوم" وفي طريقي صباحًا إلى المدرسة بعتُ الكيس كاملاً بعشرة جنيهات لرجل كان يفترش الأرض وتخصص في بيع الشرائط القديمة.
أراك تضحك من تصرفي! تفتح فمك على آخره وتضيق عينيك. هل يدهشك ما قمت به؟لا يضايقني وقوعه في الحب، لكني لم أجد المبرر للإبقاء على هذه الشرائط بعد دخولي حياته، لماذا أقدم أبوك على الزواج بي إذن يا زياد؟ لماذا ظل بعيدًا على الرغم من محاولتي لفت انتباهه إلى وجودي.. لم يعد يهم الآن.
ذهبتُ إلى القاهرة للالتحاق بكلية الآثار. لم أحزن لأني لم أستطع الالتحاق بكلية الإعلام. كان مبنى كلية الإعلام قريبًا من كلية الآثار. باستطاعتي حضور ما يروقني من علوم. العمل بالمؤهل لم يكن في حسباني، بل تمنيتُ زوجًا في المستقبل لا يدفعني للعمل. كنتُ فتاة تحمل الكثير من الآمال، تندهش لمجرد رؤية أشعة القمر المنكسرة على شواشي النخيل المتباهي بسموقه في كلية الزراعة الملاصقة للمدينة الجامعية، فتاة أراها الآن مختلفة عمَّا صرته! وعليَّ كيْ أستطيع الاستمرار في حياتي أن أقتلها بالنسيان.
سار القطار مُخلفًا أمي ويوسف على رصيف المحطة، ثم رأيته واقفًا بجلال بعيدًا. كان أبي يلوح بيده. لا أخطئه أبدًا، ببسمته الهادئة ووقوفه المتعب. شعرتُ أن نسيمًا ناعمًا يهب من مكان ما. أغمضتُ عيني مستسلمة لظهوره وهو يودعني، ثم عدتُ تدريجيًّا للتداخل مع العالم حولي. كانت المدينة الجامعية أول مستقر لي في القاهرة. تعرفتُ على صديقتيّ في الغرفة؛ "نعمات" من إحدى قرى المنوفية، تحمل بين ثناياها سمات الفتاة الريفية على الرغم من ارتدائها ملابس راقية. لها بشرة سمراء ووجه مكعب وشعر خيلي مسترسل، و"هَنَا" من طنطا. ممتلئة وبيضاء، لها شعر مصبوغ بالأحمر الفاقع، كانت ترتدي جيبًا قصيرة وبلوزة مفتوحة الصدر وتنتعل "كوتشي" يجعل حركتها خفيفة وسريعة. بدأتا بتأملي من كل جانب، ثم سألتاني عن اسمي، والمدينة التي قدمت منها. لم أقل معلومات كاملة عن نفسي في البداية. كنتُ أعرف أن كل المعلومات ستقال في وقت لاحق. راقني مظهرهما دون حجاب. شعرتُ بالندم لأني استمعتُ إلى كلام أخي وارتديتُ الملابس الطويلة وغطيتُ شعري. أخفيتُ بهذين الفعلين أجمل ما يميزني، ولن يتعامل معي أحد إلا بجهله عمَّا يُخفيه الحجاب.بدأت"هَنـَا" حديثها بمجرد أن ضمَّتنا الغرفة بسؤال غريب:
"برجك إيه؟".
البدايات تشتت معلوماتي، وتجعلني موقتًا في حالة هذيان. أجبت:
"القوس".
فتَلَت عليّ المعلومات التي تحفظها عن مواليد هذا البرج:
"الصفات العامة لمواليد برج القوس الصراحة والإخلاص، والبساطة هي الطريقة المثلى عند معظم مواليد برج القوس.. لا يعرفون الخبث ولا الكذب ولا الأنانية".
ثم وجهت لنعمات السؤال نفسه. فيما بعد اقتربت "هَنَـا" مني وأصبحت لا تحكي إلا معي، وعرفت بعد وقت طويل أنها لم ترتح إلى نعمات لأنها مواليد برج السرطان، الذين يتميزون بالميل إلى التشاؤم، وتتميز تصرفاتهم تجاه الأصدقاء بالتذبذب وعدم الاستقرار. اندهشت من منطقها، وقدرتها على حفظ صفات كل برج واختيارها الأصدقاء حسب أبراجهم. لم أقل لها إني قد لا أكون من مواليد برج القوس، فأبي لم يكن يسجل أبناءه فور ولادتهم، بل وفق حسابات أخرى، منها أن يُلائم تسجيل ولادتهم ميعاد المدرسة. على الرغم من تخوفي من طريقتها في الحكم على الآخرين تركتُ نفسي تتشبع بما تفعله. كان كل شيء جديدًا، لهذا بدأتُ بروح تواقة.
حكت "هَنَا" في أسبوعنا الأول أنها لن تبقى في مصر. ستسعى أختها بمجرد إنهاء الدراسة لتهاجر مثلها إلى أميركا، قالت إنها تحب طبيبًا شابًّا سيتقدَّم لخطبتها بمجرد أن يتخلَّص من عثراته المادية، كان يعمل في المستوصف أمام بيتهم في طنطا. قالت أيضًا إن أمها تتعاطف معها ولا تجد حرجًا في استقباله، وتبرِّر دعوتها له أمام أخويها بأنه يتفقَّد حال أبيها كل حين. تبقى معهما في صالة البيت ثم تتركهما عندما تذهب لإعداد الشاي أو القهوة. تقرأ له الفنجان وتخبره أن فتاة جميلة تنتظره، بينما نظرتها تتجه إلى "هَنا" في رسالة واضحة، يبتسم الطبيب ويغرق في صمت تفسرانه بطريقة تريحهما. بهرتني "هَـنَا" وأمها، لم أكن أعرف قبل أن تحكي أن ثمة أمهات يساندن بناتهن بهذه الطريقة، وفي الوقت الذي كنتُ أستمع فيه إلى نعمات مجاملةً وبفائض صبر كلما حكت شيئًا بدا لي عاديًّا وغير مهم، كنتُ أنتظر حكايات "هَنَا" عن نفسها على أحر من الجمر. أصغي بكل حواسي لكل ما تقوله. أحزن في غيابها آخر الأسبوع، كلما جمعت ملابسها في حقيبة صغيرة وذهبت لزيارة أسرتها. أقضي وقتي في حديقة المدينة الجامعية أجمع الأزهار وأعود بها إلى الغرفة. تسود بيني وبين نعمات حالة من الصمت انتظارًا لما سوف تحمله لنا "هَنَا" من قصص جديدة.
وجدتُ في المدينة الجامعية حياةً أفضل من الجامعة، راقبتُ في الأسبوع الأول الطالبات والطلاب، واكتشفتُ بقليل من الفحص أن المال يقسم الجميع إلى طبقات من الصعب التآلف بينها، ولأني لست غنية، اخترتُ الابتعاد برغبتي. توصلتُ إلى أن كل ما تقوله أمي عن أصل وفصل عائلتها وجذور عائلة أبي ووضعنا الاجتماعي هراء، وأننا كنا نتباهى بأشياء لا يعترف بها المجتمع القاهري، وكان عليَّ كي أشعر بها وأتباهى أن ألتحق بجامعة قنا أو أكتفي بشهادة الثانوية العامة.
بحسبة قليلة لما كانت أمي ترسله إليَّ كل شهر بحوالة بريدية حسمتُ أمري. لأن المتبقي بعد دفع رسوم المدينة الجامعية لم يكن يكفي ركوب الميكروباص يوميًّا للذهاب إلى الجامعة. لذتُ بالمدينة الجامعية، مُدعية أن لا طاقة لي على حضور المحاضرات التي تستمر الواحدة منها قرابة الساعات الثلاث. لم أحتج لأُعجب زميلات المدينة إلا أن أكون بطبيعتي، كنتُ أستيقظ صباحًا وأهلل في الكريدور لأوقظ الجميع، وأحيانًا أغرق ليومين كاملين في نوم متواصل حتى يعتقدن أني شبعت موتًا، أطلقتُ الأسماء البديلة على كل منهن. صادقتُ العاملات اللاتي يحضرن في الصباح لمسح الحمامات والممرات بين الغرف. أعطيهن ما تبقى من العشاء ليتناولن فطورهن أو يخبئنه داخل كيس خصصنه لهذا؛ ليذهبن به إلى بيوتهن. في المقابل كان البعض منهن يساعدني في تنظيف الغرفة ومدِّي بأدوات المسح والتنظيف. قضيتُ أيامي كما لو أن أسرتي بعثت بي للبقاء في المدينة الجامعية فقط. مستمتعة بكل لحظة تمر فيها. إلى أن اكتشفتُ أن هناك مبنًى صغيرًا لا تطرقه الطالبات إلا نادرًا، كان مبنى المكتبة التي افتتحت في إطار مشروع شامل لتثقيف الفتيات، فاقتنعتُ أنه ما افتتح إلا لأقضي فيه فترة الصباح بينما "هَنَا" ونعمات تذهبان إلى الجامعة لحضور المحاضرات. إلى أن حدث ما لم يكن في حسباني، عندما جاءت "هَنَا" في أحد الأيام وأخبرتني أن معيدًا دخل إليهم بدلاً من أستاذ تاريخ الفن الذي اعتذر عن المحاضرة. ذكر أنه من نفس بلدتي في جنوب الصعيد، وأنه مستعد لمساعدة الجميع في تعلم الهيروغليفية. ترك مواعيد وجوده في المكتبة لمن يريد مساعدته ورحل. قالت إنه أسمر وطويل. شعرتُ أنه هو، من ادخره القدر لأحبه. تحت إلحاحي أعادت "هَنَا" ما قالته دون كلل خمس مرات، وكان عليَّ لأبدأ قصة حبي أن أتناسى قرار الاعتكاف في المدينة الجامعية.
عجيب تأخرك يا زياد! لا يستغرق استرجاع ذكرى استهلك حدوثها الكثير من الوقت سوى ثوان. الحيز الذي تأخذه من زمن الذاكرة غامض.سنوات من الأحداث تكمن في "بايت".سيأتي ذكر بكر عبد المولى فلا تتعجل. قصته معي بحاجة إلى تمهيد. ألا تقشر الموز قبل أن تلتهمه؟ حتمًا تعرف البايت! كنت ترغب في شراء فلاشة. سمعتك تحكي مع صديقك في الهاتف، تطلب منه نسخ عدة أفلام ثقافية، كيلا تضطر إلى فتح مواقع إباحية من الإنترنت. لم يكن أخوك عندما كان في مثل سنك يهتم سوى بأحدث رنات الموبايل، لقد كذبت عندما أخبرتك أن موزع الإنترنت يقتني جهازًا يراقب به المستخدمين، وأنه اتصل بي وقرعني لأن شخصًا في البيت يدمن رؤية مؤخرات الفتيات. لقد عرفت بهذا بعد مراجعة الهيستوري فور انتهاء الوقت الذي حددته لك أمام الكمبيوتر.أخرج من الغرفة ربما أراك آتيًا. لا أجد سوى جمع من الممرضات، يضعن طعامًا على المكتب، ويجهزن شايًا على الكونتر. أبادلهن النظرات وأعود إلى الغرفة. أشعة الشمس تفترش السرير، وحامل المحاليل يلقي بظله عليه. يشبه الظل سنافور المحطة! أراك ذاك الطفل الصغير، كنت أحرص على إلباسك ملابس فتيات، فساتين ملونة بفيونكات صغيرة من شرائط الساتان. تنهرني أمي قائلة:
"الناس مش هتعرف إنه ولد بالهدوم دي".
أجيبها ضاحكة:
"دا اللى انا عايزاه"
لا تفهم ما أقصده. تأخذها ضحكاتك الموزعة علينا بالتساوي. أرفعك وأقذف بك في الهواء، كفرخ حمام لم تنبت له أجنحة. تزداد ضحكاتك وأنت تعلو وتهبط. أشعر بقلق. لماذا تأخرت عودتك؟أرى الشاب الذي زرته أمس يتمشى في غرفته، هناك لفافة حول أصابعه فقط. هل زارك ليلة أمس مثلما زرته؟ يستطيل سنافور المحطة. تغير مكانه إلى وسط الغرفة، وأنت.. لم تأتِبعد.. تجاوزت الساعة الحادية عشرة! أتصل بأبيك فلا يجيب، أدق على خالك فتأتيني الرسالة المسجلة: "الهاتف الذي طلبته غير متاح". انتشرت الهواتف وصار استخدامها متاحًا. أذكر يوم أن اشتريت شريحة أول مرة، كانت بما يعادل ثلاثة رواتب. كان اقتناء شخص هاتفًا محمولاً لا يعني إلا أنه من الصفوة، أو من رجال الأعمال. نكتفي بالميسدات للتحية. لأن قيمة مدة كانت تعادل الحديث بالهاتف الأرضي عشر ساعات، وإذا لم نقُم بشحنه قبل انقضاء الوقت تطالبنا الشركة بغرامة تفوق قيمة الشحن نفسه. قال أحمد إن وجود هذا الجهاز في البيت لن يجعلنا نأكل بشكل جيد، لأنه لا يلتهم ما يتبقى من رواتبنا فحسب، بل يجور على مصروف البيت. الآن هاتفاهما غير متاحين. أشعر أن شيئًا غامضًا يحدث. هل يجرون لك العملية الآن؟ لا أجد تفسيرًا واضحًا لغياب الجميع. يدخل أحد عمال الأمن الغرفة ويسألني:"فين تذكرة الدخول؟". أبحث عنها في حقيبتي فلا أجدها. أتذكر أن خالك احتفظ بتذكرتينا. أخبره قائلة:
"التذاكر مع أخويا"
"وفين أخوكي؟"
لا يثق في كلامي. ربما اعتقد أنني قفزت من على السور!
"لازم تدفعي تمن تذكرة.. وتحافظي عليها المرة دي"
"يلعن أبو أمك"
أشتمه في سري وأخرج له النقود. كل شيء يسير بالنقود يا زياد. لن يدخل الطبيب غرفة العمليات إلا بعد حصوله عليها، لم تدخل المستشفى إلا بعد دفع الرسوم، حتى الممرضة لا تبتسم إلا بها. تبًّا لهم جميعًا.نعم.. لم أحكِ عن بكر عبد المولى.. ما ذكرته سابقًا لا بد منه. مقدمة لقصتي معه.. هل تضجر مما أحكيه لك؟
استطعتُ أن أؤلف من كل الملابس التي حملتُها معي طقمًا أرضى عنه، وبينما طلاب الصف الأول ينتظرون أستاذ الآثار المصرية في المدرج كنتُ أصعد إلى المكتبة بحثًا عن المعيد الذي أخبرتني "هَنَا" عنه. وقفتُ بجوار صندوق "بطاقات الفهرسة" مدعية البحث عن قائمة كتب وهمية، لكنَّ عينيَّ جابتا المكان بحثًا عنه. بمجرد وقوع بصري على شاب أسمر يقف وراء دولاب الكتب. خمنتُ أنه هو نفسه. تقافز قلبي في صدري، أخذتُ اسم كتاب واتجهتُ إلى أمين المكتبة، سألته عن الكتاب بلهجة صعيدية بينة، ابتسمت أثناء سؤالي لأن عقلي هداني إلى هذه الطريقة كي ألفت انتباهه. كان هو جالسًا على مقربة من أمين المكتبة يتحدث عن كيفية وضع الكتب على الأرفف. أخذتُ الكتاب الذي أحضره لي أمين المكتبة وجلستُ في أقرب مكان بجوارهما، على أمل أن يأتي إليَّ ويستفسر مني عن بلدتي الصعيدية، لكنه لم يأتِ حتى وقت إغلاق المكتبة، فرحلتُ غير يائسة من نجاح المحاولة التالية.
بعد عدة زيارات استجمعتُ شجاعتي واتجهتُ إليه مباشرة. كان جالسًا وسط شابين. أخبرته أني من النجع، وأني طالبة مستجدة في الكلية ثم صمتُّ. لم يبد عليه اهتمام، كان في انتظار أن أكمل، فسألته ألست الأستاذ بكر؟ ابتسم وأطلق نظراته بلا اتجاه، ثم أخبرني أنه ليس بكرًا وإنما أحد أمناء المكتبة. أبدى استعدادًا ليعرفني به لكني شكرته سريعًا، ورحلتُ أتعرقل في خوازيق خيالية حاملة حقيبتي وكتبي، متخيلة أن جميع الطلاب الموجودين سينفجرون بالضحك بمجرد رحيلي. أخبرت "هَنَا" بما حدث فضحكت. قالت:
"يا بنتي نشِّني كويس ناحية الهدف".
انتقلت عدوى ضحكاتها إليّ بعد أن أسمته الهدف. سألتها:
"كيف؟".
"الأول لازم تتأكدي من البطاقة الشخصية أنه هو.. بعدين ابكي شوية لأنك مش فاهمة الهيروغليفي.. وهو هيعمل كل حاجة لما يشوف دموعك.. الرجالة دول عبط قوي".
بدا لي أن مذاكرة دروس الهيروغليفي وحفظ رموزه أسهل ألف مرة من هذه الخطوة، لكني واظبتُ على الصعود إلى المكتبة، بنفس الطقم لم أغيره، علَّ نجمي يرتطم بنجمه في الفضاء، لكنني لم أُحرز أي تقدم. إلى أن جرتني "هَنَا" من يدي في أحد الصباحات الشتوية، كانت نعمات في بلدتها لزيارة أهلها. غرفتنا كانت في مواجهة مستشفى الطلبة. تكشف كل ما يدور في الممرات وغرف الأطباء بسهولة، وقالت لي:
"بُصِّي، هالفت نظر الدكتور الصغنن دا بعد ثواني.. اتعلمي يا جاهلة.. جاتكو نيلة مليتوا البلد".
كانت تقصد الطبيب الشاب الذي وجد في غرفته آنذاك. اندهشتُ من تصرفها، لكنها أقدمت على ما نوت القيام به دون رعشة. وقفت في فراغ النافذة وأسندت ظهرها إلى الحائط كما لو كانت فتاة ليل تنتظر زبونًا ستصطاده بعد قليل، بعد أن أخرجت من حقيبتها علبة سجائر. لم أكن أعرف حتى هذه اللحظة أنها تدخن بعيدًا عن عيوننا. أشعلت السيجارة ورمت نظرتها إليه في غرفته، فما كان منه إلا أن وقف وتقدَّم صوب نافذته. وجهت نظرتها إليّ في عتمة الداخل وقالت:
"شوفتي.. كل السكك محتاجة خطوة يا بنتي".
شعرتُ بالخوف، سيتسرب دخان السيجارة خارج الغرفة وقد تشي بما يحدث للمشرفة زميلة من الغرف المجاورة، لكن قلبها كان ميتًا في هذه اللحظة. بعد قليل، كتب الطبيب شيئًا على ورقة وطواها. نظر مطولاً إليها وألقاها لتسقط في الحديقة المشتركة بين المدينة الجامعية ومستشفى الطلبة خلف المبنى الذي نسكنه، وابتلعه ظلام غرفته بعد هذه الخطوة. قالت إنه حتمًا كتب رقم هاتفه، وطالبتني بالنزول والتقاط الورقة.
كان التعرف على بكر عبد المولى أصعب من غزو الفضاء. واظبتُ على الذهاب إلى الكلية كل يوم، وحضرتُ بعض المحاضرات علّ الأستاذ يتغيَّب يومًا ويأتي بدلاً منه مرة أخرى. لم يحدث لي أي من الصدف التي أسمع كثيرًا أنها تؤلف بين القلوب. ثم حدث الأمر بالسهولة نفسها التى تكسر بها ثمرة بندق يا زياد، بعد أن نسيت وجوده تمامًا، كنتُ أجلس في المدرج بانتظار المحاضرة، و"هَنَا" كعادتها كانت تقف في باحة الكلية حتى وصول الأستاذ، وجدتها تدخل المدرج برفقة شاب طويل ونحيف، تشير إليّ أن أنزل الدرجات العشرين. سألتها من بعيد وأنا أتلفت يمينًا ويسارًا:
"تقصديني أنا؟".
فأكدتْ بإشارةٍ من يدها "أخيرًا قابلتك". نطقت بالجملة ويدي تصافح يده الدافئة. ابتسم فظهر صف أسنانه البيضاء. كان طويلاً وأسمر. رحَّبَ بي وأبدى استعدادًا كبيرًا لمساعدتي فيما يصعب عليَّ من مواد. وقفت "هَنَا" بعيدًا تنظر إليّ وتضحك، بينما يداي اللتان أتحرج منهما معقودتان خلف ظهري.
بتواطؤ لم أُخْفِهِ ذهبتُ بخطى ثابتة إليه في مكتبه. أخبرته أني عاجزة عن استيعاب الهيروغليفية. كنتُ أستعيد في ذاكرتي ما لقنتني "هَنَا" إياه طيلة الليلة السابقة:
"اقعدي قبل ما يطلب منك.. وبصي بعفوية لرجليكي.. عشان يبص عليها.. خليكي مسيطرة على الأحداث".
لم أجلس ولم أتلفت إلى ساقي. نظر إليَّ مليًّا حتى انتهيتُ من كلامي بصعوبة، ثم طالبني بالبقاء حتى ينتهي مما يشغله لنذهب معًا إلى مكان ما لم يحدده. فعلتُ ما قاله وانتظرتُ بالخارج. حتى جاء ومشينا معًا. توقعتُ أنهيبحث عن مكان آمن لا يرانا فيه طلاب الكلية. كانت هناك مظاهرة في عدد محدود من الطلاب ترفع شعارات غاضبة بسبب ادعاء النظام أن سليمان خاطر، الذي قتل جنودًا إسرائيليين أثناء تسللهم عبر الحدود، انتحر في زنزانته. كدت أعتقد أنه ما اصطحبني إلا لننضم إلى المظاهرة، وكادت أحلامي بالجلوس معه تنهار. لكنه تجاوز المظاهرة وخرج بي إلى الشارع. سرنا حتى ابتعدنا عن الجامعة وانحرفنا إلى أول شوارع الدقي الهادئة. لمست يده ظهري فارتعشتُ ونحن نعبر الطريق، وبمجرد أن دخلنا تحت مظلة أشجار الشارع تلفَّتَ إلى وسألني:
"تحبي نقعد سوا في نادي هيئة التدريس؟".
لم أُجب. ابتلعتني فجوة صمت، فسار بي إلى هناك. منذ ذاك التوقيت اعتدنا اللقاء دون سبب، وعلى الرغم من حرصه على تسمية لقائنا بالدرس، لم يشرح لي شيئًا، كنا نفتح كراسًا ونبدأ في الحوار ونغلقه قبل مغادرتنا النادي بثوانٍ.
سارت حياتي في المدينة الجامعية على وتيرة واحدة، لم أعُد أذهب كثيرًا إلى الكلية إلا إذا كان هناك موعد معه، حتى البحث الذي طلبه أستاذ الآثار المصرية اشتريته بخمسة جنيهات من العامل المكلف بنظافة الدور الثاني، والذي يقع مكتب الأستاذ فيه، عندما علمتُ أنه تخصص في بيع أبحاث العام الماضي للطلاب الجدد، بسعر يختلف من بحث إلى آخر حسب ما حصل عليه من تقدير. كنتُ أزور مكتبة المدينة الجامعية أقرأ الروايات التي صُفَّتْ بنظام على الأرفف، وفي الأمسيات أستمع إلى قصص "هَنَا"، أتمنى أن أصبح مثلها، قادرة بسيجارة واحدة أن أدفع أشهر أطباء مستشفى الطلبة إلى الوقوع في حبي.
هكذا قاربت السنة على الانتهاء ووجدتُ الامتحانات على الأبواب، وكان عليَّ لأثبت جدارة أمام أمي وإخوتي أن أتريث في المدينة الجامعية لأذاكر كل ما فاتني، لذا اتفقتُ مع صديقاتي على ترك شعر شواربنا وسيقاننا ينمو، وإهمال مظهرنا، بأن تخفي صديقات الغرف المجاورة ملابسنا ونخفي ملابسهن ونترك الدواليب تعاني الفوضى. أخفيتُ سيشوار "هَنَا" تحت المرتبة وحذاء نعمات بين حوض الزهور في الحديقة، حتى نتمكن من البقاء داخل أسوار المدينة الجامعية ولا نجري في شوارع القاهرة هنا وهناك متباهيات بجلودنا الملساء. وافقنني مجبرات، فاتهن القطار مثلي ولم يعد للبقاء في مأمن من الرسوب سوى محطة أخيرة.
عُدتُ إلى النجع. كانت أمي تتحول إلى امرأة متوحدة تدريجيًّا. استطعتُ أن أرصد التغيرات التي طرأت عليها وعلى البيت والشارع بسهولة، لقد باعت سريرنا النحاسي واستبدلت به سريرًا خشبيًّا، وقامت بتنجيد المرتبة التي كانت تنبعث منها رائحة البول، واستطاعت بعلبة دهان خضراء أن تمحو رسوماتنا التي توالت على جدران البلكونة، لكن شادي بدأ أولى شخبطاته في غيابنا على الدهان الجديد. سجل مواعيد المباريات التي سيقف فيها كحارس مرمى نادي الألومنيوم، ودوَّن بلا كلل درجاتِه العالية في الصف الأول الإعدادي مهاجمًا كل من ينتقده بسبب استغراقه في التمرين وإهماله المذاكرة، أمَّا هادي فلم يجد سوى سورة يس المقررة عليه في مدرسة الأزهر الابتدائية ليكتب بعض آياتها. اشترت أمي أيضًا ثلاث مراوح سقف، مروحتين للغرفتين، والثالثة علقتها في سقف الصالة، وجدتُها تحرص على حضور صلاة الجمعة، وتعود كل مرة مصطحبة إحدى الصديقات، تجتمعان في غرفتها وتفسران القرآن كما فهمتاه، وتستعينان كلما استغلق عليهما بكتاب ابن كثير، إضافة إلى حضور الدرس الديني الذي تقيمه جارتنا الشابة التي سكنت مؤخرًا في الدور الثاني، تلك الجارة التي حثت نساء العمارة على ارتداء الخمار، لكنهن اكتفين بتغطية شعورهن بـ"بونيهات" مشغولة من الكروشيه. أما الشارع فقد ازدحم كثيرًا بعد أن تحوَّل مبنى مدرسة الكلاب إلى مبنى لتجديد رخص قيادة السيارات، وكان من الصعب النوم، لأن السيارات تتجمَّع مع أذان الديوك كي تحجز لها مكانًا في الصف.
على الرغم من تبادل تسعة خطابات مع بكر طوال ثلاثة أشهر وعشرة أيام، حمل خطابه الأول نبأ نجاحي، ولم أجد بُدًّا- بعد أن أخبرتُ إخوتي بانتقالي إلى الصف الثاني دون عثرات- من القول بأن بكر معيد من النجع في الكلية، هو من أرسل ليبشرني. لم يُثِرْ إرسالُه النتيجة شكوك أحد، لأنني جاهدتُ كي أكون متماسكة. احتوت هذه الرسائل على أحد عشر ألفًا وسبعمائة وسبع وعشرين كلمة دون تضمين البسملة والمقدمة. لم يصل رد خطابه الأخير إلا بعد رحيلي صوب القاهرة استعدادًا للعام التالي. لم أشعر بقلق من وقوع الخطاب في يد أمي، لأن طريقته كانت محايدة. لم يكن باستطاعة أحد كشف إشاراته. كان يسألني عن أحوالي، يرجوني أن أكتب كل ما يمر في أيامي، ثم يستفسر بتورية: "هل أفتقده؟". لم يكن سؤاله صريحًا. بل كان عادة يسأل:"هل أفتقد أيام الجامعة والصحبة؟". ولأنه لم يصرح بحنينه، ولم يذكر عن مشاعره كلمة، كنتُ أخبره عن شوقي إلى الجامعة وطرقاتها، وأشجار الطريق المؤدي إلى نادي هيئة التدريس.
في العام التالي، عُدتُ بحُريَّةٍ كاملة، في ظل انشغال حسين بتحضير الماجستير، ودخول يوسف الجيش كضابط احتياطي، وثقتي الكاملة في نفسي بعد أن أسبغتُ صعوبة كبيرة أمام الجميع في البلدة على طبيعة الدراسة ومشقة الامتحانات، وقدرتي على اجتياز كل العقبات. وجدتُ صور الأقصى تتصدر ساحة الجامعة الواسعة أمام القبة، وبعض الجماعات تطالب بفتح الحدود كي تذهب للجهاد. مرددين شعارات:
"خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود".
كانت "هَنَا" ترتدي ملابس سوداً. قالت إن أباها مات قبل شهر واحد، لكنها رأت في مرحلة ما بعد موته حرية مباغتة. بدأت تذهب إلى الدكتور في المستوصف وتبقى هناك، وتطورت علاقتها به فقبلها بين كشفين في غفلة من الممرضات، ولم تعُد بحاجة لتبرير كلما تأخرت عنده أو أخذت الهاتف لينام في حجرها وهي تحدثه. كان كل شيء يبدو عاديًّا، باستثناء استعدادي للعام الجديد بملابس خرقتُ فيها قواعد الحجاب، استطعتُ تفصيل عدة جيبات قصيرة بنفسي، بعد أن صممتها على ورق جرائد مستعينة بموديلات مجلتي فينوس وبوردا. أظهرت جمال ساقي وأهَّلتني بشدة- في أول رحلة كسبت "هَنَا" تذاكرها مجانًا مع طلاب قسم الآثار بالجامعة الأمريكية- إلى الفوز بجائزة أجمل سيقان، بدا الأمر تافهًا في البداية، لكني وجدته إنجازًا بعد أن رأى بكر ساقي لأول مرة. كانت نظرته الأولى كلما التقيته تنصَبُّ على نصفي الأسفل، كأنه يطمئن على جمالهما.
لم يتغير وضعي في المدينة. كما اتضحت لي الطريقة التي سأنجح بها دون إهدار الوقت أو الجهد. بعد أن تكشَّفَ لي عدم قدرتي على الذهاب إلى الجامعة مشيًا على الأقدام يوميًّا، بقيتُ في المدينة لأدَّخر ثمن المواصلات، والاشتراك بما أدَّخره في بعض الرحلات التي ستبقى ذكرياتُها عالقة أكثر مما لو كانت ذكرياتٍ خاصةً بحضور المحاضرات وتنقيحها، كما قررتُ عدم شراء كتب، لأن هَنَا تشتري الكتب وتتركها على المكتب حتى اقتراب موعد الامتحانات. لم يكن عليَّ سوى الاعتكاف في الشهر الأخير والاستعانة بالمحاضرات الجاهزة، التي جمعها بعضُ طلاب دفعتي النشطين، وبقليل من البحث سأجدها عند أي مكتبة في بين السرايات. الشيء الوحيد الذي كان يمنح اليوم مذاقه المختلف كان لقائي ببكر. استطاع أن يتحكم في مزاجي عن بُعد. إذا رأتني "هَنَا" بعد عودتها أول الأسبوع سعيدة فلا يعني هذا سوى أني التقيت به، أو حلمت به حلمًا جميلاً في الليلة الفائتة، ثم فاجأتني "هَنَا" بما يجب أن أتنبه إليه، كانت مهمومة لأن الطبيب الذي تحبه، لم يُقدم على التقدم لخطبها، على الرغم من طول مدة علاقتهما. جَرَّني كلامها إلى التفكير في بكر، لأنه أيضًا لم يُفاتحني في أمر الارتباط فحسب، بل كان حريصًا على ألاَّ يتفوَّه بكلمة الحب صراحة. اعتقدتُ أن إقدامه على التصريح بحبه كان يُقلقه. مازالت رحلة الدراسة طويلة، الماجستير والدكتوراه. الارتباط بي لا يعني سوى التقدم لخطبتي. قد يعرقله هذا! ربما يُقلقه الارتباط، ثمة رجال يريدون البقاء أحرارًا، لتصبح جميع الفتيات في هذه الحالة ملكًا لهم، أو يصبحون هم بتعبير أدق ملكًا لهن. هكذا دفعني حبه لالتماس الأعذار أيضًا، ثم ساورتني الشكوك بعد عدة زيارات مباغتة له في مكتبه، كنتُ كل مرة أصعد للقائه في المكتبة أجد فتاة جميلة، وكلما حاولت أن أستفهم منه عن سبب بقاء الفتيات دومًا جواره يبتسم، ويتوجه بدفة الحوار إلى موضوع آخر. حاولت أن أدفعه كما خططت "هنا" إلى طريق مسدود، لا يعترف في نهايته إلا بحبه. قالت لي مرة:
"اختفي شوية من قدامه.. لغاية دايرة شوقه ما تكمل.. أول ما يشوفك هيقول لك وحشتيني.. اسأليه ساعتها: ليه باوحشك؟".
اختفيتُ مرات، تحجَّجتُ بالأنفلونزا مرة، وعدم القدرة على الاستيقاظ مبكرًا نتيجة سهر المذاكرة مرة، وبهمهمة غير مقنعة عدة مرات، لكنه في كل مرة، كان يقول إذا سألته:
"لازم بنات بلدي يوحشوني".
أخبرني بكر منذ اليوم الأول في عامي الأخير بأمر البعثة. وقع اختيار المسئولين عليه ليسافر في بداية شهر يونيو كي يُنهي دراسته في ألمانيا. استقبلتُ الخبر أمامه بهدوء. كان يتحدث بفرح شديد، ويتوقع أن أشاركه فرحه، استأذنتُ قبل أن أفقد وعيي أمامه وتركته في فناء الكلية ورحلتُ. لم أعد إليه على الرغم من ندائه عدة مرات، ولأول مرة منذ مجيئي إلى القاهرة، لم أشعر بطول الطريق بين الجامعة والمدينة الجامعية. ظللتُ طوال المسافة أحسب الشهور التي سيقضيها معي في القاهرة قبل رحيله، مرة أحسب شهر أكتوبر ويونيو فأجدها تسعة أشهر، ومرة لا أحتسب أكتوبر فأجدها ثمانية، ومرة لا أحتسب يونيو فأجدها سبعة، إلى أن وصلتُ، وبمجرد أن اختليتُ في غرفتي بكيتُ بحُرقة.
"لازم يقع في الفخ قبل ما يسافر".
قالتها هَنَا، لكني عدتُ أدراجي إلى شخصيتي التي كنتُها عند وصولي إلى القاهرة. صامتة ومكتئبة ومحبوسة في ذاتي.
"مش هافكر في جَرّه لحاجة يا هَنَا، لو مش محتاجني يبقى مفيش داعي للمحاولة".
هكذا أخبرتها بقراري. مع هذا لم أدخر وسعًا للقائه كلما رتب لنا جلسة بمسمى مختلف كل مرة. أتناسى أمر بعثته وسفره بعد شهور.
لم يتركني الحزن عند عودتي إلى النجع لقضاء إجازة عيد الفطر قبل موعد الامتحانات. كان سفر بكر يُخلفني جثة هامدة. كنتُ أعرف أنه سيقضي آخر إجازة له في البلدة قبل سفره إلى بعثته. لم أسْعَ إلى ملاقاته، تركته دون أن نتفق على شكل مستقبلي لعلاقتنا، هل سيتقدم لخطبتي؟ أم سيتركني دون أي ارتباط رسمي لأتوه منه وأتزوج آخر؟ آه يا زياد.. لم أكن أعرف أن النهاية ستكون عند هذا الحد.. عندما كنتُ في غرفتي أحاول التغلب على حزني بالانغماس مع صديقات البلدة في المزاح، ارتديتُ جيبًا قصيرًا من الجينز ونفشتُ شعري بـكريم "فري ستايل" كآخر موضة قاهرية أتباهى بها أمامهن. حكتْ كل منا عما يمر في حياتها، افتعلنا فرحًا كي نُبعِد شبح فكرة التخرج الذي سيعود بكل منا إلى رتابة حياتها في البلدة. تعالى صوت أمي منادية، فخرجتُ إليها من الغرفة. قالتْ إن إحدى المصليات حضرت معها لتشرب الشاي في بيتنا، تركتُها غير عابئة، لكنها أخبرتني أن المرأة تريد أن تراني، حملتُ الصينية وكوب الشاي يتأرجح عليها دون أن أبدل ملابسي، ودخلتُ إليها في غرفة الجلوس، وقبل أن أضع الصينية قُربها لأسلم عليها عرفتها. ملامحها نسخة طبق الأصل من ملامح بكر فقط هي امرأة عجوز. هي أم بكر إذن! كانت ترتدي ملابس سوداء، ويفوح منها عطر زيتي مما يُستخدم في أضرحة أولياء القرى عادة. حملتْ عيناها نظرة تحفز، فوضعتُ الصينية وخرجتُ من الغرفة دون أن أتفوَّه بكلمة، لكني شعرتُ بنظرتها تخترق ظهري.
وبَّخَني بكر بعد عودتي من البلدة، لأني لم أفهم أن أمه ما حضرت إلا لتراني، وتُقَيّمَ زوجة ابنها المستقبلية، وكان عليّ أن أعلم الغيب لأتوقع حضورها في الميعاد نفسه، وأستقبلها كما تتمنى، بعباءة وخمار أسودين يغطيان صدري ويُسدلان حتى كعبيْ قدمي. هكذا أخبرني بوضوح وبدون مواربة أنها رفضتني قائلة:
"البت دي مش من توبك يا بكر، اصرف نظر عنها".
سافر بكر.. اتفقنا أن أنتظره في شرفة كريدور الدور الرابع في مبنى طالبات دار العلوم بالمدينة الجامعية، البلكونة التي تشرف من بُعد على ميدان الجيزة، بزحامه وضجيجه. سيعبر راكبًا سيارة أخيه على كوبري فيصل عند ذهابه إلى المطار، ليراني واقفة في انتظاره. كان عليَّ أن أميز سيارة أخيه الفيات الصغيرة الحمراء، واكتشفتُ يومئذ أن عشرات السيارات الفيات الحمر تعبر كل دقيقة، لكنه رآني كما ذكر لي في أول خطاب، ووَصَفَ مكان وقوفي وملابسي. رحل بكر دون أن يقول لي: "انتظري يا حبيبتي، سنتين وسأعود.. سنتزوج فور عودتي". لعنتُ أباه وأمه، ومشاعري تجاهه. بقيتُ الأيام التالية أشعر أن الأشياء تدور حولي، السرائر ودواليب الحائط والنافذة واللمبة الصفراء المعلقة في سقف الغرفة. لم يُنقذني مما يحدث سوى موعد الامتحانات، لم يكن هناك مشكلة، ذاكرتُ كثيرًا أثناء غيابه المتواصل لتعلم الألمانية. منذ أن علمتُ بخبر سفره الذي سيتزامن مع الامتحانات، استعددتُ بكل قدرتي على الاستيعاب. كنتُ أعرف أن دوار صدمة غيابه والذي سيبلغ ذروته عند سفره قبل الامتحانات بأيام من الممكن تعويضه بالمذاكرة، فإذا داهمتني الامتحانات وجدتُ سهولة في استعادة ما ذاكرتُه بآلية. لم أحتج إلى صديقه الذي أوصاه بي، ولا إلى زميلي المتفوق الذي جاور مقعده مقعدي في اللجنة، ولم أشعر بحزن مفارقة الصديقات، و"هَنَا"، وكل من أحببتهم وأحبوني. خمسة وأربعون يومًا كاملة، ظللتُ فيها خلف جدار الحياة، لا يصلني صخبها، شهر منها كنتُ أذهب إلى الكلية مرتين أسبوعيًّا للامتحان، أدخل اللجنة بشكل آلي وأجلس بصمت معدني. لا أرد على استفسارات أصدقائي إلا بامتعاض لا أشرح أسبابه. أقرأ الورقة وأجيب بشكل آلي، ثم أرحل كما جئت. الشيء الوحيد الذي أراحني، كان نظرة الاستغراب التي لمحتُها في وجه المعيد صديق بكر، لأنه استنكر قدرتي على الإجابة في ظل صدمة سفره، لأنني لم أكن راغبة في إشهار انكساري. رحلتُ عن القاهرة لأكمل باقي أيام المرارة في البلدة، خمسة عشر يومًا بعد عودتي أحاول الابتعاد بتفكيري عنه بكل السبل التي أعرفها. أفكر في ما كانت "هَنَا" تقوله وتفعله. أستعيد ذكرى سفري أول مرة إلى القاهرة بمفردي إلى أن توصلتُ إلى أن تعمُّد الابتعاد عن التفكير فيه هو أكبر محرض على تذكره، فأطلقتُ لذاكرتي العنان، كنتُ أستعيد كلَّ ما مَرَّ بي معه، تفاصيل لم أكن أعلم أن الذاكرة تحتفظ بها، بل لم أكن أعرف أن أشياء كثيرة مُخزَّنة فيها، لا أكتشفها إلا عند استعادة الحدث بالتذكر. لم يقل لي يومًا أحبك، لم يخطط ليرتبط بي مدى الحياة، لم يرغب في الظهور معي كثيرًا. كنتُ عابرة كأي فتاة التقاها، تحدث معها لسد ثقوب الوقت، وانتهى أمرها بمجرد المغادرة
قررتُ نسيانه. خرجتُ من الغرفة وشاركتُ أمي لأول مرة في إعداد الطعام، وترتيب البيت، وسقي الأصص على سور البلكونة، مقررة أنني أستطيع البدء من جديد. الحياة طويلة. تذكرتُ بيت الشعر الذي قرأته من قبل، حرفته قليلاً لينطبق على حالتي:
"أحبك الآن بصدق،
كما أحببت الآخر قبلك بصدق،
وكما سأحب الرجل الآتي"
كان عليَّ فقط أن أقنع نفسي بأن قصة الشاب الذي حاول أن يُلقي خطابه إلى بلكونتي قديمًا- والتي حرفتُها عندما حكيتها لصديقات المدرسة لتصبح قصة حبي الأولى- هي قصة حب حقيقية حدثت معي وليس عليَّ سوى انتظار الرجل
هذه هي قصتي معه يا زياد، ثمة بقية غير مؤثرة؛ محاولة انتحار فاشلة، ولقاء ثانٍ بعد عشر سنوات. لا أرغب في الحكي الآن، قد يأتي ذكره في وقت تالٍ. غيابك يشتت فكري. أقوم من مكاني وأجلس. مثل قط فقد ذيله، ياله من تشبيه، قد أوظفه في قصة ما. أسمع جلبة خلف الباب، فأخرج على عجل. لن أعود إلى الغرفة قبل أن أعرف أين أنت، أسير إلى الممرضة الباقية خلف الكونتر في بداية الممر، بعد انتهاء حفل الإفطار، أسألها بحسم:
"فين زياد؟".
تمنحني ابتسامة صفراء وتقول:
"تحاليل".
أهبط السلم باحثة عن قسم التحاليل. لن يكونوا بالغباء الذي يجعلهم يعلقون على بابه لوحة مكتوب عليها مطبخ المستشفى. السلالم مرهقة يا زياد. منذ أربع سنوات قلت لي:
"الناس كلها بتستخدم السلم في الطلوع والنزول بس إلا أنا".
كنت تشير إلى نومك على السلم كلما جئت قبلنا من المدرسة. أعطي لك نسخة من مفتاح الشقة، وكعادتك تضيعها قبل رجوعك، وتعود إلى الجلوس على السلم في انتظار مجيء أي منا. تنام، توقظك جارتنا أم نشأت. تمصمص شفتيها قائلة: "عيال الموظفين مظلومين مظلومين". تدعوك للبقاء عندها حتى عودتنا، لكنك ترفض دعوتها، ثم تواصل النوم، حتى يضطر الصاعدون إلى رفع سيقانهم وتخطيك بحرص، كيلا تفز مفزوعًا. أندهش من قدرتك على النوم فتخبرني مازحًا:
"وأحلى أحلامي باشوفها على البسطة يا منى"
أصل إلى بهو المستشفى، يفاجئني وجود عبد الرحمن جالسًا في ركن الانتظار. ما إن يراني حتى يتجه إليَّ فأسأله:
"فين زياد؟".
"أنا لسة واصل حالاً".
تزيدني إجابته توترًا. لماذا لم يصعد إلى غرفتكوفضل عدم رؤيتي! يقولون إن أحب الأبناء إلى الأم الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يرجع، والمريض حتى يشفى. لا أجد أباك أو خالك. ثمة شيء يحدث يوترني،تجمعت فيك الأسباب الثلاثة! ترتعش أصابعي ويرف جفني. ليتني أستطيع الاسترخاء، أو توجيه جسمي ناحية الشمال. تمرين يوجا يعيد الهدوء إلى الروح. أترك أخاك وأخرج إلى حديقة المستشفى، فيخرج ورائي ويقف قريبًا. المرضى ينتشرون في كل مكان. أجلس قرب حوض من الزهور الصفر، بجواري تجلس امرأة تخطت الخمسين، تحمل في يدها زجاجة مليئة بسائل يميل إلى الصفرة! لماذا اللون الأصفر؟ تبادلنا النظرات في صمت. الجو خانق، ينضح العرق بين كتفيّ وتنزلق القطرات. فأشعر بجريانها على ظهري. أستدير بوجهي إلى المرأة فتلتقي نظراتنا. أرى كلمات معلقة على شفتيها، أسألها سؤالاً لا أعنيه تمامًا، لكنه قد يسد ثقوب الوقت:
"إيه اللى في القزازة دا؟"
تجيبني كأنها تنتظر السؤال نفسه:
"دا بول جمال"
كأني سمعتها تقول بول جمال. أعيد عليها السؤال فتؤكد ما سمعته. أتحرج عن سبب حيازتها له. حتمًا هناك سبب! لا تدعني لهواجسي. قالت شارحة:
"أصل أنا بعيد عنك عندي المرض الوحش.. وباتعالج ببول الجمال"
رددت باستعجاب:
"بول الجمال!"
فتقول بثقة:
"فيه الشفا"
يعتريني شعور غامض، كما لو أن معدتي ضمرت فجأة. سألتها:
"وليه جاية هنا مدام بول الجمال هيشفيكي؟"
تقول ببراءة:
"أنا جاية أزور ابن اختي.. رجله مكسورة بعيد عنك"
من الصعب إقناع امرأة تثق في بول الجمال بجدوى تمارين اليوجا. حواري معهاقتل دقيقتين من وقت الانتظار، هذا جيد. أقوم عائدة إلى الداخل. عبد الرحمن يتبعني، تجاوزت الساعة الثانية عشرة. أنت في غرفة العمليات الآن يا زياد، يرتفع جهاز عمليات المخ الدقيقة ويهبط فوق رأسك. ربما قاموا بتمويه موعد العملية رحمة بي، لكنني أشعر بوجودك هناك. أراك على الرغم من كل الاحتياطات التي يقومون بها،غير مبال، تقلب الجد مزاحًا، حتمًا تدهش الطبيب! هو لا يعرف عن أكلك الصابون، ولا عن نومك على السلم. لا يعرف حبك لبلطجي النجع حمام الكموني. لن أسأل مجددًا عن مكان وجودك. أنت – كما قال الجميع- تجري تحاليل الآن. سأقص عليك كيف صاغت الظروف كلينا، أنا وأباك،ليصبح لقاؤنا بعد أعوام خاليًا من الإبداع. لن تروق لك المفردة. كنتَ وأخواك تمتعضون كلما ذكرت الكلمة. هل لا ترون فيما أكتب إبداعًا؟ لقد كتبت حتى هذه اللحظة ثلاث مجموعات قصصية، ومثلها روايات. يعجب أسلوبي طالبات المدرسة، لا تقل إن إعجابهم له علاقة بدرجات أعمال السنة! عادة لا أصحح الامتحانات الشهرية، ألقي بالورق في الزبالة،وأدرج في الدفتر درجات مفبركة. قال مدير التعليم الثانوي: "العيش الني أحسن من العيش المحروق". إذا سقط الطالب سيكلف الدولة أعباء إضافية. ابتعدنا عن موضوعنا يا زياد. سأكمل لك قصة أبيك، ربما فقدت ذاكرتي بعد خروجك من غرفة العمليات!
كان من السهل على أبيك التقرب إلى كثيرٍ من الفتيات في العام التالي، اللاتي بَدَوْنَ كعصفورات متخبطات يحتجن إلى معونة، كان يبدي استعداده لمساعدتهن في التعرف على المواد الدراسية أو مكان المحاضرات العامة في المبنى البعيد. أبقى على علاقته بجليلة. إلى أن رصد تصرفات لم تكن تقوم بها. كانت تحرص على مصاحبته، ثم وجدها في أحد الأيام تضع الروج لأول مرة وتترك شعرها لينفلت بعد أن حبست انطلاقه عامًا بشريط ساتان، إلى أن تنبّه صديقه هادي إلى تصرفاتها الجديدة، وسأله:
"لشو جليلة تبين على غير عادتها.. مرضانة؟".
بدأ في البحث، ولما لم تسعفه قريحته في التوصل إلى شيء، سألها بعد خروجه من محاضرة علم نفس النمو:
"انتي عيانة؟".
فقالت له:
"نحبك بارشا".
صدمَهُ تصريحُها وقرر منذ هذه اللحظة أن يخفي مغامراته عنها. لم يجد غضاضة في الإبقاء على علاقته بها، مادامت مراعاة مشاعرها ومعاملتها كأنثى قد جعلتا نفسيتها تستقيم على يديه، تذكر ما قالته له في أول حوار لهما في الباص، عندما أخبرته بأنها ليست عذراء، قالت إنها وهبت هذه الزائدة اللحمية بمحبة للرجل الوحيد الذي أولاها اهتمامًا، لأن الجميع بمن فيهم إخوتها عاملوها كأنها ذكر، لكن وليد صديق أخيها قدَّمَ إليها باقة زهر وطبع قبلة حانية على خدها ورحل. تركها تتخبط في الشعور الذي خلّفه تصرفه، وكلما جاء لتفقد حال أمها بعد هروب أخيها إلى إيطاليا، كان يُوليها عناية خاصة، ليس بأي شيء مادي، بل بنظراته الحانية. لم يطالبها بخطاب سري تبادله فيه كلمات الحب، ولا لقاء خلف صهاريج المياه العملاقة عند مجلس المدينة، فقط نظراته التي ظلت تغسلها من حزنها الذي لا تعرف سببه، يُحمِّلها الكثير من العطف والمحبة، وعندما ذهبت إليه في غرفته التي يسكنها بالزقاق البعيد، ألجمه الشوق فلم يتفوه بكلمة. أخذها من يدها إلى السرير، الأثاث الوحيد بالغرفة. خلع عنها جلبابها الذي جاءت متنكرة به. استلقت مدركة أن ما تقدم عليه أمر خطير عند الفتيات الأخريات. أرقدها بحنو بالغ، وخلع قميصه فظهر صدره العاري فسيحًا. غمرها بنظرته وتمدَّد عليها بعد ثوان. كان هادئًا في البداية لكن جسمه بدأ ينتفض تحت إلحاح الشهوة، وأمطرت قبلاته على رقبتها ووجنتيها ندف زهر أبيض ناعم. قبلات صغيرة ومتلاحقة، خلع بنطلونه بسرعة ونزع سرواله الداخلي. أزاح لباسها جانبًا بأصابعه واخترقها. صرخت، لم يعبأ لصراخها، راق لها عدم توقفه، حتى سال ماؤه دافئًا بداخلها وانزلق بعضٌ منه ليبلل الملاءة تحتها. لم تحزن لأنه جردها من عذريتها، بل لم تبحث عنه عندما اختفى ولم يعد لزيارتهم. كانت ممتنة لأنها وهبته ما يستحق قبل اختفائه نظير إحساسه بأنوثتها التي أخفتها تحت إلحاح كلام أمها، التي كانت دومًا ترى أن البنت عار إن لم يلحق بالأسرة اليوم لحق بها غدًا، وأن الولد الذي منحها الرب إياه هرب إلى بلاد لن يعود منها سالمًا.
مازالت الأدلة موجودة يا زياد، خلاف الشهادة الجامعية، تؤكد أن أباك مر بمرحلة ليبيا. ما عليك سوى الذهاب إلى ضلفة دولابه في غرفتنا، وإحضار الألبوم الذي التقط صوره بكاميرا يشكا موديل 70. أول جيل استطاع إخراج الصور الملونة، لتفهم ما فهمته بالضبط. ستساعدك التعقيبات القليلة خلف كل صورة على تكوين رؤية كاملة. هذه صورته يتوسط جليلة وسارة، لم تبتعد كثيرًا عن وصفي لهما. انظر خلف الصورة، ستجد عبارة "بين حُبين مختلفين.. الشاب جليلة والجميلة سارة" وهذه صوره مع رؤى. ستجد عبارة "ذكرى ثورة المعلومات". هذا الألبوم نفسه الذي ظل أخوك يُحضره ويتأمل صوره كثيرًا ويعقب كلما تصفحه: "مش مصدق إن بابا كان الراجل أبو شعر طويل اللى في الصور دا". التمستُ له العذر. لم أر أباك بهذه الهيئة، لم ير أيٌّ منكم أباكم بشعره الذي ظهر في الصور، بل كنتم ترونه عجوزًا بشخصية صموتة يلصق عليها كل منكم مفهومه الخاص عن الأبوة، وعندما كانت موضة قص الشعر بطريقة عُرف الديك والكاب كاريه مسيطرة على معظم الشباب، أصر أخوك على إطالة شعره بالطريقة نفسها، كاللبدة حول رأسه، كأنه خرج للتو على عالمنا الحديث من فجوة زمنية مغايرة. حرص على تجعيده بكل الطرق، كان يبلِّله ويترك الهواء ليجففه، وأحيانًا يستعين بسِشوار حبيبة لعمل ما يلزم، وفي أحيان كثيرة لا يمشطه، يكتفي بمظهره البدائي الذي يقرب شبهه بأبيك في الصور القديمة.
انتهت مرحلة ليبيا، واعترف الجميع بقدرة أبيك على تمثيل شباب البلدة بمفخرة عظيمة، ربما شعر بعضهم بحنق تجاه ما وصل إليه، إن لم يُحْيِ حنق الآخرين فهو دفعهم حتمًا إلى الاقتداء به.
"وناوي على إيه يا أحمد؟".
كان هذا سؤال أبيه الذي أعاده مرة أخرى إلى الواقع بعد أن أكملت عودته من ليبيا ثلاثة أشهر. كان يستعد للسفر كي يلتقي نهلة. كانتتستعد لدخول الجامعة، بمظهر أنثوي أخاذ. كان البيت فارغًا إلا منها وأمها، التي رحبت به مندهشة من حضوره، ثم ذهبت لتعد مشروبًا، فوجدها فرصة للاختلاء بنهلة. سألها عن الكلية التي وقع اختيارها عليها. حاول أن يجعل كلامه محايدًا ورسميًّا ربما تسمعت أمها لحديثه، فقالت بكثير من الفرح: "كلية الآداب". توقع أنها ستختار مثله قسم علم النفس، لكنها أكملت قبل أن يسألها: "قسم اللغة الإنجليزية". استطاع في الدقائق التي جمعتهما معًا وقبل أن تعود أمها أن يحدد بالإشارة فقط أنه سينتظرها فور خروجه في الشارع المجاور، ثم خرج متعللاً بأشياء كثيرة يجب أن يُتمها قبل سفره.
عندما لحقت به، سارت بجواره تاركة يده الدافئة تعتصر يدها. كان متوترًا بما فيه الكفاية ليصمت، فبادرت بإخباره بما لم يكن يتوقعه. حكت له أن شريطها الأخير ضل الطريق إليه. ربما لكسل الموظف في التحري عن عنوانه. كانت تحضر احتفال المدرسة النهائي فاستلمته أمها، الأمر بدا لها كارثة، وبمجرد رحيل الساعي حاولت إجلاء الغموض عما يحدث، فوضعت الشريط في المسجل. جاءها صوت نهلة وهي تتحدث بهمس، فعرفت كل شيء. بعد تفكير حددت تصرفين يجب الشروع في أي منهما، الأول إخبار زوجها وتهديد أحمد بالابتعاد عن نهلة، لأن ثقتها في جديته للتقدم إلى ابنتها كانت معدومة، أو التفكير فيه عريسًا، ولأن جرأة مفاجئة هاجمتها جنحت للخيار الآخر، وفاتحت ابنتها فيه، فحكت لها نهلة كل شيء، وفي الوقت الذي كان صدره يهبط ويعلو تحسبًا لكلامها التالي قالت له مطمئنة:
"متحملش هم.. ماما عرفت كل حاجة.. وموافقة على اللي بينا".
تلعثم، لم يعرف التصرف الأصح، الذي يجب أن يقوم به ليبدو شهمًا في ظل معرفة أمها بعلاقتهما. شعر فجأة أنه مقيد بطرف حبل ولا يعرف من يمسك بالطرف الآخر، أو كأنه فأر ينصبون له مصيدة، لم يتقبل فكرة معرفة أمها على الرغم من تواطئها معهما، لكنه وُضِع أمام أمر واقع وكان عليه ألا يتصرف بمعزل عن معرفة أمها لعلاقتهما منذ هذه اللحظة:
"أنا هاتقدم لخطبتك بس لما تسمح الظروف..أنا يادوب متخرج السنة دي.. لازم ألاقي شغل الأول.. لازم أكون قد المسئولية".
وجد فجأة لسانه ينطلق ليرسم خريطة علاقته المستقبلية بها، أمامها أربع سنوات لتنهي الجامعة، سيجد فيها عملاً، سيقدم أوراقه في قسم العلاقات العامة بمصنع الألومنيوم، أو مصنع السكر. باستطاعته أن يتقدم لخطبتها الآن، لأن والده باستطاعته تقديم يد المساعدة له، لكن عمل الرجل نصف دينه. كان مندهشًا من طلاقته لأول مرة عند رسم المستقبل، وتحدث عن آماله كأنها مشروعات سهلة قابلة للتنفيذ. تردد كلمة الخطبة لأول مرة في حوارهما أسعد نهلة، واكتفت بها. كان أمامها فترة الجامعة كاملة لتتأكد إن كان باستطاعته تحويل الكلمة إلى فعل. بعد توصيلها إلى مطلع الشارع ومغادرته سريعًا قبل أن يلمحه أيٌّ من أخويها تذكر عبارة أبيه:
"وناوي تعمل إيه يا أحمد في المستقبل؟".
لعن أباه والمستقبل، ونهلة وأمها، وفكره الذي لا يُسعفه في هذه الظروف، إلى أن اكتشف بالصدفة أن الخريج يجب أن يسلم نفسه للتجنيد، وأن عامين أو ثلاثة مازالت أمامه، فاستراح لهذا الاكتشاف الذي منحه فسحة من الوقت يبقى فيها على ذمة شيء معين، ويُعفيه من التفكير في كل شيء عداه.
في غيابه كانت بعض الأحداث تتشكل، ظهر الرجل الذي وجد في البقاء قربه- لاحقا- ما أضفى معنى لتحركاته. كان عبد الرحمن الفولي عضوًا في الاتحاد الاشتراكي. من قرية مجاورة لقريته. يحمل على عاتقه إرضاء رؤسائه، ويكلفه الاتحاد ببعض المهام، مستغلاًّ وظيفته ككاتب خفر وجعلته لصيقًا للقاعدة الجماهيرية. على الرغم من مؤهله الذي لم يكن وقتها سوى شهادة الإعدادية، فقد امتلك عينَيْ خبير. في لحظة تجلٍّ كتب خطابًا وأرسله لجمال عبد الناصر. تضمن الخطاب تقريرًا بما يملكه الخواجة فلتؤوس في النجع، وأكد في التقرير أن الخواجة احتال على قانون الإصلاح الزراعي الذي اعتبر من أهم إنجازات ثورة يوليو، وأهم بنودها التي نصت على إنهاء الإقطاع وتوزيع أراضي الإقطاعيين على صغار الفلاحين، لكن الخواجة وزع ألفي فدانٍ يملكها في زمام البلدة الغربي على أقارب له بعقود صورية، كي لا تستولي الحكومة على أرضه كما فعلت مع غيره. بعد عدة أشهر فوجئ النجع بالقبض على الرجل وسجنه وتوزيع أرضه على أهالي الناحية. فرح الكثيرون، أصبح عدوًّا لدودًا للمسيحيين بعد الزج برجل- يصنف من حماة الكنيسة- في السجن بقرارات عليا لا يمكن الخوض في نقدها. صار بين ليلة وضحاها من كبار الرموز، ولأنه كان حريصًا على التودد إلى جمهور الباعة والخفراء وعساكر النقطة المتعاملين معه يوميًّا، وجد في نفسه ما يؤهله للترشح للبرلمان. بدا الأمر للآخرين جنونًا، لأن البرلمان حتى هذه المرحلة كان مقتصرًا على الأعيان والعائلات الكبيرة. لكن ما حدث في هذه الدورة التي قرر أن يترشح فيها تحديدًا، جعل أقرباءه مثل أعدائه يحسدونه. عندما تجرأ رجل من عائلة شهيرة احتكرت المقعد طويلاً أن يترشح أمام أخيه. بعد مشاجرة وقعت بينهما وشهد الرجال سيل الشتائم المتبادل بينهما، وعندما لم يتراجع أمام محاولات الجميع إثناءه عن الترشح، انقسمت العائلة التي امتدت منازل أفرادها من أول البلدة حتى آخرها، بين مؤيد لواحد ومُعارض للآخر، واتفق الأخ الأصغر- كي يُفوِّت الفرصة تمامًا على أخيه- أن يعطي مؤيدوه أصواتهم للمرشح الجريء كاتب الخفر جنبًا إلى جنب معه، متأكدًا أن هذا التصرف لن يساهم في إنجاحه بقدر مساعدته في إسقاط أخيه. الأمر نفسه فعله أخوه مع مرشح آخر من الفلاحين البسطاء. المفاجأة أن الأخوين سقطا في هذه الدورة وفاز الفولي مع المرشح الآخر بأغلبية ساحقة.
عندما تم حل الاتحاد الاشتراكي بقرار من الرئيس السادات، وقرر إنشاء حزب يصل بمصاطبه إلى عمق القرى، كان الفولي أول الأعضاء المنضمِّين، تغيَّرت سياسته التي كان يتبعها بتحريك مؤشره الداخلي فقط لما يريده النظام، مُوقنًا أن الله وهبه فراسة لم تُعطَ لغيره من البشر. التقاه أحمد لأول مرة عندما كان طالبًا بمدرسة الشهيد خيرت الثانوية، ولعنه عشرين مرة لأنه زار مدرستهم ولم يترك ميكروفون الإذاعة المدرسية قبل أن يتلو سيرته الذاتية كاملة، بينما الشمس تلتهم رءوس الطلاب في الصفوف، ثم قابله في إحدى الإجازات التي بقيها في البلدة، وعرّفَهُ أحد الأصدقاء به. كان نائبًا للبرلمان وممثل الدائرة هذه المرة. ولأن الله وحده أراد ذلك، وجد فيه الفولي شابًّا مختلفًا ببشرته البيضاء وطوله الفارع. كان أحمد حينذاك في زيارة اضطر إليها لمركز الشباب، بعد تخلف نهلة عن موعدهما قرب ماكينة الري.
قضى وقته في كسل متواصل بين آخر لقاء مع نهلة حتى لقائه صدفة بالفولي، يستيقظ مع صياح الديك الذي اختلَّت ساعته البيولوجية وجعلته يُؤذن قبل انتصاف الليل. يرافقه صفير السكون طيلة الليل إلى أنيسمع جلبة صلاح فجرًا، وخطوات زوجته التي تسبقه إلى الحمام لتجهز المياه الساخنة، يليه في الاستيقاظ محمد، يصليان جماعة بين الغرف. يتتبع الضوء خلف زجاج نافذة الغرفة، تعود الجلبة مجددًا مع خروج أخويْه ليأخذا الجاموسة إلى الحوش، ويذهبا إلى عملهما. يظل يُقرّب أشكال الجير الذي كسا زجاج النافذة عند رش الحوائط إلى أشكال خرافية غير محددة، أو وجوه عفاريت ارتسمت عفويًّا، ويعيد تشكيل الموجودات في الغرفة. تتحرك الحياة خارج باب غرفته، تعبر أمامه كأنه مجرد حائط منسي إلى أن يستيقظ أخوه عبد الفتاح، الذي اعتاد أن ينام لوقت متأخر، ويملأ البيت صراخًا بمجرد استيقاظه. يبدأ بسب زوجته ثم ينهال سيل السباب ليصل إلى مدير الجمعية الزراعية التي يعمل بها، لأنه يُصِرُّ على حضور الموظفين في الميعاد الرسمي عكس جميع الهيئات الحكومية. عندما يتسلل السكون تدريجيًّا يسمع صوت زوجات إخوته في حديثهن بالدور الأرضي مع أمه عن أشغال البيت. في موعد ثابت يسمع صوت بائع الفخار، وهو يروج لطواجنه وأوانيه بأغنية حزينة لم يصل لمعرفة كلماتها على الرغم من مواظبته على المرور، ووقوفه مع سيدات الرحبة بين المنازل، يملأن له الطواجن التي يريدونها بالقمح، فيعطيهن الطواجن بدلاً من القمح ويرحل ململمًا أغنياته الحزينة من الطرقات. لهذه السكينة التي لا تليق به، والحياة الخالية من مغامرات عابرة، قرر بلهفة أن يقبل دعوة الفولي ليصطحبه في باقي الزيارات التي غشت القرى والنجوع القريبة.
بمساعدة الفولي استطاع أن يُذلل عقبات كثيرة، بمجرد أن اصطفاه وأعلن على الملأ أن أحمد بمثابة ابن له وساعده الأيمن، وجد في منطقة التجنيد اسمه في الكشوف محاطًا بدائرة، ولم يفهم أن الدائرة تعني الاهتمام به ووضعه في معسكر قريب من بلدته، يستطيع أن يستأذن ليبيت يوميًّا في بيته، وبالاتفاق مع قائد المعسكر يستطيع أن يتغيب عدة أيام دون أن يُحاسب، ومع توصية أخرى من الفولي لم يعد أحد يسأل عنه أبدًا، لأنه في هذا الوقت كان يصاحبه في كل جولاته التي غشت الأماكن المجاورة. الفولي كانت لديه قناعة كبيرة، بأن الوصول إلى أعلى المراتب لن يكون إلا باقتناع الشبان به، ساعدهم بإقامة معسكرات الجوالة، وتنظيم الرحلات إلى الشواطئ، وابتكر طريقة استطاع أن يساعدهم بها، وهي أن الطالب المزاول للأنشطة يضاف إليه بشكل استثنائي خمس درجات في أعمال السنة. بعد ذلك، استطاع إقناعهم بسهولة للانضمام إلى الحزب الوطني باعتباره الحزب الحاكم، فما كان من كل شاب استشرف المستقبل بعيني الفولي، وتغلغلت شعاراته حتى نخاعه، إلا أن اتجه إلى مقر الحزب في النجع، وسجل اسمه بعد تقديم صورة فوتوغرافية واضحة، ليجد بعد أيام بطاقة انتمائه للحزب جاهزة، سمَّى الفولي سرًّا هذه المجموعات بالطابور الثالث، لأنه لم يعتمد كليًّا عليهم، بل بجل الشيوخ في جلساته، ولم يفوت مناسبة عرس أو مأتم إلا وحضرها، وكان شرفًا عظيمًا لأي رجل أن يكون شاهدًا على عقد زواج إحدى بناته، تظل العروس مزهوة بشهادة الفولي على العقد حتى إذا لم تسعد في حياتها بالعريس وانتهى الأمر إلى الطلاق. أما المآتم فشهدت وجوده الدائم بها، واستطاع أن يرفع الميت بحضوره جنازته من مكانة رجل عادي إلى مكانة رجل عظيم. كان أحمد مبهورًا بما يقوم به، بداية من قاموسه الرنان، الذي استلهمه من مفردات الاشتراكية القديمة مع بعض التحوير لتناسب سياسة المرحلة، وانتهاء بقدرته على الحركة في أحلك الظروف. استخدمه الفولي في البداية كواجهة جيدة تصطحبه إلى كل مكان، الأمر الذي جعل تجربته أكثر اختمارًا ونضجًا، لأنه تعامل معه كإنسان يُعتدّ بوجوده، ولما كان يحضر أي مناسبة بمفرده بعيدًا عن الفولي كان يعامل كما لو كان رئيسًا للدولة. مما ساعد على تكوّن أحد أهم مفاهيمه: إن البقاء قرب الزعماء يُعوِّض الإخفاق في الوصول إلى الزعامة.
استطاع بمساعدة فريق اختاره الفولي بعناية، أن يتدرب على تنظيم كشوف الانتخابات، وحشد الناخبين بمبالغ مالية كيفما اتفق، وتحفيز النساء على الخروج وتأمين سكتهن إلى اللجان جيدًا. لم يستثن من الكشوف من هاجر ومن مات أو من لم يصل إلى سن التصويت، ليقوم بالتصويت نيابة عنهم بالاتفاق مع المسئولين عن اللجنة في نهاية اليوم الانتخابي، وتدرب سرًّا على تداول البطاقة الدوارة، وهي عدة بطاقات يتم تسريبها من اللجان بمجرد استعدادها لاستقبال الناخبين صباحًا، بعد مكافأة من سربها بخمسين جنيها كاملة، ثم استطاع بمجهوده أن يتوصل إلى أهمية الدعاية المضادة. كان يشيع بين الناس أنباء عن انسحاب المرشح المنافس، أو زيارته سرًّا للفولي كي يخطب وده، وفي منتصف الليل كان يقوم بمساعدة مجموعة سرية بتمزيق لافتات المرشحين الآخرين، أو تشويه صورهم برش المازوت الأسود عليها.
فوجئ أبوك بخطبة نهلة، على الرغم من أن زيارته الأخيرة لهم لم يمرّ عليها شهر. كأي غريب، سمع من أهل البلدة أن سميح ابن خالتها، الذي عاد من الكويت منذ أسبوعين، وينوي شراء شقة في الشارع الرئيسي بالنجع، وسيارة شاهين موديل 1978، قد تقدم لخطبتها، ووافق الجميع بمن فيهم نهلة، ويستعدون الآن لتجهيز الاحتفال، الذي سيقيمونه في إجازة الصيف. كانت الدهشة تلفه؛ سميح الذي يعرف بقصته كاملة مع نهلة! وحمل إليه شرائطها عند عودته إلى البلدة. كان يختلي به في المندرة ويُسلمه الشرائط متمنيًا تتويج قصتهما بالزواج، لو تزوجت بأي شاب آخر لكان طبيعيًّا، أما أن يتقدم إليها من خبر كل شيء عنهما فهذا أغرب مما في الخيال! مرت أيامه الأولى طويلة وخانقة بعد تلقي الخبر. حتى وصله شريطها الأخير، الذي حمل النبأ بصوتها، مصحوبًا برغبتها الشديدة في أن ينساها. لم يكن حزينًا لأنها ستكون لغيره فقط، بل لأنه مضطر في الوقت الذي يشعر فيه بالانكسار، إلى أن يواجه سخرية أهل البلدة لانتهاء القصة على هذا النحو، بإبداء الكثير من اللامبالاة تجاه الأمر.
بعد خطبتها بعامين، كان أحمد قد أنهى فترة التجنيد، وقرر البقاء بالقرب من الفولي، واهبًا نفسه بالكامل للدعوة إليه في كل محفل، عندما كان الفولي يدعو مسئولين كبارًا كما أطلق عليهم في أمانة الحزب، وطلب عقب صلاة الجمعة السابقة أن يتبرع كل بيت في القرية بزوجي حمام أو ذكر بط سمين لزوم الدعوة، كي يستجيب المسئولون إلى مطالبهم، وبطيب خاطر وإحساس كبير بالمسئولية فتحت نسوة القرية طاقات أعشاشهن وتبرعن، كي تشرِّف المأدبة نائب دائرتهم بكل ما ربينه طوال عام كامل، ولأن أحمد أشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة في هذه الليلة، وجلس بجوار الفولي بعد أن مر على المدعوين جميعهم بسجائر الحشيش وتأكد أن كلاًّ منهم اكتفى بما أخذ، نظر إليه الفولي بامتنان وسأله كإلهٍ يمنح رعيته ما يشاءون بعطف:
"وعايز تشتغل إيه يا أحمد.. كبارات البلد هنا.. اتمنى وهما يلبّوا".
ارتعش أحمد. ابتسم ولم يُجب بشيء، فتولى الفولي استعراض مؤهلاته، التي يحفظها ويتباهى بها، وما يمكن أن يلتحق به من وظائف. كان وكيل مدير منطقة قنا للتربية والتعليم حاضرًا هذه الجلسة. حسم الأمر بألا يتعين أحمد إلا عنده، خاصة وأن الحكومة في خطتها الخمسية القادمة كانت بحاجة إلى مدرسين جدد في عدة مواد، وليس هناك أولى من طليعة شباب الحزب.
... و هكذا أصبح أبوك يا زياد مدرسًا لمادة علم النفس
انتهت قصة أبيك يا زياد، هذه القصة التي عرفها الناس عنه، وقالها لي كثيرون قبل زواجي، فساهمت معرفتها في قبوله. لا أنكر أن معظم التفاصيل محض اختلاق، قامت الروائية بداخلي في نسجها بمهارة. كلما قص عليَّ أحدٌ جانبًا من حياته قبل الجامعة، وساعدتني الصور التي مازالت قابعة داخل الألبوم، وشهقة الكثيرين كلما علموا بتقدمه لخطبتي. وقصص مكتملة مازالت في وجدان الكهول، من كانوا شبابًا وقت انتشار قصة حب أبيك ونهلة، لكنه اختلاق مشروع، لإكمال الصورة، إضافات يغفرها الإبداع، لأن الكُتاب يؤمنون أن مساحات التخيل جزء من النص. كيف لا.. وطوال فترة كبيرة تالية كنتُ مصدقة لكل ما حكيته لك سابقًا. لا بأس.. انس ما حكيته. لدينا تاريخ مع أبيك، يعرفه كلانا، وسنقصه معًا هذه المرة.
أكاد أجن. الجميع يخدعني.يختفونمعك ويتركونني بمفردي. إن لم تكن في غرفة العمليات فأين تكون؟ لم أستطع الوصول إليها. أشعر أنني في متاهة. دهاليز وغرف وممرات. أطباء في ملابس خضر وممرضات في زي زاهٍ لا ينسجم وآلام المرضى. لا شيء أكثر. لابد من قراءة سورة يس. حتى إذا كنت تلهو الآن في حمام السباحة. سأتجه إلى الغرفة. المصحف هناك. وضعت علامته الساتان أمس بين صفحات السورة. ليتني قرأتها بمجرد ذهابك! العاملة تمسح الغرفة؛ تتسلق رائحة الديتول سيقان الهواء. ما بال الوقت لا يمر! كنت أحاول مطه كلما وُجدت مع بكر عبد المولى في نادي هيئة التدريس. أحاول طي لياليَّ الباردة مع أبيك. وكلما كنت أفشل أحلم أنك وعبد الرحمن كبرتما بما فيه الكفاية لتغسلوا جواربكما القذرة بأنفسكما، أو أن حبيبة اقتنعت أخيرًا أن جمال الأنف ليس السبب الرئيسي في اختيار الزوجة. ستعود سالمًا يا زياد. رتبت شيخوختي على أربعة أسابيع. أسبوع عند كل واحد منكم، وأسبوع أقضيه في شقتي. لن يصمد أبوك حتى تصل آلام ركبتي إلى ذروتها.
أسمع ضجة خارج الغرفة. يخرج عبد الرحمن لاستطلاع الأمر. لابد أن العمال يتشاجرون على حمل مريض ما! كلهم يهبون طمعًا في المال الذي يدسُّ به أهل المريض في جيوبهم، أو أن الحارس يتفقد تذاكر الزائرين كما فعل معي. أتحسَّس التذكرة، لن أدفعمليمًا آخر. يبدو أنك أتيت. أكانت ضجة إحضارك! ارتجف قلبي. هل عدت أخيرًا. يا الله. أتأملك وسط قلقي وارتيابي. مرت ثلاث ساعات لم يفارقني طيفك فيها لحظة، على الرغم من مداهمة الذكريات. عدتَ بعصابة على مقدمة رأسك،يقول أبوك إنها مكان الجراحة. كنتَ مازلت غارقًا في غياب المخدر، لا تستطيع رفع رأسك. تبحث عيناك عني وسط الموجودين، ثم تعود إلى غيابك. لم أرَ الدكتور أشرف حتى هذه اللحظة. وصلتُ إلى المستشفى بعد انتهاء زيارته لك في الغرفة، وعرفتُ من أبيك أنه شاب له وجه بشوش. لا يروق لي حملك هكذا بالملاءة. جسمك مرتخٍ كجوال قمح. أسأل أباك عن نجاح العملية. يطالبني بإبعاد المخدة من مكان رأسك. أكرر السؤال، فيحاول يوسف جري إلى البلكونة في نهاية الممر، مشيرًا إلى صندوق السجائر في جيبه. كيف أدخن سيجارة وأتركك! هل يشغلني عن الاستفسار؟ ألمح وجه ابن خالتي واقفًا عند باب الغرفة. متى جاء وأين بقي؟أتبادل معك النظرات يا زياد. عدت برأسك كاملاً. عيناك تزوغان وتعودان إلي. تبتسم ابتسامة صغيرة. قليل من الدوار لن يقتل. أمسك يدك، أنقل إليك حناني باللمس. ثمة قبيلة مندثرة كانت تتبادل المشاعر باللمس. مجرد تعاشق الأصابع. لا أذكر أين قرأت هذه المعلومة. أستطيع أن أوظفها في قصة ما. لا أحد يخبرني عن نجاح العملية. ألح على أبيك ليخبرني، فيقول بعينين دامعتين:
"بس بقى".
أنزوي في ركن، أعطي ظهري لك، وأتصل بالدكتور أشرف، هاتفه خارج نطاق الخدمة، ربما مغلق الآن داخل أحد جيوب معطفه، لا ينتهي من جراحة إلا ليبدأ جراحة أخرى!كم ألفًا تدخل جيبه كل يوم! إذا حصل من كل مريض، مثلما حصل منا على ما ادخرناه في ثلاثة أعوام! أواجه الغرفة من الداخل مرة أخرى. كيف أستكين في نفسي إلى أن أعرف. قل لي بربك يا زياد، ماذا حدث هناك؟ هل استأصلوا كيس المياه؟ هل سحبوا المياه منه وتركوه ليقضي على نفسه، كحبة عنب منزلقة في العتمة وراء دولاب المطبخ. ما الذي تراه في لحظات غيابك عنا؟ أتوقع أنك هناك ترقص مع سرب من الفتيات الجميلات. كاللاتي نراهن في برنامج فن الباليه. تسلمك واحدة إلى أخرى. كنت تحملق في الشاشة كلما رأيتهن. تسألني عن كيفية وقوفهن على أطراف أصابعهن هكذا، لكنني كنت أعرف أنك تتأمل نهودهن الصغيرة الصلبة. كنت أحملق في الصغر في قضبان الذكور. تشبه الخيار الراقد. ربما تجتمع مع الأشخاص الذين أجريت لهم جراحة الآن في كل أصقاع الأرض. تستريحون في مكان عليل قبل استكمال رحلة العودة. هل تهيم روحك الآن؟ قرأت أن الروح ترتبط بالجسم بحبل أثيري عند منطقة الجبهة. بمجرد نوم الإنسان يستطيل الحبل فتتجول الروح في الأرجاء. تعود لحظة الاستيقاظ إلى مستقرها في الجسم. يرن هاتفي. أستجمع شتاتي. الدكتور يتصل بي:
"زياد عامل إيه دلوقتي؟"
أطلب مقابلته علَّني أستفهم من خلجاته وحركات جسمه إن كنتَ بخير، أم تأخذك موجة عالية للعمق بعيدًا عني. الأطباء قد يُخفون حالة المريض خاصة عن الأم خوفًا. لابد أنه يعرف سبب وجوم أبيك. أنزل الدرجات على الرغم من الدوار الذي استشعرته يغلفني، حتى أصل إلى اللوحة التي تؤكد وصولي إلى الطابق المقصود، أسأل عنه عامل الدور. يشبه مغني راب أمريكي لا أذكر اسمه. يستبقيني ويدخل أحد الغرف. قبل أن أطقطق إصبعي الأخير يجيئني الدكتور أشرف بزي العمليات، يرتدي قفازًا خفيفًا. هو وسيم بشعر مجعد مصفف وعينين ثاقبتين تشيان بإدراك ما. لم يخطئ أبوك في وصفه. يبتلعني عمق عينيه وأنا أسأله عن طبيعة حالتك:
"انتي والدة زياد؟"
أحس أنه يراني أصغر من أن أكون أمك يا زياد. مثل كل من يراني أسير مع حبيبة فيعتقد أنني أختها. أجيبه بحشرجة:
"أيوة"
يدخل مباشرة في شرح حالتك:"اكتشفت أثناء الجراحة إنه مش كيس ميَّه مع الأسف". لماذا قال مع الأسف؟ هل ما اكتشفه أخطر مما لو كان كيس مياه؟ألهذا قال أبوك: "بس" فقط؟ حاول يوسف أن يسحبني لأدخن سيجارة. يمر بجواري ممرضان يجران مريضًا. يصر سرير العمليات أثناء احتكاك عجلاته بالأرض. يشدني كلام الدكتور لأنظر إلى عينيه:
"ورم لزج حجمه سنتيمتر مربع".
أسترجع شكل المربع، عندما كانت أبلة عزيزة تطالبني برسمه على السبورة. أرسم مثلثًا فتضربني. أمسح السبورة وأرسم مستطيلاً، فتقول لي:
"مفيش أمل في تعليمك خالص".
أبول على ملابسي. وأهرب من الفصل. يدور الكريدور بي. أرى صورة الطبيب تهتز. أتماسك وأسأله:
"ودا أخطر؟".
ينظر إلى ساعته، ثم إلى شاشة الموبايل،ثم يقول بحيادية:
"مقدرش اجزم بأي حاجه دلوقتي.. قبل ما تحللوا العينة".
يخرج من جيبه شريحة زجاجية تحمل بداخلها عينة الورم. هل يحمل في جيبه عينات كل من يجري لهم جراحة؟ يقول كلامًا كثيرًا لا أستمع إليه. أبتلع ريقي وأسأله:
"حضرتك استأصلت الورم؟"
"استأصلت عينة للتحليل، استئصال جزء أكبر معناه إصابة ابنك بشلل رباعي.. دا مش كيس ميَّه.. قلت لك دا ورم.. ورم".
آاااه يا زياد. الأطباء لا يقولون سوى الحقيقة بحيادية عن المشاعر ودون رفق بالأمهات أبدًا. لا أفهم كلامه، هل هناك أورام لزجة؟ وهل سيبقى متشبثًا بجذع مخك؟ سألته عنك بصوت مرتعش:
"هو زياد في خطر؟"
"الخطر بيلفنا كلنا.. محدش بعيد عنه".
أمازلت تعتقد يا زياد أن الأشياء القديمة التي تحدث لنا، والتي ننساها ظاهريًّا، لا تكمن في داخلنا، وتفتك بنا في صمت؟ وأنها لا تكون سببًا فيما يحدث لنا في المستقبل! لن أنسى تلك اللحظات الأولى أبدًا، عندما دخلتَ مباشرةً إلى غرفتي لتسلم عليَّ فور عودتك من الغردقة في رحلة لك بعد انتهاء العام الدراسي. شجعتُكَ على الذهاب لأتفرغ لأخيك عبد الرحمن، وهو يجتاز امتحان الصف الثالث الثانوي. حكيتَ عن شكوى جدتك من بعض تصرفاتك بكلمات سريعة كي لا أمنعك في المستقبل من البقاء معها، وكي لا أقرِّعك على إهمالك غسل قدميك بعد خلع الكوتشي ورمي ملابسك المشبعة بالعرق في كل مكان، ثم قلتَ لي ملاحظة بدت لي عابرة "حاسس إن عينيا مش طبيعية يا منى". تخيَّلتُ أنك تختبر حبي لك بعد غياب، أو أنك بصفتك الأصغر تسحب انتباهي بطريقتك من أخوَيْك، لأنهما يستحوذان على كل اهتمامي وفكري ونقودي. لم أفهم أن وَرَمًا ينمو بوحشية ويتسلَّق جذع مخك، ويجعلك ترى الأشياء مزدوجة، وكعادتك في كتمان الألم أو الاستهانة به لم تعد تشتكي.
لم يعد ما يصيبك غامضًا. يكمل كلام الدكتور الصورة، كنت تهوى لعبة البازل. تشترى واحدة كلما ذهبنا إلى السوق. على الرغم من وجود عدد منها في درجك. تجلس على الأرض وتترك القطع تتبعثر حولك. تزوغ قطعة تحتك ولا تستطيع تكملة الشكل أبدًا. تمد نداءك ليصلني في غرفتى: "مووووونا" تسحبني كلما حاولت إحكام الحبكة والقبض على كلمة النهاية في القصة التي أكتبها. يُحدث نداؤك خللاً في مويجات تركيزي. أحاول تجاهلكلكنك تكرِّر النداء فأقطع حالة التدفُّق وأذهب إليك غاضبة. أبحث عن أقرب شبشب لألقيه عليك، لكن جلوسك على هيئة أرنب يخرجني من غضبي. أنسى تبخُّر الفكرة، أضحك،وأساعدك في البحث عن المدخنة التي سيكتمل شكل البيت بها. ترى، هل تكتمل صورة مرضك الآن؟ يتصل بي خالك حسين. يستفسر عما قاله الدكتور أشرف، أقول له ما جاء في كلامه الأخير:
"مينفعش تتحركوا من القاهرة قبل ظهور نتيجة تحليل الباثولوجي".
فيقول لي:
"شفتي.. كل اللى بيحصل عشان انتي لعبتي في أمخاخ العيال. شجعتي فكرة الدولة المدنية، وهاجمتي الخلافة الإسلامية."
لا يصدمني قوله. حالتك تقتلني. أنظر إليك في صمت. عيناك منكسرتان وجسمك هامد، تستسلم لحالتك بلا صخب، تعبث بأرقام الهاتف، تفكر في الاتصال بجدتك في الغردقة، لن نبقى طويلاً. قال الدكتور إنك ستخرج غدًا، سنبقى في شقَّة يوسف حتى ظهور نتيجة التحليل. قد لا تحتاج إلى علاج إذا كان الورم حميدًا. لا تقلق يا زياد. يقول يوسف قبل نزوله:
"استبشروا بالخير تجدوه".
يجب أن أذهب إلى معمل التحاليل. ماذا تعني بهذه الإيماءة يازياد؟ ستعود معافًى. مازال عقد النور بانتظارك لتعلقه. ينتظرني يوسف في الخارج. لا أريد أن أتأخر أكثر. أنا مشوشة. الإسراع في إرسال العينة سيعجل من معرفة الحقيقة. هل أقذف بالشريحة من الشرفة؟ يرن هاتفي، يستعجلني يوسف فأتركك، أهبط درجات السلم مسرعة. بمجرد أن أخبرني الدكتور أشرف بأن ما تعاني منه ورم استبقت نتيجة التحليل بقضاء ليلة أمس في تصفح الإنترنت. أتوقع وجود كثير من المعلومات عن أورام الدماغ. الإنترنت كالسلع لا يعرض عادة إلا ما يتزاحم الطلب عليه. تذكرتُ عبارة قرأتها مرة:
"يكون الله كريمًا جدًّا عندما يمنح الآباء الكثير من الأبناء وعليهم ألا يكونوا أكثر طمعًا فيما بعد ليطلبوا منه أن يهبهم حياة أطول من حياة آبائهم".
هذا كل ما وجدته: أورام الدماغ أساسية وثانوية، والأخيرة تزحف إلى المخ من أماكن أخرى مثل الرئة أو الثدي. كنتُ أقرأ في صمت. أخفي ألمي وحيرتي، وأنزف دمعاتي بداخلي. ليس صعبًا أن نحزن يا زياد. الأصعب أن ندعي عكس ما نشعر به. كان عليَّ أن أظل أخمن أي الأورام تصيبك وتقضي على أمانيَّ حتى ظهور نتيجة التحليل، لكن أقل الأنواع ضررًا لا يعني سوى أنك دخلت بحرًا من الرمال المتحركة، ونحن جميعًا نقف عند الحافة نرقب انزلاقك ببطء دون أن نملك لاستعادتك سبيلاً.
أظل واجمة في سيارة يوسف. أرتب حروف لوحات السيارات المعدنية. شارع صلاح سالم مغلق على آخره. الفوضى الخلاقة كما كانت كوندليزا رايس تقول. ما علاقة الثورة على النظام باختناق المرور؟ (س-ع-ر) (عسر) (و-ت-م) (موت) الموت يحوم.ترى،ماذا يكون شكله؟يسألني يوسف: "تشربي حاجة ساقعة؟". "أفضل أن أستريح. معمل الباثولوجي في الدور الخامس..لنضع العينة تحت الفحص المجهري أولاً". أتخيل أنهم سيضعونها في فرن حراري، مربع الشكل يشبه الميكرويف، يُسوون العينة في درجة حرارة معينة، مع إضافة مواد كيماوية تسهل إظهار الحقيقة. الجهل بالأشياء يسمح للخيال بالانفلات.قالت الموظفة:
"النتيجة بعد تلاتايام عشان خاطر الدكتور أشرف".
ألا تحسب حسابًا لك! تبًّا لها. لا يروق لي انتظام صفي أسنانها وبياضها الشاهق. لابد من وجود عيب ما لأفقد إحساسي بأن أسنانها منالبورسلين. لا أطيق الهواء المكيَّف مهما ارتفعت درجة الحرارة. أنتظر خروج يوسف من المعمل. ربما لتأخره علاقة بابتذال الموظفة. اعتقدت أنني زوجته ونظرت إلى سيور الصندل المتهرِّئة بتمعُّن. تذكرني نظرتها بحذاء قديم، ساهم في تكوين رؤيتي عن وضع الفتاة في مجتمعنا. قصة تافهة، لكنها ذات مغزى. بدأت القصة يوم أن تمزق حذائي ذو الكعب الصغير من الجانب، ولأن أحمد حتى هذا التوقيت لم يُقدم على إزاحة حاجز الخجل بيني وبينه جانبًا، ومن ناحيتي لم أستطع القفز فوقه، لم أستطع أن أطلب منه مالاً لشراء حذاء آخر يصلح لفترة الحمل. ظللتُ ليومين أستعرض المزق في حضوره، وأقول كلامًا لا يدل إلا على رغبتي في شراء حذاء آخر، لكنه ولسبب آخر غير إصابته بالصمم لم يسمعني، فكنتُ أضطر إلى الذهاب به ممزقًا عند أمي، وأدَّعي كلما لاحظته أنه تمزق في الشارع أثناء حضوري إليها، ويجب أن أصلحه أو أشتري غيره في أقرب فرصة. ولما قال لي الجزماتي إنه لا يحتاج إلا للرمي في الزبالة، أخفيتُ المزق في زيارتي التالية بأن دهنتُ بقعة من قدمي بالورنيش، يقع المزق فوقها، كي لا يظهر بياض جلدي من أسفل القطع. كلما زاد القطع دهنت أسفله جزءًا أكبر، هكذا حللتُ المشكلة إلى أن أنجبت حبيبة وعدتُ مرة أخرى للأحذية ذات الكعب العالي، التي كانت ضمن ما جهزتني به أمي من قبل. يااااه يا زياد كنتُ قبل زواجي بروح الحق المكتسب، على الرغم من الشعور الذي يغزوني بالاغتراب أطلب ما أحتاجه من أمي بجرأة تصل إلى درجة الوقاحة، لم يكن يعنيني إلا أن توفر لي كل شيء حتى لو وقفتْ أمام الجامع لتشحذ ما يكفينا. لم أعرف متى اكتسبتُ هذه الحقوق في ظل بؤس حالنا. لم يعد من حقي بالزواج طلب هذا من أمي فحسب، بل المداراة على أحمد لأنه لم يلتفت للمزق، والتعلل أمام أمي بأشياء أخرى غير عدم قدرتي على طلب المال منه، تبرر بقائي رائحة وراجعة به ممزقًا هكذا. الأمر ببساطة ليس هذه القصة، لكني بدأتُ أشعر بأني لم أعد أنتمي لبيت العائلة، وإذا لم أجد في البيت الجديد الذي انتقلت إليه راحتي، فلا راحة لي في مكان أبدًا، وعليَّ أن أصمت حتى عن الشكوى.
لابد أن أحكي لك كيف تزوجت أباك. هناك علاقة بين محاولة الانتحار الفاشلة التي ختمت علاقتي ببكر، وقبول الزواج به. مثل تلكالعلاقة بين تكرار إعدادي لصينية البطاطس وكرهكم للسبانخ. يقاس عمر الإنسان أيضًا بعدد ما اقترفه من أخطاء. لا تدعي أن أخطاءك قليلة يا زياد. فأكل الصابون ليس صوابًا! لا تغضب، هي الدعابة، أجرك بها إلى الحكاية، أو أغفل بها عما يحدث.عند رجوعي إلى البلدة أكملتُ تجربة البوهيمية التي بدأتها في القاهرة، أهملتُ هندامي، لم أستحِمّ حتى غلفتني رائحة كريهة، ولم أهتم بشعري إلى أن تلبَّد.أغلقتُ باب غرفتي أمام ارتياب أمي وإخوتي، إلى أن قررتُ في ذروة الصدام مع الأخرى بداخلي أن أنتحر بطريقة رومانسية، أنثر الورود حولي وأتناول بعضًا من حبوب "موتيفال" التي حرصت هَنَا على تناول إحدى حباتها كلما تشاجرت مع الطبيب الذي تحبه، ووجدتها عن طريق الخطأ بعد عودتي في حقيبتي. لم يكن عليَّ سوى الذهاب إلى البلكونة وقطف زهرات القرنقل من أصص الزرع. خرجتُ بوجهٍ عابس فتجنبتْ أمي الحديث معي، ثم عدتُ بعد أن قصفتُ رقاب الزهرات وخبأتها في كيس بلاستيك. تناولتُ خمس حبات من العقار وتمددتُ داخل إطار من زهرات القرنفل هذبته على هيئة خرطوش، الطريقة نفسها التي تمددتْ بها كليوباترا لتموت، ثم تركتُ الموت يقترب رويدًا رويدًا، سيسري في أوصالي كما عرفتُ عنه بدءًا من أصابع قدمي، سأشعر به ولن أخبر أحدًا، قررتُ أن أموت في هدوء. رحل بكر ولا أريد شيئًا بعده من الحياة. سأرى روحي التي تخيلتها تشبه هيئتي تصعد إلى سقف الغرفة عارية بعد أن تنسلخ من ملابسي وتتعلق بسلك المصباح حتى يتأرجح، إلى أن تكتشف أمي موتي بالمصادفة، إذا احتاجت إلى شيء من الغرفة. لكن الموت لم يأتِ، أصابني الصداع ورغبة في القيء فقط. استسلمتُ مودعة كل شيء بابتسامة ساخرة، سأشعر بالشماتة عندما يعرفون أنني من المتفوقات في دفعتي، في الوقت نفسه الذي مازال جسدي طريًّا تحت الأرض. سأضحك في الأعالي عندما أرى أمي تبكي، لأنها لم تلح منذ جئتُ من القاهرة في الاستفسار عن سبب حزني، واكتفتْ بالأسباب التي أقولها عن قلقي من نتيجة الامتحانات. لأنها لم تكن يومًا قريبة، حتى أنها لم تعرف شيئًا عن عبور بكر في حياتي. وسأضحك بملء فمي في الجنة عندما يكتشف بكر أن حب فتيات العالم مجتمعات لا يعادل مثقال ذرة من حبي. بمجرد أن شعرتُ أن سقف الغرفة يدور وتدور معه كل الأشياء قفزتُ من السرير، نفضتُ بتلات الزهر المفروطة على الملاءة من النافذة وطلبتُ من أمي إرسال شادي ليخبر أخي حسين في العيادة أني مريضة.
أمي..لم تفهم أبدًا أنها محاولة انتحار. ربما اعتقدت أنني عضضت لساني أثناء مضغ اللبان. لا بأس يا زياد، ستصلهي وحبيبة من الغردقة بعد قليل.سأذكرها بهذه الوعكة، لابد أن أعرف لماذا لم تهتم وقتذاك بإظهار قلقها، ولو بغَلِي حشيشة حلف البر. سيتركني يوسف لإحضارهما، يجب أن أنتهي من ترتيب كل شيء، لأنكستخرج من المستشفى غدًا. يجب أن يستقبلك الجميع. كيلا تركز في حالتك الجديدة. سنتكدس في شقة يوسف.وكما كنت أفعل منذ اشتبكت أيامي بأيام أبيك. تركت شيئًا غامضًا يسيِّرني، كبكرة خيط أوقعها حظُّها بين مخالب قط فضولي. هل تذكر أمسيات تجمعنا أمام أفلام إسماعيل ياسين قبل التحاقك بالمدرسة؟ ما إن يتجاوز الفيلم المقدمة حتى يترك كل من عبد الرحمن وحبيبة المذاكرة، تتجمَّعون حولي كأشبال حول لبؤة. تخبرني بأمنيتك في أن تصبح إسماعيل ياسين. يضحك عبد الرحمن وتسخر منك حبيبة. أحاول إفهامك أنه ليس مهنة، لكنه شخص. تتسع عيناك دهشة وتقول:
"طيب ينفع أكون اللنبي؟".
حتى يأتي أبوك من الخارج فينهركم، ويدعوكم للقيام كل إلى غرفته ليذاكر. يُمطرني بنظرات غاضبة لأني أهمل أمر تفوُّقكم الدراسي. تذهبون إلى غرفكم. أفقد الرغبة في إكمال الفيلم وأذهب إلى غرفتي باكية. يستفسر أبوك عن سبب بكائي فلا أقدر على قول الحقيقة، أدير حوارًا بصمت معه:
"انتا بعيد.. مش حاسَّة بوجودك..".
بينما لساني يقول بجدية سببًا آخر:
"بيضايقني المدير في الشغل".
يسب المدير ويعدني بالتحدث إليه كي يخفف قليلاً من قبضته. أكمل كلامي الصامت، الذي تقوله عينايَ بشدة:
"ياريت تفضل معايا في الأمسيات ومتخرجش".
بينما لساني يحكي عن تعسُّف الإدارة. فيكمل غاضبًا:
"أدبك بيخليه يتمادى..".
"نفسي نخرج في رحلة.. ناخد الولاد معانا.. تملاني بعطفك..وتحضني..".
"متعمليش إلا شغلك بس.. ينعل أبو اللى جابوا.. يعني إيه يقهرك؟".
"عايزه أحس بحنانك...".
"سامعة ولا أروح أديله قلمين على وشه؟".
هكذا هو دومًا يا زياد، على استعداد أن يتشاجر مع كل من يُضايقني لكنه لا يشعر بما أحتاجه منه، ويمنعنا من أن نكون إسماعيل ياسين، ولو لساعة واحدة في أمسية شتوية. الصداع يفتك برأسي. لم يعد مسحوق الـ"كتا فاست" مجديًا. على الرغم من اختفائه من الصيدليات بعد قيام الثورة، ثم ظهوره مرة أخرى بضعف سعره. لابد أنك تعرف ما قاله الدكتور أشرف، تعرف أن تحليل العينة الآن في معمل الباثولوجي، وربما تعرف النتيجة. تقلب كل هذا في فكرك بصمت. ألا يجلو المرض البصيرة؟ أنت الآن أكثرنا قدرة على رؤية ما لا نراه، فقل لي بربك، هل ستشفى حقًّا؟ أم الدعوات التي تنثرها أمي في الأرجاء، والدمعات التي تنحدر من عيني دون كابح، وصمت أبيك الحزين، لن يشفع لنا كل هذا أبدًا!دعك من هذا. سأقص لك كيف تزوجت أباك. لن أحكي ككل مرة شيئًا مختلفًا. انتهت المقدمة، قد يتسرب إليك شعوري مع الكلمات. سأقص كما لو كنت ألحس الآيس كريم. ربما خففت هذه الطريقة من وقع القصة.
لم يكن لقائي بأبيك معجزة سماوية، أخذه صديق من يده يعمل في قسم الحسابات بالإدارة التعليمية مع أختي عبير، بعد أن تسمّعَ أخباري التي كانت تتناولها أحيانًا مع صديقات المكتب بصوت عالٍ، لذا كانت مستجدات بيتنا تصله دون تشويش. في الوقت الذي قرر الكثيرون من أصدقاء أحمد أنه حان الوقت ليتزوج، وأخذوا على عاتقهم وضعه على عتبة الزواج بأي طريقة. فما كان على هذا الرجل بصفته الصديق المخلص سوى أن وقف عند أول شارع المحطة، ماسكًا أحمد من يده، وموجهًا رأسه باتجاه شرفتنا ثم أشار إليه بسبابته قائلاً:
"فيه بنت اتخرجت السنة اللي فاتت في الشقة دي".
وتلا له سطورًا من سيرة إخوتي الذاتية، ثم تركه ليقرر بعد أن أدى واجبه ومشى. بعد يومين جاءه أحمد إلى الإدارة، وأخبره بأنه سيتقدم لخطبتي، لكن صديقهاقترح عليه أن يُفاتح أختي أولاً، ويكتب لها البيانات قبل الذهاب بشكلٍ رسميٍّ إلى بيتنا، وأكد له أن هذا التصرف سيُجنبه الحرج في حال الرفض. حملتْ عبير البيانات. كانت تُقيم معنا وقتذاك، بعد تعاقد زوجها مع هيئة التصنيع الكويتية، ورحل على أمل تكوين ثروة بعد أن أنجبا ثلاث بنات. في الليلة نفسها، أعطت عبير الورقة ليوسف، فوقف في وسط الصالة، وبدأ في قراءة ما بها بطريقةٍ إذاعيةٍ: "أحمد يعمل منذ ثماني سنوات مدرسًا لمادة علم النفس في دار المعلمين بالنجع. توفي أبوه إثر حزن ألم به، وتوفيت أمه بعد زوجها بشهور. يعيش مع أخيه الذي يكبره بعدة سنوات في بيت العائلة بقريةٍ بحريّ النجع، اشتهرت بزراعة المانجو. يمتلك مع أخيه جنينتين يرعيانهما معًا. وسيم، ميسور الحال. ما إن انتهى يوسف من تلاوة المعلومات التي وصلته عن أحمد ضحكتُ. كانت معلومات تلغرافية لا تشي بشيء، كأني أقرأ في جريدة عن شخص يعلن في باب "أريد زوجة". فهمَ يوسف ما كنتُ أقصد، فأكمل:
"المعلومات دي مبدئيًّا كويسة، ومُشجعة على إنك تشوفيه".
ليس مهمًّا أن أراه، لم يعد يوسف قريبًا كما كان قديمًا لأحكي له هواجسي التي ترتع داخلي الآن، إن لم يدركها بقرون استشعاره التي كانت متحفزة لكل ما يدور بداخلي. منذ إنهائه فترة التجنيد، وبقائه في البيت عاطلاً، بدأت شخصيته تتغيَّر، لم يعد يهتم بي. كان مهمومًا بنفسه، وعندما دخلنا التجربة الحقيقية عاد كل شيء إلى مكانه، تخلى عن اختلافه السابق وعاد أخًا أكبر. الأمر يسير بالطريقة نفسها مع كل الفتيات في هذه الحياة، وُلِدتُ فاهتمت أمي بتغذيتي فيما تعتقد أنه التربية، حتى سلمتني إلى المدرسة التي لم أتعرف فيها إلا على القصص المثالية، وموضوعات الإنشاء عن عيد الأم والأسرة السعيدة وحب الوطن، والتاريخ الرسمي المشرّف. حَرَصَ الجميع على أن أعيش على هامش الحياة، لا خروج إلا للضرورة، ولا صداقة إلا تحت المجهر. غلفوني بسوليفان كي أكون في مأمن من الحياة، وبعيدًا عن متناول الشبان الأشرار، الذين لا يرون في الفتاة سوى ضحية يجب أن تُفترس إن لم يكن برغبتها ففي غفلة من العيون التي تحميها، حتى انتهيتُ من المرحلة الجامعية، والآن أنتظر العريس الذي لن أعرفه أبدًا مهما تبرع الآخرون بجمع المعلومات عنه. صعب أن أُظهِرَ كل ما عرفته واكتشفته ومارسته على أيدي آخرين بعيدًا عن مؤسسة العائلة، فما يحدث في الخفاء يجب أن يبقى سرًّا. الأفضل كي أظل في نظر الجميع "فتاة طيبة" أن أبدو بالصورة نفسها التي يُريدونها، أو التي اعتقد الجميع أنهم صاغوها، ولم يتدخل غريب في صناعتها. لا يهم.. كل الرجال بعد بكر عبد المولى متساوون يا زياد، بإمكان الحب وحده أن يجعل الرجل مختلفًا عن الآخرين.
وربما اخترته تحت قذائف المعلومات الكثيرة التي انهمرت عليَّ، من المعارف الذين استشارتهم أمي. حكى كل واحد ما يعرفه، لكنني لم أستطع تكوين صورة كاملة عنه، فلجأت دون أن أخبر أحدًا إلى منال صديقتي القديمة لتلمس بعض المعلومات غير الاعتيادية، بعيدًا عن وريقات التحري التي أخذ إخوتي على عاتقهم جمعها، وقصص معارف أمي الناقصة. كانت منال قد تخرجت في دار المعلمين، ودرّسها أحمد ثلاث سنوات متتالية. كان من البلدة نفسها التي تربت فيها قبل أن تنتقل مع عائلتها لتعيش في النجع، مثل عائلات كثيرة هاجرت في أوائل الثمانينيات. حاولت أن أستشف من كلامها شيئًا لم يقله أيٌّ من الذين تبرعوا ليخبروني بما عرفوه. ما إن أخبرتها عنه، حتى أخبرتني بقصة حبه مع نهلة، بتفاصيل دقيقة تعجبتُ أن طالباته يعلمنها، كما لو كن مررن معه بالتجربة. قالت إن قصة الحب تلك انتهت منذ عشر سنوات، لكن الجميع يطلق في الخفاء عليه اسم "الراهب" لأن أحدًا لم يضبطه مرة في حالة حب أخرى، أو راغبًا في الزواج، أو متلبسًا تجاه أي معلمة في المدرسة بإعجاب عابر. تذكرتُ بكر أثناء تدفقها بالحكي، ولم أرَ في أحمد سوى صورة منكسرة تشبهني.
بعد أيام معدودات رأيته وسط جلسة عائلية. كان من الصعب فهمه بلقاء واحد. متقوقع داخل فقاعة من الصمت والابتسام، حتى عمره كان مبهمًا، لكن تقاليدنا لا تبيح- كي أقول رأيًا نهائيًّا- سوى لقاء واحد فقط. صدقني يا زياد إذا قلتُ لك إني حتى هذه الفترة لم أكن قادرة على تحديد عمر من أراهم سوى من موضة الملابس التي يرتدونها، وهذه إحدى سقطاتي الكبيرة أيضًا، فأنا التي كنتُ أرى نفسي ناضجة وعلى درجة لا بأس بها من الثقافة، لم أنجح في تحديد عمر أبيك وقتذاك، لأنه كان يرتدي مزيجًا من موضات سابقة وآنية، إضافة إلى حذاء لم أحدد بالضبط إلى أي موضة ينتمي. انتهت الجلسة دون الوصول إلى نتيجة محددة، في لمح البصر بينما كان أحمد يعاين بشغفٍ وَقُورٍ ساقيَّ اللتين ظهرتا من أسفل الجيب، توصلتُ إلى أن الحب مرحلة تمر بنا في بداية حياتنا، أما الزواج فله حسابات أخرى، أهمها أن يكون زوج المستقبل ميسور الحال. يوصلنا العقل إلى قرارات صائبة، إن لم تكن كذلك فهي تساعدنا على تقبل الواقع بكل غرائبه. باغتُّه بسؤال:
"هو انت هتشغلني؟".
فقال بتريث:
"الأمر يرجعلك.. لو مش عايزة خلاص".
وضع أحمد جنيهًا ذهبيًّا على صينية الشاي بعد عودتي إلى الداخل تعبيرًا عن إعجابه، ورغبته استكمال الخطبة، ودخل خالك عمر خلفي ليسألني عن رأيي فقبلتُ، آملة أن أبدأ حياتي التالية بصدق لا متناه. تعالت الزغاريد من زوجات إخوتي، وانتهى اللقاء، لتبدأ لقاءات أخرى فرعية يتم فيها الاتفاق على ما سوف يجهزه وما سوف يقوم إخوتي بتجهيزي به. تم كل شيء. الأشياء المصيرية تحدث أحيانًا ببساطة متناهية كالتهام ثمرة تفاح. هل تذكر يوم أن اصطحبتك إلى بائع الخضر والفاكهة؟ وقفت متسمرًا أمام ثمار التفاح الحمراء، لم أكن أملك سوى خمسة جنيهات وقتذاك. سألتني أمام البائع: "إيه الأحمر دا يا ماما؟". خفت أن أخبرك أنه تفاح فقلت: "طماطم" لكن البائع أراد أن يستغلك وقال: "عيب يا مدام.. تفهموا العيال غلط.." ثم نظر إليك مبتسمًا وقال: "دا تفاح أمريكاني يا ابني" سببته في سري:"أمك على أم أمريكا". لم تمهلني لأهرب من المكان فقلتَ ببراءة متناهية: "أنا عمري ما كلت تفاح". سحبتك بشدة وسرت خطوات فتعالى بكاؤك، فما كان من البائع إلا أن أعطاك ثمرة هدية، وهو ينظر إليَّ مشفقًا.
لا تسألني عن قدرتي على الاحتمال، لم أكن أعرف شيئًا عن طباع أبيك. الأمر بسيط، ستأكل بشهية، إذا لم تر الذبابة الغارقة في الشوربة. لكن، بقليل من الصبر استطعتُ أن أُكيّفَ قدرتي على احتمال ما يحدث، ورؤية بعض الأمور المبهجة، كان المستقبل فسيحًا أمامي، يحمل في البعيد شعاع ضوء أسيرُ على هديه. حمدتُ الله أن بكر سافر بالتزامن مع افتراقنا، لو ظل باقيًا في الكلية لا يستثني فتاة من المغازلة بعد رحيلي لكرهته، وبمجرد تقدم أحمد لخطبتي تغيرت الرؤى، كنتُ أتصفح مجلات أثواب الزفاف وأتخيل نفسي في كل ثوب أراه، بكتفين عاريين يغطيهما الشيفون، وقفاز أبيض من الدانتيل. انغمستُ في اختيار موديلات الطرح، وطريقة المكياج وتسريحة الشعر، بمعزل عن العريس نفسه. لم تشغلني كثيرًا فكرة ما إذا كنتُ أحبه أم لا! وفي بعض أوقات التصالح مع الأخرى بداخلي، كنتُ أثق بأني سأحبه. ربما ساعدني على ولوج هذه الحالة أني حتى هذه اللحظة، لم أكن أعرف عن أبيك سوى الصورة التي رسمها عن نفسه، أو رسمها الآخرون عنه، وحكوها لأنهم يثقون في صحتها، أو لأنهم اقتنعوا بالمثل: "يا بخت من وفق راسين في الحلال"، ربما ثقة زائدة في المستقبل أو جهل مستعصٍ بنفسي، آااه كثيرة هي الـ"ربمات" يا زياد.. لكنها ساعدتني على اجتياز المرحلة بنجاح كبير، بلامبالاة تشبه البهجة. حتى الأحداث الدامية التي سارت بالتوازي مع استعدادي للزواج، ساعدتني وقتذاك بشكل ما، لقد كانت كفيلة بأن نتلهى جميعًا عمَّا يحدث، نلتقي من أجل الاتفاق على استعدادات العرس، فلا نتحدث إلا عن الاجتياح العراقي للكويت.
جميل أن تستعد فتاة لا تعرف عريسها ولا تأمل كثيرًا في المستقبل لحفلة عقد قرانها تحت أمطار الأخبارالمشبعة برائحة البارود القادمة من الشرق. يصبح ترقب مستقبلها في الهامش. نَغَلَ قلب عبير بالقلق بفقد خيط التواصل مع زوجها، اتصلتْ بالهاتف الذي كان يتصل منه، لكنها لم تكن تسمع سوى صفير طويل. ظلتْ ترسل الخطابات إلى العنوان نفسه، على الرغم من معرفتها بأن الكويت العاصمة احتلت بالكامل، لكنه عاد يوم عقد قراني نفسه، ولم أحزن لانصراف الجميع عن الفرقة الموسيقية التي لم تتوقف عن العزف. لقد تحلقت مع الجميع حوله، لنضحك حينًا ونتأسى حينًا آخر، على الخزنة التي وجدها قرب أحد البنوك وقت القصف، وتعسَّر عليه حملها إلى مصر.
أججت فكرة زواجي الرغبة نفسها عند يوسف، وازدادت تضخمًا مع زيارات أحمد إلى بيتنا. كان الأمر مضحكًا بالنسبة إلى الجميع، لكن رغبته في الزواج أعادتني إلى حالتي الأولى. لم تعد علاقتنا كما كنا قبل أربع سنوات. شغلني حبي لبكر عن كل شيء، وانتشلني من مشاعري تجاهه. كما للأنوثة منطقها فللذكورة المنطق نفسه، لكن في اتجاه معاكس. كان بحاجة إلى فتاة، بعد أن عرف كثيرًا من الفتيات بعيدًا عن سلطة العائلة. على الرغم من استعدادي لأكون زوجة بعيدًا عن هذا البيت، كنتُ أغار عليه من كل فتاة يعرفها، زارني للمرة الأولى في الجامعة بعد أن التحق كضابط في الجيش. كان وسيمًا، يلفت نظر الفتيات، كنتُ أحبطه كلما كان يعجب بفتاة. بدأ إعجابه بـ"هَنَا"، أخبرتني بأنها تلاحظ إعجابه لكنها تستأذن مني لتبدأ علاقة معه، وذكرت أن إقامة أي علاقة جديدة لا يعني أنها توقفت عن حبها للطبيب. حذرتها من الإقدام، ثمة شيء سيضايقني إذا قامت علاقة بينهما.
ثم استدار إلى نعمات بعد انصرافهَنَا عنه، عندما وجدني أقف معها في زيارته التالية في باحة الكلية، انصبَّ اهتمامه كليًّا عليها، وعندما نبّهتُ نعمات إلى موعد المحاضرة، في محاولة مني لإنهاء وجودهما معًا، وجدتها تفضل البقاء معه. في النهاية تركاني ورحلا صوب كلية التجارة، بحثًا عن مكان ملائم ليستكملا حفلة الإعجاب المتبادل. في المساء، بعد أن تناولنا العشاء وجمعنا مثلث الحكي، حرصت نعمات على التحدث عن طارق الديب، ومحمد إسماعيل، ودكتور حمادي الذي يُلاحقها وأغفلت ذكر ما حدث مع أخي تمامًا. لكن "هَنَا" همست لي:
"يوسف بيحب نعمات، قال لها أنا مستعد أقول لك بحبيييييييك.. عند قبة الجامعة".
وكما أحبطتُ خططه السابقة بمهارة أحسد عليها، قررتُ أن أُغلّفَ بعد عودتي إلى النجع أي فتاة يذكر اسمها أمامي بهالة من الأكاذيب تُنفّره منها، حتى فاجأنا برغبته في التقدم إلى دعاء الأخت الكبرى لـ"ولاء" زوجة أخي حسين.
لم تكن دعاء غريبة على بيتنا، بمجرد أن تنتهي من مشاغلها تأتي لتجلس معنا. اقتربتْ مني لأنها لا تجد أحدًا آخرَ تقضي وقت فراغها معه. تستعرض أمامي قدرتها على تطريز المفارش، وتفصيل بلوزات من الشيفون. كنتُ أرى ما تفعله بلا اهتمام، لأنني لم أكن أهوى هذه الأشياء. بقبولي وجودها دون أن أبدي امتعاضًا، وفَّرتُ بغباء لهما فرصة اللقاء، بعد عدة أحاديث وقعت كلها في وجودي التقاها في شقة حسين، ومرات وسط الدجاج فوق السطوح، واتفقا في أقل من شهر على الزواج. قبل الموعد المضروب لزفافي، كأنه لا يريد أن يتزوج دعاء تحديدًا، بل يريد- لأنه الأكبر- أن يتزوج قبلي، بأي فتاة والسلام. أصابني ذعر. كانت دعاء تكبره بعامين، نحيفة كأنها سيخ حديدي، ولديها شخصية شوكية، خلاف هذا كانت مُدرّسة منذ ثلاث سنوات، استطاعت أن تدبر مالاً تستطيع به تدبير أمر زواجها بيسر، ثم تجلس مادة ساقيها لتختار من يروق لها، وهو ما سهل الأمر على يوسف، لأنه حتى هذه اللحظة لم يفكر في البحث عن مكان ملائم ليفتتح مكتبًا، لأن فكرة فتح مكتب للمحاماة ضرب من الجنون، لأن عدد المحامين فاق عدد المتهمين أنفسهم.
لم تقبل أمي فكرة زواجه من دعاء واختزلت رفضها في سببٍ وَاهٍ. هي دومًا هكذا، تختار سببًا يبدو للآخرين عجيبًا، وتغفل الأسباب الحقيقية. كان سبب رفضها أن دعاء من "بيت الغول" كما قالت، ويكفينا من "بيت الغول" واحدة. ناصبها يوسف العداء بعد أن رفعها رفض أمي عنده إلى مصاف القديسات، وتحول البيت إلى ساحة عراك كلما بدأ أحد في الحديث عنها. عادت أمي للاختلاء بـحسين. اعتقدتْ أنه وراء هذه الزيجة، كي يحل مشكلة أخت زوجته التي كبرت زيادة عن اللزوم، وعندما قدم دليل براءته استعانت بـعمر الذي كان في زيارة النجع، فخذلها بمباركته قائلاً:
"حد طايل عرايس جاهزة يا شيخة!".
ولكي يكسب ود الجميع عرض على يوسف إلحاقه مستخدمًا نفوذه بعقد للعمل في فرع الشركة بالنجع. في قسم الشئون القانونية. لم يكن قبول يوسف هذا العرض إلا للخروج من مأزق البطالة، على الرغم من ثقته أن طبيعة العمل لا تناسب روحه المنطلقة، ولا طموحه الواسع، ربما قَبِلَ فقط كيلا يظل رهين العزوبية.
كنتُ ألتقي أحمد كل عدة أيام في البيت. يجلس بتحفظ. تنسحب أمي متعللة بأسباب واهية ونبقى وحيدين،فيتخلى عن رسميته تدريجيًّا، لكنه لا يتفوه إلا بكلمات قليلة. كلما جررته إلى حديث كي تتجلى لي شخصيته، يصمت. أخبره بضرورة الحوار كي يعرف كل منا الآخر، فيقول بابتسامة مطمئنة:
"هتعرفي كل حاجة على الطبيعة في وقتها".
لكنه تحدث عن الأثاث الذي كان قد اشتراه، والأشياء القليلة التي تنقص شقته. لم يُهمني إن كان ما اشتراه جميلاً ويُوافق ذوقي أم لا، بل لم أفكر في اختيار الأشياء التي ستلازمني بصمتها الأبديِّ في شقتي. أجلتُ رغبتي في اكتشافه- كما قال- حتى أرى بعيني، واكتفيتُ بالراحة التي خلفها هذا التأجيل في محاولة جادة مني لنسيان بكر. انشغلت بخطط إفشال زواج يوسف، واستعنتُ بمباركة أمي لأوقف نزيف مشاعره تجاهها. حاولت إقناعه بأنه يستحق أفضل منها، لكنه لم يقتنع، فقرَّرتُ أن أرسل إليه خطابًا، أوقعه بـ"فاعل خير" كتبتُ فيه أنها كانت على علاقة بزميلها في العمل، لكنه مزق الخطاب أمامي وألقى بقصاصات الورق من البلكونة، فذهبتُ إلى دعاء وأخبرتها بأنه من العيب أن تتزوَّج الفتاة ممن يصغرها. صمتت أمامي، ثم استغلت تصريحاتي لإيغار صدر يوسف عليّ. تطور الأمر كضربة مشرط في دمل ممتلئ. كانت هذه طريقتها التي لم تُغيرها إلى أن طلقها. احتشد يوسف ثم واجهني:
"إنتي كمان.. هتتجوزي واحد.. أكبر منك بعشرين سنة!".
صدمني كلامه، لأني لم أنشغل حتى هذه اللحظة بسن أحمد، اكتفيتُ بلون شعره الأسود ولم أفكر هل هو طبيعي أم صبغة جيدة، ولم أنشغل بما إذا كان احتفظ بلياقة الشباب أم كان شابًّا بالفعل. صدمني إغفال إخوتي وأمي والجميع ذكر سنه أمامي كي أقبل، وأذهلني تلويح يوسف بسنه في هذا الوقت لأصمت عن مهاجمته. عندما حضر أحمد كعادته، رأيته لأول مرة بعين حقيقية. بكر كان يكبرني باثني عشر عامًا أيضًا، ربما اعتيادي رؤيته جعل سن أحمد يلتبس عليَّ. كانت الأفكار تأخذني بعيدًا، مما جعله يهش بيده أمام عيني، فأوليته اهتمامي بسرعة، ثم سحبتُ من جيبه كل ما فيه، بتصرف لم يكن يتوقعه، وقبل أن يستفسر عن السبب أخبرته بمزاح قائلة:
"عايزة أعرف جوز المستقبل شايل إيه في جيبه".
فتركني لأستكمل تصرفاتي المتهورة فرحًا. قبل أن أمد يدي إلى البطاقة وجدتُ حزمة من المال، عددتها سريعًا وقلت:
"عال اطمنت عالمستقبل.. نشوف باقي الحاجات".
تصفحتُ البطاقة. سقطتْ نظرتي على خانة تاريخ الميلاد. مستني صعقة كهربائية، كان كلام يوسف عن سنه صحيحًا، قلتُ كي لا يلحظ أي شيء:
"إنت مواليد برج الأسد؟كويس.. يعني انت متوهج بالحب وغاوي تهزر وجذاب.. وأشياء أخرى".
ضحك من طريقتي، ثم استأذنتُ لأغيب داخل البيت. كان كل شيء يطير في الهواء، ثم يسقط ويحدث فرقعة. استلقيت على السرير وحملقت في ريشات المروحة. عندما تأخرت حضرت أمي مستنكرة غيابي، فبادرتها بالسؤال:
"إنتى كنتي عارفة أحمد عمره كام سنة؟".
ارتبكت. ثم قالت:
"وماله.. أبوكي ساعة ما اتجوزني كان فرق السن بينا أكبر من فرق السن بينك وبينه".
ثبتُّ عيني عليها، لكنها لم تحاول أن تواجهني،فأخبرتها أني متعبة ولا أستطيع الجلوس معه. كانت الأسئلة تداهمني، هل تريد أمي تكرار تجربتها؟ على الرغم من موت أبي قبل أن تكمل الأربعين، وتحملها العبء، أم تريد التخلص مني، لتتفرغ ما تبقى من عمرها دون هم. أمام إصراري خرجتْ وتركتني وحيدة بالغرفة. ظللت طيلة الليلة أحسب فرق العمر بيني وبينه، والفرق بينه وبين أول ابن سأُرْزَق به، وسن ابني عندما يُحال إلى التقاعد. أُعيد الحساب، إذا تأخر إنجابي عامين، أو خمسة أعوام، ثم أَحسب فرق العمر بينه وبين آخر أبنائي إذا أنجبته بعد عشر سنوات. تلفتُ فرأيتُ أبي يجلس على حافة السرير. يربت على كتفي. بلحيته البيضاء المهذبة. نظرتُ إليه وبكيت، أخبرته بما يحدث لي. ثم سألته:
"أسيب أحمد يا بابا؟".
آاااه يا زياد، جميل أن أقول "بابا".. سمعتُ صوته وهو يقول لي بحنو:
"هذا أمر يرجع إليك.. لكني أريد أن أقول لك شيئًا مهمًّا.. لا تربطي السعادة بشخص.. السعادة شيء غامض بداخلنا نحن.. نقرر أن نكون سعداء فنكون.. ونسعد الآخرين بما نشعر به.. فيُسعدوننا".
قمتُ لأضغط زر اللمبة، حتى أراه جيدًا، وأختبئ في حضنه، وأستفسر منه عمايؤرقني، ليجيب بلغته الفصحى، لكنني استدرتُ فلم أجده. عدتُ إلى إظلام الغرفة، متشبعة بصورته وصوته. في هذه الليلة قررتُ الاستمرار مع أبيك يا زياد. رأيتُ في فرق السن بيني وبينه حسنة، ستعينني على إشباع احتياجي إلى العطف، ولأن عنايته بمظهره لا تُظهر الأربعين عامًا على هيئته، توقعتُ أن يستمر محافظًا على هذه الخاصية التي تمتع بها. ورأيتُ في الانفصال نفسيًّا عن يوسف، واختيار طريق مُغاير عن طريقه إجراءين مُهمَّين لكلينا. الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، أرى أن زواجي وزواج خالك لم يكن ضرورة حتمية لظروف المرحلة. لم يكن نتيجة واقع قاس من الصعب فيه ممارسة حرية الاختيار عند الزواج. كان الرفض سهلاً. لم أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي كبَّلني هكذا لأقبل، ليس كلام منال عنه، ولا محاصرة إخوتي وأمي، ولا سفر بكر، حتى الشخصية المنسحبة المهزومة التي كنتُها، لا علاقة لها بقبولي. يوسف لم يكن مضطرًّا أيضًا إلى الزواج تحت إلحاح إشباع شهوته، ولا بسبب الرغبة في إقامة حياة عائلية كما كنتُ أتوهم وقتذاك، ولا الغيرة من فكرة زواجي نفسها، أعتقد أن كل شيء حدث مثلما تقول أمي دومًا، لأن الله أراد ذلك.
لا تغضب من وضعهم لمريض معك في الغرفة. ستخرج من المستشفى اليوم يا زياد. قالت الممرضة إنه أليف، هيجانه لا يصل إلى درجة القتل، وأنهم أتوا به إلى غرفتك لأن حمام غرفته بحاجة إلى تصليح. أخرج لأستوضح، دفعت ما يكفي لتظل حتى خروجك بمفردك، تقابلني المسئولة عن قسم جراحات الأورام باشَّة، قبل أن أسألها تخبرني:
"راجل مسكين، تعرض للضرب والسرقة من بلطجية وهو راجع من شغله قبل أيام".
أتجاهل حديثها وأسألها:
"ليه نقلتوه لغرفة زياد؟".
"محدش قادر على البلطجية بعد غياب الأمن وانتشار الفوضى".
أتركها وأعود إليك، قبل أن أجنّ. لا بأس، سنخرج في غضون ساعة. يفاجئني قدوم شخصين للجلوس مع المريض، امرأة في الأربعين ورجل لم أهتم بتخمين سنه. أجلس متحفزة قليلاً. لكنهما لا يعيرانني اهتمامًا. لا تغضب يا بني. الرجل في سبات عميق. لن يلحظ أحد الثقب فوق حاجبك الأيسر. يعلو صوت المرأة، تنادي الرجل المستلقي في سباته، لكنه لا يستجيب لندائها. هل تذكر تجاهلك لي كلما طلبت منك غسل قدميك قبل النوم. تدخل تحت البطانية وتنام. تصبح رائحة الغرفة كرائحة القبور. يعلو صوت المرأة منادية: "محماااد" لكن "محمد" مصر على الغيبوبة. كيف وصل الشارع إلى هذه الحالة من الفوضى. كان من الممكن ترك جمجمته سليمة. يزداد إصرار المرأة: "محمااااااااد". يستلفت انتباهك ما يحدث. هل ترى أن حالتك أفضل مما آل إليه الرجل؟ أين أبوك؟ سنغادر بعد قليل. لابد أن يوسف يدفع المتبقي للخزينة الآن. تقترب المرأة من سرير الرجل، تشغل المقطع الأخير من أغنية الأطلال، ننظر إلى ما يحدث، تنبسط ملامح الرجل تمامًا. هل أُسمعك أغنية سيجارة بني؟ كنتَ ترفع الصوت حتى يسمع المصلون في الجامع أمامنا كلماتها. يا حبيبي كل شيء بقضاء. أصرخ فيك لتوقفها لكنك تتوسط الصالة وتترك نفسك للرقص. تتثنى على موسيقاهاالصاخبة. كوكا كوكا كوكا. يصدمني عشقك للأغاني الهابطة، لكنك تؤكد أنهاأجمل من أغنية "عوام"التي كنت أحب سماعها. فإذا أنكر خلٌّ خلَّه وتلاقينا لقاء الغرباء. يبتسم الرجل وتجفل روحه. تراقب ما يحدث بصمت. يشعرني ما يحدث بشجن غامض. عند انتهاء أغنيتك المفضلة كنت تضحك. تخبرني بأن جيلكم بحاجة إلى ما يوافق ذوقه، وأن الكتفين بحاجة إلى تمارين خاصة ليستطيعا التجديف. أمازلت تحتفظ بقدرتك على الربط بين شيئين لا رابط بينهما؟ ينتهي مقطع الأغنية، فيتعالى صوت المرأة سائلة: "مين اللى بتغني دي يا محمد؟".نتوقف عن التنفس ونرقب. ينطق الرجل بهدوء: "أم كلثوم". نبتسم جميعًا. أكاد أصفق بيدي. ليبقى الرجل في الغرفة. لن يضرنا وجوده. تبًّا للبلطجيَّة. تعود المرأة إلى الجلوس على الكرسي، وأقول "الحمد لله" في سري.
يعود خالك مبتسمًا، لقد انتهت الإجراءات. يظهر أبوك أيضًا خلفه. الممرض يمسك بالكرسي المتحرك.ترفض الجلوس مستنكرًا: "هو انا عملت عملية في رجلي؟". لقد اعتبرت ذهابك إلى غرفة العمليات به فسحة قبل يومين. هل بدأت تتحسَّس منه؟ لا يهم يا بني. لا علاقة للدماغ بالرجل أبدًا. نكيف خطواتنا على خطوتك. يسندك خالك من اليمين وأبوك من الشمال. أسير خلفك تمامًا. أكاد ولسبب لم أتبينه أقلد مشيتك دون قصد. كأني أحاول الحفاظ على ثبات مزهرية موضوعة بين كتفي. أتذكر النسوة في البلدة، رؤية قديمة مشوشة، وهن يثبت الجرار المليئة بالمياه على رءوسهن. يصنعن حويات من قماش قديم. لتستريح عليها مؤخرات الجرار. يعلقن عيونهن إلى أعلى، ولا يبالين لتساقط المياه على ملابسهن وابتلالها، لكن الرجال الجالسين على الجسر ينتهزون الفرصة، ليقيسوا أحجام النُّهود ويختبروا صلابتها.تخطو خارج الغرفة يا زياد. ليتنا لا نعود إلى هذا المكان! أستدير قبل خروجي حاملة الحقيبة،لأبتسم للمرأة وأدعو لمحمد بالشفاء.
جدتك بانتظارك مع حبيبة في شقة خالك. تعتقد أن الفرخة التي ستلتهمها بمفردك قادرة على رد العافية إليك. لا يعني عجزك عن صعود الرصيف أنك لن تستعيد قدرتك على القفز من الارتفاع الذي اعتدته إلى حمام السباحة. ما لا نقدر على فعله اليوم لا يعني أن الغد لا يحمل تغييرًا. هل قلت لك هذه العبارة من قبل؟ ثق في ما أقول. كل ما مر بي في الماضي صار حنينًا، حتى الأحداث المحزنة. ربما أنا مصابة بعقدة نفسية، لكنني ربيتك وأخويك بالطريقة نفسها. دعنا من الحديث عن حالتك، أريد أن أحكي لك الآن. ضع رأسك على كتفي كيلا ترجرجها حركة السيارة، ودع ذكرياتي تسري إليها بهدوء.
في زمن قياسي رَتَّبَ يوسف ودعاء كل شيء. لم تهتم بأن راتبه مازال صغيرًا. وأن مرتبها الذي تتقاضاه نظير عملها كمُدرسة هو الإيراد الثابت. وَجَدا شقةً واشترَيا بالمال الذي ادخرته أثاثًا وستائر وكل ما يلزمهما. بينما غفلتي كاملة فوجئت بتحديد ميعاد زفافهما. لم يهتما بمباركة إخوتي ولا بدعوة الأقارب، ووسط دهشة الجميع كانا على استعداد أن يُقيما حفل زفافهما في بحر الشارع، ليحضره العابرون بالمصادفة فقط. حرص على أن يتزوَّج قبلي، ووجد في هذا التصرف ترضية تحفظ صورته وصورة دعاء زوجته أمام الجميع. لأنها تكبرني بسبعة أعوام كاملة، ويكبرني هو بخمسة. أتفهَّم عداءه المفاجئتجاه الجميع، بمُطابقة ما أشعر به وتصرفاته أدرك ما يُعانيه، فهو لم يكن قريبًا من أمي أو أيٍّ من إخوتي. لم يُفكر أحد في أحلامه، في الوقت الذي كان إخوتي الكبار يحفرون مستقبلهم بدأب، كان وحيدًا، ومع أول فرصة للزواج جاءته بغتة، قرَّر أن يتمسك بها ويتخلَّى- مهما كلفه الأمر- عن ولائه للعائلة، آملاً أن تكمن السعادة في الآتي، وفي زواجي فقد نصفه الذي كان يكمله. ولأن مشاعر العداء تنمو بداخلنا بالدرجة نفسها تجاه شخص نحبه دون أن ندري. كرهني فجأة بعمق، كما أحبني في السابق بالعمق نفسه. إذا لم يكن هذا التفسير صحيحًا، وينطبق على حالته، فهو انطبق على حالتي أنا تجاهه، هكذا توصلتُ إلى تفسير أراحني.
بعد أسبوعين من زواج يوسف دخلتُ الحياة الزوجية، بمفهوم عام ودون علم بالتفاصيل. وقفت كحاجز مستعصٍعلى الاختراق أمام محاولات أمي وأختي توضيح أي شيء عن العلاقة الجنسية. منذ البداية، خمنتُ أن أمي ستُوكل إلى عبير هذه المهمة. تمنيتُ أن تمنحني الأخرى التي تسكنني الفرصة لأسمعها، وقررتُ أن أتريَّث إذا أقدمتْ حتى سماع الجزء الأكبر من حديثها، ثم طردها وادعاء النفور حفاظًا على مظهري أمامها، لكن ما إن دخلت عبير الغرفة وجرتني إلى الحديث، حتى طردتها. الأمر لم يسر بي مختلفًا عن باقي الفتيات يا زياد، الضغط العائلي لا يجعلنا نستقيم تمامًا، بل يجعل الانحراف يأخذ سمته السرية. لم يكن هناك حل آخر أمام أمي سوى أن تستنجد بجارتنا التي سكنت حديثًا، وتعاملت مع كل شيء بمنظور شرعي، واستعارت منها كتاب تحفة العروس. وضعته بين يدي في صمت عندما كنتُ جالسة أسمع الراديو ثم غادرتْ. كنتُ متشوقة لمعرفة ما يحمله الكتاب من معلومات، فتحته على صفحات في المنتصف، كي أتجاوز المقدمة، تصورتُ أن رجلاً يضاجع امرأة بداخله، وما إن أفتحه سأرى كل شيء. سارت عيناي على الصفحات سريعًا:
"ويوجد أسفل رأس القضيب غدتان مهمتهما إنتاج الإفرازات البيضاء اللزجة لتسهيل عملية الولوج"
تساءلت: مالي والتركيب العضوي للقضيب، ثمة شيء آخر يجب أن أبحث عنه، فطويت عدة صفحات وقرأتُ مجددًا:
"والفتاة يجب ألا تستكين تمامًا أثناء الممارسة، وألا تُبدي نفورًا، فكل تجاوز على السرير مستحب"
تركتُ الكتاب جانبًا، إن جسمي بين يدي الآن، وعليَّ أن أكتشفه، كنتُ متلهفة لما سوف يحدث في الأيام التالية، لذا خلعتُ ملابسي ووقفت عارية أمام المرآة. أستكشف لأول مرة جسمي كما سيراه أحمد، وليس بالطريقة المعتادة كلما أخذتُ دشًّا ساخنًا وأغفلتُ مسح المرآة الصدئة ورأيته من خلف طبقة البخار. لم يكن يعنيني حتى هذه اللحظة سوى كيف ستمنح الملابس جسمي شكله النهائي، الذي سيراه الناس، كيف تحافظ البلوزة على الشكل الأنثوي دون استفزاز، وإمكانية إبراز الجيب لاستدارة ردفيَّ بشكل غير متعمَّد، كان اللجوء إلى هذه الحيل خوفًا من تعقيبات إخوتي على ما ألبسه، أو طمعًا في اعتراف الآخرين بالاحترام، مضحية بأهم ما يسعدني، إبراز أنوثتي وملاحقة الشبان لي بنظرات الإعجاب. تخيلتُ كيف سيكون لقائي المكتمل الأول بأحمد، متى سيعتصرني بين ذراعيه لأول مرة، وكيف سيكون الالتحام، ووضعتُ سيناريو سريعًا لرد فعلي حيال تصرفاته. وفي غياب المرجعيات، سرتُ خلف ما منحتني الطبيعة من فطرة.
نصل إلى شقة خالك الآن، أعرف جيدًا كيف سنصعد السلم، هذه غلطة خالك، لم يدفع اشتراك الأسانسير، من الممكن أن نقسم الأدوار على الأغاني، لا تيأس. لا أشعر بعجز. سنغني معًا حتى نصل"كوكا كوكا كوكا... جوجوجو". رائحة الطعام تصلنا قبل أن نصعد. "أصحاب السوء ضحكوا عليا وغرقوني". حبيبة تنتظرك أيضًا "أنا شارب سيجارة بني.. حاسس إن دماغي بتاكلني".أحاول المزاح كثيرًا يا زياد، أدَّعي عدم ملاحظتي لِيَدِك، التي ثقل عليك حملها، لاتحاول استخدامها، تسندها بذراعك السليمة دومًا. أثقلتْ كتفك معها فبدا لمن يراك أن كتفيك ليستا في مستوى واحد، وثقلت ساقك وبدا لنا أن الورم يخطط ليشل جانبك الأيسر بالكامل. حتى لسانك بدأ يتكبل، تخرج كلماتك غير واضحة. تتحدث لي بكلمات لا أفهمها، أدعي فهم كل ما تقول. تأتي إجابتي مغايرة لسؤالك. يصيبك الضيق فتسأل:
"أنا لساني تقيل؟".
أجيب بأن لسانك ليس ثقيلاً فتسأل مجددًا:
"ليه مش بتفهميني طيب؟".
لا أفهمك يا ولدي لعيب في أذني، لقد أصبحتُ عجوزًا لا أسمع. بمجرد إصابتك أصابني الهرم فجأة، وتكثفت لديَّ حالة من القهر كنتُ في السابق أقاومها. لا أصدق أن هذه التداعيات حدثت لك في يومين فقط. في أبعد مكان عنك أتقوقع على همي. أتصل بحسين وأخبره بتطور حالتك، يشك أن العملية أخفقت وأصاب المشرط مراكز حيوية. أغلق معه وأتصل بطبيبك، فيخبرني أن مكان العينة يرشح مياهًا تضغط على مراكز الحركة، أشتم أمه وأباه، ينسحب قلبي وتتساقط دمعاتي. يقول أيضًا إن حبة كورتيزون يوميًّا ستعيد كل شيء على ما يرام. لماذا لا يقول وحده، ينتظر إلى أن يظهر العرض ليعالجه؟" كوكا كوكا كوكا.. قاعد في الحارة باسقط.. والغسيل عمال بينقط..والشارع اللى ورايا قدامي". سنحضر نتيجة العينة غدًا ونكتشف أن قلقنا لم يكن في محله، مازال الوقت أمامنا طويلاً. سر ببطء فقط، وتخيل أننا نخطو إلى أرض الجزيرة المسحورة. لا تقل إنك كبرت بما فيه الكفاية لتعرف أن الجزيرة لا وجود لها. "جو جو جو يا عم ولع .. يا سيدي ولع". نحن نخلق ما نريد، ونذهب إليه وقتما نريد. في الوقت الذي تقسو فيه ظروفنا، نبقى بأجسامنا في الواقع وننطلق بأرواحنا حيث نشاء، دعني أثبت لك بالأدلة. فعلت هذا كثيرًا. عندما صدمني أبوك في الأسبوع الأول من زواجنا بملله، برَّر شعوره، عندما استجمعت جرأتي وسألته، فأجاب بأنه ما اعتاد البقاء بين أربعة جدران، ففي البلدة، وما إن يتناول غداءه حتى يخرج ليتنفس الحرية بين الأشجار، ويجد في كل طريق صديقًا أو قريبًا يوقفه ويدردش معه، أما هنا، حيث لا يجد كل فرد سوى بيته ليلجأ إليه بعد العودة من العمل، لم يعد يجد مكانًا واسعًا يتنفس فيه بكامل رئتيه. كنتُ مستعدة لتصديق كل ما يقوله، ليس من مقام الغفلة، بل لأن البدايات تمنحنا القدرة على تصديق أي شيء. بهذه الروح كنا نستيقظ في تمام العاشرة صباحًا على جرس الباب، أجد شادي أو هادي وقد أحضر طعام الغداء، الذي اتفقت أمي ألا أحمل هَمَّ إعداده لمدة أسبوع، كي أتفرغ كلية للاهتمام بنفسي وإرضاء رغبات أحمد. وفي غياب التليفون كان من المتوقع مجيء بعض الزائرين للتهنئة دون موعد. نعود إلى النوم لقتل الوقت فترة الظهيرة، ويبقى أحمد مساء أثناء ترتيبي البيت في البلكونة، بعد توجيه التلفزيون ناحيته، وتحت إلحاح ملله، كسرنا عادة اختلاء العريسين مدة لا تقل عن أسبوع وخرجنا ليلاً متلمسين طريقنا بعيدًا عن الشوارع المزدحمة، كيلا يرانا الأصدقاء أو الأهل فيصابوا بالدهشة من خروجنا المبكر قبل مرور الوقت الكافي ليُشبع كل منا الآخر. نتمشى في الشوارع الخلفية معًا، ونعود بصمت محتفظين بمظهر العروسين طوال الطريق.
عند إكمال الأسبوع الأول دعاني لزيارة بيتهم في البلدة. رحبتُ رغبة مني في التأكد مما قاله عن ملل الحياة في المدينة، والاطلاع على حياته الأولى. عندما طالبني بنزع الطرحة والإبقاء على شعري مفرودًا دون قيد، شعرتُ بفرح غامر يكسوني، ليس لأنه أعفاني من التقييد بتغطيته إرضاء للجميع، بل لأنه بدأ يمارس أفكاره المجنونة التي سمعتُ عنها، وبقلب نمرة ألقيتُ الطرحة بعزم يدي بعيدًا، وارتديت ثوبًا قصيرًا يُبرز جمال ساقي. انتظرنا السيارة في البلكونة، حتى أعلنت عن وصولها بكلاكس متواصل خرجت على أثره الجارات واصطففن في البلكونات. عند خروجنا من باب العمارة فتح باب السيارة الخلفي لأدخل في حركة استعراضية لم تتفق وملله الأيام السابقة، وطوال الطريق غمرتني ابتساماته التي احتاج كي يُشعِرَني بها، أن يدير رقبته ليُواجهني رأسه في الكرسي الخلفي. كنتُ مندهشة أتساءل طوال الطريق: لماذا داهمه هذا التغير المفاجئ! لكني كنتُ سعيدة بتغيره! حتى وصلنا إلى بيته، واستقبلتنا فاطمة زوجة عبد الفتاح واثنتان من إخوته البنات ببشاشة، قاربت واحدة على الخمسين، والأخرى تصغرها قليلاً، متزوجتان في البلدة، لكنهما اعتادتا المجيء إلى "البيت الكبير"للمساعدة كما قالتا، في جمع روث البهائم أو غربلة القمح، أو أي شيء يستدعي العمل الجماعي. جلستُ خجلة أتبادل كلمات التعارف الأولى، حتى قادني أحمد لأتفقد البيت.
كان البيت الكبير ريفيًّا قديمًا مكوَّنًا من دورين، الدور الأول حيث المندرة المؤثثة بكنب عتيق مفروش بكليمات من صوف الغنم. في الداخل، هناك سقيفة تعبق برائحة الروث الطازج مخصصة لجلوس العائلة. ثمة ردهة تفضي إلى حوش لمبيت البهائم، التي يُخرجها أولاد أخيه كل صباح لتقضي نهارها قرب الترعة. انساقت أختاه وزوجة أخيه خلفنا. يتفقدن البيت بعيني ويبادرن بالشرح كلما توقفتُ متأملة شيئًا محددًا. اشتمل الدور الثاني على أربع غرف جميعها خصصت للنوم، واحدة منها كانت لأحمد، واحتوت على دولاب إيديال، إحدى ضلفه مغلقة بالمفتاح، والثانية امتلأت بالملابس. مع تفقدها كانت قمصانًا وبناطيل تعود موديلاتها إلى عشر سنوات سابقة، كانت في حينها رائعة. في ركن الغرفة الداخلي سرير صغير، وامتلأت الجدران بكثير من المسامير المدقوقة، خمنتُ أنه يستخدمها لتعليق ملابسه. في ركن الصالة علقت أكياس مصنوعة من شكائر الدقيق الأبيض الفارغة، وضع فيها اللبن الرائب كي يتحول إلى جبن، بتصفية الحامض الذي تقاطر من مسام الأكياس إلى طبق بلاستيكي وضع على الأرض، وامتلأ المكان بكثير من الذباب، الذي وجَدَ في الشرش المتساقط وجبتَهُ المفضلة. بمجرد انتهاء طوافي بالدور الثاني أخذني أحمد من يدي وصعدنا إلى السطح. كانت هناك غرفة واحدة لتخزين الحبوب بمختلف أنواعها، وفي الجزء المكشوف فرن على فوهته مخمسات محفورة على الطين قبل أن يجف، في المساحة الفارغة أمامه تكدست أكوام مصاص القصب وزبالة البيت بعد أن أحالتها الشمس إلى أشياء غير واضحة، كي تستخدم كل هذه المخلفات وقودًا للفرن. كان الكثير من الحمام يحط على قواديس الفخار المبنية في الجدران، وتمرح الدجاجات وذكور البط والإوز وزوجان من الديوك الرومية وسط هذه الفوضى بفرح غامر، متنقلة بين طواجن الغلال وطست وضعت فيه المياه، وللحيلولة دون وصول أشعة الشمس إلى حديقة الحيوانات تلك، ظللتْ عريشة من حطب السمسم المجدول المكان بالكامل، بعد تثبيتها على أعمدة مبنية من قوالب الآجر. عندما انتهينا من رؤية البيت، وبحماس لم أره إلا نادرًا فيما بعد، استبدل أحمد بنطلونه وقميصه وارتدى جلبابًا. كان أكثر وسامة ممّا أتوقع في هذه الملابس. شعرتُ في هذه اللحظة أن شخصيته تأخذ شكلها الحقيقي الواثق، وبنبرة لا تخلو من حنو أخذني من بين إخوته لرؤية الجنائن واحدة واحدة، بشعري المفرود وثيابي القصيرة. توقفنا كثيرًا لنسلم على أقاربه في كل بيت. حرص على أن يُعرِّفني بهم ذاكرًا سيرة أبي واسم إخوتي ووظائفهم بالتفصيل، ويعرفهم لي بتحديد درجة القرابة، وعندما حان الوقت لنعبر الترعة على جذع نخلة اجتث لهذا الغرض، يتأرجح إذا بدأ أحد بالسير عليه، حملني بذراعيه غير عابئ بنظرات الرجال الذين لاحقونا. كان تصرفه نزقًا بالنسبة إلى تقاليد المكان، مع هذا راق لي أن يفعل هذا! إلى أن اختفينا داخل أدغال الجنائن، وصدمني بعودته إلى تجهمه، وطالبني أن أخلع حذائي القطيفة كيلا يتسخ من الطين، وأعطاني حذاءه القديم الذي يرتديه كلما بدأ المرور لتفقد أرضه ليكمل سيره حافيًا، وفي التفاتة مقصودة عُدنا من طريق مغاير. بإشارة منه أعطيته الحذاء وعدتُ لارتداء حذائي، وكلما عبرنا على بعض الجالسين على الدكك في البعيد لوَّحَ لهم بيديه، كأنه يستدعيهم لرؤيتي عن كثب، إلى أن عدنا إلى البيت، وانخرط أحمد مع أخيه في وضع خطة العام الزراعي القادم. في الوقت الذي كنتُ أكابد فيه القلق كي أستطيع أن أتعامل مع نسوة البيت كواحدة منهن، إلى أن أقلتنا السيارة عائدين دون مظاهر احتفالية كرحلة الذهاب، سوى تحميلنا بكثير من خيرات الجاموسة وكومة بصل ومثلها ثوم، لأبدأ في تجهيز الطعام بنفسي.
ها نحن في طريقنا لإحضار نتيجة العينة. لا أتطيَّر من رفيف عيني الشمال. هذه اعتقادات الجهلة يا زياد. هناك فقط تعسُّر في مرور الدم في الشريان. الحركة المتواترة فقط تضايقني، فأضع يدي على جفني. لم تحزن كثيرًا لخروجي الآن. جدَّتك تفعل ما يرضيك طوال الوقت. أنا مثلك مندهشة، لم أجارِ حبيبة في اعتقادها بأن أمي ما تفعل هذا إلا لتكفر عن معاملتها السيئة لك. كانت شكواها زائدة من زيارتك الأخيرة. ألتمس لها العذر. لقد اعتادت أنفك على رائحة قدميك العفنة، تندهش إذا تأفَّف منها أحد. قلت لي إنك لم تقصر في إحضار الطلبات التي احتاجتها من السوق، وضحيت بوقت الماتش مع أصدقائك لتتقمص دور النجار، وركبت لها سلكًا على حلق شباك المطبخ بديلاً عن السلك الممزق، لا لأنك تخاف من دخول الفئران كما تخاف هي، بل لترضيها وتكف عن الشكوى، ثم وفرت لها أجرة جنايني وقصصت الشجرات أمام شرفتها، لكن تصرفاتك لم تخلق المبرر الكافي لتغض البصر عن عدم اهتمامك بغسيل قدميك،وسبقت شكواها وصولك. لن تكون مضطرًّا للنزول عندها المرة القادمة، لابد أن ننتزع حق التنزه من أبيك، نقنعه بأن السفر إلى الشاطئ يساعد على استيعاب مادة الرياضيات.
يتركني خالك في السيارة ويصعد. لا أريد استلام نتيجة العينة. من الأفضل أن يترك المرء بعض الأحداث تقع في غيابه يا زياد. يغلق باب السيارة ويتحسَّب عند عبور الشارع. بعد دقائق سنضع القطعة الأخيرة عن حالتك لتكتمل الصورة تمامًا. يدخل خالك باب العمارة ويختفي عن عيني. "استبشروا بالخير تجدوه"، لن يكون ورمًا خطيرًا. لن أهتم بما قرأته عن مكان الورم: "أي ورم في جذع المخ- حتى إذا كان حميدًا- يعتبر خبيثًا نظرًا إلى حساسية المكان". لماذا إذن يقلقني نوع الورم يا زياد؟ أي حكمة تجعل مراكز التحكم مجتمعة في مكان واحد بالمخ لا يزيد اتساعه عن أربعة سنتيمترات. تجعل من استئصاله أمرًا مستحيلاً ومن نموه خطرًا محدقًا، لكننا يجب أن نحدد نوع الورم كما قال الطبيب، لنحدد طبيعة العلاج، أتفاءل بكل ما يقوله الدكتور أشرف، هو وسيم ومهندم. أين عبد الرحمن مما يحدث لنا؟ لم أره منذ موعد العملية، ولم يتصل منذ أن أخبرني في الهاتف بنجاحه، وحصوله على مجموع يؤهله لكلية الطب كما يريد أبوك. ربما ينسق الآن لوقفة احتجاجية على ممارسات المجلس العسكري، جاءت له فرصة البقاء في القاهرة على غير توقع. أبوك أيضًا لا يشاركني حالتي، لا أنكر حزنه وقلقه، لكنه يعيشهما بمفرده، أحتاج إلى أن يخبرني بحزنه وأخبره بقلقي، حتمًا سينزاح نصف الهم. كان هكذا منذ عرفته، بعد أسبوع من زواجنا بدأ طقس خروجه اليومي بمفرده متعللاً بسبب واهٍ، لأبقى طيلة الأمسية وحيدة. لم تكن هذه الفترة عصيبة على كل حال، استطعتُ أن أتكيّفَ مع حياتي الجديدة بما لا يجعلني أصرخ من الإحساس بالوحدة. مؤمنة- كما قال كتاب تحفة العروس- بأن العام الأول للزواج يتسم بكثير من التوتر، لأن شخصين غريبين وجدا نفسيهما معًا تحت سقف واحد، وعليهما أن يتحليا بالصبر حتى الوصول إلى درجة التوحد، لذا خلقتُ انشغالات صغيرة انتظارًا لمجيء هذه المرحلة، كنتُ أقضي وقتي صباحًا بعد خروجه للمدرسة بين أعمال البيت ومراقبة الزحام اليومي من البلكونة. كان الشارع ممتلئًا بالمحلات التجارية. نستيقظ عادة على أصوات شتى متداخلة، صوت منشار النجار، ثم أصوات سيارات الكسح في عملها الدءوب لشفط المياه التي طفحت من الخزانات. يبدأ القرآن يعلو من المسجلات، بمجرد فتح المحلات أبوابها، ما إن تَنْتَهِ السورة حتى تتعالى الأغنيات الشعبية من كلِّ محلٍّ على حِدَةٍ. على الجانب الآخر من الشارع، تركزت محلات الصاغة، وارتفع برج صغير بنته الشرطة، واحتل شرطي مكانه بداخله كل صباح، حتى موعد إغلاق المحلات، بعد انتشار ظاهرة مداهمة اللصوص المدججين بالأسلحة الآلية لهذه المحلات، والاستيلاء على ما بها من حلي ذهبية. أما مبنى الأمن الغذائي المواجه لبلكونتي فكان بناية متهالكة ذات لون أصفر باهت، توزع فيه اللحوم المجمدة والأسماك وكل ما هو مدعم. تحيط مياه المجاري بكل شيء بعد أن تتجمع في الأماكن الخالية كل ليلة، ويواظب رجال الصحة بأنابيبهم المعلقة خلف ظهورهم على المرور قبل كل مغرب، ورش مياه المجاري بمبيد قوي بخرطوم متصل بالأنابيب المعلقة، ليخفف من هجوم البعوض والناموس الليلي.
كنتُ أجدد نشاطي في المساء كلما خرج، بممارسة بعض الجنون الذي حُرمت منه طويلاً، أرصُّ أمامي عبوات المانيكير والأسيتون، أطلي كل ظفر بلون مختلف، وأزيل ما فعلته لأعيد طلاء أظافري كلها بلون واحد، أقف أمام المرآة وأرفع شعري في ذيل حصان، ثم أفلته مجددًا. تطرأ فكرة جديدة فأنفذها، أفتح ضلفتي الدولاب على مصراعيها، وأعيد رؤية قمصان النوم على جسمي، إلى أن أختار واحدًا أرضى عن هيئتي به. وكلما تأخر، أتمنى أن يدق أحد الضيوف أو أيٌّ من إخوتي بابي، ليبقى قليلاً يؤنس وحدتي، أو زائر قصد أحد الجيران ودق عن طريق الخطأ، لأستفسر عن شخصيته وسبب طرقه، وكلما فكرتُ في الذهاب إلى أمي تراجعتُ، لأنني كما قالت تزوجت الآن، وعليَّ أن أكون زوجة طيبة، بالمكوث داخل بيتي ولا أتحنجل كل يوم في الشوارع. إلى أن يأتي قبل منتصف الليل بقليل، وقت مداهمة النوم لجفني، فأجهز له العشاء، وقبل أن ينتهي من تناوله، أستأذنه لأذهب إلى النوم. حاولتُ أن أبقيه ليلة بكل الطرق، ادَّعيتُ الإحساس بالوجع مرة، والخوف من العفريت الساكن في ظلمة الردهة، ثم صارحته بمَللي الذي يداهمني أثناء غيابه، لكنه لم يأبه لمحاولاتي.
يعود خالك من معمل التحاليل، يحمل مظروفًا صغيرًا فقط، يقول إننا يجب أن نتوجه إلى عيادة الدكتور أشرف الآن، ليخبرنا بما يحتويه الظرف من معلومات. قبل أن أسأله عن النتيجة، يؤكد أن السكرتيرة لا تعرف شيئًا. دورها محصور في تسليم النتائج. أصدق ما قاله يا زياد، خمس دقائق فقط بين عيادة الطبيب والمعمل. لا تقلق، حاول أن تلتهم ساندويتشًا في هذا الوقت. كعادتي أراقب لوحات السيارات، لماذا هذه الحروف المبعثرة. (ل- ق – ق). هل هي رسائل مبهمة؟ (قلق). (ت- و- م). (موت). موت مرة أخرى. لن تموت يا زياد، لا أتخيل حياتي دونك. لن يتركني الله أعاني ما تبقى لي من عمر. يعرف أنني لم أحتمل ما أعانيه إلا من أجلكم، فكيف يسلبني ما يجعلني أحتمل؟ الله رحيم، ليس من اهتماماته معاندة كائن ضعيف مثلي،يرتب حياته المستقبلية على أربعة أسابيع. لم أعد كما كنت في السابق، قادرة على الاحتيال المشروع، لأوفر لي مكان قدم على الأرض، هل تعرف كيف واجهت تجاهل أبيك في البداية؟استخدمتُ حيلة أخيرة لأشعره بوجودي، أحلتُ رغبتي في البقاء دون عمل إلى الرف وطلبتُ الخروج للبحث عن عمل فترة الصباح، كي أجد أحدًا يُحدثني كما أخبرته، كنتُ أعتقد أنه سينتبه إلى حيلتي، لكنني كما فاجأته بطلبي، فاجأني بالموافقة، وفي أقل من أسبوع، كان لديَّ تصريح من مدير الإدارة التعليمية بمزاولة مهنة تدريس اللغة الإنجليزية بالأجر، نظير حصص محددة في مدرسة لتأهيل الأطفال المعاقين فكريًّا. ضايقني أن يهرع إلى تلبية طلبي بهذه السرعة، متناسيًا رغبتي أن أكون ست بيت لا تخرج، بل لم يشك لحظة أنها مجرد حيلة.
كانت نهلة أول وجه التقيتُ به في المدرسة، خمَّنتُ منذ اللحظة الأولى لرؤيتها وبعد أن أخبرتني باسمها أنها هي التي تربعت داخل قلبه عدة سنوات، وما إن استفسرتُ من بعض المدرسات في اليوم التالي عن اسمها وأصلها بالكامل حتى تأكدتُ. لم أصدق أن أحمد يدفع بي إلى موقف كهذا، ويُقْدِم على وضعي في مواجهة معها بكل هذه الجرأة، وإزاء عدم تصريحه بشيء اعتبرتُ تصرفه تحديًا، وطوال فترة بقائي في المدرسة، التي لم تتجاوز الشهرين، قبل أن تداهمني أعراض الحمل وأترك العمل، تصرفت على أساس أنه تحدٍّ سافر، وعلَيَّ أن أكسبه، ارتديتُ كل يوم ملابس جديدة، وحرصتُ على زيادة كمية الأحمر على خدي، ولأول مرة أغرقت عينيَّ بالكحل، لكنها كانت أجمل دون أن تُكلِّف نفسها عناء مباراتي.
لا تقُل إنها كان من الممكن أن تكون أمك، لم تنجب حتى الآن. لا تعرف ملمس خراء طفل في عامه الأول، أو شعور أم على وشك فقد ابنها. لا تعرف أي شيء عن الـ"هوم ورك"، أو الـ"لانش بوكس". لا أتشفَّى، لكن الله لم يخلقها لهذا الدور. الله رحيم يا زياد، كما قال صديقي السوري في إحدى دردشاتنا على المسنجر، أوهمته أنني أرملة تملك شقة على النيل في القاهرة ومالاً وفيرًا، فما كان منه إلا أن أبدى رغبته في تصويب قصصي، ونقل إقامته إلى مصر. لا تقل كما قال خالك إن الله يقتص مني، بسبب أفعالي الإلكترونية. لا أحد يختار صورته الحقيقية، إذا تسنى له في فرصة فضائية تصوير نفسه بما يتمنَّى. قد يختار صورة ألد أعدائه ليظهر بها، ويكتشف أن عداءه لهذه الشخصية تحديدًا نابع من أنه يتحلَّى بصفات لا تتوافر فيه. لم أكن هكذا في البداية، كنت كفأر مذعور داخل مصيدة ظل لوقت طويل يبحث عن مخرج. قبل أن أتعامل مع أبيك في ما بعد بمعارفي التراكمية عنه، وجدت في إرهاقي معظم الوقت نهارًا، والشطر الأول من الليل بسبب الحمل حجة لأعود إلى بيت عائلتي. وجد أحمد في بقائي عند أمي بغيته، هذا ما كنتُ أستشعره. إذا ذهب إلى بلدته غاب النهار وعاد عند الغروب أو بعده بقليل مغبرًّا بتراب الحقول، يمر بي قبل عودته إلى الشقة. كنتُ في وضع عجيب، عند ذهابه تقرعني أمي لأني فضلت البقاء عندها وتركته يعود ليبيت بمفرده، بينما داخلي يستشعر فرحه الخافي كلما أبلغته بأنني لا أقدر على العودة معه، وسأبقى تحت تأثير الوهن هنا! أظل أتخيل كيف يقضي وقته دوني، لم تسعفني مخيلتي. أسترجع الآن حياتي معه بكثير من التأمل، دعني أحك لك يا زياد عن البدايات، عندما كانت محاولاتي التقرب إليه لا تنتهي. صمته كان محيرًا، قال لي فترة الخطبة انتظري وسيحدث تقاربنا تدريجيًّا بالعشرة! لكن صمته كان محكمًا كدائرة. كنتُ كل مرة أحاول جرَّ خيط الحوار أفشل، فأدير الراديو وأثبته على محطة تبث الأغاني كي يسترخي ويتجاوب معي وأسأله: لماذا يصمت، فيقول:
"هاتكلم ازاى وانا باسمع الأغنية".
أغلق الراديو وأستدير ناحيته، لكنه يظل على حالته، أجلس قبالة صمته متسائلة: "هل مازالت نهلة تستحوذ على قلبه؟". أذهب برومانسيتي إلى ضفاف بعيدة حتى أضبط نفسي متلبسة تجاهه بشعور الشفقة. عند هذه الحافة أصبح على استعداد أن أغفر له جريمة انصرافه عنِّي لحبه الذي قد يكون مازال باقيًا بداخله. في إحدى حالاتي الاستثنائية تلك، التي فضلتُ أن يكون مازال على حبه السابق، أو اكتشفتْ بعد زواجها أنها تحبه وعادا في تكتم شديد، على أن تكون عاطفته متبلدة هكذا دون سبب، يفتقد الإقبال على الحياة ويعيش لأنه فقط وجد نفسه حيًّا، لذا في لحظة جرأة استثنائية أباحتها أفكاري الشاذة، وإصراري في تهشيم فكرة أن الزواج يصبح غير متكافئ بين زوجين تفاوتا في السن، جررته إلى الحديث عن هواجسي بسلامٍ نفسيٍّ أبيض يُشبه الحمامة، وسألته:
"انتَ بتحبني؟".
وكأنني امرأة مخبولة ظهرت أمامه فجأة أجاب:
"إحنا متجوزين دلوقتي..".
"يعني بتحبني؟".
"كل حاجة تمام".
استفزتني إجابته، لا أرى أن "كل حاجة تمام" كما يرى، لا يقبل عليّ كما كنتُ أضع تصورًا عن علاقات الزواج، لا أشعر براحة أو سكينة. نلتقي في السرير كغريبين، كأن المعاشرة الزوجية مباراة يجب أن يحقق فيها أهدافًا، ويخرج منتصرًا، ثم يوليني ظهره وينام، أو يأخذ دشًّا كأنه يتخلص من آثاري على جسمه ويخرج إلى الصالة بحثًا عن ماتش يذيعه التلفزيون لفريق الأهلي مسجلاً، وإن لم يجد شيئًا يستحق المشاهدة يسحب كرسيًّا من كراسي السفرة المنتصبة كشواهد القبور حول الترابيزة ويجلس في سكون البلكونة، إلى أن ينام أثناء جلوسه. في فورة غضبي حاولتُ أن أحكي لأحد، أختي عبير أو أمي، لكني لم أجد شيئًا معيَّنًا يقال. كنتُ ممتلئة بشعور عدائيٍّ للجميع، وأحاول جاهدة حل مشكلاتي بعيدًا عنهم. خاصة وأن أيًّا منهم لم يسألني إن كان كل شيء على ما يرام. ما معنى "ما يرام" من وجهة نظرهم؟ وإذا بدأتُ في الشكوي فبأي كلمات أصف حالتي؟ أشعر.. أحس! كلمتان فضفاضتان لا تعبران عن حقيقة، وستؤكد أمي إذا مكنتني من فرصة الحديث معها على أنها شكوك، وعليّ أن أحمد الله، وستتلو عليّ وصاياها، ثم تنسى وجودي وتسترسل في الحكي عن أبي الذي كان مريضًا منذ أن كانت في العشرين، ولم تدخر وسعًا في الانقطاع للعناية به إلى أن مات. لن أستطيع أن أتطرَّق إلى الحديث عن الجنس، لأنه كالحديث من وجهة نظرها عن الشرك بالله، لا يجب أن أقترب منه، لأنه سر الزوجين، والزوجة الطيبة تحفظ سر زوجها. عند توقف أفكاري وجدتها فرصة لأعيد الكرة من زاوية أخرى، فقلت معتقدة أني أضربه في رأسه بطلق ناري:
"أنا عارفه كل حاجة كانت بينك وبين نهلة".
لم يُفاجأ. رمقني بنظرة خالية من أي تعبير فأكملتُ:
"أنا شفتها في المدرسة".
استدار إليّ بكامل جسمه منتبهًا. وسألني متأكدًا:
"فين؟".
"في المدرسة".
حكيتُ له عن مقابلتي معها، وكيف عرفتُ بحدسي أنها هي. سردتُ كل شيء. استقبل كلامي بحياد استفزني حتى انتهيتُ من حديثي، ثم عاد للصمت. اعتقدتُ أنه ادعى الجهل ليستر نفسه أمامي. لفَّني غضب عارم، وبلا منطق واضح وبفائض جرأة قررتُ أن أخبره بأمر بكر في اللحظة نفسها:
"انتَ عارف؟ أنا كانت ليا علاقة بمعيد.. في الكلية قبل ما اشوفك؟".
لم يُجب فأكملت:
"بس هو سافر.. يكمل دراسته.. في ألمانيا.. وسابني!".
لم يلتفت إلى كلامي. انتبه كليًّا إلى التلفزيون بعد أن أمسك الريموت كنترول وحوَّل التلفزيون فوجد قناة تذيع ماتشًا أوروبيًّا، فغادرتُ مكاني في الصالة ودخلتُ غرفتي. فيما بعد عرفتُ أنه كي ألفت انتباهه، عليَّ ربما أن أسكب الكيروسين على نفسي أولاً، وأخرج إليه في الصالة كتلة مشتعلة من النيران.
ندخل إلى حجرة الدكتور الآن. أقبض على المظروف بيد مرتعشة. لماذا أستحضر الآن صورتك في ساعاتك الأولى يا زياد؟ بكيت بمجرد خروجك، لا لأن درجة الحرارة تجاوزت الأربعين، بل لأنك جوعان وراغب في مص حلمتي.لم تترك مجالاً لأشك في قدرتك على استلاب طاقتي. يرفع الدكتور أشرف عينيه عن التقرير ويتنهَّد. هل يقول إن الورم خبيث؟ وإنك بحاجة إلى علاج مكثف؟ يا الله. دعني أخبرْك بما قاله بالضبط. رفع عينيه وتنهَّد، ثم قال:
"دلوقتي أقدر أقول إن حالة زياد تتطلب علاجًا حساسًا جدًّا".
كانت ثمة كلمات يحتجزها لسانه. حاولت أن أجره برسم علامة استفهام كبيرة على ملامحي فأكمل بخجل:
"هيا مقدرتكم المالية إيه؟".
يا الله! ما هذا البلد الذي تُحدِّد فيه خطة علاج المريض حسب مقدرته المالية، إذا كان قادرًا على الدفع شفي! وإذا لم يقدر تولاه القدر برحمته.يشملني الصمت فيجيبه يوسف "مفيش سقف لمقدرتنا". لا أعرف كيف انتقى من قاموسه هذه الكلمات الفضفاضة ليعبر عن وضعنا المالي. تبتلعني فجوة سوداء. يقول الدكتور: "خلاص يبقى مفيش غير مركز النصر للأورام..الدكتور علي رمزي!". بأي وجه أعود إلى البيت يا زياد؟ بماذا أخبرك إذا سألتني عن نتيجة التحليل؟ لا أصدق. لم أرتِّبْ يومًا في المستقبل. كنت أتوقَّع أن كل يوم يضاف إلى عمرك مخصوم من أيام شقائي. كيف استطاعت أذناي سماع ما قاله الطبيب! ليس هناك مجال للخطأ يا ولدي. لن تستسلم لما حل بك. شفيت في الماضي من حروق وجهك. كنت صغيرًا للدرجة التي لا تستطيع فيها التمييز بين كوب شاي ساخن وعصير البرتقال. سحبت الكوب فاندلق على وجهك وسلخه في الحال. أصبح كقطعة لحم حمراء مفرومة. لا يبين فيها غير عينين ضامرتين. لا أجد سببًا واحدًا يجعلك من المُعرَّضين للإصابة بالأورام. فأنت لم تعمل في مصنع للمواد الكيماوية ولم تتعرض يومًا لأشعة أكس ولم تأكل وحدك من وجبات الـ"تيك آواي" بل شاركك أخواك، والمبيدات التي استخدمها المزارعون بإفراط لمساعدة الخضراوات على النمو، والهرمونات التي حقّن المربون بها المواشي والدجاج في المزارع ليكتسي هيكلها شحمًا ولحمًا في زمن قياسي لم تكن حكرًا علينا، بل تناولها الشعب كله. لم يكن هناك سبب واضح لإصابتك أنت دون غيرك إلا لأن الله أراد هذا. اختارك أنت خصيصًا ليختبرنا، وربما ليعاقبنا على شيء فعلته أنا أو أبوك! ربما نظرتي وحدها اخترقت كسهم مسنون دوائر دفاعاتك البيولوجية، بعثرت هالتك الطيفية الحامية. يوم أن رأيت صورك التي أدرجتها من الغردقة على الفيس بوك، أثناء تمضية شطرٍ من إجازتك هناك، عقبتُ وقتذاك عليها بأنك صرتَ شابًّا مكتملاً لا ينقصك شيء. تأملتك كثيرًا، شعرتُ بالفرح ونقلتالصور إلى صفحتي، كي أتباهى بابني الأصغر. ربما أضمرتُ غيظًا مكتومًا لأحد. ووجدتُ في صورتك معينًا لإغاظته. هل يقتص الله مني؟ لا أعرف.. لا أعرف يا زياد.
نحمل تقرير الدكتور أشرف، وصورة أشعة الرنين المغناطيسي، وتقرير تحليل الباثولوجي، لنذهب إلى المركز بمدينة نصر. الأضواء على جانبي الطريق تنعكس على قطرات دموعي، وقلبي ككرة مطاطية تتقافز، ودعائي سلّم يصل الأرض بالسماء. أنتظر ما سيقوله الطبيب عن حالتك. لا يأتي كلام الأطباء كما يشتهي أهل المرضى في كثير من الأحيان. لا أتفاءل بمقابلة الدكتور "علي"، لكن كل انحدار يسلم إلى آخر. المكان راقٍ جدًّا. يستفزني هكذا. لا أعرف السبب.بمجرد وضع الأشعة على الفانوس ورؤية التقارير السابقة يقول:
"الورم قابض على مراكز الحس في جذع المخ، مكان بيعجز الدكاترة.. مينفعش التعامل معاه بالوسائل العادية·. مقدرش الدكتور أشرف يستأصل الورم لأن المكان حساس قوي. أخد عينة من غير إصابة المريض بشلل رباعي معجزة".
قبل حالتك لم أكن أعرف أن ورمًا يسمى أستروسيتوما قد يقضي على آمال بعض الأمهات، في رؤية أبنائهن الصغار شبابًا يغازلون الفتيات ويسبُّون الدين بعيدًا عن عيونهن! قال إن الأستروسيتوما ورم نجمي يصيب الإنسان في مرحلة الطفولة المتأخرة، له لون البياض المائل إلى الفضي، لذا خدع الأطباء واعتقدوا أنه كيس ماء من السهل التعامل معه. إن تاريخ الإصابة به ترجع إلى ستة أشهر ماضية ليس أكثر، لكنها كافية لأن تفتك بمراكز الحس، وأن هذا الورم أربع درجات، الأول والثاني يحتملان الشفاء.
سألته بتوجُّس:
"وإيه درجة الورم؟"
"جراد ثري"
لماذا يصر الأطباء على التحدث عن حالة المريض مع ذويه باللغة الإنجليزية! أتذكر طبيب المخ والأعصاب في النجع. عندما لجأ عند شرح الحالة لأخي إلى الإنجليزية. لا أفهم ما قاله فألجأ إلى أخي يوسف الذي اصطحبني. وضح لي أن الورم من الدرجة الثالثة. لا أرى الطبيب، تهتز الصور. أطلب منه أن يرفع درجة مكيف الغرفة، وتنهمر دموعي.
"الدرجة دي بتصنف الورم تحت مسمى "خبيث".. خطة العلاج واضحة.. لكن التكلفة باهظة جدًّا، لو عندكم المقدرة ابدءوا بسرعة.. لأن مكان العينة بيرشح مَيَّهفي صندوق المخ، ودا بيأثر بالسلب على حركة الأطراف".
سأله يوسف:
"وفين هنبدأ العلاج؟".
فقال الدكتور:
"المركز الطبي العالمي- بتاع الجيش- على طريق الإسماعيلية، لأن العلاج بالإشعاع هناك ثلاثي الأبعاد. ودا أفضل للحالة.. عشان الإشعاع ميئذيش الخلايا السليمة".
قبل خروجنا أتلفت إليه وأسأله:
"هو زياد هيموت؟
انتهى وضع خطة العلاج بعد لقائنا بالدكتور"علي". يقرِّر تحويلك يا زياد إلى المركز الطبي العالمي. أعرف أنك ستموت يا زياد. حدسي يخبرني. لا مفر. لن يخبرني أيٌّ من الطبيبين بهذه الحقيقة. قد يبيع جرجيرًا إذا صارح المرضى بعد أول زيارة. لن يصبح البقاء في أكتوبر ملائمًا.يوسف مضطر إلى السفر بعد أسبوع إلى بلجيكا لسبب لم يُفصح عنه. الأمر ليس غامضًا على أيٍّ منا، سافرت جولييت في مارس الماضي، وبقيت هناك منذ ذاك التاريخ. أوصلتُها بنفسي مع يوسف إلى مطار الغردقة، بعد أن أخبرتني بمعاودة المرض إليها، وقرار طبيبها البلجيكي بدء علاج الكيماوي من جديد. ودعتها باكية وقبلها يوسف بتريث متمنيًا لها الشفاء، وعدنا لأبقى يومين معه في ڤيلاه على البحر. ربما دعته جولييت لرؤيتها الآن، أو فكر هو في السفر لتفقد حالها. لن أسأله عن السبب، أكتفي بكل ما قدمه لنا، وبقائه جوارنا بعيدًا عن الغردقة طوال الفترة الماضية، وعندما أعلن خبر السفرة قبل يومين، لم يبخل بتوفير سائق يمتلك سيارة شيفروليه، كي ينقلنا بمجرد غيابه إلى الأماكن التي سنذهب إليها.
أتوق إلى الانفراد بنفسي وغسل روحي بالبكاء، والإنصات لصوتي الداخلي، بحثًا عن قليل من السكينة. لأول مرة أفتقد وجودي مع أحمد والأولاد بمفردنا، حتى إذا اختلى كل منا بنفسه في ركن، وعاش حياته بطريقته. منذ وصولنا إلى القاهرة تشتتنا، لم يبت عبد الرحمن معنا ليلة، بقي مع أصدقاء تعرف عليهم في الغردقة ذات صيف. أحيانًا يبيت عند أولاد خاله حسين، ويأتي إلينا في المستشفى صباحًا، يبقى قليلاً ثم يختفي باقي اليوم. ظلت حبيبة في الغردقة، تتصل عدة مرات كل يوم. إلى أن قررت المجيء مع أمي لنبقى معًا في شقة يوسف بـ"6 أكتوبر":
"يوسف: عايزة شقة مفروشة جنب المركز الطبي".
ينظر إليَّ ويسألني:
"ليييه؟
"كفاية عليا مصيبة واحدة.. بلاش بقى مصيبة خنقة المرور.. مدام في إيدي أتجنبها".
أنخرط في البكاء يا زياد. لا أطيق الزحام. لا.. ليس الزحام هو السبب. لا أريد حضور لحظة مفارقتك الحياة. هل يخطئ الأطباء؟ هل يريد الله موتك فعلاً؟ لماذا إذن جعلني أنجبك؟ السيارةكصرصار فقد اتزانه. ثمة زيتونة تتصدر زوري. أحاول بلعها فتعود.
"يبقى ندور على شقة في الشروق".
يجيبني خالك. سأترك له هذه المهمة، ليس باستطاعتي الانشغال بشيء آخر غيرك. دعني أحكِ لك عن مصاعبي..الشيطان لا يكمن في التفاصيل، هو يسكننا. لابد أن تعرف كل شيء!
أنجبتُ حبيبة، وأصبحتُ أمًّا. شعرتُ برهبة منذ اللحظة الأولى لولادتي، لكن وجودي في زحام إخوتي هون الأمر كثيرًا. ما إنْ وجدتُ نفسي وحيدةً بعد رجوعي من فترة النفاس التي قضيتُها عند أمي، حتى شعرتُ بالضجر من كل شيء. طالعتُ الأثاث والجدران والرائحة التي غادرتها منذ شهر. كان كل شيء يبدو كما هو، بالصمت نفسه، والصورة نفسها، حتى حبيبة، على الرغم من سعادتي بوجودها في حياتي، فإنني شعرت أنها سعادة منقوصة. دعني أتحدث، أحتاج أن أفرغ الصندوق. لم أُجد التعامل مع متطلباتها. كنتُ أضجر من إصرارها على مص حلمتيّ حتى تتهرآ، ومن بكائها عندما أضع ثديي داخل ملابسي، ومن تبوُّلها كل ساعة وصراخها إذا لم أغيّر "الكفولة". أشعر براحة كلما نامت. أبقى متيقظة أطلق لفكري العنان. عند عودة أحمد من العمل، كنتُ أدَّعي النوم. أراه بعينيْ خيالي سعيدًا بنومي، يُجهز غداءه ويتناوله ثم ينام في الغرفة البعيدة، وكيلا أراهُ؛ أقوم لأرتب بعض الأشياء، ثم أعود لادعاء النوم قبل استيقاظه. كلما استيقظت حبيبة أغمض عيني مدعية النوم، بعمرها الصغير تنظر إلى عيني فتراهما مغلقتين، فتروح في سبات عميق من جديد، زاهدة في الطعام، وإذا أصرت على حقها في البقاء مستيقظة أحملها وأتحرك في محيط غرفتي. كلما بدأت في الصراخ منحتُها حرية الحبو حولي بعد جلوسي كصنم على الأرض، لتعبث في كل شيء، ثم تفتح درج الدولاب، تبعثر محتوياته وتجلس فيه باسمة. يستيقظ أحمد ويجهز الشاي، وبمجرد احتسائه يرتدي ملابسه ويطل برأسه في الغرفة سائلاً: "عايزين حاجة؟" فأهز رأسي بـ"لا"، يتركنا بعد أن يداعب حبيبة بإشارات صامتة ويخرج. تعود حبيبة إليَّ فأُهدهدها بعصبية إلى أن تنام، فتجرني بنومها إلى دوائر تربط اليقظة بالنوم.
كان الوقتُ قبل النوم وبعد الاستيقاظ دومًا مُخصّصًا للتخيل أو التذكر. هذه هي الحالة التي قصدتها في بداية الحكي، أن ننفصل عن الواقع. عُدتُ بكامل إرادتي لتذكر بكر عبد المولى، أعيد نسج قصتي معه. مع التخيل لا أصبح مقيدة بما حدث بحذافيره، أغمض عينيّ فقط لأتحرك داخل قصتي، أزيد أحداثًا وأحذف أخرى، أتصرَّف في الماضي بجرأة، وأغيِّر النهايات. لم يكن الماضي سيئًا كما كنتُ أعتقد،ربما قياسًا بالحاضر. وجدته محاطًا بغلالة بيضاء كالحلم، الوجوه ملائكية ناعمة، والطرقات التي مشيت فيها أجمل. حتى بكر لم يكن نذلاً. التمستُ لتصرفه العذر. كل شيء يأخذ صورته النهائية بعد انتهائه، ويُصبح حميميًّا لسبب غامض، وبه استعنتُ على بُطء سريان الحاضر في أيامي، واكتشفتُ أن أحلام يقظتي لا تمنحني السعادة فحسب، بل تُعينُني لساعات على تقبل ما يحدث في الحاضر، ثم بدأتُ أبحث عن أسباب فتور أحمد بجدية، ووجدتُ في البلدة نقطة انطلاق مناسبة للتقصي. كنتُ بحاجة إلى وقت طويل لأنهي حالة الاغتراب بيني وبين نساء البيت ليتحدثن بعفوية أكثر، وأتغلغل إلى روح المكان لأصِلَ، ووجدتُ في موسم المانجو الذي يمتد شهرًا بغيتي، بعد أن قرر أحمد أن نقضيه بالكامل هناك. أقلتنا سيارة، وبعد ساعة من الجلوس مع زوجة أخيه انتقلتُ إلى الغرفة، بدلتُ الملاءة وجهزتُ لحبيبة سريرًا كونته من ضم كرسيين إلى الحائط. في المساء فاجأني أنه سينام في المندرة ليترك السرير لنا. بدأتُ أشك في مبرراته منذ هذه اللحظة، كان يختلق الأسباب ليبقى بعيدًا، لم تتطابق صورته التي أراه عليها مع ما قصَّه الجميع عن مرحه وانطلاقه السابقيْن، لذا قررتُ أن أبدأ في البحث عن شيء يكشف صمته وانزواءه معي. لم يستغرق تفتيش الغرفة سوى نصف ساعة، ثم وقفت طويلاً أمام ضلفة الدولاب المغلقة، وبينما يدي تدب على الضلفة مفكرة في كيفية فتحتها، وقعت عيناي على علبة موضوعة على طرف الدولاب البعيد، صعدتُ على السرير وسحبتها. كانت تحتوي على أنبوب صبغة وفرشة أسنان ملوثة باللون الأسود، وزوج من القفازات. تألمتُ، ليس لأن هذه الأدوات أكدت لي سنه. كنتُ أعرفه منذ حادثة البطاقة، لكن إحساسًا بالخيبة داهمني عندما اكتشفتُ ما ذكرني به. أدركتُ طريقته في الحفاظ على لون شعره دومًا، يصبغه هنا كلما تخلفتُ عن المجيء معه. أعدتُها مكانها كأنني لم أرَها، وخرجتُ لأجلس مع زوجة أخيه فاطمة في صالة البيت.
كانت فاطمة تُماثله في العمر. لم أحتج إلى كثير من المكر لأسحب منها المعلومات. قالت ضاحكة:
"أحمد دا لف ودار.. ركب المركب والطيارة.. وطلَّع عين أبوه الله يرحمه.. لكن البني آدم ربنا بيهديه في الآخر".
"هو ساكت على طول".
"أومال عايزاه يقوم يرقص!".
"وهيَّا الهداية يعني يخرس خالص؟".
تمنيتُ لو عرفتُ معلوماتٍ لا يتم تداولها عنه، متوقعة أن سرًّا يكمن وراء صمته معي. لا أصدِّق أنه أخلص لنهلة عشر سنوات كاملة، هي زهرةُ عمره، وتزوَّج لأن أصدقاءه المخلصين أرادوا له هذه النهاية، وأنه انساق إلى ما أرادوه. لم أقتنع كما قالت فاطمة،أن الهداية هي الصمت والاستسلام. كان اعتقادي راسخًا بأني ما جئت إلى هنا إلا لأبحث عن شخصيته المفقودة، لكن إخوته رأوا شيئًا آخر، خططوا لتطبيعي في الفترة نفسها. بدأت القصة في إحدى أمسيات الموسم، عندما سألني أخوه عبد الفتاح عن مدى حبي لما تصنعه زوجته بيديها من لبن الجاموسة، بعد أن تذوقتُ الكثير كلما أرسلوا إلينا نصيبنا من كل شيء، فقلتُ بسرعة:
"كل اللى بتعمله حلو، السمن البلدي والجبن والرائب".
"يبقى لازم تتعلمي تعملي الحاجات دي بإيديكي".
وأمام صدور الأمر، تعلمتُ في اليوم التالي خَضّ اللبن، حتى تصلبت ذراعي، بعد أن صبته فاطمة في قربة من جلد الماعز، وأحكمت ربطها جيدًا، وأبقتني في شمس السطح بين المعلقة الخشبية التي أقامتها والجدار، وظلت بجواري تقوم بدور المشرف، كنتُ كل حين أسألها:
"انفصل الزبد عن الحامض؟".
فتجيب بعد الإنصات إلى صوت الخض:
"اجمدي.. لسه شوية".
تتلهى بإطعام الدجاجات، إلى أن أعود للسؤال مجددًا. في النهاية فتحت القربة وأخرجت كتلة الزبد ثم صبت الحامض على الذرة المدشوشة وعجنتها لإطعام الديوك الرومية. بعد يومين قررت الأسرة بعد اجتماعها بالسقيفة، أنه كي أعيش دون إحساس بالاغتراب علَيَّ أن أبدأ في تعلم حلب الجاموسة. صَمَتُّ معتقدةً أن في صمتي إجابة، لكن أحمد أيقظني في السابعة صباحًا، وفهمتُ أنه لا يوقظني لنزهة في الخلاء، فادعيتُ الإرهاق متحججة بأن حبيبة لم تتركني كي أهنأ بنومي، لكنه أصرَّ فنزلتُ وراءه بتغبش عيني، أشق طريقي بين أولاد أخيه الذين رأوا فيما سأقدم عليه ما يستحق الفرجة. جلستُ بين ساقي الجاموسة، ووضعتُ الإناء بين ساقيَّ. حاول أحمد أن يُلهيها كيلا تكتشف أني لست فاطمة، لكن بنظرة من رأسها اكتشفتْ أنني غريبة. رفستْ بقدمها وهشتْ بذيلها وأطلقتْ صوتًا عاليًا يشبه الاحتجاج، فأحضر لي أحمد أحد أثواب فاطمة، كما أمر عبد الفتاح، ووقفتْ هي خارج الحوش تضحك من منظري العجيب به، وسط تهليل وتصفيق الأولاد العالييْن. كنتُ أرتعش من الخوف، لأن ضربة واحدة من قدمها ستطيح بي وأنغرس في الروث اللين الذي تكوم تحتها وأطلق روائحه دون كابح في الأرجاء، بدأتُ في رش ضرعها بالمياه، وكلما أمسكته أفلتَ مني وخارتْ في الجهة الأخرى خوارًا عاليًا، وانصرف لبنها الذي كان يملأ الضرع منذ قليل إلى داخلها. لم يُخف أحمد غضبه من إخفاقي. كلما حاولتُ وفشلتُ حثني مرة أخرى. تثور الجاموسة وتطلق صوتها. كتمتُ دمعاتي، لكن أصابعي بدأتْ في الارتعاش، الأمر الذي دعا عبد الفتاح إلى إنهاء هذه الحالة بجملة واحدة.
"خلاااااص" الجاموسة خايفة.
غير ذلك تعلمتُ كنس السقيفة بسباطة نخلة ولمّ العنكبوت من السقف بالليف المحزوم، تدرَّبتُ على رش المياه على التراب أمام البيت وتفريغ الجردل الموضوع تحت الحوض، الذي تمَّ تركيبه دون اتصاله بالصرف، ثم عبرتُ سريعًا على كيفية عجن الدقيق ولتِّه، ثم إشعال الفرن لإنضاج الأرغفة، وقبل أن يأتي الدور على رفع روث الجاموسة وتكويره ثم وضعه ليجف في الشمس، كي يستخدم كوقود للكانون، كان الشهر انتهى، وكان عليَّ كي أنسى كل ما مر ألا أعود إلى زيارة هذا البيت لفترة طويلة.
يحملنا يوسف بسيارته. نتكدس في السيارة، حبيبة تجلس على حجر أحمد في الكرسي الأمامي، وأمي في الخلف. أشياؤنا التي اشتريناها للاستخدام حتى التعرُّف على أماكن أقرب البقالين والأسواق مكدَّسة في كل مكان متاح، وأنت في الوسط، بيني وبين جدَّتك، تلقي بثقل تعبك على كتفي، تنام وتصحو سائلاً: "إحنا وصلنا؟". كانت مجازفة خروجنا ليلاً من مدينة 6 أكتوبر إلى مدينة الشروق. القاهرة على سطح صفيح ساخن هذه الليلة، يعتصم بعض أهالي الدويقة على الطريق الدائري، ويعتصم البعض الآخر على المحور، يريدون مكانًا آمنًا، لا يمطر صخورًا فوق رءوسهم. يكتفون للإعلان عن احتجاجهم بإلقاء الحجارة على السيارات المارَّة. يضطر يوسف إلى أن يسلك طرقًا مزدحمة داخل القاهرة، كيلا تصاب سيارته بحجر، أو يُوقفنا بلطجية بهدف السرقة كما حدث مع كثيرين في الأيام السابقة، نتيجة الانفلات الأمني، الأمر الذي أتاح لنا رؤية باقي التجمهر في ميدان العباسية، عند عبورنا على الكوبري الملاصق لمسجد النور.
لا يهم ما يحدث في شوارع مصر الآن. لن يفيدني المستقبل وأنا أرى حاضري ينهار. أتسألني عن ثروتي يا زياد؟ أنتم ثروتي. لا أعرف كيف كنتم تضجرونني بوجودكم في حياتي! ربما تخلي أبوك عن نصيبه من المسئولية أضجرني، ربما لا تعرف تحديدًا عن أي شيء أحكي. أعذرني لأن الذكريات لا تتدفق كالأحداث بترتيب منطقي، وأحيانًا أقفز على الحدث فأقول نهايته، هذه ميزة الحكي أحيانًا، أن أقول النهاية قبل البداية يا بني. لا تحكم على ما أقوله. استمع في سكون الآن.. قبل أن أتحوَّل نفسيًّا لأنخرط في التفكير بشيء آخر، ويضيع خيط الحكي ويتبعثر الترتيب.
بينما كانت أيامي تمضي، كانت حياة إخوتي تتشكل أيضًا، نجح شادي في الصف الثاني من كلية الألسن. التحق بها بعد مغادرتي القاهرة منهية رحلة الدراسة بسلام. تخصص في اللغة الألمانية، بعد نصيحة أحد المرشدين الذي قال له: إن الألمانيات جميلات. أخذ على عاتقه دراسة الآثار، خاصة الموضوعة على خريطة السياحة. كان كلما عاد يسألني عن أثر معين: قصر طاز، أو باب الفتوح، الهرم المدرج في سقارة، وخان الخليلي ببازاراته. كان يجتهد ليصبح مرشدًا مميزًا. مع الوقت، كلما كنتُ أراه يستوعب الكثير من المعلومات، كنتُ أتأكد أنني في الوقت نفسه أفقد المعلومات التي درستها طوال أربع سنوات، حتى وصلتُ إلى صعوبة تذكر أسماء الآثار التي يحكي عنها. كما أصبح حسين طبيبًا معروفًا في النجع، حتى بتنا نُعرّف به جميعًا بمجرد ذكر اسم أيٍّ منا أمام أحد. أمَّا زوجته ولاء التي كانت مكتفية بإنجاب أولادها الثلاثة، فقد دخلتْ مباراة الإنجاب معي أنا ودعاء وخرجتْ علينا بخبر حملها في إحدى الصباحات، واستطاعتْ قبل أن تنزوي ببطنها المنتفخ أن تحقق أسطورتها كاملة بالتعرف على زوجات الأطباء، والاكتفاء بهن بدلاً من صديقاتها القديمات، اللاتي لا يعرفن عنها سوى أنها ابنه عائلة "كليشنكان". أما يوسف فقرر ترك العمل في شركة نقل الوجه القبلي. كانت مفاجأة للجميع قيامه بافتتاح مكتب محاماة. تحمَّل بصبرٍ بداياتِهِ غير المبشِّرة. كنتُ أحسده، لأنه بجرأة ترك عملاً لا يجد فيه نفسه، على الرغم من مسئولياته بعد الزواج. اعترفتُ لنفسي بأنه مازال قادرًا على أن يبهرني، لكني كنتُ مُصرَّة على المضي فيما قررتُه بشأن انفصالي النفسي عنه. عندما كف عن الحديث عن أعباء القضايا وأتعابه الكثيرة التي يقبضها، ثم بدأ تغيبه عن بيت أمي، واستهل الإنفاق بشراء الملابس الجديدة والألعاب لابنه، وإضافة أثاث جديد إلى شقته، فهمتُ أن القضايا عرفت طريقها إلى مكتبه. أما هادي فالتحق بكلية الشريعة والقانون. ولأنه لا يطيق استيلاء زملائه في السكن على طعامه، واستعارة ملابسه، فضل البقاء طيلة العام الدراسي جوار أمي، تسمع له أجزاء القرآن المقرر حفظها. ليذهب نهاية كل عام للامتحانات.
في الوقت نفسه، تركتُ أحمد يبتعد، يتحول إلى إنسان شبحي لا أستطيع إمساكه بيدي. حاولتُ أن أعرف مصادر دخله هذه المرة كأبسط حقوق الزوجة فلزم الصمت كالعادة. لم يَعْنِني كثيرًا كم يمتلك، وكم يصرف وما مقدار الفائض. فقط،كنتُ أتمنى لو أشركني في التدبير لحياتنا، لو دخل كل حين واختلى بي في الغرفة ليقول لي ظروفه كأنها سر عسكري يجب أن أصونه، أو لو أخرَجَ بعض المال وقال: "دبري حالك بيه لغاية آخر الشهر". سارت الأمور كأنه متزوج من نفسه. يشتري ما يحتاجه البيت ويتفقَّد بنفسه الناقص منه. يختار نوع الخضار الذي سنطبخه والجزار الذي نشتري منه اللحم ونوع الفاكهة وكل شيء. يرص بنفسه ما يشتريه من أرز وسكر وزيت وكل ما نستخدمه على الأرفف، ثم يخبرني بما اشتراه، ويحدد من كل شيء الكمية التي يجب أن نأكلها اليوم، وما سأخزنه للأيام التالية. لم أعتد من قبل على أن الرجل يُوكل لنفسه هذه المهام. لم أرَ أبي يدخل المطبخ يومًا، حتى اعتقدتُ أنه مكان خُصِّص للنساء. ما على الرجل إلا أن يأكل ويغسل يديه ويمتدح جودة الطعام، مهما وجده سيئًا، لكن الحال مع أحمد كان مختلفًا، في ظل شخصيته المتحفِّظة تجاهي بقيتُ على حالي الأول في الشقة، لا أشعر كما يقول الكثيرون عن بيت الزوج بأنه مملكة الزوجة، التي ستجد نفسها بعد حين تُفضلها على بيت العائلة، والتي ستتصرّف فيها بكل كبيرة وصغيرة، وتضع ميزانيتها مهما كانت صغيرة في "بوك" بسوستة يلازمها كأمي أينما ذهبت، أو على الأقل تضع- كباقي النسوة- النقود الورقية داخل انتفاخ السوتيان الداخلي، وتتفقد وجوده كل حين، كالصورة التي مازالت ذاكرتي تحتفظ بها.
انظر يا زياد، كانت هذه الفترة من أصعب مراحل حياتي. كنت أنتظر الليل لأهرب من حياتي. أستيقظ فجرًا لأمارس طقس تحولي إلى تمثال من الملح، يتفتَّت حتى يقدم الليل. فأعيد ترميمه بأحلامي..عذاب لا أول له ولا آخر. لكنه ليس كعذابي بمرضك. ها نحن نصل مدينة الشروق، التي تقبع تحت مظلة من الصمت والظلمة. يشير يوسف إلى المركز الطبي من بعيد، يبدو قريبًا، يحيطه الشجر الكثيف. نتجاوز مدخل المدينة. أقرأ لوحة شبه صدئة عليها بقايا كتابة عن موعد تدشين الرئيس حسني مبارك للسكن بها عام 1995. يوسف يعرف الطريق. جاء قبلنا واتفق على كل شيء. يشير إلى البقال، والصيدلية التي سنرتب معها أمر إرسال شاب ليعطيك الحقن، قبل أن يعرج إلى ميدان صغير، الشقة التي استأجرناها بالقرب منه.
نصعد دون كلمة. يساعدك يوسف وحبيبة على الصعود درجة درجة. ترى في أي شيء تفكر الآن! كنت تتحدَّث طوال الوقت، كأنك تفكر بصوت عالٍ، يضعك يوسف دون كلمة على أقرب كرسي ويرجعإلى بيته. أختار لسبب أجهله غرفة بعينها من الغرفتين. تنصاع قدماي إليها، رائحة الغبار تطغى على كل شيء. يصيبني سعال، أفتح البلكونةوأنظر إلى المكان. أريد الانفصال عن كل شيء. يسعدني انشغال أبيك في تفقُّد صرف الحمام والمطبخ، وحنفيات المياه. انتقاد كل شيء يراه، وما إذا كان بإمكان اللصوص الذين استغلوا انفلات الأمن استخدام بلكونة المطبخ في الهجوم علينا. هل أنت سعيد بالوصول إلى مكان ثابت؟ تنام أثناء جلوسك، يقتلني رؤيتك هكذا. أجهز لك سريرًا لأنقلك إليه. ما التصرف الذي قمت به ليجعلني الله أراك هكذا!حبيبة تنزوي في ركن هادئ وتبدأ في ممارسة الشيء الوحيد الذي لم تكن تمله، الاتصال بصديقاتها والهمس معهن بما لا أسمعه إطلاقًا. بينما تجلس أمي على أقرب كرسي وتقوم باستكشاف قنوات التلفزيون بحثًا عن قناة تنقل الأحداث التي رأيناها في الطريق، ومتابعة تحليل الحدث. أعرف ما ستفعله الآن، ستتحدَّث عن الثوار الذين اتجهوا من ميدان التحرير إلى العباسية. كانت فكرة انتقالهم وليدة إلهام طارئ من أحد المتظاهرين في التحرير، بأن يكون الاعتصام أمام مقرِّ المجلس العسكري، ولاقت الفكرة قبول الباقين. اتهم المجلس العسكري حركة 6 أبريلبمحاولة الوقيعة بينه وبين الشعب، ثم خرج مجهولون على المتظاهرين بالكرات النارية والأعيرة الحية، واعتقد المحلِّلون أن المجلس العسكري استأجرهم، ليقضي على الثورة التي تفجرت مجددًا نتيجة قراراته السياسية الخاطئة منذ توليه الأمر. ستنحاز أمي إلى موقف إمام مسجد النور في العباسية، وتثني على ما فعله من إنقاذ لجرحى المتظاهرين. بعد دقيقتين ستسب المتظاهرين ناسية موقفها الأول، وستدعو للمجلس العسكري بالصحة ودوام الحكم. أحمد الله أنها لم تبقني جوارها لنتابع معًا التلفزيون. أستشعر الراحة في انشغال الجميع. أخيرًا أجد مساحة من الحرية، أدخل بلكونة الغرفة التي اخترتها، وأكور سجادة كانت بالقرب، أستخدمها ككرسي وأشرع في التدخين.
تستطيع أمي أن تحفظ أرقام جميع القنوات المفضلة لديها، وتذكُّر مواعيد برامج التوك شو؛ العاشرة مساء، والبيت بيتك، الطبعة الأولى، وتسعين دقيقة، والقاهرة الجديدة. تعرف بالتفاصيل قصة "سماح" خريجة الدراسات العليا التي اضطرتها الظروف إلى أن تجمع القمامة وقصة خريج الطب الذي يعمل بوابًا، وقصص أسر ضحايا العبارة السلام 98، وتطور قضاياهم، وتعرف بدقة كم ضحية راحت نتيجة إعصار كاترينا على ولاية فلوريدا الأمريكية، وتفتخر بما قام به فريق الإنقاذ الياباني المكون من عدد من كبار السن الذين قرروا اقتحام فوكوشيما دايتشي بدلاً من فريق الشباب، لإيقاف نشاط المفاعل النووي، مرددين أنهم وصلوا إلى سن لا يهم فيها تعرضهم للإشعاع، مقابل حماية شعب اليابان من الخطر. لا أعرف متى غيرت عادتها، واستبدلت التلفزيون بالراديو، حتمًا حدث هذا بعد زواجي، لأنها قبل أن أتزوج كانت تفرض علينا برامجه كمقرر دراسي علينا الاستماع إليه كل يوم. لم تكن عاداتها هنا إلا امتدادًا لما اعتادته بعيدًا. لأول مرة منذ عشرين عامًا أتعايش معها وأكتشفها. تغيرتْ في غيابي ووصلتْ إلى هذه الصورة الجديدة التي أراها الآن. فرضتْ علينا برامجها واستطعتُ بعد جهد مجاراتها فيما تتابعه من أحداث، بعد أن انفصلتُ كلية عن الأحداث وتطوُّراتها ولم يعد يعنيني من الحياة سوى الخروج من هذا النفق.
كان علينا أن ننام داخل بالونة الغبار المتراكم تلك، نلهث حتى نحصل على القليل من الهواء، بعد أن أرجأت أمي بتصريح واحد، خطة تنظيف الشقة إلى الغد.أشعر بارتياح، لأني بمجرد أن طلبت منها أن تغفل وجودي وتتولى مسئولية إدارة شئون البيت كما لو كنتُ مازلتُ طفلةً صغيرةً، بدأتْ في ممارسة مهامها بجديةٍ. تضع خطة لترتيب البيت في اليوم التالي، تقوم فورًا لرص أكياس السكر والأرز وزجاجات الزيت، وبدأت ممارسة حق توجيهنا بالكامل. أخيرًا توصلتُ إلى وفاق معها، بسبب مرضك يا زياد، الذي تركتْ من أجله شقتها الجميلة والفسحة المعتادة مساءً ودعوات الغداء في "سينزو" بالغردقة. بعد كثير من المحاولات انتهيت بأن نسيتُ وجودها. في أواخر إقامتها بالنجع كنتُ أدَّعي الانشغال، كان من الممكن خلق الوقت الكافي لأزورها، لكن زيارتها كانت عبئًا نفسيًّا قاسيًا. من ناحيتها صدقتْ انشغالي تمامًا، كأنها بتصديقه تُعلن رغبتها المماثلة في عدم رؤيتي. لم أعد أفكر في حضنها ليحميني مما يُواجهني من مشكلات. بعد أن انتقلتْ للإقامة في الغردقة شعرتُ براحة، لأن انتقالها وَفَّرَ عليّ معاناة حضورها الغائب، لكني اتهمتُ نفسي بالعقوق، لأني لا أشعر بالحب تجاهها عكس كل الفتيات الطيبات. كان خيط التواصل بيننا طوال العام بخلاف ذهابي مرة في الصيف اتصالاً هاتفيًّا، تبادر هي أو أنا به مرة واحدة في الأسبوع. تسألني عن حالي وتنتقل للسؤال عن أولادي قبل أن أجيب، وأبحث عن شيء أسألها عنه فلا أجد سوى أولاد عم نصر الجنايني الذي تتبنى جمع التبرعات لهم من إخوتي.
يجب أن أوفق الآن بين أعبائي في الشقة، وبين علاجك الذي سيبدأ بعد يومين. قرَّر الدكتور"علي" لك خمسًا وعشرين جلسة إشعاع ومثلها كيماوي. سنقضي شهر رمضان كاملاً في هذا المكان، بعيدًا عما اعتدناه في بيتنا. أخرج ورقة وأعلقها على مسمارٍ مدقوقٍ سابقًا على الباب، كعادتي في التأريخ لكل حدث. أكتب تاريخ وصولنا إلى هنا، أرسم جدولاً أدرج فيه الأيام والتواريخ، كي أعلّم أمام كل يوم يمر، كما يفعل السجين في أول يوم له بالزنزانة، ثم أجد مكانًا ملائمًا للـ"لاب توب" بعد أن أحضرته من البلدة مع الكثير من الملابس لتعيننا على البقاء هنا، كي أستكشف من بعض صفحات الإنترنت، ماذا يعني العلاج بالنسبة لك ولنا، لا أعرف لماذا أريد استباق الأحداث. لا أنسى إجابة الدكتور"علي" عندما سألته عن مرحلة ما بعد الكيماوي والإشعاع، قال:
"ركزي في مرحلة العلاج الحالية اللي انتي فيها دلوقتي.. وارحمي نفسك".
بعد إجراء العملية بيومين لاحظتُ أن شهيتك لتناول الطعام لم تعُد كما هي، بل تضاعفت. تستيقظُ في السادسة، تأكل وجبةً تكفي ثلاثة أفراد، بعد ساعتين تشعر بالجوع مجددًا، وتتناول نفس كمية الوجبة الأولى، حتى أن الطعام أصبح هَمَّك الوحيد. إذا حددتُ لك نوعه وكميته تغضب، وتبكي كرضيع. أتراجع سريعًا وأقدم لك أكثر مما تريد، ثم أنزوي بعيدًا لأبكي على ما أصابك، عند اتصالي بالدكتور"أشرف" شرحتُ الحالة التي وصلتَ إليها، والتي لم تكن تعاني منها قبل أيام، قال إن الورم يؤثر بشكل كبير على مركزين: مركز الإحساس بالشبع، ومركز التحكم في الضحك. بمجرد أن قال لي المعلومة استرجعتُ الأيام السابقة، واكتشفتُ أنك كنتَ تضحك أحيانًا دون سبب، خاصة في الصباح الباكر، هل كان على الطبيب أن يخبرني بهذا لألحظ! مازلتُ أغفل مضاعفات الورم. كلما كنتُ أسألك عن سبب الضحك كنتَ تقول لي ببساطة: "عادي"، وكنتُ أشعر بالفرح لأن شيئًا ما يثير ضحكك في ركام الحزن الذي انهال علينا، لكني أشعر بالأسف الآن، لأن ضحكك لم يكن سوى صورة مبكية مما ألمَّ بك.
أمامي يومان لأتصفح الإنترنت وأعرف ماذا سيفعلون بك قبل الذهاب لبدء الجلسات. أستيقظ معك لأجهز لك الفطور. تبتسم بصمت، تقتلني ابتسامتك، تلتهم السندوتشات ثم تقرر العودة للنوم. أفتحالـ"لاب توب".أتصفح الإيميل، لم أفعل منذ مجيئي إلى القاهرة، حتى عندما قضيتُ ليلة كاملة بجوار جهاز يوسف في شقته بأكتوبر، قبل إجراء الجراحة، اعتبرتليلتها أن ولوج الإيميل غلطة سأقترفها في حقك."الإنبكوس" ممتلئ بالرسائل. أتساءل:
"ترى هل اكتشف أحد الأصدقاء الافتراضيين غيابي؟".
امتلأت بهم حياتي في السنوات الأخيرة. استبدلتهمبالصداقات الأرضية. أحصي الأسماء سريعًا. أبتلع غصتي. معظمها نشرات الدوريات الأدبية. أكاد أغلق الصفحة. هناك رسالة من شخص مجهول. أفتحها بفضول. دعوة لحضور مهرجان لأدب المتوسط في مالطا. تصيبني رجفة، أخيرًا وصلتني إحدى الدعوات، في الوقت الذي لا تسمح فيه ظروفي بالحضور. أحاول فهم جزئيات الدعوة بما أعرفه من إنجليزية. سيترجمون ثلاث قصص، وسأقرأ أمام الجمهور باللغة العربية. أبحث عن ميعاد المؤتمر، سيقام في بداية سبتمبر، بأوتوماتيكية لم تستغرق ثانيتين أراجع ميعاد انتهاء جلسات الإشعاع والكيماوي، أجده قبل ميعاد المهرجان بأسبوع. تراودني الرغبة في الحضور، أنفض التفكير في الأمر،وأغلق الإيميل. عيناي تمتلئان بالدموع. لا تقلق يا زياد، سأبدأ في البحث عما ينتظرك، لن تغويني الدعوة والترجمة ومتعة السفر بالطائرة. أضغط زر البحث. تنفرط الصفحات. أنسخ منها ما يلائم حالتك وأحفظه داخل ملف، تتكوَّن لديَّ المعلومات،فأغلق الجهاز،وأذهب بفكري المتلاطم إلى ما سأفعله في الأيام التالية؛ لترتيب أوضاعي في هذه الشقة، لتصبح أكثر اتساقًا مع ذاتي. لا أنسى دعوة المؤتمر، لكن ما ينتظرنا يجعلها تتقوقع في أقصى ركن. أغادر مكاني، سأرتب ملابسنا في الدولاب الذي وجدته في غرفتي، وأجهز ملابسك في الضلفة المجاورة. لن يكون مكاني منذ الآن سوى جوارك، ستنام على الوسادة نفسها، سأحلم معك الحلم ذاته.
أشعر أني أفقدك تدريجيًّا. أشعر أنهم لا يعالجونك، بل يساعدونني على تقبل فكرة فقدك بالتدريج، حتى أصل بنفسي إلى نتيجة أنَّ في موتك راحةً لك، فأتمنى لك الموت مع الجميع وقلبي ينفطر.الموت ليس شفاء من واقع بائس، الأمل في حياة أخرى ليس عزاءً حقيقيًّا للحياة مهما كانت الجنة جميلة. الحياة الأخرى في رحم الغيوم يا زياد،أوهام إيمان. تشبَّث بحافة المركب، وأخرج لسانك للجميع.أصبحت صدمة مرضك حدثًا ماضيًا ككل الأحداث، لكنه لا يأخذ لون الحنين. لا أستحضره بألفة، يفقدني إيماني وتريثي. ولا أركن إليه لاحتمال الحاضر والثقة في المستقبل.لنوغل معًا في الماضي الذي صار أبيض الآن، إذا ما قارنته بماضيَّ القريب! سأظل أحدثك بصمت، مادمتَ قد أصبحت تضجر من الحوار، وتسمع الكلمات بأصداء معدنية. لهذه الطريقة مفعولها السحري فلا تقلق، ستهبك كلماتي الصامتة المحبة، وجرعة من الصبر والتفاؤل.
انتشلني مما يحدث خبر صغير في جريدة الأخبار، مفاده أن وزارة التربية والتعليم ستقبل تعيين خرجي كلية الآثار كمعلمين. كانت فكرة الانشغال نجدة كبيرة ستنقذني مما وصلتُ إليه. يبدو أنني دعوت بما فيه الكفاية في ليلة سابقة، ليستجيب الله لي سريعًا هكذا! في الوقت الذي كانت الوظائف متوقفة، جمعتُ أوراقي التي بَقِيَتْ متروكةً في الدرج منذ أن تزوجتُ ونقلتها إلى شقتي، لم أُخرجها من قبل إلا عندما طلب أحمد صورة ضوئية لشهادة التخرج، كي يعطيها إلى الفولي، الذي حصل لي على تصريح للحصص بالأجر في مدرسة لتأهيل المهنيين كمدرسة للغة الإنجليزية لمدة شهرين، واستعنت بكتاب "تعليم اللغة الإنجليزية في ساعتين" لأبدأ مهنة التدريس بثقة، ثم توقفتُ قبل أن أرسخ قدمي لوهن الحمل الذي شملني، بعد أن تعرفتُ على نهلة في لقاء بمحض المصادفة، وعرفتُ من بعض الزميلات أنها لم تُنجب على الرغم من مرور السنوات على زواجها، ولسبب غامض شعرتُ بالفرح، خاصة بعد أن أخبرتُهم بحملي قبل انقطاعي عن العمل. بعد مرور عدة شهور، وصلني خطاب التعيين. في المدة بين ملء الأوراق والاستلام، توصلتُ إلى قناعة أن المال والاستغراق في الانشغال وجهان آخران للسعادة، لن يجعلاني أشتري كل ما أحتاجه دون اللجوء إلى زوجي ونسيانه فحسب، بل سيمنحاني فرصة الادخار واستعادة نفسي التي كدتُ بالفراغ والصراع الداخلي أن أفقدها. أعانتني هذه الروح على أن أبدأ من جديد، وعكس ما رأى أحمد، وجدتُ في المدرسة النائية التي عُينتُ بها بعيدًا عن التزام المدارس في النجع مكانًا ملائمًا كنقطة للانطلاق نحو تحققي كمدرسة لمادة التاريخ. لم أعرف عن طرق التدريس ولا عن مادة التاريخ شيئًا حتى هذه اللحظة، فالتاريخ الذي درسته في الجامعة لم يكن سوى خلفية للآثار المصرية. على كل حال، اكتشفتُ أنه كي آخذ راتبي كاملاً، بالبدلات والحوافز، ليس عليَّ سوى تحضير الدرس في الدفتر، وتدوين تاريخ تدريسه، ثم دخول الفصل في ميعادي، وكتابة التاريخين الهجري والميلادي، وملء بحر السبورة بالدرس، ثم التأكد من أن الطلاب قاموا بنقل ما كتبتُ في دفاترهم.
في أوقات كثيرة، قضيتُ يومي الدراسي في ملاحقة أشعة الشمس التي تغير أماكنها في حوش المدرسة، بعد أن أعفاني الطلاب أنفسهم من المجيء. كانوا يتغيبون لأسباب أخرى أهمها وصول كراكة تنظيف الترع من الحشائشالتي تعوق وصول مياه الري إلى الحقول. يجدها التلاميذ فرصة للعمل بنقل الطمي الممتلئ بالحشائش إلى منطقة أبعد من ضفتي الترعة، تاركين موقعة مرج دابق وطومان باي ومشروع محمد علي لبناء الدولة الحديثة في مصر، لكسب المال وإعانة أسرهم. في أيام أخرى يتغيب العشرات بسبب حَشّ البرسيم، أو عزق الأرض وحراستها من غزوات العصافير، خاصة في أوائل الربيع، ودخول القمح مرحلة الاصفرار. لا يحضر إلا عدة تلاميذ بعضهم ينام على الدرج والبعض الآخر يتقافز فوق الأدراج محاولاً الإمساك بالأشباح. مع بدء أسبوع الامتحانات يحضر جميع التلاميذ، بوجوه يابسة لوحتها الشمس وأيْدٍ مشققة، ولأن الناظر لا يريد إلا نتيجة مشرِّفة، تُبعد عنه ملاحقة الإدارة التعليمية، يتفق مع مدرسيه على أخذ نسخة من الأسئلة، والتأكد أن مدرسي المادة قاموا بحلها، ليتولى المراقبون تملية الطلاب الإجابات في اللجان.
أصبح الاستيقاظ فجرًا أهم عاداتي. كان عليَّ أن أخرج في السادسة والنصف صباحًا كل يوم، لأصل وقت دق الجرس. بعد عدة محاولات لإيقاظ أخويك أسحبهما ببقايا النعاس، ثم ألبسهما ما يكفي لأصد البرد عنهما، ونبدأ الرحلة اليومية. يستقبلنا النجع بوجهه الكسول، الغسيل المعلق في الشرفات يهفهف. نسير بمحاذاة برك المجاري. تهلل حبيبة ويفر باقي النوم من عينيْ عبد الرحمن بمجرد رؤية الأغنام التي يربيها البدو على أطراف النجع الشرقية، قُرب أراضي الإصلاح. تطوف الشوارع الفارغة فجرًا بعيدًا عن ملاحقة عمال البلدية، ويقوم الراعي بشق أكياس الزبالة إلى نصفين بمطواة لتأكل الأغنام ما بها، ثم تغادر تاركة الشارع غارقًا في فوضاه. يصفق عبد الرحمن بيديه الصغيرتين، ويشارك حبيبة الفرح. أتركهما دقيقة للتمتع بما أتاحه لهما الطريق من سعادة، حتى نصل إلى بيت أمي بعد خمس دقائق. أترك حبيبة وعبد الرحمن عندها، ثم أتجه إلى موقف الميكروباص.
كنتُ أجد راحة في الوجود بعيدًا، ما إن أترك حياتي خلفي وأخرج للشارع وحيدةً حتى أتنفس بملء صدري. حتى رحلة الميكروباص الصباحية كانت مريحة على الرغم من الصعوبات التي واجهتني. كنتُ أجد سعادة كلما انحشرتُ وسط عمال وموظفين وأشخاص مجهولين. كلهم ذاهبون إلى الوجهة نفسها، تنبعث من مشارفهم رائحة الحطب المحترق الذي قضوا ليلتهم يستدفئون به، أستشعر رغبتهم في التحرش ولو بالنظر إلى مؤخرتي كلما هممتُ بالنزول. كانت فترة البقاء في الميكروباص على الرغم من توقفه كل دقيقتين كفيلة باستعادة ما مر في اليوم الفائت. كانت بعض أسباب همومي تتضح، وتأخذ شكلها النهائي؛ وجدتُ في عملي فرصة رفعتني للتساوي مع أحمد، لم أعُدْ ست بيت فحسب، بل أخرج الآن للعمل، وعليه أن يتحمل نصيبه في المسئولية تجاه ولديه أيضًا. كنتُ أحتشد بكثير من الإصرار في الخارج، وأُقنع نفسي بأنني قادرة على مناقشته فيما قررتُه، طاوية المسافة التي وضعها بيننا. في هذا الوقت كنتُ أتنقل من التفكير في مشكلة لاستعراض أخرى. علاقتي بحبيبة وعبد الرحمن، ما إن أتركهما خلفي حتى أستشعر حبًّا فائضًا لهما، وأقرر أن أكون أكثر لطفًا، بتصرفات صغيرة لكنها فارقة، بأن أتحمل شجارهما ولا أنهي كل المواقف معهما بالصفع، أو بشراء ما يريدانه من حلوى في طريق العودة، أراني قادرة على تحمل كل شيء، تلمس السعادة المفقودة وبثها حية في حياتي، لكنني لم أكن أستطيع تطبيق ما فكرتُ فيه على أرض الواقع، ما إن أعُدْ حتى أشعر بإرهاق شديد، أجد في الوصول إلى بيتي مجهودًا إضافيًّا عليّ أن أبذله، وكلما تلكأتْ حبيبة وانخلع حذاؤها كالعادة في بحر الطريق يصيبني ضجر.
حذاؤها كان سببًا في أول مشكلة يعلو حسي بسببها مع أبيك، عندما كنتُ عائدةً بعد أن تعقَّبتني الشمس طيلة الطريق، وكان عليّ أن أحملهما وأبدأ رحلة العودة. طوال الطريق كنتُ أعتقد أنها جواري، لكن حذاءها انخلع من قدمها كالعادة وانشغلتْ بمحاولة إعادته، ولحسن الحظ كنا بالقرب من العمارة التي نسكنها. سِرتُ دون أن أتفقدها خطواتٍ كانت كفيلة باختفائي في الزحام. ما إن نجحتْ في ارتداء الحذاء حتى بحثتْ عني فلم تجدني. لم تبكِ، سارتْ في الطريق الذي حفظته، ودخلتْ العمارة، ثم صعدتْ السلالم ووقفتْ تنتظرني هناك، في الوقت نفسه، عندما اكتشفتُ غيابها، كدتُ من الدوار أحلّ طرحتي وأطلق شعري، لأنني لم أعتقد إلا أن أحدًا استغل غفلتي وخطفها، طمعًا في سرقة حلقها الذهبي، أو أنها تاهت في الزحام، وتبكي الآن وحيدة في أحد الأزقة. كان عليَّ أن أفعل شيئًا. فكرت أن أترك عبد الرحمن عند الجيران وأعود أكثر خفة للبحث عنها. ما إن صعدتُ كي أستعين بجارتي لهذه المهمة، حتى وجدتها جالسة على السلم بانتظاري. بكيتُ كثيرًا عندما رأيتها. سألتني:
"إنتى تُهتي يا ماما.. ؟".
اندفعتُ إليها وضربتها بشدة، لأنها لم تلتزم بالبقاء جواري في الطريق، وكاد البعبع يختطفها، ودخلنا الشقة نبكي معًا. عندما عاد أحمد بعد ساعة، حكيتُ له ما حدث، معتقدة أنه سيتولى أمر اصطحابهما كل يوم والعودة بهما من عند أمي، ليوفر عليَّ بعض الوقت، خاصة أنه لا يخرج مبكرًا مثلي، لأن مدرسته تقع في نهاية الشارع، وإدارة المدرسة لا تدرج حصصه في بداية اليوم الدراسي بناء على رغبته، لكنني فوجئتُ أنه يتهمني بالإهمال، الذي كاد يُضيع البنت كما قال، فما كان مني إلا أن صرختُ في وجهه لأول مرة، واتهمته بالأنانية، ثم دخلتُ غرفتي ممتنعة عن إعداد الغداء.
لم تكن تعاستي مع أبيك تمثل شيئًا بالمقارنة لما أحسه من ذنب كلما قمتُ بضرب حبيبة وعبد الرحمن. وازداد شعوري هذا عندما تعامَلا معي بالمثل، ما إن يرياني من بلكونة أمي عائدة، حتى يذهبا إلى الباب، يقفان خلفه في محاولة منهما لمنعي من الدخول، وفي أحيان- أخرى وبإيعاز من حبيبة- يختبئان تحت الكنبة، ويصمتان عند سؤال أمي عنهما، على الرغم من أن عبد الرحمن لم يتجاوز العامين وقتذاك، إلا أنه ربط بين وصولي وانتهاء بقائه عند أمي. تبدي أمي فرحًا لما تجده منهما، وتحكي للجميع بما يقومان به. كان تصرفهما يقتلني، واعتبرته عقابًا إلهيًّا لما أقوم به تجاههما. في العام التالي، عندما وصلت حبيبة إلى سن الرابعة وألحقتها بالحضانة. كنتُ أتركها في طريق ذهابي يوميًّا، تبكي عندما تراني عائدة عند باب الحضانة وتتشبث بملابس المشرفة، وأحيانًا تخبِّئ وجهها في حضن الدادة، متخيلة أنها إذا لم ترني فلن أراها. فهمتُ وقتذاك، أن بقاءها عند أمي ليس السبب في فرحها، ولا لعبها أثناء وجودها هناك مع أولاد يوسف، كان ما يُخيفها فقط هو عودتها مع أخيها ليبقيا معي حتى ذهابي في اليوم التالي إلى المدرسة.
"رئيس الوزارة عامل زي الفوط الصحية
بتتحط في أجمل مكان
لكن في أوسخ وقت".
تصلني هذه النكتة من رقم مجهول على الموبايل، قبيل التوجه إلى المركز الطبي العالمي لأول مرة، أسأل أمي عن اسم رئيس الوزراء الحالي، بعد أن اختلط عليَّ كل شيء، فتجيب: "عصام شرف". لا أجد بي رغبة في الابتسام. الترقُّب يشملني. أشعر بنمل يسري في أطرافي. أخلع ما أشعر به وأقهقه عاليًا،دون سبب،بمجرد دخولي الغرفة يا زياد، كيلا تشعر بقلقي أثناء جمعي للحاجيات التي تخيلتُ أنك ستحتاجها في حقيبة صغيرة، فوطة وتي شيرت. تسألني عن سبب ضحكي. لا أجد سببًا وجيهًا غير النكتة. أقرأها عليك، على الرغم من تحفظي السابق مع إخوتك ومعك! لم تضحك. لم تفعل شيئًا على الإطلاق. تركت نفسك فقط. كي أساعدك في إدخال ساقك الثقيلة في البنطلون،وحشر صدرك في التي شيرت،وسندك لننزل الدرج. لماذا تصمت هكذا؟ قل إن الهواء منعش.لم يعد يدهشني أبوك، وهو يقفز إلى الكرسي الأمامي للسيارة ولا يفكر في مساعدتك! لا بأس. لن تلحظ وجوده إذا اعتبرته جذع نخلة. تضحك وأنا أساعدك على ركوب سيارة خالك يوسف. أسألك عن السبب فتقول: "الفوط الصحية". في إشارة منك إلى النكتة، هل تلهي نفسك عن عجزك عن ركوب السيارة بمفردك؟ أو لتشتت انتباه الشبان الذين كانوا واقفين بالصدفة في الجوار عن ملاحظة ما يُلِمُّ بك!تتعالى ضحكتي، على الرغم من إدراكي الأسباب الحقيقية.
تطالعنا البوابة الرئيسية بين صفين من النخيل. ما إن لمح رجلُ الأمن سيارة يوسف تقترب حتى رفع الحاجز. يسألنا عن وجهتنا فيخبره خالك بها. المركز الطبي مجموعة من البنايات الصغيرة، تتوسَّطها بناية مكونة من ستة أدوار، استُخدم اللونان الكريمي والأخضر لطلاء المباني. المبنى الأوسط هو الرئيس. تحيط بالمباني حديقة منسَّقة بعناية يكثر فيها النخيل والأشجار المشذَّبة بطريقة موحَّدة، بلونين لا يتغيَّران، الأخضر الفاتح والغامق. وكأن مهندسًا بارعًا تولى العناية بها. في أقصى الشمال مسجد صغير ارتفع منه أذان العصر أثناء مرورنا، وبجواره يقبع مركز علاج الأورام، مكون من دور واحد فسيح. للوصول إلى بابه يجب الانحراف إلى طريق مبلطة بقوالب قرمزية في شكل تصاعدي. نتجه إلى الداخل، الباب يفتح على مصراعيه تلقائيًّا، يلطمنا الهواء البارد المكيَّف. أتأمل صالة الاستقبال، والصالون الفخم الذي يُشبه قاعات قصور الرياسة.
"المكان هنا حلو قوي".
ألا تعرف يا بني.. من يملك العملة يملك الوجهين. هذا المكان لعلاج الأغنياء. هل أتباهى بعلاجك في المركز الطبي العالمي! المكان نفسه الذي خطط المجلس العسكري لنقل حسني مبارك رئيس مصر لثلاثين عامًا إليه بحجة تلقيه العلاج، أم أكتفي بحزني لأنك مريض. يارب.. ينقلون مبارك هنا لأنه سرق الشعب، لكننا سنعالجك هنا لأننا دفعنا معظم ما استطعنا ادخاره. أشعر بغصَّة كلما وجدتُ أمي حريصة على ذكر اسم المركز قبل شرح حالتك مع كل من يتصل بها للاطمئنان عليك. كأنها تتباهى بالمكان، تبرزه بنبرة مختلفة وصوت أعلى قليلاً، وتعيد كلامها إذا أغفل محدثها التعقيب.
كما قال الدكتور "علي": "الزيارة الأولى فيها إجراءاتها كتير..". كانت أول خطوة دفع التكاليف في الخزينة. نجلس ويتولى الأطباء والفنيون عملهم بدقة وسرعة يحسدون عليها، يأخذك فني الأشعة لعمل أشعة مقطعية، ينظر إلى يوسف ويقول: "الدكتور "علي" سيُجري عليها التخطيط".أستفسر عن ماهية "التخطيط" فيوضح أنه كي يبدأ الفريق المكلَّف بعمل جلسات الإشعاع يجب أن يتم تخطيط الجزء الذي سيتم توجيه حِزم الإشعاع إليه. أي خطأ في مسار الأشعة قد يؤدي إلى تداعيات كبيرة. أتخيل أنهم سيقسمون مكان الورم إلى خمسة وعشرين مربعًا صغيرًا، هي عدد الجلسات. في كل مرة سيوجه الإشعاع إلى مربع واحد حتى يحترق بالكامل. لا أعرف إن كان ما وصل إليه خيالي صحيحًا أم لا. يحولني القلق إلى كائن مذعور، يستكين في ركن قصيٍّ ويرقب ما يحدث في صمت. في غيابك وبرغبة في طي الوقت أجد في مراقبة الجميع وسيلتي للتغلب على مخاوفي، يداهمني تساؤل عابر: هل يمتلك كل المرضى الذين يلجأون إلى هذا المركز المال الوفير، أم هم مثلنا، يُضحُّون بكل ما ادخروا لشراء سنوات تضاف إلى حياتهم؟أتحوَّل إلى مراقبة العابرين في محيط نظري؛ لأرصد أية رفاهية يشي بها مظهرهم. ارتداء أحدهم حذاءً غاليًا وملابس مهندمة كفيليْن بأن أعتبره ثريًّا، مع هذا أجد الكثيرين ممن تهرَّأت أحذيتهم، ويبدو على مظهرهم البؤس، ثم تنتشلني أنت يا زياد مما أفكر فيه، تعود بعد انتهاء الأشعة. يتلقفك يوسف من يد الفني قبل أن تجلس. كان يجب أن يتم أخذ مقاس دماغك لعمل "ماسك" معدني. يقول الفني إن وظيفته تثبيت الرأس أثناء الجلسة إلى السرير الحديدي، فأي هزَّة قد تعرض أماكن سليمة في الدماغ لحِزَم الأشعة. تغيب في الداخل من جديد. قبل أن أطمئنك برَبتةٍ خفيفةٍ على يدك. أعود إلى مراقبة ما يحدث في قاعة الانتظار. تلتقي نظرتي بنظرة أبيك سريعًا. كان أيضًا يرقب المكان، ويتأمل الآخرين في صمت. يخرج يوسف إلى الحديقة فأجدها فرصة لأهرب إلى الخارج. كان يتحدَّث في الهاتف بالإنجليزية، لم يكن صعبًا أن أفهم أن جولييت على الطرف الآخر، يُخبرها بأنه حصل أخيرًا على التأشيرة، ويتوقع أن الإجراءات المتبقية للسفر تافهة. أتذكر دعوة المهرجان، التي انتظرتها طويلاً، ولم أكن أتوقع وصولها في هذا التوقيت الحرج. قبل أن يُنهي يوسف المكالمة أربت على كتفه وأتمتم بشفتي دون صوت "سلملي عليها" يفعل قبل أن يغلق الخط. كانت فرصة لأسأله عن سبب السفر، لا يُخفي شيئًا، لكنه كالعادة يؤكد أنه سر يجب أن أصونه، ولا أخبر به أمي تحديدًا. كانت جولييت تحتضر، وكان عليه أن يزورها قبل أن يستشري المرض في جسمها. تصيبني غصَّة، أبتلعها سريعًا، الرثاء لا يليق بها، حتى في هذه المرحلة، أجدها فرصة لأخبره بأمر دعوة المهرجان. أحكي عن اكتشافي لها قبل يومين في الإيميل، وأشرح ما فهمته منها، المدة وميعاد السفر.
"معاد السفر هيكون بعد نهاية الجلسات على فكرة".
أعود للصمت، فيدهشني بقوله:
"يبقى بكرة نروح السفارة علشان تاخدي التأشيرة".
أشعر ببصيص فرح، على الرغم من وجودك الآن خلف هذه الجدران، تستعد بكثير من الأسلحة لمقاومة المرض. هل عليَّ أن أخجل من فرحتي؟ لم يقل الدكتور علي غير:"ربنا موجود". هل غضبتَ مما شعرت به؟ بمجرد أن داهمتني الأسئلة أبديتُ انزعاجًا وقلت:
"فكرة السفر دي الوقت غير مقبولة.. لا مِنِّي.. ولا من الآخرين".
ربما تكتسي نبرتي بما يكفي من الأسى ليُصِرَّ على استخراج التأشيرة، دعني أعترف لك يا زياد، أنا معلقة بجملته التالية، أتمنى أن يُصر على موقفه، أيّ كلام آخر سيحمل الإحباط بين حروفه، لكنه يستمر في إرضائي، ربما دون أن يدري:
"مش مُهم تسافري. خدي التأشيرة بس. محدش عارف بكرة فيه إيه. لو زياد خف هتندمي إنك معملتيش الإجراءات".
أسعد بما قاله، إصراره حجة أستند إليها أمام نفسي وإخوتي، حتى إذا لم أعلن الأمر الآن. أكتفي بما قرَّره، ليس مهمًّا أن أسافر، لكن استخراج التأشيرة مهم. بمجرد انتهاء حوارنا أعود إلى التفكير في ما يحدث لك. أدخل في اللحظة التي تعبر فيها صالة الانتظار متجهًا إلى إحدى غرف السيميوليتور لتتعرَّض للإشعاع أول مرة. أحمد يبكي بصمت. سيقيدونك إلى السرير بعد دقائق، بخوذة حديدية مخرمة على رأسك، ويغلقون عليك بابًا سميكًا يعمل أوتوماتيكيًّا بالكهرباء، ويتأكدون من إحكام غلقه كي لا تفرَّ الأشعة إلى الخارج وتصيب أحدًا. سيتحكمون بكل شيء عبر كمبيوتر من الخارج، وأنت بمفردك في عتمة الغرفة، ترى وحدك بالداخل بقعًا ضوئية تسبح في الهواء. لن أنسى شيئًا ممّا حدث. الدقائق كأنها دهر. أراقب المرضى الذين يأتون تباعًا. أنت أصغر الجميع، أصغر من حسن خليل، ومن نظلة راشد، ومن كامل محمود، ومن راغوث ميخائيل، أصغر من كل من تم النداء عليهم بالميكرفون المعلق في السقف، مسبوقة أسماؤهم بلقب الأستاذ أو السيدة. لم أحزن لأجل أحد ممن رأيتهم يا زياد. لكل منهم عائلة وأصدقاء ومعارف يحزنون عليه بطريقتهم، حزنتُ على حالتك أنت فقط.
"أنا لو قعدت في الجنينة دي أسبوع هاخف".
عبارة تنطق بها بعد خروجنا من مبنى قسم الأورام إلى حديقة المركز، يدور خالك حول المبنى الرئيسي لإطالة مدة بقائنا هناك. لا بأس، دفعنا فاتورة علاجك، من حقنا الآن التنزه في حديقته، والسير على عشبه كما يحلو لنا. لن نستغرق سوى خمس دقائق للعودة إلى الشروق. أفكر في ضرورة أن أجهز كل الأوراق التي تحتاجها التأشيرة بسرعة، ثم أسلم انتباهي إلى لوحات السيارات المارقة جوارنا، أقرأ ما عليها من حروف، أحاول ترتيبها ومنحها معنى ما (س ج ر) (جسر) (رجس)- (رف م) (فرم) (مفر). ليس هناك مفر. أعود لأرقبك، رأسك على كتفي قرب رأسي. خالك يوسف يقود السيارة، أرى دمعاته تنحدر. لا يقل قلقه عن قلقي. لقد خلقه الله فياض المشاعر. حقًّا ينسى ما يحدث حوله إذا نشر مقطعًا شعريًّا على الفيس بوك، وفاق عدد المعلقين توقعه، لكنني ممتنة له. أصلح علاقتي به في زمن قياسي. إذا ابتسمت الحياة على غير توقع، ينسى المرء أوجاعه السابقة. ما حدث لشادي كان له أثر يكاد يكون أكبر على يوسف، وكأن الله وحده أراد ذلك. كان ظهور مدينة الغردقة في حياتنا نقطة تحول. ليس التحول الفجائي، لكنه حدث بالتدريج، حتى صرنا عائلة أخرى، قد لا تمت بصلة لما كنا عليه.
بدأت القصة بانتقال شادي للعمل في قرية سياحية بالغردقة. كلما أتى في إجازة نلتف حوله وهو يحكي أن الغردقة مستقبل الصعيد، فالمشروعات لا تتوقف، وكل يوم يعلو مبنى لم يكن موجودًا في اليوم السابق. يتدفق السياح من كل صوب لممارسة الغوص ورؤية الشعاب المرجانية. يتنزهون شبه عُراةٍ في الشوارع، دون أن يعترض سبيلهم أحد. أمي كانت مزهوة بنجاحه، عندما جاء بسيارته الجديدة أول مرة أطلقتْ البخور، وأعدتْ وليمة لم تكن في الحسبان، ولم تغضب عندما أصيب بمغص من جراء ما تناوله. لقد كانت عاداته في تناول الطعام تتغير بعيدًا عن أعيننا، ولم يكن يُقبل على وجبة إلا بوضع الطبق الرئيس على التربيزة، الذي لم يكن سوى الأنشوجة مختلطة بالسلطة الخضراء. كان كل شيء يستخدمه باهرًا، قمصانه المنشاة، ورائحة عطره، حتى الذقن التي تركها نابتة لم تُضْفِ عليه إلا بريقًا. كان يتحلى بشخصية جديرة بالحسد. عندما رن هاتفه الجوال لأول مرة، وتحدث إلى شخص لا نعرفه بألمانية خالصة صمت الجميع في خشوع، كأننا نمارس الصلاة. ليس لأن الموبايل كان جهازًا سحريًّا نراه لأول مرة، بل لأن الألمان كانوا ينطقون اللغة كما ينطقها! يرحل ببهائه بعد يومين مخلفًا في قلوب الجميع زهوًا ممزوجًا بالغيرة.
ثمتوالت إنجازاته، اشترى شقة واسعة في قلب الغردقة، وكان بإمكان أمي وهادي الذهاب لزيارته منذ هذا الوقت. لم تكن هيئته الجديدة إلا قنبلة ألقيت في النجع، في الوقت الذي كان يحقق آماله، اقتصر نجاح أصدقائه هنا على البقاء بهيئة الصامدين على الرغم من تعطلهم، وعندما كانت أمِّي تعتقد أن رد فعل زيارته سينعكس بشدة على البعيدين عن العائلة، فاجأ يوسف الجميع بقرار نقل نشاطه إلى الغردقة، دون استعدادات تُذكر. سافر مرتين ليدرس إمكانية تطبيق القرار على أرض الواقع، وعاد ليحمل أثاثه وزوجته وأولاده في سيارة أجرة صباح أحد الأيام قائلاً:
"والله إمكانية النجاح أكبر في أي مكان بعيدًا عن النجع".
فرغ النجع فجأة من يوسف ودعاء. توقفت مشاكساتي لزوجته وحنقي عليها فجأة. اختفى توأم روحي، الذي كان قربه بأية كيفية يسد فراغًا ما، هذا ما أدركته في غيابه،وشرع في إقامة حياة جديدة هناك بعيدًا عن عينيّ.
توددتُ إلى أمي وقت استعدادها – في إحدى المرات - السفر لقضاء عدة أيام عند شادي، فاندفعتْ عارضةً عليّ اصطحابها. كانت فرصة ذهبية لأتفقد عن كثب ما يطرأ على أخوي من تغيرات، خصوصًا يوسف، والتأكد إذا كان لا يزال قادرًا مع دعاء على إثارة حنقي. ما إن وصلتُ إلى الغردقة، وبعد انتهاء اللقاء الأول الذي جمعنا في شقة شادي، حضر يوسف بمفرده، وتعلل بأن دعاء مشغولة، توقعتُ أنها لا تريد لقائي. لم أتوقف كثيرًا عند غيابها. كانت هيئة يوسف رثة بما يشي بظروفه، يرتدي قميصًا مكرمشًا ويترك لحيته نابتة. أراحني رؤيته بهذا الشكل، قبل أن نغادر اصطحب حبيبة وعبد الرحمن ليسلما على أولاده في محاولة منه لمحو ما ترسب عن تجاهل دعاء لنا. غابوا ساعتين وأعادهما ثم رحل. ما إن انفردت بهما حتى استفسرتُ عمَّا رأيا. كان عقلهما غير مدرك لما أريد الوصول إليه، لكنني سألتُ عن هيئة الشقة والمكان. لم يعلق في ذهن حبيبة سوى شيء واحد أخبرتني به:
"بلاط الشقة مخلوع كله ووقعني".
استنتجتُ الباقي وتنفستُ الصعداء، لأن يوسف يأخذ نصيبه مثلي من التعاسة. بعد عودتي إلى النجع عاد ليحتل مساحته السابقة من وجداني. وضبطتُ نفسي أشعر بتعاطف غامض تجاهه، وهذا أحد تناقضاتي، وربما هي خاصية يتمتع بها البشر كافة؛ أن نشعر بالرثاء تجاه الشخص مادام مهزومًا مثلنا، نظل على استعداد لمقاسمته تعاسته، ونتحوَّل إلى النقيض، فنحاربه بشراسة، إذا أسعفه الحظ بتجاوز حالته، وحقق إنجازًا لم نحققه.
ثمبدأتْ التغيراتُ تطرأ على يوسف. توقفعن الاقتراض، وهو حدث بدا عجيبًا، ثم ظهرتْ بوادر الثراءتظهر عليه تدريجيًّا، اشترى سيارة، وعندما بدأ إخوتي يحيطونه بالاستفسارات أخبرهم أنه التقى في أحد الفنادق- بينما كان يسهر- بسيدة سعودية، كانت تتحدث عن وقفٍ لها في القاهرة، لا تستطيع استرداده، فتطوّع برفع القضية ومتابعتها بجدية حتى استردَّ الوقف، فمنحته أتعابًا مُجزية، قال مرة إنها مليون جنيه مصري، ثم قال في جلسة أخرى إنها مليونان. بعد تصريحه لم يجد حرجًا في إنفاق الأموال. بدأ بارتداء الملابس الغالية، وتدخين السجائر المستوردة، ثم اشترى فيلا على الهضبة وسط الصفوة، ويختًا صغيرًا ليطفو على سطح البحر الأحمر، ومضى قدُمًا في تغيير نظام حياته كله. دون سابق إنذار، لم يصبح محور اهتمامنا فقط، بل وصلت أخبار ثرائه إلى النجع، وتحول بين ليلة وضحاها إلى أسطورة. بالمال يستطيع الإنسان رسم الصورة التي يرتضيها عن نفسه، لتحل محل الصورة التي ترسخت عنه في أذهان الآخرين. كنتُ أتأمل احتفاء إخوتي به بدهشة. تحوَّلَ إلى الشخص الأهم في عائلتنا، لم يهتم أيٌّ من إخوتي بمصدر المال، استمعوا إلى القصة مرة واحدة واكتفوا، كان الأهم اقتناءه كل هذه الممتلكات، وفي محاولة للتقرب منه، وطيّ صفحات الماضي، بدأ الجميع يقترح عليه ما يجب فعله لاستثمار الثروة التي اصطفته السماء لتُسقطها على رأسه. شهدت هذه المرحلة عودة يوسف إليّ، في الوقت الذي كنتُ أفكر جديًّا في عدم الاقتراب منه، كي لا أظهر أمام نفسي بأنني ما تقربتُ منه إلا لأنه اغتنى فجأة، لكن اتصالاته فاجأتني في كل وقت، كلما اشترى شيئًا جديدًا اتصل بي وأخبرني، حتى شككتُ في وقت ما أن أوان تباهيه بما يمتلكه أمامي قد حان، هل من الممكن أن نطوي صفحات من الحنق ونعود كما كنا نتعامل بحس الطفولة؟! لم أعرف هل كان إحساسه صادقًا عندما دعا جميع أفراد لأسرة لتجتمع في الفيلا التي اشتراها للاحتفال معه، أم كانت مجرد محاولة لاستعراض ثرائه على مرأى ومسمع مِنَّا، لكنني- كالجميع- انسقتُ لما يحدث واستغللتُ الفرصة للتمتع. ذَبَحَ خروفين واستعدَّ لنا بحفلات الشواء. جاء عمر من القاهرة التي استقر فيها مؤخرًا، حتى فادية التي عرف عنها تخلفها عن معظم المناسبات حضرت. شهدت الفيلا تجمعنا، بعد مُضِيِّ زمن لم نجتمع فيه، وكالمرات السابقة، لم تحضر دعاء تجمعنا. وحتى أعرف الأسباب لزمني سؤال أمي فقط، فقالت إن علاقتها بيوسف على كف عفريت. كانت علاقته في الفترة الأخيرة بها غامضة عليّ، منذ أن انتقل إلى الغردقة لم أعرف تطوراتها، حتى رؤيتي لهيئته الرثة السابقة، وحرص دعاء على تجاهلنا لم يوضحا الصورة كاملة، لم يكلف سرد القصة أمي سوى ربع ساعة فقط، لأعرف التطورات بينهما منذ وصولهما إلى الغردقة إلى ما قبل سؤالها بدقائق، ولأشعر بالسعادة مما حدث. ليست شماتة كما تعتقد يا زياد، لا أعرف تحديدًا، لا أترك نفسي للأحاسيس السلبية عادة. عرفتُ أن الأزمات المالية العاصفة التي مرت بيوسف جعلتها تكشف عن وجهها القبيح، واندلعت بينهما الشجارات، وشكتْهُ إلى زملائه والجيران وكل من تعرف أن له علاقة به، فترك البيت وأقام في مكتب المحاماة الصغير الذي افتتحه، لكنها لم تتركه، رفعتْ ضده قضية في محكمة الأسرة كي تُلزمه بالإنفاق، واستنجدتْ بأبيها ليهدده بالفضح بين المحامين، وأثناء تفاقُم الأزمة بينهما، منعته من رؤية أولاده وأرسلتْ ملابسه مع صديق وسط استعراضٍ فضائحيّ إلى مكتبه. عندما أثرى فجأة وكان من الممكن أن يعيد المال المياه إلى مجاريها- لأن المشكلات بينهما لم تندلع لسبب آخر غير نقص المال- لم يستطع أن ينسى ما فعلته، فأقدم على شراء شقة فخمة في حي مبارك، سمح لها بالسكن فيها مع الأولاد، ووفر لها دخلاً شهريًّا لا تحلم به، ثم مسح وجودها من حياته بأستيكة.
لم أكن أسعى إلى معرفة الأسباب الحقيقية لثرائه الغامض. كنتُ متشبعة بالأحداث، ارتضيتُ أن أكون مثل إخوتي وأقنع بما قاله، لكنه سحبني من يدي، بعد أن طرأتْ عليه فجأة فكرة أنه يليق بي معرفة الإنترنت، والاطلاع على صفحاته. صعدنا إلى الدور الثاني تاركين الجميع في حلقة لاسترجاع الذكريات، بعد غداء دسم أتخمنا. وجدتك يا زياد بين قدميَّ تهرول سابقًا إيانا إلى الوجهة التي قصدناها. لم يُمانع يوسف في وجودك، كنت بريئًا بما فيه الكفاية لينتفي خطر سماعك ما سيقوله. وقفتَ في البلكونة تحاول الإمساك بغُصن شجرة الجهنمية القريب، ثم بدأتَ تجمع الزهرات الحمراء المتساقطة وتضعها على رأسك. عندما أعطاني يوسف أول سيجارة في وجودك صرختَ وقلتَ بصوت مندهش:
"إنتي هتشربي سجاير زي الرجالة؟".
ثم هددتني بأنك ستخرج لتقول للجميع، لكن فترة بقائنا في الغرفة طالت، وعند خروجنا كنتَ قد نسيت. كنتُ مندهشة من تصرف أخي يوسف، لكن حاجتي إلى سيجارة في هذا التوقيت دفعتني لقبولها. أخبرني بعد أن ضغط زر الكمبيوتر ووضع سلك الهاتف في مؤخرته، بأن أسباب ثرائه لا تعود إلى القصة "العبيطة" التي صدَّقها الجميع، لأنهم لا يريدون معرفة القصة الحقيقية. قال إنه التقى جولييت عندما دقت باب مكتبه الموارب فلم يُجب، فما كان منها إلا أن أزاحته ودخلت، وجدته نائمًا على الأرض، بعد أن وضع حذاءه كوسادة. أيقظته برقة سائلةً إن كان هو المحامي الذي عُلقت لوحة مكتبه على الشرفة من الخارج فأجاب بنعم. طلبتْ منه أن يستكمل لها أوراقًا في السفارة كي تتمكن من السفر إلى موطنها بلجيكا، بعد يومين حضرت لتستلم الأوراق. سألته عن الأتعاب فطلب منها مائة وعشرين جنيهًا فقط، وعندما تساءلت عن سبب ضآلة المبلغ، في الوقت الذي يطالب فيه المحامون الآخرون بأضعافه، أخبرها بأنه لا يريد سوى هذا المبلغ الآن، كي يستكمل إيجار الشقة التي تسكنها زوجته وأولاده، قبل أن تطالبه بها عن طريق المحكمة. أعطته جولييت المبلغ وتركتْ الإيميل الخاص بها ورحلتْ، بعد أن اتفقا على استكمال حديثهما عبر الإنترنت. فيما بعد، عرفتْ تفاصيل حياته، وطريقة زواجه، ومعاناته الصامتة طوال الوقت. حكى لي في السياق أنه لم يكن سعيدًا منذ اللحظة الأولى لزواجه، لأن دعاء عيَّرَتْهُ بكل ما أنفقَتْهُ، لكنها الحياة، تُجبر الإنسان على إظهار السعادة في أكثر لحظاته تعاسة. كان يجب الاستمرار، لأنه لا خيار آخر، ثم فوجئ بجولييت تُحوِّل إلى حسابه البنكي الفارغ مبلغًا من المال، راجية منه شراء سيارة، لينقلها كلما جاءت إلى الأماكن التي تحبها، ثم توالت الأموال، مرة لشراء الفيلا، ومرة لليخت، ثم وضعتْ له مبلغًا كبيرًا، ليستثمر فيه كيفما شاء. قاطعتُه بسؤالي:
"هيا جولييت عندها كام سنة؟".
"وتفرق في إيه؟ مدام بتحسي معاها بالآدمية".
أعادتني إجابته إلى تريثي والتزامي الصمت، فأكمل:
"ست طيبة ومثقفة جدًّا.. كمان هيا مريضة.. كان عندها سرطان.. لكن اتعالجت.. والدكاترة نصحوها تقضي باقي عمرها سعيدة".
في وقت لاحق، اكتشفتُ أن أمر جولييت معروف للجميع. لأنه اختلى بأمي بعد أن أعطته وعدًا بالكتمان وأخبرها. كان مستحيلاً بعد إخبارها أن تظل القصة الحقيقية سرًّا لا يعرفه النجع بأسره. دعني أوضح لك يا زياد أفكاري في هذه الفترة، بدا لي أن يوسف يُريد أن يغدق أمواله على الجميع، كي يصبح ذا فضل عليهم، ويُعاملوه بطريقة خاصة، عندما بدأ يُشجِّع الكثيرين ممَّن كان يعرفهم في النجع على الحضور لقضاء إجازة قصيرة في الغردقة، يستقبلهم في الفيلا وقت غياب جولييت، ويقود بهم سيارته الفارهة في منطقة الفنادق وبالقرب من البحر. يتصرف بأريحية من امتلك مالاً لا أول له ولا آخر، ثم يصطحبهم إلى أي ملهى، ويجرهم إلى شرب البيرة أو الخمر، يتحدث بحرية أتاحتها له شخصيته الجديدة، فتدفعهم حالته تلك إلى إخراج ما بداخلهم من رغبات مكبوتة، كان بعضهم يصارحه برغبته في التعرف إلى سائحة متحررة، لا تقف بينها وبينه التعقيدات التي تتعامل بها المرأة المصرية حتى إذا امتهنت الانحراف. حتى هذه الأمنية كان يوسف يُحققها لمن يطلبها. إذا لم يطلب أحد هذا يبدأ يوسف في العرض، كأنه يريد توريطهم وإمساك زلة لكل منهم. عندما ينساقون يفعل كل شيء يُريدونه، ثم ينقلب فجأة، يتحجج بأنه مشغول ولا وقت لديه الآن، وعليهم المغادرة فورًا. كانت طريقة فجة لطردهم، كنتُ أسمع بما يفعله من أمي، بعد أن يُخبرها شادي بالقصة، ثم تنتشر لنعرف جميعًا ما قام به مع هذا أو ذاك. كأنَّ بداخله شيئًا يريد أن يتأكد منه، أن الناس جميعًا على استعداد للخطيئة، إذا أتيحت لهم هذه الفرصة بتكتم شديد، أو دون أن يخسروا شيئًا، ربما لأنه أيضًا يشعر بإثم ما في تصرفاته، وعليه في المقابل أن يورط الجميع في الإثم حتى لو كان بطريقة مختلفة. لم أعرف حتى هذه اللحظة هل كان تفسيري لما يفعله صحيحًا! أم فسرته وفقًا لطبيعتي وحسب ردّ فعلي لو كنتُ مكانه، أم تأثر تفسيري وقتذاك بقراءة مسرحية "زيارة المرأة العجوز"، التي وقعت في يدي في التوقيت نفسه. هل تراني شريرة يا زياد؟ أتحدث إليك بصمت، لكنني أثق أن كل ما أفكر فيه الآن يصلك. أقسو في كشف الآخرين، ربما هم ليسوا بهذا السوء. لم أعد أعي جيدًا. بعد شفائك سأعيد ترتيب ذاكرتي، وترتيب رؤاي. عزائي أنني سأكشف نفسي أيضًا.
يرن هاتفي. أول اتصال من يوسف بعد سفره إلى بلجيكا، فور أن أعلن القاضي أحمد رفعت قراره، وأذاعته وكالات الأنباء بأن يتم تحويل مبارك للإقامة في المركز الطبي العالمي، يضخ قلبي مزيدًا من الدم. لا أرى ما حولي يا زياد:
"متقلقيش..أكيد مش هيمنعوا المرضى من العلاج".
لم أكن أتصور أن يتقاطع طريقي بطريق مبارك يومًا. صورته في التلفزيون مصبوغ الشعر داخل قفص الاتهام لا تبرح مخيلتي، والكاميرا وهي تتسلَّل بين القضبان لتصوِّر الساعة في معصمه والمصحف في يد ابنه جمال، تختلط بصور الطريق إلى المركز، وبصور جمعيات الإصلاح والتعمير المنتشرة على جانبي الإسفلت. فيلات ذات أسقف جمالونية بقراميد برتقالية. أشجار تحيط بمنتجعات لا أول لها ولا آخر، وصوت سائق السيارة الشيفروليه الصغيرة التي استأجرناها لتقلنا يوميًّا إلى المركز يأتي من مكان بعيد فينتشلني من صراع الأحداث المتلاحقة بداخلي:
"كل الأراضي دي اشتراها الوزرا وقرايبهم على إنها أراضي زراعية، وبعدين باعوها بالشيء الفلاني واتبنت منتجعات زي مانتو شايفين".
لم يعُدْ يهمني ما يحدث، لا مبارك ولا ابناه، ولا النهب المنظم الذي قام به النظام السابق لثروات البلد. شاهدت المحاكمة مدفوعة فقط بحماس أمي ورغبتها في متابعة كل ما يحدث، متعجبة من قدرة الأمهات على تسطيح الأمور وثقتهن الكاملة في المستقبل. أمي تثق أن تاريخ مصر الجديدة يُكتب داخل قاعة المحكمة، أن كل شيء في سبيله إلى الإصلاح. رؤيتها تثير استيائي المكتوم، لكن قدرتي على المشاركة أو قول رأيي الخاص فيما يحدث كانت معدومة. كنتُ فقط أريد شيئًا يُخرجني مما يفتك بعقلي، ووجدتُ في محاكمة مبارك ونجليه شيئًا يُلهيني لبعض الوقت، خاصة أن أمي احتشدتْ له منذ الصباح الباكر، استيقظتْ على غير عادتها، على الرغم من نومها متأخرة بعد تناول السحور وصلاة الفجر، خرجتْ إلى الصالة وبقايا الألم الصباحي يجتاح مفاصلَها ويؤثر على خطواتها في الطرقة. اضطرَّ أحمد بمجرد سماع تأوهاتها أن يستقيمَ من نومته على الشلت التي واظب على رصها ليلاً لينام عليها، فتولَّت بعد أن تبادلا تحية الصباح إعادتها إلى كراسي الأنتريه، رتبتْ المكان سريعًا واستطاعت بدقة أن تحوِّل جهاز التلفزيون على قناتها المفضلة، وتنتظر المحاكمة كما ينتظرها ملايين المصريين.
أترقَّب أي تغيير منذ زيارة أمس يكون قد طرأ على الطريق، أنظر إلى اليمين حتى ينزلق نظري على صف الفيلات، وأرصد وجودَ سرادق كُتِبَ عليه بخط الرقعة "مائدة الرحمن". أستعيد رؤى ومشاهد الأمس، تلك التي اختزنها عقلي عن الطريق فلا أتذكَّر شيئًا. حتمًا نُصبت على الطريق ليلاً، تحسبًا لأي عابرٍ داهَمَهُ أذان المغرب وهو صائم، ثم أنظر يسارًا فتصافح نظراتي مسجد الأمل مقصوف المئذنة، ومنتجع الطلائع يليه مباشرة جمعية مصر الجديدة للإنشاء والتعمير. جاءني صوت أحمد من مقعده بجوار السائق:
"ظهروا وبانوا!".
أتتبَّع إشارة يده. تقع عيناي على كمين نُصب على عجل قبيل المركز الطبي بمائة متر. سيارات الشرطة متحفزة لأي قادم، تتخذ من ظل بعض الشجيرات مقرًّا له. تنصب بعضًا من الحوائط سابقة التجهيز كحماية. هكذا لاح التغيير في المكان: سيارات الجيش تقف عند مدخل المركز الجنوبي، ومدرَّعتان عند كل زاوية من زوايا المركز.
يستلفت نظري وجود عشر سيارات جيش مليئة بالعساكر في الداخل، وقبل أن ندخل، يستوقفنا الأمن مستفسرًا عن سبب زيارتنا، أخرج له بطاقاتنا الشخصية، و"كارنيه" اشتراكك في حمام السباحة يا زياد، وإيصال الدفع الخاص بـ"كورس" علاج الراديوم، وبعض الروشتات، وعلبة مليئة من عقار "تيمودال" الكيماوي قوي التأثير، الذي قرره لك الدكتور علي بعد الجلسة الثالثة،يسمحون لنا بالمروق فتعتريني الراحة قليلاً. نعبر بوابة المركز الرئيسية، يدور الأمن بجهاز لا أعرف وظيفته بالتحديد حول السيارة. لا يتفوَّه أحمد بكلمة، لكن السائق أكثر جرأة، يتعالى صوته. يسبُّ مبارك والفلول ، يتساءل على مسمع من لواء جيش كان يقف بالقرب:
"جبتوه هنا ليه؟".
يقع قلبي بين قدمي وهو يخرج رأسه من شباك السيارة ويكمل:
"الأفضل ترموه في قلب الصحراء عشان تأكله الكلاب!".
كيف لرجل مثله أن يتمتع بهذا القدر من الشجاعة؟ أستدرك مُحدثة نفسي:
"ربما لأنه ليس لديه ابن مصاب بورم في المخ، يجب أن يستكمل علاجه في هذا المكان".
منذ أن سجلنا في المركز يوم الإثنين الموافق الخامس والعشرين من يوليو، قبل وصول مبارك يوم الثالث من أغسطس ليحتل جناح الرئاسة في مكان خفي من الصعب تخمين أين يكون وسط كل هذه المباني. لا يتغيَّر ما يحدث كل يوم، إلا بعض الوجوه التي تسبقنا في الوصول. يحضر باقي المرضى بعد وصولنا. يقومون بالتسجيل ثم الانتظار، نسجل اسمك لدى الموظف خلف الكاونتر، كي يتم إدراجه في الكشف، ونجلس نحملق فيمن جاء قبلنا، حتى سماع الصوت ينطلق من ميكرفون في السقف:
"الأستاذ زياد".
تصيبني غصَّة من هذا اللقب. حتى بعد رؤية الفنيين القائمين على إجراء الجلسات لك ومعرفتهم بأعوامك الخمسة عشر ظلوا حريصين على النداء نفسه. يسحبك أبوك إلى غرفة السميوليتور. بين ترديد الآيات ومراقبة القلق الكامن في تصرفات الموجودين، وملاحظة آثار العلاج بالإشعاع على بعضهم، علَّني أحتاج إلى الكتابة عن ملامحهم أو أسمائهم أو تصرُّفاتهم في هذه اللحظة يومًا.تأخذني شخصية الروائية فأتجوَّل بعيدًا عنهم بين سطور رواية أنوي كتابتها. أفيق خجلة من فكرة اعتقال الحدث للكتابة عنه في المستقبل. يمر الوقت، وتظهر عائدًا، لتنتشلني من أفكاري. ألحظ عينك المصابة، وإرهاقك الذي تخفيه تقديرًا لقلقي، وتوقك إلى شراب مثلج بعد صيام استمر ساعات. يباغتني أحمد بسؤاله:
"هيمنعوا زياد من استكمال العلاج بعد وصول مبارك؟".
"مش عارفة.. لكن اللى بيحصل هنا بيأكد كدا".
يجرَّني التساؤل إلى الاتصال بالدكتور علي، يقول بمجرد سماع صوتي:
"مفيش راديوم ثلاثي الأبعاد إلا في المركز الطبي ومستشفى السلام. ومستشفى السلام مش هيستقبل مرضى بدأوا علاجهم في المركز الطبي العالمي".
يزداد قلقي وهو يمزح مُكملاً:
"متقلقوش؛ هتزيد الإجراءات الأمنية بس. إلا إذا كان في نيَّتكم قتل مبارك؟".
أجيب متجاهلة مزاحه:
"لو جات على الإجراءات الأمنية يبقى حظّنا حلو".
أتفوه لأحمد بما قاله الطبيب فيهز رأسه وتستغرقه أفكاره، فأكمل لنفسي:
"زياد خد جلسة النهاردة.. مش هافكر في اللى هيحصل بكرة".
هل يصلك كل ما يتراءى أمامي يا زياد؟ هل يصلك أنيني الصامت؟ يجب أن أطلعك على كل شيء، حتى إذا فاق ما سأقوله استيعابك. كل تغير كان يصيب أخ من إخوتي يؤثِّر على أخ آخر، يؤثر على أمي وحياتنا، صعب أن تعيش بمعزل عما يحدث. هل أكمل لك الحكاية؟قل لي ماذا أفعل إن لم أقتل الوقت وأنشغل عما يصيبك بالتذكُّر؟ لم يتبق من أظافري شيئًا لأقضمه. لن تموت يا زياد. ليس خطأك، هو خطأ الجنس البشري كله، لقد خلقه الله ليحيا لا ليموت، منحه شرارة الحياة، وقدر له العيش على الأرض، التي هيَّأها له، بل إنه حذره بطريقة مواربة، كيلا يسقط في قبضة الفناء:
"أما شجرة معرفة الخير والشرِّ فلا تأكل منها"·
غير أن شجرة أخرى في جنة عدن، هي شجرة الحياة، لم يكن ثمة تحريم يدور حولها، إنها لا تؤدي دورًا في قصة السقوط ذاتها. لكن الإنسان أخطأها وتناول ثمار شجرة المعرفة. لن تتحمل وزر آدم. الله الذي أعبده رحيم يا زياد.لم يفرض على الإنسان السقوط، الموت يحل بالإنسان من خلال سقوطه الخاص. أنت لم تسقط بعد. مازال أمامك الكثير لتقترفه. هل بدأت أهذي؟ لنترك الفلسفة جانبًا، لم أستطع فهم عباراتها إلا لمامًا. حتى عبارتهم الخالدة"الفلسفة هي فن تعلم الموت" لا تعجبني. كيف يكون الموت فنًّا؟ تبدو حكمة موت كبار السن جلية. استكملوا حلقات حياتهم، استمتعوا، واكتسبوا الخبرة. الموت في حالتهم جزء من الحياة، لكن ما الحكمة في موتك قبل الأوان يا بني، قبل أن تتذوق النساء. قبل أن تنجب وتصنع امتدادك في الحياة. لا أقنع أننا خالدون عبر الجنس البشري في جُملَتِه. أنا مجرد قاصَّة، تنجرف مع الخيال أحيانًا. دعني أقص عليك ما حدث مع خالك حسين. ستجدها قصة مسلية بلا ريب، وضع في حسابك أنه كما يقول:
"مفيش تعارض من أن يحمل الإنسان الصفة وضدها في نفس الوقت.. الأهم أنه يقاوم ليقتل الصفات الخبيثة.. دا هو جوهر التقوى".
من أين أبدأ؟ تحتاج القصص عادة إلى مقدمة وذروة. لا تهم النهاية كثيرًا، من الممكن تركها كالحياة مفتوحة. الموت فقط.. هو النهاية القاطعة.
لأبدأمن حوار دار بيني وبينه في مساء ليلة شتوية، كنت صغيرًا بما فيه الكفاية يا زياد، لتصبح زجاجة الرضاعة همك الوحيد، عندما استدعيته لبيتي بعد خروج أبيك. وجدتُ أنه حان الوقت لأعلن عن تعاستي للجميع. غير عابئة بانكشاف ستر حياتي، إذا لم يجد إخوتي حلاًّ لما أُعانيه، فعليهم أن يتركوني وشأني، لأبحثَ بمفردي عن الحلول. اخترتُ حسين لأبدأ بإخباره، ومنه سيتسرب الخبر للجميع. هذا شأن إخوتي، ما إن يَدُرْ حوارٌ بين اثنين إلا وينتشر كالنار في القش. بمرور الدقائق الخمس الأولى صامتة في وجوده بادر بسؤالي:
"مالك .. فيه إيه؟".
كانت المرة الأولى التي ألجأ فيها إليه. أخبرته بعبارات مبهمة:
"أنا مش سعيدة.. أحمد مش حاسس بيا".
لم أحدد سببًا، ولم أسرد قصة معينة، فسألني:
"هو بيضربك؟".
اندهشتُ من السؤال! نفيتُ بشدة، فبدأ في حديث طويل:
"يا بنتي إنتي عبيطة.. سعادة إيه اللي بتتكلمي عليها، البيبان اللى انتي شايفاها دي كلها وراها قصص مأساوية.. السعادة دي حاجة ممكن توصليلها بالقناعة.. قومي صلي ركعتين لله.. وانتي تبقي أحسن".
انتهى كلامه قبل أن أوضح شيئًا عن سبب استدعائه، عندما دق الهاتف وأخبره التمرجي أن مريضًا ينتظره في العيادة، رحل وبقيتُ مكاني ساعة كاملة لا أتحرك، حتى شككتُ أنني تحولتُ إلى تمثال، فحركتُ أصابعي على مرأى من عيني، ثم عدتُ إلى ما كنتُ عليه قبل مجيئه، لكن برؤية كلية عن موقفه، وعلى الرغم من تحقق الهدف الذي استدعيته من أجله، إلا أنني شعرتُ بإحباط كبير، لأنه لم يلتفت إلى تعاستي، وقال محاضرة لتوفيق الأوضاع بأيِّة كيفية. تخيلتُ رد فعله إذا ما أقدمتُ على الانفصال عن أحمد، كان سيعيدني مجبرة، لأن سببًا واحدًا مما قاله كفيل باستمرار الحياة.هذا هو الحوار يا زياد.. دعني أدخل في المتن الآن..
قبل أن يكتمل العام على حوارنا، فاجأ حسين الجميع، كان ما فعله بمثابة مطرقة دقت رءوسنا. لقد أعد له شارع 15 مايو كمينًا، وضبطوه خارجًا بعد صلاة الفجر من منزل أرملة صديقه، التي لم تكن سوى صديقة زوجته المقربة. لم تكن المرة الأولى التي يشاهدونه فيها نازلاً مع أذان الفجر. اتفقوا في تكتم على إغلاق الباب بسلسلة حديدية وقُفل قبل نزوله، ليفاجأ عند خروجه بالمأزق، وبالفعل، سارت الخطة حتى نهايتها بنجاح، وعندما لم يستطع الخروج كان أهل الشارع قد تجمهروا أمام الباب، متوعدين إياه بالقصاص، لأنه استغل الظلام ليرتكب الفاحشة. اتصل بصديق له وأخبره بما حدث من خلف قضبان الباب، ليأتي في أسرع وقت. في هذه الأثناء، حاول أن يوضح للجميع أنه زوج هذه السيدة، ولا يزورها ليلاً إلا لأن الأمر كان سرًّا قبل أن يُقدموا على هذه الفضيحة. لم يصدقه أحد، كانوا بحاجة إلى دليل ملموس ليتركوه في سلام. عندما وصل صديقه إلى مكان التجمهر كانت الساعة قد تجاوزت السابعة. أخرج الورقة المطوية، وأراها للجميع. في هذه اللحظة، فتحوا الباب وسط سيل من الاعتذارات، ولم يكن أمام حسين، سوى الذهاب إلى بيت أمي، ليحكي لها الأمر، للاتفاق على صيغة مناسبة لإخبار ولاء، قبل أن يتبرع مجهولٌ فيخبرهاالقصة بطريقة مغايرة. كعادة أمي إذا مس حسين مكروهًا، استقبلتْ ما يحدث ببكاء متواصل، ولكي أُقنعها بالمساندة بكيتُ معها، ومنعتُ أولادي من اللعب، وعلى عجل، وبهاتف واحد لأخي شادي تم استدعاء إخوتي من الغردقة لمناقشة الأمر والتوصل إلى صيغة نقولها للناس، ولأهل زوجته الجديدة التي أقدمتْ على الزواج دون استشارة أحدٍ منهم.
كان في ما حدث صدمة لي، ليس لأنه تزوَّج أهم صديقات زوجته فحسب، بل لأن تصرفه الآن ناقَضَ ما قاله لي عن الهدف الأسمى من العلاقة الزوجية، وأن السعادة بمفردها ليست هدف الحياة. كان حسين الابن البكر لأمي، بتفوقه منذ أن كان في المرحلة الابتدائية استطاع أن يحفر لنفسه مكانة بروحها. بدخوله كلية الطب علا نجمُه في البيت، حتى عندما تزوج ولاء، ولم يعد يُولي أمي العناية، لم تكن تغضب بالقوة نفسها التي تواجهنا بها إذا تحدث عنه أحد بما يضايقها، حتى إذا كان ما قلناه الحقيقة، معلنة أمامنا عبارتها التي لم تطبقها سوى عليه:
"أدعي على ولدي وأكره اللي يقول آمين".
مع امتلاكه المال ارتسمت صورتُه الكاملة التي لم نتعامل معه إلا من خلالها. إذا دخل البيت نصمت جميعًا، ليتحدث عن أغرب الحالات المرضية التي واجهته. يرفع أحدَنا بتوجيه الحديث إليه، ويحط من قدر آخر إذا لم ينتبه إلى وجوده، وعندما يقُص علينا أفعال الصحابة مع الرسول، نستجمع انتباهنا كله، ليس لأنه المتحدث فحسب، بل لأن علمه بسيرة الرسول، وإقامته الشعائر بفائض حرص في المسجد جعلاه في مكانة شاهقة بامتياز. عندما جلس كطفل يشعر بالإثم الذي اقترفه مع إخوتي لم يستطع أيٌّ منهم أن ينظر في وجهه، ولم يستطع هو إلا أن يتحدث موجهًا عينيه بعيدًا عن الجميع. في الوقت الذي كنا نناقش فيه موضوعًا يمس كرامة الأسرة، كنا نقضي وقتا سريًّا للاستمتاع بشيء غامض، ربما لم أكن وحدي من شعر بالإحساس الغامض حيال تهاوي تمثال حسين الذي لم يكن إلا من الآيس كريم، ليظهر أسفله إنسان عادي تمامًا، يقترف الحماقات كما نقترفها بسهولة.
اتفق إخوتي على تشكيل وفد نسائي، يذهب لإخبار ولاء، ووفد آخر من إخوتي الذكور، ترأسه عمر، ليلتقي بعمِّها ويطلب الزواج من كريمته التي لم تكن سوى زوجة أخي في هذا الوقت، حتى إذا تنامَى إلى سمعه ما حدث، يجب أن يتغاضى ويبدأ من جديد كأن شيئًا لم يكن. بهذه الطريقة سيتم احتواء الموقف. كنتُ في موقف عجيب، أن أذهب دون شماتة لأخبر ولاء بزواج حسين، وفي الوقت نفسه أُقنعها بقلب لا يعرف الرحمة بمباركة ما يحدث، لأن أهل زوجته الثانية ليسوا عاديين، إنما عزوة من الصعب تجاهل رد فعلها. قلتُ أمامها ما أملاه عليّ إخوتي بحذافيره:
"خُدي بالك.. دول صعايدة ممكن يقتلوه ويقتلوكي ويقتلوا الولاد".
ولأنها لم تكن صعيدية، خافتْ ممّا قد يحدث من جراء إثارة الزوابع، قبلتْ صامتة بينما دموعها لا تكف عن الهطول، مندهشة من قدرته على الكذب عندما كان دومًا يُبرِّر مبيته في الخارج بمتابعة المرضى، وفي لحظة تغيب صدّقتْ أنه لا يبيت سوى في العيادة، وأخطأتْ طوال الوقت لأنها كانت تتصل لتطمئن على الموبايل، ولم تفكر يومًا في التأكد من صدق كلامه بالاتصال على تليفون العيادة الأرضي. كانت كلاعب الكرة الذي كُسِرَتْ ساقُه التي تسبب شهرته، لقد طعن حسين الشيء الأعظم الذي كانت تتباهى به أمام الجميع، إحساسها بتميزها وكبريائها، الذي نسيتْ مع الوقت أن وضع حسين وماله واسمه سبب تجليه. فيما بعد، تكشفتْ القصة تدريجيًّا، ما قاله حسين مبررًا تصرفه وما حكاه لي الأصدقاء، وما قالته أمي. كل رواية كانت جزءًا مكملاً للصورة. برَّر حسين إقدامه بأن ولاء جبارة، كلما ادخر مبلغًا من المال اخترعت طريقة لإنفاقه، دون مراعاة للجهد الذي يبذله ليرتقي في الطب. تنفقه مرة في الفسحة والسفر، ومرة في تغيير أثاث الشقة، كي تظل تتباهى عدة سنوات قادمة أمام صديقاتها من زوجات الأطباء. إذا رفض مجاراتها انقلبتْ نمرة شرسة من الصعب ترويضها. أكملت أمي الصورة، التي حتمًا قالها حسين أمامها، ولم أتوصل- على الرغم من قدرتي على التخمين- ما إذا كان هذا صحيحًا أم مجرد تبرير. حكتْ أن ولاء مؤخرًا تقربت جدًّا من صديقتها التي تزوَّجها حسين، حتى أنها كانت تأخذ اهتمامها كله، تخرجان معًا، وتنفقان الوقت في كل ما هو تافه، مدعية أنها تخفف عن صديقتها بعد موت زوجها، ليجد حسين نفسه بعد حين لا يستمع إلا إلى أخبارها، ولا يجالس غيرها إذا عاد آخر النهار إلى البيت، وفي تصرف غير محسوب، سمحت ولاء لحسين بالتدخل في شئونها وإنهاء ما استعصى من مصالحها، الأمر الذي جعله دومًا وجهًا لوجهٍ معها.
لا تخف مني، قلت لك إنني عادة أُخلّص نفسي من الصفات السلبية. أشمت قليلاً ثم أثوب إلى رشدي. لم أكن سعيدة لأسطع بضوء نوراني. الحمقى وحدهم من يتصورون أن الأشقياء قادرون على التحلي بالسماحة. معجزة أن يكفَّ الفقير عن الحقد على الغني. والمريض، كيف لا يحنق على الأصحاء؟كانت الحياة تقذفني من دوامة إلى أخرى أيضًا. لا تلحظ أمي ما تمور به حياتي. لا ينتبه أيٌّ من إخوتي. يسير الناس في الشارعشغوفين بما تعرضه الفتارين، غير عابئين بثقب الأوزون. حتمًا كان هناك من يشمت بي، الحياة بين شامت اليوم وشامت فيه في اليوم التالي.
نفاجأ بوجود هادي عند العودة. تبتسم يا زياد عند رؤيته، بدأت أربط بين ابتسامك وشعورك بالخجل. تخبرني برغبتك في الدخول إلى غرفتك. هل بدأت تتحرَّج من الجميع؟ حتى خالك! لا تبدأ في السقوط رجاء. لن يلحظ عرجك ولا انغلاق عينيك. لن يرى فيك سوى الطفل الشقي الذي كنته. ابق معه حتى أجهز لك الطعام، لن يلحظ أنك غير قادر على المضغ، وأن اللعاب ينثال من جانب فمك. سيتلهى عنك بالسؤال عن المركز هذا اليوم، وعن مبارك.سأضع لك الطعام بحيث تعطي ظهرك لنا، وسأتفرغ له كيلا يركز انتباهه معك. أشعر بصداع يا زياد. هوِّن عليَّ قليلاً بصمودك. ينتشلني هادي من أفكاري. أنظر إليه وهو يشير أن أتبعه إلى الداخل. يختليبي في الغرفة، يخرج حزمة من المال ويدَسُّهَا في يدي وهو يقول:
"إخواتك باعتين لك الفلوس دي. مش هنسيبك لوحدك.. زياد حتة من كل واحد فينا".
يقول إنك غالٍ كسلمى ابنته. قبل أن أعترض وأبدي رفضًا يتركني ويعود إليك في الصالة. تحوطني الحيرة يا زياد، أتنقل بين المال في يدي والجهة التي ذهب إليها. أتجه إلى أمي في المطبخ، أستشعر معرفَتَها بالخطوة التي أقدم إخوتي عليها. ربما هي من وجَّهتهم إلى هذا التصرف! يجب أن أقول لها حتى إذا كانت على دراية، تملي الأخرى بداخلي عليَّأن البوح لها بما حدث، سيرضيها أن أخبرها. أدخل إليها في المطبخ، وأقول بهدوء:
"ماما.. إخواتي اتفقوا يدولي دول".
وأشير إلى المال في يدي، تنظر إليَّ وتقول بسماحة لم أعتدها:
"وماله يا بنتي .. دا حقك عليهم".
أتركها وأعوُد للجلوس في الصالة. ليس المال الذي جمعوه بالاتفاق فيما بينهم وأرسلوا هادي به هو السبب في رغبتي التوقُّف وإعادة صياغة مفاهيمي، لكنها تلك الروح التي يعاملونني بها، والإحساس الذي لم يضل كالعادة طريقه إليَّ. هم قلقون عليك بصدق. هل كان مرضك هو السبب في تراجعهم من مواقفهم المتجاهلة السابقة تجاهي! أم أن جميع إخوتي طوال الوقت كانوا على استعداد أن يقفوا بجواري إذا بحتُ لهم بما يُنغص حياتي! أم أن ما كان يحدث لي عاديًّا لكنني رأيته بعيني المخطئة. يسحبني هادي من أفكاري.يسألني عن حالتك وخطة العلاج فأقول بآلية:
".. الحمد لله".
هل أحمده حقًّا يا زياد؟ بصوت خفيض كيلا تسمع يسألني فأفيق:
"هوا بياخد كيماوي؟".
"أيوة.. حبوب اسمها تيمودال".
يكتسي وجهه بأسى. يوجِّه إليك اهتمامه أثناء تناولك الطعام، نظل صامتين. تنهي طعامك أسرع من المعتاد. صمتنا لا يعني مراقبتك. أكمل ما في طبقك. ثق في كلامي. لا أجد ما أقوله إزاء ما يحدث. أشعر بالخزي يا زياد. سأحكي لك عندما أستجمع شتاتي. يحتاج الحكي إلى اتزان. يدعوك هادي للخروج معه. تتشبث نظرتك بي. أعرف لغة عينيك. لا تريد الخروج. أستمهل خالك بالاستفسار عن وجهته لكنه لا يفصح. يسندك برفق فتترك له نفسك. بعد أن تغمرني بنظرة عتاب. لا تغضب يا بني. ربما يعد لك مفاجأة. تستسلم له صامتًا، كآلي تم توجيهه، ينسدل جفنك على عينك، وتسقط يدك بجوارك.
سأتذكر موقفه لاحقا وسأشعر بالخزي، لأنني لم أقُم معه بمثل ما يقوم به معي الآن، فبعد إنجابه ابنته بعام، بدأتْ تذبل كأن شيئًا غامضًا مسَّها. اصطحبته وعبير إلى الطبيب. قال بمجرد رؤيتها إنها ربما مصابة بالسكر، وعلى الفور اتجهنا إلى معمل تحاليل للتأكد. كان ما خمَّنه الطبيب عن حالتها صحيحًا. فيما بعد، أثبت الكشف الطبي إصابة البنكرياس بعيب خِلْقي، يجعله غير قادر على إفراز الأنسولين. وعليها كي تبقى على قيد الحياة أن تُحقَن به عدة مرات يوميًّا. كانت صدمة. حزنتُ لأجله، لكنني الآن أشعر أن الحزن لم يكن هو الشيء الوحيد الذي يجب أن أبديه، لم أضبط نفسي مرة راغبة في الاتصال به للاطمئنان على حالته. أو حالة ابنته، لم أقف جواره كما ينبغي. أشعر أنني لا أستحق اهتمامه الآن. يداهمني سؤال:
"هل يفعل هذا ليؤنبني؟".
"آااه توقفي!".
أقولها لنفسي. يبدو أن سوء الظن أحد أبرز صفاتي يا زياد. ما إن أقُمْ بتحليل حدث حتى أميل إلى إدانة الطرف الآخر، كنتُ على خطأ طوال الفترة السابقة! أحيانًا تُفضل أن تظل معلوماتك السلبية التي كنتَ قد اقتنعتَ بها في فترة سابقة ثابتة تجاه الآخرين، كي تظل دومًا حزينًا لأنهم لم يقوموا تجاهك بما تراه واجبًا، وكي تظل بمنأى عن تقريع الآخر بداخلك، لأنه أدانهم بما ليس فيهم. يجب أن أعيد النظر في مفاهيمي التي كوَّنتُها طوال عشرين عامًا عن إخوتي، انطلقتُ للمضيّ قدمًا في هذه الحياة بمفردي، أحمّل الجميع إخفاقي وشعوري بالوحدة والحزن. في فترة تالية لإحباطي معهم، انتابتني رغبة مجنونة أن أهشم فكرتكم عن إخوتي، ولم أترك فرصة إلا ورددتُ على مسامعكم، كلما شعرتُ بتفوقهم وبقائي في مكاني لا أبرحه، حتى أبوك لم أستثنه من خطتي. كنتُ في ذروة حنقي أعلن آرائي أمامكم بشكل عام دون تخصيص. ليس لأحطم صورتهم فقط، بل لأحرق بها طريق العودة إذا ما فكرتُ يومًا في الرجوع إليهم، أخبرتكم أن العلاقات اختلفتْ عمَّا كانت عليه، وأن كل فرد الآن لا يبحث إلاَّ عن مصلحته فقط، لا يجب أن يُعوّلَ أحد على أخيه، بل يهتم بشئونه فقط، لأنهم لا يهتمون إلاَّ بأنفسهم وينسون الآخرين، ثم أكمل بالفصحى، أجدها مناسبةً أكثر كلما حاولت أن أسرِّب آرائي إليكم:
"في خضم الحياة لا ينسى الإنسان أقاربه فقط، بل قد يبيعهم إذا جنى منفعة من وراء بيعهم".
كنتُ أشعر براحة كلما قلتُ هذا أمامكم، تجعلني هذه الطريقة أقتص من كل واحد منهم على حدة، لكنهم الآن يجعلون بتصرفاتهم موقفي السابق بلا معنى.
دخل هادي كلية الشريعة والقانون في أسيوط وقت أن كان شادي يذاكر للحصول على الليسانس من كلية الألسن في القاهرة، لم يتغير شكل البيت كثيرًا في هذه الفترة لأنه لم يحبذ البقاء في سكنه وحضور المحاضرات واكتفى بحضور الامتحانات فقط كل عام، لذا لم تشعر أمي بالقلق من بقائها وحيدة في هذه الفترة.
عندما قرَّر أن يفتتح مشروعًا. لا أذكر في أي عام تحديدًا. لن أعمل مؤرخة يا بني. تتشابه الأيام، منذ اقتلاع قضبان قطار القصب من شارع المحطة وتوقفي عن ملاحقته لم يعد للأيام ميزة. كان لابد من المجازفة لتوفير دخل شهري بعد أن وصل إلى قناعة أنه من المستحيل الحصول على وظيفة. بعد فترة مراقبة للأحوال وتقَصٍّ لمتطلبات السوق توصَّل بمساعدة شادي ومباركة أمي ودعواتها إلى تأجير محل بمبلغ باهظ في شارع المحطة، وقرر أن يتخصص في بيع الملابس الحريمي الجاهزة، على الرغم من الأزمة الاقتصادية كانت النساء ماضيات قدمًا في الاهتمام بمظهرهِنّ. بدأتْ رحلة هادي في العالم النسائي بصبرٍ وتأنٍّ، كان يذهب في سفريات مكوكية إلى القاهرة لتفقد أحدث الموضات، يراقب الفتيات الجميلات في الشوارع ويدرس إيقاع الموضة على الطبيعة، واستعان بما ترتديه الممثلات في أحدث الأفلام المصرية، وبخبرتي وبنات عبير اللاتي وصلن إلى سنّ الأنوثة. كنا نعبِّئه بكل ما يجب أن يتفق لشرائه من مصانع الملابس الجاهزة. يسافر مشحونًا بنصائحنا عن الألوان والموديلات واتجاه الذوق العام. عند وصول الطرد بعد عودته نشاركه في فرد الملابسبالمكواة، وتعليق الجيبات والبلوزات التي اشتراها، ثم يتفق مع متخصص لترتيب الفاترينة الخارجية. تدفقت الفتيات كشلالات الضوء. كان هادي يجلس إلى المكتب الصغير الذي وضعه في ركن المحل. يرقبهن وهن يُقلِّبن في كل شيء، يقِسْنَ عدة قطع في الغرفة الصغيرة التي أحكم عزلها عن المحل بباب أكورديون، وامتلأت من الداخل بالمرايا التي تكشف الجسم من كل الزوايا. بعد حين أدرك أن التعامل مع النساء يستلزم حساسية خاصة، كأن ينظر إليها بعين خبيرة ثم يقترح بعض الموديلات، ويخبرها أن جسمها جميل ومتناسق، وأن اللون الأصفر يليق عليها، لا يقترح هذا اللون إلا لأن اللون خدعه وأكثر من شراء الملابس ذات اللون الأصفر. بهذه الحيل أدرك أن محله لن يخلو من الزبونات، إذا لم يقمن بالشراء فهن يعبقنه بروائحهن المختلفة.بعضهن لم يكن يحضرن للشراء، هذا ما أدركه بحدسه فيما بعد، ما إن تصافح عيون بعضهن الملابس المعروضة بين جنبات المحل حتى يستدرن ناحيته، ويسألنه:
"هيا دي كل البضاعة؟".
فيجيب بعد أن يفهم:
"أيوة مع الأسف" فيكملن:
"إمتى هتسافر عشان تجيب غيرها؟".
يخبرنه عن شيء معيَّن يتأملنه، يشركنه بطريقة ما في عالمهن، يستنتج أن الخطوة التالية لن تخرج عن معرفة رقم هاتفه، ليسألن عن وصول الملابس الجديدة، فيعطيهن الرقم فورًا، بهذه الطريقة أصبح رقم هاتفه من أشهر الأرقام المتداولة بين النساء في النجع. تحملت أمي اتصال الصوت النسائي بجلد، وكانت رقيقة مع كل واحدة. عندما اشترى موبايل، ووضع رقمه على أكياس التعبئة، أعفاها من الردّ، لكنه في هذا التوقيت كان على دراية بأنواعهن، والطريقة التي يجب اتباعها مع كل منهن. إلى جوار خبرته بطبيعتهن، خَبِرَ مواسم الشراء، التي لم تخرج عادة عن الأيام الخمسة الأولى من كل شهر. مع موسم قبض الرواتب الشهري، إذا حضرتْ مشترية بعد هذا التوقيت أو قبله، صنَّفها فورًا من الموسرات، زوجة طبيب أو ابنة تاجر أو مومس، أو متسكعة لم تجد في أضواء محله سوى تسلية تقتل بها الملل.
عندما تعبأ بخبرته الجديدة بدأ ينتقد تصرفات فتيات العائلة بلا استثناء، بعد اعتياده الحكم على الأخريات من طريقة ملابسهن، وتقربهن، واتصالهن لمعاكسته. لا يسمع عند رده سوى ضحكات مائعة، أو صوت نسائي شبق يجره إلى حوار ساخن، لا تنتقي له إلا أحط الألفاظ. كان يعطي أوامره بنبرة غاضبة لبنات عبير:
"متلبسوش الجينز المحزق دا..والبلوزات.. مالها كدة قصيرة!".
حتى عبير وأنا لم نسلم من شكوكه، إذا تعالى الموبايل بالرنين ولم نردّ، يستفسر عمَّن اتصل، ولماذا لم نُجب. هكذا تطورت شخصيته بالدخول إلى عالم الموضة والأزياء، وفي الوقت الذي كان يتودد إلى الزبونات اللاتي يحضرن إلى محله ليلاً ونهارًا- بصرف النظر عن نواياهن- كان يفقد ثقته في نساء النجع تدريجيًّا، حتى أنه عندما فكر في الخطبة، لم يجد سوى فتاة تعرف عليها مصادفة عند ذهابه لزيارة صديق له في جامعة سوهاج.
كانت الفتاة من عائلة ميسورة في أسوان. يعمل أبوها مديرًا في أحد الفنادق الكبرى، بعد أن قضى أعوامًا كعقيد في الجيش، وتمَّت إحالته لسن التقاعد بصحةٍ موفورةٍ قرَّر الحفاظ عليها بالعمل المستمر، كي لا يفقد بالراحة المفرطة والفراغ شبابًا ولياقة بدنية حافظ عليهما طوال فترة الخدمة. اعتادت عزة زيارة ابنة خالتها جيهان التي التحقت بكلية التجارة، ووقعتْ في حب صديق هادي، ولأن هادي زاره فجأة وقت موعده مع جيهان، لم يكن هناك مخرج سوى اصطحاب عزة لابنة خالتها، كي يجد هادي من يتحدث معه، ومنذ ذاك الحين، أصبحت زيارات عزة في الموعد نفسه الذي يزور فيه هادي صديقه. في هذه الأثناء عرف عنها كل شيء، وعرفت عنه أصله وفصله، وسألها سؤالاً واحدًا: "إنتي كنتي عاملة علاقة مع شاب قبلي؟" فأجابت بالنفي، عندئذٍ قرَّر أن يتقدم لخطبتها. بمجرد أدائها امتحان البكالوريوس، ذهب للقاء أبيها دون قلق يُذكر من منصبه. واجهه في الزيارة الأولى قائلاً: "أنا مش باشتغل.. لكن قدرت افتح محل بالفلوس اللي امي كانت محوشهالي". ابتسم أبوها دون أن يُعقب، فأكمل: "أنا من عيلة طيبة وناوي أحب مراتي.. وأخلف 3 عيال". انتهى لقاء هادي بأبيها بعد أن وعده بالاتصال هاتفيًّا في حال الموافقة، وتوقع هادي أن يرسل في إثره رجال المخابرات العسكرية، الذين حتمًا كان يعرفهم بحكم منصبه السابق، ليسألوا عنه وعن عائلته، وبمزيد من الترقب خصص هادي نغمة لرقم هاتفه، إذا أسعده الحظ وصدحت في وقت غير متوقع، فلن يعني هذا سوى موافقته على الزواج بابنته.
لم يرُق لأمي على الرغم من سعادتها أن يُقْدِم هادي على الزواج قبل شادي. كانت ترى أن قبوله كزوج أمر حتمي، في ظل ندرة العرسان القادرين على الزواج، وأن الهدوء الذي أبداه أبوها تصرف طبيعي يقوم به الآباء عادة عند مقابلة أيّ عريس يتقدم لبناتهم. كنتُ أحنق عليها، لأنها ترى أولادها الذكور بعين فخورة لا تراني أو عبير بها، وكلما التففنا حولها لا يدور حديثها إلا عنهما. في الخفاء عادتْ لتبحث عن عروس لشادي، كلما التقيتُها كَشَّرَتْ في وجهي وسألتني:
"يعني بنات خلق الله كلها دي مفيهاش واحدة تنفع لأخوكي؟".
كنتُ أبحث- إرضاء لها- في الوجوه عن عروس، وكلما وجدتُ الفتاة الملائمة اكتشفتُ بسؤالها أنها مرتبطة بخطبة أو بحب شاب لا تستطيع أن تتخيل الحياة دونه، وفي المرات القليلة التي وجدنا فيها عروسًا، كان هادي يقول:
"دي أصيع خلق الله.. ومشيت مع طوب الأرض".
كنتُ أتهمه بأنه يتقوّل على الفتيات، لأنه يورط نفسه في علاقات مشابهة، حتى بات يشك في كل الفتيات، لكنه يُخرج الموبايل ويُريني رسائلها الملتهبة، التي أرسلتها إليه في وقت سابق. حتى عبير واجهت المشكلة نفسها، وبدا جليًّا في ظل طفرة الصياعة التي أصابت الفتيات في النجع أن إيجاد عروسة لشادي أمر مستحيل.
قبل أن يُتمم زواجه بيومين حضر شادي من الغردقة، مُصِرًّا على إنهاء محاولات أمي البحث له عن عروس. أخبرها أنه ارتبط بامرأة ألمانية. كانت متزوجة من قبل، ولديها ابنة، قال كلامًا كثيرًا لكن أمي لم تسمعه، لأن الأرض كانت تدور بها وتكاد توقعها، وعندما ذهبت الصدمة عرفتْ أنه ما قال لها إلا لأنها حامل بمولودهما الأول، ورأى أنه من الواجب أن يخبرها قبل وصوله. ظلتْ أمي تبكي أسبوعًا، واعتقد الجيران أن فرحها بزواج هادي يُبكيها، لذا لم تكن مطالبة بالتبرير، وفي ظل اندفاع الشباب العامل بالغردقة من أجنبيات، معظمهن عجائز يُكَللُ الشيب رءوسهن، مقابل المال أو الحصول على جنسية الدول التي أتين منها، كان شادي حريصًا على سرد القصة التي دفعته للزواج من أنيتا. قال إنها كانت ضمن الفوج السياحي، وتخلفتْ عن السفر معه بعد إعجابها به. أسقط جزءًا من القصة فأكملتُ الصورة بالتخمين. شدد كلما تحدث فيما بعد على أنها فقيرة، وأنه لا يفكر في الهجرة إلى ألمانيا، إنما ارتبط بها لأنها أحبته، ولا يجب أن يصل ابنه إلى الحياة قبل أن يتزوجها. أمام هذا المنطق قبلت أمي ما يحدث، وكان علينا في وقت لاحق السفر مجتمعين للترحيب بها.
يدق الباب، تعودان يا زياد حليقي الرأس تمامًا. لا أعرف كيف تبادر إلى ذهن هادي هذه الفكرة، أفتح فمي على آخره مندهشة، فيضحك وتضحك معه، ويقول:
"حلق الشعر زلبطة موضة دي الوقت.. كل لعيبة الكورة المشهورين بيعملوا كدا"
كيف وجد مخرجًا مما كنت أخشاه منذ أن بدأت تتناول حبوب الكيماوي. ظللت أحمل هم سقوط شعرك. أرتب الكلمات التي يجب أن أقولها لك دون غيرها لأهون الأمر. لكن زيارة للحلاق، بحجة مجاراة الموضة، حلت كل شيء. لا أعرف كيف أشكره. يزداد شعوري بالتضاؤل الآن يا زياد، فاغفر لي أفكاري السابقة، علَّ مرضك هو جزائي عما اقترفت من آثام. سأساعدك للذهاب إلى السرير، وسأبقى جوارك في البلكونة. الغريب من حقه التدخين. لن يضره معرفة الناس بعاداته السيئة. سيرحل كما جاء بلا أثر. إلا أعقاب السجائر أسفل العمارة.
يفاجئني عبد الرحمن بالمجيء. أتوقَّع أنه جاء ليفطر معنا. لا يكلَّف نفسه تحمل أي عبء.أتمنى أن يتجه إليك. يسأل عن صحتك. يلحظ ما يحدث لك من تداعيات، لكنه يسلم بحيادية. لا أصدق أنه يفعل هذا فقط! كيف لا يقلقه قلبه عليك؟ أم أنه يحملنا ما يحدث لك. يرى مثلي أن ما يحدث في الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل. لا تحزن يا زياد، حتمًا هو قلق عليك، لكنه لا يجيد إظهار قلقه. ربما لا يريد أن يظهر قلقه كيلا تجزع. لا يعرف أنك تعرف كل شيء. على الرغم من محاولاتي إخفاء الحقيقة عنك. أشير إلى الطبيب بكل عضو فيّ أثناء المتابعة، كيلا يفصح أمامك، لكنه لا يلحظ. يعتقد أنني أغمز له بعيني في غفلة من وجود أبيك. لا تغضب منه، أخوك لا يحسن تقدير ذكائك.يشير إليّ بيده لأخرج معه إلى البلكونة، أتغاضى عن سلوكه وأجاريه:
"خير.. عاش من شافك.. أكيد فيه سبب قوي خلاك تيجي".
لا يلتفت إلى سخريتي المبطنة. يشرع في فتح الموضوع الذي ما جاء إلا من أجله:
"أنا نسقت خلاص.. بس مش هالحق طب.. هتفرق نص درجة وهتجيلي صيدلة".
منذ صدمة مرضك انشغلتُ عنه، لأكفِّر عن تغافلي عنك طوال عمرك، ولأن اهتمامي الفائض به لم يزده إلا أنانية. عندما اتصل بي من كافيه نت بميدان طلعت حرب وأخبرني أنه حصل على 97,5 %. كنتَ على وشك الخروج من مستشفى معهد ناصر. كان الفرح في هذه اللحظة صعبًا، مع هذا شعرتُ بالرضا وتمنيتُ له التوفيق. منذ هذه اللحظة، قرَّرت أن أحاول نسيانه، كي يكتشف بنفسه أن فكرة سفره إلى ألمانيا لاستكمال الدراسة آن لها أن تختفي، لتحل الآمال القابلة للتحقق محلها. سألته بترقب:
"وناوي تعمل إيه".
"خلاص.. الأمر محسوم".
"يعني إيه مفهمتش.. عايز لسه تسافر ألمانيا؟".
"هادخل صيدلة".
أستريح لأن خطتي آتت ثمارها. أنهي الحوار في هذا الأمر، ثم أدخل إلى الغرفة، لأحضروصل الرسوم الذي أعطوني إياه كي أحصل على التأشيرة، بعد أن اصطحبني يوسف قبل سفره إلى سفارة مالطا في الزمالك، بمجرد أن جهزتُ الأوراق المطلوبة على عجل، وتركني هناك معتقدًا أنني سأبقى ساعتين حتى أنتهي من كل شيء، لكن المكان كان هادئًا، كأن أحدًا لا يسافر إليها. ما إن ظهرتْ الموظفة خلف الحاجز الزجاجي وتحدثتُ إليها بمايك من مكاني، ثم سألتني عن سبب زيارتي ومصدر حسابي البنكي، حتى استلمت الأوراق وخمسمائة جنيه قيمة استخراج التأشيرة، ثم أعطتني إيصالاً قائلة إن أيَّ أحد بإمكانه استلام التأشيرة نيابة عني مادام يحمل الإيصال. خرجتُ إلى الشارع واتصلتُ بيوسف وقلتُ له إن الإجراءات انتهت، فعاد مندهشًا من سهولة الإجراءات وأقلَّني من أمام السفارة لأبقى في سيارته حتى أنهى أموره. أعطي الإيصال لعبد الرحمن، كي يبقى في محفظته دومًا إذا طالبته بالذهاب لإحضارها في أيِّ وقت وهو بالخارج. يضحك ويسألني:
"هوَّاا الحاج احمد جوزك عارف بحدوته مالطة دي؟".
أجيب بلا. فيقول:
"يبقى مش هتشوفي مطار بولاق حتى".
أفتعل ضحكة.أطالبه بالخروج إلى الصالة، ليمنحك اهتمامه، وليخبر أباك بأمر تنسيقه الجامعي.
بتطابق الأحداث اليومية تسير أيامُنا في الشروق، حتى مداهمة طقوس شهر رمضان لم ترسخ إلاَّ لتشابه سلوكنا، أستيقظ، بعد ليلة بائسة أجاهد فيها الكوابيس، يداهمني الأرق خلالها كثيرًا، أدور في الشقة فأجد حبيبة تتحدث في ركن مع صديقاتها في الهاتف، مستغلة الساعات المجانية الليلية، منذ أن بدأت شركات المحمول هذه الخاصة، تبدل ليلها نهارًا، وقضت وقتها في سماعة الهاتف. ما إن ترَنِي مُقبلة من جهة الردهة حتى تتجهَّم ملامحها. أعرف كل ما يدور بداخلها، تريد أن تقضي إجازتها في الخروج مع صديقاتها، بعد ازدياد وزنها مؤخَّرًا وتجلي جمالها، مستعرضة ملابسها أمام الشبان، الذين يتجمَّعون ليلاً في الشارع الرئيسي، أو التقاء صديقاتها في شقتنا في النجع، ليدور الهمس الذي لا أستطيع سماعه. ترى في مرضك يا زياد مصيبة وقعتْ على رأسها فقط، لأنها حُرمتْ- بالبقاء في هذه المدينة المهجورة- ممَّا خططت له. في البداية، عندما تأكد أمر الورم أصيبت بصعقة، وشعرت بمسئوليةٍ ما تجاهك يا زياد. قالت لي عندما كنتُ في غرفتي بمفردي بعيدًا عنك:
"حاسَّة بتقصير يا ماما.. تفتكري كان لازم أكون قريبة من زياد أكتر؟".
هوّنت عليها وقلتُ:
"كل واحد فينا قصَّر في حقِّالتاني.. متحمليش نفسك فوق طاقتها".
تلبَّسَتْها هذه الحالة عدة أيام، بعد مجيئها مع أمي، لتبقى هنا معنا. قامت خلالها بالبقاء جوارك طوال الوقت. نامت ليلاً مثلنا وظلت مستيقظة طوال النهار. إذا دخلتُ المطبخ لإعداد الطعام لك تُوقفني وتبادر في تجهيزه. بعد أيام لم تتحرَّج وأعلنتْ تبرُّمها، لكنني تجاهلتُ ما أبدته كله، ثم اقترحتْ أثناء نقاشنا حلاًّ؛ أن تبقى في شقتنا بالنجع بمفردها، أو يبقى عبد الرحمن معها، لكنني رفضت، مُصِرَّة على أنَّ وجود الجميع حولكسبب أساسي في شفائك. لم أتوقَّع أن تأخذ جانبًا بمجرد رفضي وتعيش عزلتها. أحيانًا تتعاطف معك، وتلتقيك في ساعات الصباح الأولى، بعد استيقاظك جائعًا، وقبل خلودها إلى النوم طيلة النهار. تتبرَّع بإعداد الفطور لك. تُخرجك مما تعاني منه بالحديث عن إمكانية شفائك. تدَّعي أنها تعرف صديقة أصيبت مثلك بورم في المخ، وأن العلاج شفاها، ثم تذهب للنوم، وتبقى نائمة إلى أن توقظها أمي قبيل المغرب، لتعد طبق السلطة. تهب مستيقظة أحيانًا وترفض القيام في أيام أخرى، مرجئة لحظة الإفطار للعشاء. حتى عبد الرحمن، يأتي فقط تحت إلحاحي كلما حدثته في الهاتف، ليبقى ساعات متبرمًا من تطرُّف مدينة الشروق عن القاهرة، وصعوبة المواصلات إليها، ثم يبدل ملابسه ويخرج مجددًا. هل كانت حياتنا مُنفِّرة إلى هذه الدرجة حتى ينصرف عنا هكذا! أحمّل أحمد ما وصلت إليه العلاقة بعبد الرحمن، لأنه لم يحاول يومًا أن يتقرَّب إليه، وعندما داهمه المرض، واحتاج إلى ابن يقف جواره، كان عبد الرحمن يجدف بعيدًا، ويفضل فعل أي شيء لمجرد الهرب من البقاء بالقرب.
ألا تلحظ يا زياد؟ دخلت فترة مرضك الماضي، من الممكن استخدام"كان"، " كنت" عند الحكي عنها. لم أكن أتوقع أن يتضمن ماضيَّ كل هذا العذاب. قبلك كنت أعتقد أن العذاب يشبه غرز دبوس ضاغط في القدم، ينزف بضع قطرات من الدم كل خطوة،لكنه الآن لا يقتصر على القدم فقط. لا أعرف متى تلوح نهاية عذابي. أستيقظ مبكرًا وأدَّعي النوم. أغرق في الذكرى، أرقبك لحظة استيقاظك، والضحك يداهمك في أولى نوباته الصباحية، فتتساقط دمعاتي. جسمك كان آخِذًا في الانتفاخ. أرد سمنتك المفاجئة إلى رقدتك الدائمة دون نشاط، لكن الدكتور"علي" يلاحظ ما ألحظه ويقول:
"الكورتيزون بدأ يظهر عليه".
أستفسر كعادتي عمَّا يتفوَّه به فيشرح:
"متقلقيش لما كمان جلده يشقّق زي بطن الحامل".
أبتلع غصَّتي وأكتفي بقوله. هل تلحظ تلك التشكيلات الناتجة من رص بلاطات الغرفة بهذه الطريقة يا زياد، والسقف الذي يمتلئ ببيوت النور؟ انظر، يضع الدكتور دبوسًا بألوان العلم. لا تهتم بما يقول. سأبحث عند عودتي على الإنترنت عن آثار الكورتيزون. طوال عمري أسمع بسحره، وأنه الملجأ الأخير للأطباء. كنت أتصوَّره حبوبًا عملاقة، عندما رأيت عبوَّات الحقن أول مرة اندهشت. قال الدكتور أشرف إن مكان العينة يرشح مياهًا، لكن الدكتور علي أصر على استمرارك فيها، قال إن الإشعاع يحرق الورم، ويخلف رمادًا يجب التخلُّص منه،ورفع من الجرعة كثيرًا. لست طبيبة يا زياد. أصدق ما يقولانه وأنفذه. لا بأس من قليل من الانتفاخ. حتمًا لن تسمن للدرجة التي تصبح فيها بحاجة إلى كرسيين لتجلس.
أعراض الكورتيزون بمثابة أمراض لا تقل خطورة عن الورم، الجرعة التي تحقن بها- إضافة إلى الحبتين اليوميتين- كفيلة بأن تجعل سطح الأرض إذا حقن بها ينبتُ جبلاً.أردِّد بصوت خفيض: "فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" لا أحصي كم مرة أردِّدها في الساعة الواحدة. أحاول الهرب مما يحدث بالبحث عن ذكرى تلتهم وقتي، فلا أجد سوى حياتي السابقة، أعيد تشكيلها كقطع المكعبات، أغيِّر فيها كما أريد، وأتخيل شكل حياتي لو لم تحدث لي، لكنها في النهاية لا تأخذ سوى شكلها الأول، الذي حدثت به، ومنطقها المقيت نفسه، أنفض نفسي من كل شيء بالذهاب إلى المطبخ. أغسل صحون السحور.أرتبكل شيء قامت حبيبة ببعثرته قبل أن تنام. أسمعك تنادي باسمي مجردًا كما اعتدت دون لقب "ماما". أعود إلى مكانك في الغرفة. تطلب مني الطعام قائلاً:
"احشيلي ست ارغفة وكتَّري الجبنة".
تسألني قبل أن أذهب:
"هو لسة فيه لحمة ورز من امبارح؟".
أجيبك بنعم فتقول:
"طيب سخنيه علشان اقضي عليه كله".
يؤلمني مزاحك. أذهب لأجهِّز لك ما تريده، متلفِّعة بذكرياتي القديمة والحديثة. مندهشة من قدرتك على تقليص المحنة في جمل ساخرة، تقولها بطريقتك غير المفهومة تمازحني بعد عودتي قائلاً:
"برضو مصمتش رمضان السنة دي، شفتي.. مش مكتوب لي الصوم".
في إشارة منك إلى غضبي السابق بسبب إفطارك في رمضان مدعيًا أنك مازلت صغيرًا. في الوقت الذي وصلتَ فيه إلى سِنِّ الصوم. تراودني فكرة أن أبحث عن اسم المهرجان، الذي جاءتني دعوة حضوره في إحدى الأمسيات،حتى هذه اللحظةأُخفي خبر المؤتمر عن أبيك. لست جادة في الذهاب يا زياد، على الرغم من إعلام مدير المهرجان بالموافقة، وإرسال القصص والصورة وإنهاء إجراءات التأشيرة، في هذه التصرفات استراحة لألتقط أنفاسي بعيدًا عما أمُرُّ به. لا أعرف. قد أكون كاذبة. ربما أنا جادة. أضع اسم المهرجان كما وصلني في الإيميل بخانة البحث. أجد صورتي التي أرسلتُها مع القصص، مكتوبًا أسفلها اسمي مقترنًا بكلمة "novilest" على صفحة المهرجان. أشعر بارتياح. يتمدَّدَ فضولي إلى معرفة المشاركين ومن أيِّ الجنسيات، وبرنامج الترفيه وكل ما يخص الحدث. لا تلمني.. أعتبر المشاركة حلمًا مرتبطًا بشفائك.هل أحكي لك كيف أصبحت كاتبة؟ الرحلة لم تكن سهلة، لكنها لم تكن مستحيلة. لنعود أولاً إلى أسباب اتجاهي إلى الكتابة، إلى علاقتي بأبيك. فوراء كل كاتبة قصة شرسة. حتى إذا كانت من صنع خيالها، تضعها أمام خيارين: الجنون أو الكتابة. كلاهما وجهان لحالة واحدة، هي التعاسة.
ما إن انتهى العام الدراسي حتى بدأ أبوك في التحرك لنقلي إلى النجع. كانت محاولاته تضايقني، استرحتُ في مدرسة خارج النجع. عندما بشر القمح في نهاية العام في الحقول حول المدرسة كنتُ أتوغل بعيدًا أقطف السنابل. اعتاد المزارعون على طقوسي فلم يضايقني أي منهم. كان مبرره للسعي في نقلي أن توجيه مادة التاريخ عيَّن مدرسًا أصغر مني في إحدى مدارس النجع، هذا التصرف يعتبر إهانة لمكانته وتعديًا على حقي ثم أكمل قائلاً:
"مش هاقدر أقف ساكت قدام ظلمهم ليكي".
لم أجد عبارات مناسبة توضح له اندهاشي، فتحدثتُ بصمت معه كالعادة:
"ما انت يا أحمد ظالمني.. ليه يعني مش قادر تتحمل ظلم التوجيه ليا".
أدهشني أنه يسعى لنقلي لأنه شعر بالإهانة. لم يلحظ أني كنت طوال العام أعاني من سيارات الميكروباص، والخروج بعد الفجر أجرجر الولد والبنت. لم يهتم بما كوَّنته من صداقات، لكن الأمر انتهى بنقلي إلى مدرسة في منطقة شعبية وسط السوق بالنجع، لأن خبر حملي بك نزل عليّ كصاعقة. هل تذكر؟ حكيت لك عن هذا. استرجع ما قلته لك، واربط الأحداث يا زياد..
في هذا التوقيت، انطلقت الدعاية الانتخابية، ولأول مرة أرى إقباله على الحياة، يتخلى عن صمته ويُخبرني بوجهته التي لم تكن سوى زيارة قرية نائية أو كوم يقع على حافة الصحراء بصحبة الفولي، لعرض الخطة المستقبلية التي ينوي أن يناقشها تحت قبة البرلمان. كنتُ أتسمع كل يوم نتائج ما يقوم به الفولي من المدرسة التي انتقلت إليها. ما إن أدخل صباحًا حتى يتطوع بعض المدرسين بذكر المكان الذي زاره أحمد بصحبة الفولي أمس، والحفاوة التي قوبل بها، بل ينسحب كلامهم إلى ضعف منافسيه وتحركاتهم لكسب الأصوات، وأحيانًا كان أحدهم يخبرني معتقدًا أني سأنقل ما قاله إلى أحمد، الذي سينقله بدوره لأهميته إلى الفولي، بأنهم لا يعيرون المنافسين انتباهًا، ويقومون بمحاربتهم بالشائعات حينًا، وما هو حقيقة حينًا آخر. كنتُ مندهشة من الاهتمام الذي يوليه البعض لي لمجرد كوني زوجته! كان معظمهم ممن تخرج في مدرسة المعلمين والتحق بالعمل في مدرسة إعدادية كاستثناء لنقص المدرسين، وبمجرد رؤيتي يعلنون انبهارهم بزوجي. يتذكر أحدهم وسامته ويسترسل آخر بالحكي عن شياكته. لم أكن أرى في أعينهم سوى صورة قديمة وربما زائفة له تبدلت في غفلة منهم، لتبقى صورته التي كنتُ أراها وحدي. عند رجوعي إلى البيت أبادر بذكر كل ما مر بي، والتشديد على ذكر ثنائهم له، بهذه الطريقة استطعتُ أن أسمع من لسانه مباشرة قصته التي سردتها لك سابقًا يا زياد، كلما وجد نفسه في ما أحكيه، واستعاد أمامي كيف كانت صورته قبل خمسة عشر عامًا.
بالمصادفة عرفتُ كيف أجُرُّه إلى حديث لا يمل منه، أسأله كل يومين السؤال نفسه:
"تفتكر الفولي هيفوز في الدورة دي؟".
يسترسل في ذكر تاريخه ويُعدد محاسنه، ودون أن يعي ذَكَرَ أن التصاقه بالفولي لا يمنحه نوعًا من السعادة فحسب، بل يمنح شخصيته بُعدها الأمثل، وهو اهتمام الآخرين به. كنتُ سعيدة بصوته الذي تردد في الأرجاء فجأة لأول مرة. فيما بعد ضبطتُ نفسي أكثر من مرة متلبسة بالاهتمام بأخبار الفولي، والتحدث بها في مكان آخر كأني مصدر الخبر الأول، ومع الوقت اطلعت على تاريخ الرجل، ووجَّهت اهتمامي لتتبع أخبار حملته الانتخابية والإعجاب بما يحققه، حتى إذا لم يقدم شيئًا يُذكر للبلدة التي ينتمي إليها أو للنجع بصفة عامة. يكفي أنه حقق أسطورته الخاصة، واستغل غباء الجموع ليصل. كي تكون زعيمًا لا يلزمك سوى قطيع من المُضلَّلَين! هكذا قرأت مرة. وجدتُ الفولي يطبِّق هذه المقولة دون أن يُرهق نفسه بالقراءة. لم يكن هناك غبار على فوزه، على الرغم من قوة منافسيه، لأنه دون خوف من تسرب أسراره استطاع كمرشح للعمال أن يتفق مع حليفه من الفلاحين، بأن يتبادل كل منهما ما لديه من أصوات، على أن يتوحَّدا في المطالب التي سيقولها كل منهما للسعي إلى تحقيقها تحت القبة، لم يكن هناك صراع يُذكر بعد عقد هذه الاتفاقات مع الجميع. كانت الزيارات إلى الأماكن البعيدة، وتعليق اليافطات التي ترسخ لدى الجميع تاريخه الطويل كنائب عن دائرته، لقاء شيوخ القبائل وممثلي العصبيات، وإلقاء خطبة أو اثنتين هنا وهناك وسط الجموع في المراكز الشبابية، نوعًا من الروتين الذي يجب أن يحدث فقط.
كانت المدرسة الجديدة في مكان لم أطرقه من قبل، تقع وسط مجموعة من البيوت المتهالكة. كانت جزءًا من إسطبل الخيول التابع لقصر البرنس يوسف كمال، مبنية على الطراز الإنجليزي، يُحيطها ممر مغطى ببوائك خشبية وقراميد برتقالية. ارتفاع السقف من الداخل يزيد عن أربعة أمتار. كانت من المباني القديمة التي احتفظت بهيئتها بعد الموجة التي اجتاحت الكثيرين وجعلتهم يهدمون ممتلكاتهم من المباني القديمة، التي أعطت للنجع سمته المميز في عصر سابق، جميعها كانت مكونة من دورين وشرفة محاطة بمشربية، هُدمت لتحل محلها مبانٍ حديثة لا تحافظ على وحدة الشكل العام مع باقي المباني حولها فبدت كما لو كانت مبانيَ عشوائية. لم تختلف نوعية الطلاب عن طلاب المدرسة السابقة، فقط يواظبون على الحضور صباحًا، تسجل إدارة المدرسة حضورهم. بعد الحصة الثانية يتقافز معظمهم من الجزء المهدم من السور. للعمل كحرفيين وبائعي خضراوات. على كل حال يا زياد، كان في هذه الخاصية ميزة لا يجب أن يغفلها كلانا، فكل سائقي الحنطور يعرفونك الآن. لا يأخذون منك مالاً، لأنهم كانوا طلابي وقت أن كنت صغيرًا، تقضي معظم الوقت في تقمص دور المَعلم، أثناء ضربه الطلاب بالعصا على مؤخراتهم.
لم يكن الوصول إلى المدرسة يستغرق سوى ربع ساعة، وسط تيار بشري لا يهدأ. بمجرد اجتياز الشارع الذي أسكنه وأشق الزحام في سوق الكويت، الذي تكدَّست فيه البطاطين والمراوح وأجهزة التسجيل والمفارش السورية وكل ما جلبه العاملون من الدول العربية، وقرروا المتاجرة به لظروف طارئة، ثم أدخل إلى شارع بورسعيد حيث منطقة الطوابين وتيار الحياة الهادر بروائح السمك المقلي والطعمية وبائعي الخضراوات ومحلات تبيع كل شيء، قبل الوصول إلى كورنيش النيل حيث موقف المعدية التي تنقل العابرين إلى الناحية الشرقية من النيل، أعرج بالسير في شارع ضيق يمتلئ ببرك المياه بعد أن تُلقي النسوة مياه غسيل الملابس والمواعين في وقت باكر من الصباح، ليتحول السير فيه بعد أقل من عشر دقائق إلى مغامرة من الصعب التكهن بنتائجها. كانت المنطقة بكاملها- على الرغم من وقوعها في قلب المدينة- تستخدم طرقًا بدائية في الصرف، بحفر مستودعات تحت البيوت تستخدمها لتخزين الخراء، ثم تأتي سيارة مخصصة لنزح المستودع نظير أجر معلوم كلما طفحت على أهل البيت. كان النجع يأخذ شكلاً جديدًا لم أكن أراه من قبل، بزحامه وصخبه ومشاجراته، كنتُ قد توصلتُ إلى قناعة لم يكن هناك مفر منها: إن ما يصادفه الإنسان يجب أن يحدث له شاء أم أبى، بهذه الروح استمر بقائي متقبلة كل ما يحدث كمدرِّسة للدراسات الاجتماعية في المدرسة ست سنوات كاملة.
في الوقت نفسه، كانت معلوماتي عن وضع أبيك المالي تكتمل. بعد أن راقبتُ تصرفاته في صمت وصبر شديدين. اكتشفتُ أنه لم يكن يمتلك سوى ما أنفقه على زواجنا، بعد أن استطاع ادِّخاره ممَّا يتبقى من ريع جنائنه والعمل كمعلم سنوات، وفي الوقت الذي كنتُ أرى الأراضي التي يمتلكها شاسعة لدرجةٍ كنتُ أشعر معها بالاطمئنان، كانت هذه الجنائن لا تدر سوى ما يستطيع أن يُسيّر به حياته بالكاد، وبتدبير كبير، بعد خصم أجرة العمال الذين يعزقون الأرض، وثمن السماد والمبيدات الحشرية، وبعد أن يقتسم مع أخيه عبد الفتاح المبلغ كيفما اتفق، يأخذ أخوه الجزء الأكبر، لأنه تحمَّل متابعة كل شيء، بعد أن غادر أحمد البلدة للإقامة في النجع، واقتصر ذهابه على زيارات خاطفة تقل كلما اتسعت دائرة علاقاته بالنجع. لا يقوم فيها إلا بدور الإشراف السريع كناظر زراعة. اعتقدتُ في البداية أن تقشفه ليس حقيقيًّا. يمارسه كيلا أطمع في شراء ما يراه فائضًا من الأشياء، أو أنها طريقته في الحياة! لكن امتلاك المال يعلن عن نفسه بسفور. حتى إذا بخل به الزوج على زوجته. لا أعتبر اكتشاف عدم امتلاكه المال خداعًا من جانبه، لم يصرح لي بوضعه المالي قبل زواجنا، ولم يقل شيئًا يشي بالحقيقة، فقط التزم الصمت، وألصقتُ على صمته كل ما تمنيته عنه، حتى التقرير الذي توصَّل إليه يوسف، لم يكن لأحمد يد فيه. كانت فكرة الآخرين عنه، التي ربما صمت عن تكذيبها تحقيقًا لمقولة "الصِّيت ولا الغِنَى" فلما سألته مستفسرة قال بوضوح: "ممعاييش فلوس". إزاء تصريحه بدأتُ أضع خطة للإنفاق، وأدخلتُ راتبي الصغير ضمن الصرف، كيلا أرهقه بما لا يقدر على تحمله. مع ما توصلتُ إليه من معلومات، اكتسبتُ جرأة لأضع تصورًا نهائيًّا عن شخصيته، بعيدًا عن التخيل، والصورة التي يعرفها الآخرون عنه، وساهموا بتصديقها في الترسيخ لها كأنها تاريخ موثق. لم أكن بحاجة إلى من يحكي لي عنه. امتلكتُ- بعد سبع سنوات وعدة أشهر معه- تاريخي الخاص الذي أركن إليه، لأكوِّن رأيًا أثق به. واعتمدتُ على بعض الأحداث الصغيرة، التي كان من الممكن ألا أتوقف عندها لو كانت حياتي مختلفة. كانت المرة الأولى عندما تعطلت حنفية المطبخ، وطلبتُ منه أن يبحث عن سباك ليُصلحها، فما كان منه إلا أن اتصل بصديق له، ليقترح سباكًا يثق في قدراته. أدهشني ما فعله. وعندما أنهى المكالمة أخبرني بأن صديقه سيرسل سباكًا في اليوم التالي، ولأن الحنفية لا تنقط مياهها في بيت صديقه، لم يأتِ السباك، وحللتُ مشكلة التنقيط بإغلاق المحبس حينًا، ولفّ الحنفية بالخرق الممزقة حينًا آخر، وظل الحال هكذا عدة أيام، كلما سألته: "فين السباك؟"، عاود الاتصال بصديقه، يحكي معه في أمور كثيرة يكاد معها ينسى الحنفية. إلى أن صرختُ في وجهه قائلة: "لو مصلحتش الحنفية النهارده هارمي نفسي من الشباك!"، لكن إلقاء نفسي من الدور الرابع كان أسهل، لأنها ظلت يومين كما هي، تُغرق كل من يقترب منها. إلى أن أحضرت جلدة كانت في صندوق خصصناه للأشياء القديمة، ووضعتها بين الحنفية والماسورة، ثم أعدتُ ربط الاثنتين، وجربتُ الحنفية فاختفى التنقيط. نظر أحمد إليَّ بإكبار، كأنني أضفت إلى قائمة الاختراعات جديدًا. بعد هذه الحادثة، استعرضتُ ماضي الأعطال في البيت، واكتشفتُ أن أحمد يقف عاجزًا أمام كل شيء يتعطل، ولا يُبادر بالبحث عمن يصلحه إلا بوسيط يستشيره أولاً، ثم يوكل إليه إنجاز المهمة. كان الأمر يبدو لي في البداية نوعًا من البهوية المتأصلة في شخصيته، تجعله مترفعًا عن الانزلاق إلى الأعمال الحرفية، وتدفعه إلى تكليف أحدٍ للقيام بها. دخل بهذه الحجة رجال كثيرون غرباء إلى بيتنا، وحملوا ما هو معطل ليعودوا به في وقتٍ لاحق مُعطَّلاً أيضًا. أحداث كثيرة مرَّت أمامي وفسرتُها بالطريقة نفسها، كلما فرغت أنبوبة البوتاجاز، وبقينا يومين نأكل الجبن والتونة، حتى يجد من يهديهأنبوبة، أو يبيعها له بأضعاف سعرها، يصعد بها السلالم ويُركِّبها بنفسه، ثم يشكره مشددًا في نهاية حديثه على لفظ "يا بيه" وعندما تعطل التلفزيون، وكان يلزمنا فقط رجل يحمله إلى محل الصيانة، استأجر رجلاً ليذهب به، ولم يكلف نفسه عناء الذهاب معه، وظللنا أسبوعًا لا نعرف أين ذهب التلفزيون، لأن الرجل اختفى بعد هذه الليلة، دون أن نعرف عنوانه. هكذا وضعتُ الحدث جوار الآخر، ورأيتُ صورة أحمد الحقيقية في النهاية. كان أحمد الطفل المدلل لأبيه، بتحليل أدلة إنجازاته، اكتشفتُ أنها نفسها نقاط ضعفه. عندما كان يحكي أنه حصل على شهادة الثانوية من بورسعيد، ويفخر بحصوله عليها من هناك، كنتُ أرى أنه ما كان ليحصل عليها إلا باقتراح أخيه صلاح الذي التحق للعمل هناك وقت تعثره في دراسته، لم يكن اقتراح أخيه سوى حيلة محكمة لكسب ودّ أبيه، وعندما طبقتُ تحليلي نفسه على قصة حصوله على الشهادة الجامعية من ليبيا، اكتشفتُ أيضًا أن مصادفة وجود أخيه الأكبر محمد معارًا في ليبيا هي ما جعلته يحصل عليها من هناك، كي لا يمر بإخفاق جديد، ليصبح- دون صعوبات تذكر- من خريجي الدفعة الثانية بجامعة قاريونس. حتى عندما ورّث أبوه الأرض له ولأخيه عبد الفتاح، استكان إلى ما كان يقرره عبد الفتاح، وترك له الأمر برمته، واكتفى بدور المشرف، كلما حدَّد أخوه نوع المحصول، وكمية السماد، وعدد الأنفار الذين يستأجرهم، ثم المبلغ المستحق لكليهما بعد خصم المصاريف. كان أحمد الرجل المنسحب بامتياز، ونجاحاته التي حققها على مدار حياته، لم تكن إلا بفضل المصادفات السعيدة وحدها. الآن أتساءل: ماذا كان سيفعل لو لم يساعده الفولي في الحصول على عمل؟ لقد أثبت جدارة في القدرة على خسارة كل تجربة اجتازها، ولم يقدر على الاحتفاظ بمن أحبها قلبه، وما نجاحاته العاطفية في تجارب عابرة إلا رغبة في متعة لا تشوبها أدنى مسئولية. حتى زواجه مِنِّي لم يكن ليتم إلا بضغط أصحابه، ليس لأنه لا يُريد أن يتزوج، بل لأنه لم يعرف الطريق إليه. ظل صامتًا منتظرًا، واعتقد الآخرون في صمته كل ما كان بداخلهم عنه، فمرة قالوا إنه مغرور، ومرة قالوا إنه راهب ومخلص لحبه السابق. إذا أشار صديقه إلى بيت فتاة أخرى في ذاك اليوم لذهب وخطبها. الآن أثق أنه أحب نهلة بالانسحاب نفسه الذي تركها به، لتبدأ حياتها مع شخص آخر، وتتركه لي، كتلة هامدة لا حياة فيها.
كنتُ سعيدة بما توصلتُ إليه عن شخصيته. المشكلة كانت بداخلي أنا، لأنه منذ اللحظة الأولى كان واضحًا، مع هذا لم أرَ مثل الآخرين إلا ما أردتُ رؤيته، فأسبغتُ عليه هالةً من الجلال، وفسَّرتُ صمته ووضعه المالي وشخصيته بما يُريحني ويحقق لي الاطمئنان، بعد هذه النتيجة ليس عليَّ إلا أن أستمرَّ في قبوله كما هو كزوج لا يعرقل وجوده حياتي، وأحاول فقط، ألا أرتبط به إلا بما يحافظ على مظهرنا كعائلة، كيلا يجُرَّني دون أن أشعر إلى القاع. لا تعتقد أنني كنتُ بائسة لدرجة كبيرة يا زياد بالوصول إلى هذا الرأي. أحيانًا يصبح الوصول إلى الحقيقة المُرة أخف وطأة من التخبُّط وعدم إدراك الحقيقة. في هذه الليلة فتحتُ دولاب أبيك كي أرتب ملابسه. وجدته نسي علبة سجائره. أخذت واحدة ودخلتُ المطبخ. أشعلتُها ونفثتُ دخانها في الهواء. كانت كل مشاكلي تتضاءل. وبمجرد أن أنهيتها كنتُ قد امتلأتُ بالدخان كبالونة، تخبطتُ في الجدران وارتفعتُ إلى السقف، ثم هبطتُ ببطء فارغة وذابلة إلى الأرض.
هل نمت يا زياد؟ ماذا ترى في حلمك؟ ليتني أستطيع أن أكون أنت. ليتني ابتليت بدلاً منك. لم أكن لأغضب إذا خرجت وتركتني مريضة لأكل سندوتشات الكبدة. يقولون إنها كبدة كلاب، فسر لي انتشار عربات سندوتشات الكبدة؟ حقًّا الكلاب ليست متوفرة، لكن الأبقار ليست رخيصة.دعني أحك لك قصة. هل تعرف لماذا شفة الأرنب مشقوقة؟ لماذا الإنسان غير خالد؟ كان يا ما كان.. أرسل القمر رسالة مع القملةيومًا لتعدالإنسانبالخلود. كان القمر إلهًا صغيرًا مدللاً من باقي الآلهة. كانتالرسالةتقول: "كماأموتوفيموتيأحيا.. كذلكأنتستموتوفي موتكتحيا".وصادفالأرنبالبريالقملةفي طريقها،ووعدبنقل الرسالة، غيرأنهنسيهاوأبلغرسالة أخرى بديلةوخاطئة:"كماأنيأموتوفى موتيأفنى.. كذلك أنت تموت وفي موتك فناؤك..فضربالقمرالغاضب الأرنب البريعلىشفتهفشقها، وظلتمشقوقةمنذذلكالحدث.ألا تروق لك القصة؟ لا عليك. سأختار المرة القادمة بعناية. لم أقل لك كيف أصبحت كاتبة. ربما هو قدر. ألا أكتفي بمشكلاتي وأعيش أزمات أبطالي أيضًا! الذين كما أخترعهم أخترع لهم عقدًا ونفسياتٍ غير سوية. القراء لا يعرفون لماذا شخصياتي مركبة. ربمالأنهم لا يعرفون نظرية النص الغائب، التي تقول إن وراء كل نص يُكتب قصة حقيقية، تنبثق منها كل القصص، بانزياح خفيف. يكتفي القارئ بالقصة الظاهرة فقط. ليظل النص المتواري معينًا خافيًا، ينهل منه الكاتب كل قصصه.
في واحدة من الحملات التي كنتُ أشنها لتنظيف الشقة، وجدتُ كرتونة مليئة بالروايات. كانت كل ثروتي بعد عودتي من القاهرة. سحبتُ الروايات لتصفُّح عناوينها كأنني لم أستغرق في قراءتها من قبل. على الرغم من انتظامي في القيام بالأعمال التي تحفظ أعمدة البيت قائمة، والمذاكرة مع حبيبة وعبد الرحمن كان لديَّ فائض وقت. عدتُ إلى قراءة ما وجدته منها، أستغرق فيما أقرؤه حتى يسحبني صوتُ أحدكم من العالم البعيد. إذا احتاج أيٌّ من منكم شيئًا أقوم بعمله دون تكاسل، كي تتركوني للقراءة، وبتحايل بسيط خلقتُ لكم انشغالاً يساوي وقت انشغالي في القراءة، بأن اشتريتُ لكم ألعابًا تعليمية، وكراسات التلوين، وحلويات مغلفة وكل ما من شأنه أن يجعلكم تبقون في غرفتكم. كانت العودة إلى القراءة ضرورة حتمية، تنقذني من تعاستي. في وقت لاحق، سمحتُ لحبيبة بالبقاء عند بنت الجيران، والخروج معها مصطحبة عبد الرحمن إلى نادي الطفل المسلم، عند رفض أحمد خروجهما عارضتُه، ووضعتُ أمامه خيارين لا ثالث لهما، إما أن يصطحبهما إلى البلدة كلما ذهب إلى هناك، أو يتركهما يذهبان إلى أقصى مكان أرتضيه، ولأنه لا يفضل وجودهما معه وتحمل مسئوليتهما ساعة من الزمن وافَق، وبدأتْ جولاتهما تغشي شوارع النجع. يعودان بمظهر المتشردين نفسه، الملابس الممزقة والطين الذي يلطخ وجهيهما، لكنني تحملتُ كل ما كانا يفعلانه، ليحصلا على سعادة لا أجيد توفيرها، ويوفرا عليَّ عناء فض شجارهما كل ساعة، وعندما افتتح منتزه سوزان مبارك للطفل، ثم مكتبة سوزان مبارك لأدب الطفل، بعد تسوية المكان الذي بُنِيَ فوقه خندق للاختباء أيام الحرب في شارع 15 مايو، كان أولادي أول المشتركين.
كلما بدأ المساء، وانسدلت أستار الصمت، تنتابني حالة الكآبة، لا شيء مع هذه الرائحة التي أشمها وحدي في الأجواء قادر على أن يخفي الكائن الذي يتعفَّن بداخلي. مع كل ما احتطتُ به، لم أتحصن من الإحساس بالكآبة أبدًا، لا تتغير عادات أحمد، يخرج كل يوم في ميعاده وفق ساعة داخلية تتكتك بداخله فقط، وأنتم تذهبون للنوم في ساعة مبكرة. أذهب إلى الدولاب وأُخرج السيجارة التي سرقتها قبل نزوله وأدخنها بشراهة مدمن. أحرص على أن تظل البلكونة مشرعة في الصالة، مع فتح شباك حجرتي في أقصى مكان بالداخل ليجري الهواء ويطهر البيت سريعًا من الدخان. مع كل نفس أستعيد أسباب إحباطي واحدًا واحدًا، ثم أنقلب على نفسي معترفة بأني أُضخِّم الحالة، ومن الممكن أن أسعد بأشياء وهمية، بأن أتخيل ما أريده، وأكوّن صداقات، وأعود لرؤية المسلسلات، والنميمة على البسطة مع الجارات، بعد ذلك لا أجد ما أفعله، أدور في حلقات وهمية كحيوان حبيس. بعد يومين طرأت الفكرة التي رأيتها جيدة، محاولة جديدة لاستعادة أحمد، وقبوله بشخصيته التي كوَّنتُها عنه، علَّ حياتي تستقيم بوجوده. أمسكتُ بالورقة والقلم وقررتُ كتابة ما يؤلمني، ثم عدَّلتُ الفكرة بعد دقيقتين لأوجه كلماتي إليه كأنها رسالة. رأيتها وسيلة مناسبة ليعرف مشاعري وما ينتابني من قهر ووحدة. تدفقت الكلمات بزخم، كانت مناجاة، قطعة أدبية. وزعتها في الأركان، لكنه كان يعبُر بجوارها ولا يراها، وعندما وضعتُ الطعام على السفرة أزاح الورقة جانبًا، تذمر من وجود هذه الأوراق، فقامتْ حبيبة بجمعها مع عبد الرحمن وصنعا منها مراكب ورقية عوَّماها على المياه في طبق الغسيل.
بسطوع ضوء أنار أقصى مكان بداخلي، تلك الحالة التي يتوهج فيها فجأة فيظلم المكان حولنا وينير داخلنا، لنرى قرارًا مكينًا لم نكن لنراه لولا إلهام ما، وقبل أن ينطفئ مجددًا نقع على الحل. وصلتُ إلى ضرورة أن أكتب، مستغلة تجربتي الفاشلة في أدب الرسائل. كان التوصل إلى هذا الحل بمثابة ربطي بأحزمة قوية إلى صاروخ وإطلاقي في الفضاء، وبجهل كامل عن معنى الكتابة أمسكتُ الورقة والقلم، ظللتُ أخطط الصفحة وأرسم أشكالاً تكعيبية ومربعات ودوائر فقط. لا أعرف من أين أبدأ، عند ابتعادي عن الورقة وقيامي بأعمال البيت تأتي الكلمات والفكرة، أكتب على الهواء أثناء غسيل الصحون، ومسح البوتاجاز، وترتيب الفوضى، وكلما جلستُ لاعتقالها على الورق لا أجد شيئًا، فاستعنتُ- لأخفف الضغط وأنعم بسلام روحي- بالأشياء القريبة، كانت الكتابة أشبه بتمرين في الرسم، تذكرتُ عبارة مدرسة الرسم في المرحلة الابتدائية، كلما رأت رسوماتي الركيكة. حاولتْ توجيهي برغبة صادقة كي أتخطى حاجز العجز: "ارسمي التلفزيون.. اقعدي قدامه وخدي بالك من الأجزاء الظاهرة وارسميها". ما إن نفَّذتُ كلامها حتى وجدتُ صورةً للتلفزيون مرسومة على الصفحة البيضاء، باعوجاج طفيف لا يقلل من إتقانه. بهذا المفهوم بدأتُ في كتابة الأشياء المنظورة فقط، لم يكن ما أكتبه قصة، ولا شعرًا ولا مقالة، كان مزيجًا من اللاشيء. وبهمة كبيرة كتبتُ عن الذكورة في المجتمع، وعن إهمال البلدية تنظيف الشوارع، وعن علاقة الزوج بزوجته. كتبتُ عمَّا أراه كله. كلما انتهيتُ من كتابة موضوع أضعه داخل دوسيه خصصته بفخر داخلي لحفظه، ثم أبدأ التفكير في الموضوع التالي، وأجده مكتوبًا على الهواء والسرائر والسجاجيد، وعلى صفحة مخيلتي. إذا أخفقتُ عند الجلوس لكتابته أشعر بصهد ينضح من مسامي، لا تستقر روحي حتى أفرغه وأستريح، على الرغم من إحساسي بأنه ليس مطابقًا لما أريد كتابته تمامًا، وأن ثمة شيئًا آخر كان يجب أن أكتبه. بعد حين، اكتشفتُ أن الكتابة عن الأشياء غير المنظورة تمنحنا القدرة على التخيل بمعناه الواسع المطلق، وأنه كان من الأفضل منذ البداية أن أرسم جزء التلفزيون الذي لا يظهر. عندما امتلأ الدوسيه عن آخره آمنتُ بأني كاتبة يُعتد بها، وكان عليَّ البحث عن شخص يمتلك صبر أيوب ليقرأ كل ما كتبته، لكني لم أجده.
انتهى الأمر بي إلى كتابة القصة. بعد قراءة قصة "الرهان" لتشيكوف بالمصادفة في جريدة قديمة اقتطعتُ منها جزءًا لتلميع المرآة. كانت مكتوبة في نصف صفحة بالضبط. جلستُ ونسيت أمر الزجاج نهائيًّا، تتبَّعتُ طريقته في نسج الأحداث، حتى وصلتُ إلى آخر جزء، لم أكن أقرأ ككل مرة للاستمتاع، كنتُ أدخل نسيج العمل لأرى كيفية صناعته، كيف تقاطعت السدة واللحمة فيه. أدركتُ- بينما عيناي تلتهمان الأحداث- أن الشروع في نسج قصة مثله لا يحتاج إلاَّ إلى التعبير عمَّا نشعر به، سواء كان كذبًا أو حقيقة. لم تكن بالنسبة إليَّ فكرة أن أكتب مثل تشيكوف نطحًا في الصخر، لأنني على الرغم من قراءة الكثير من الروايات العالمية فترة الجامعة، لم تقع رواية أو قصة قصيرة له بين يديَّ، ولم أعرف عن موهبته شيئًا، بل لم أقرأ عن شهرته كلمة، ثم وجدتُ ما دفعني للتجريب، وبدأ الأمر يأخذ سمة الجدية لهدف انتهازي محض، عندما رأيتُ إعلانًا عن مسابقة سوزان مبارك لأدب الطفل، لم أكن أطمح وقتذاك إلا في قيمة الجائزة المادية التي بدتْ لي معقولة وقد تُعِينني على صعوبة المعيشة. ظللتُ لعدة أسابيع لا أعرف كيف تتم صياغة قصة، كيف تبدأ وكيف تنتهي، وكيف أصل لدرجة إقناع طفل بما سأكتب. عُدتُ لشراء آخر الإصدارات التي تخص الطفل، وفي أول فرصة تفرغت لتصفحها. كانت الموضوعات وتقنية الكتابة والتناول مختلفة عما كنا نقرؤه قديمًا! القصص تحتاج إلى تركيز كبير، وتتناول موضوعاتٍ لم أطرقها بفكري من قبل، عند الانتهاء اكتشفتُ المأزق الذي وضعتُ نفسي فيه، وعاد إحساسي بالحيوان الحبيس الذي يسكنني، لكن الأمر بات تحديًا مع كائن غامض لا أستطيع الفكاك منه. كتبتُ كثيرًا ومزقتُ كل ما كتبت، حتى انتهى بي الأمر لكتابة سلسلة قصص على لسان طفل يعيش في مصر القديمة، يعترف فيها لكاهن المعبد بلغة كهنوتية بأنه ببوله لوَّث ماء النيل أثناء السباحة، ويُريد أن يتطهر. بعد كتابة كلمة النهاية جمعتُ أولاد أخي حسين مع أولادي وبنات الجيران صديقات حبيبة على عجل. كوّنت كتيبة من الأطفال في الصالة، وبدأتُ في قراءة ما كتبته من قصص على الجميع، تحمّلتُ هرجهم ومزاحهم. عندما ختمتُ بكلمة النهاية سألتُهم: "ماذا فهمتهم؟"، لكن أحدًا منهم لم يُجبني.
أرسلتُ نسخًا من القصص مقتنعة أن غباء أولادي وأولاد أخي ليس مقياسًا، وأثناء انتظار النتيجة كنتُ على قناعة بأنني لم أُخلق إلا قاصة، وظللتُ أحلم بقيمة الجائزة وكيفية إنفاقها، وشرعتُ لألهي نفسي عن الانتظار في كتابة القصص، دون أن أمنح نفسي برهة التوقُّف ومراجعة ما كتبته. عندما ظهرت النتيجة بعد عدة أشهر لم أكن ضمن الفائزين! لكن بات من الصعب التخلي عن الفكرة. هل رأيت يا زياد. الأمر كان سهلاً. ربما يساهم الإيمان بالنفس- حتى إذا لم يكن في محله- للنجاح في شيء ما. أما الاستمرار فربما عائد إلى غواية الكتابة نفسها، جميل أن تختلي بنفسك على ورقة. ما رأيك.. بعد شفائك فكر في الأمر بجدية.. أراك مشروع كاتب جيد، لديك الكثير لتحكيه، حس ساخر وقدرة على الكذب، لا تقل إنك لم تكن تكذب. أقدر قدرتك على التخيل. ربما كنت ترى بحق ذلك الشبح كلما دخلت الغرفة، ربما كان حقيقيًّا ما كنت ترويه عن قيام المدرس بإمساك قضيبك، لقد لقَّنه أبوك درسًا لن ينساه، سيحترس في المستقبل، سيتخيَّر تلاميذ جبناء. أنت أكبر من سنِّك يا زياد.. أكبر بكثير.
كان ثمة خطوة يجب أن تحدث، كي أعلن عن الكاتبة التي تلبستني، بتفكير قليل لم يرهقني. لا بأس، أقدمتُ على إخبار حسين بتعاستي، فلم يتحرك. تزوج بعد أقل من عام على معرفته بتعاستي، بحثا عن سعادته. هل تذكر حواري معه؟ لقد أخبرتك به من قبل. أصبح لديَّ المبرر للكتابة، وعليَّ أن أشق طريقي بخطوات ثابتة، بعد صدام صغير مع أحمد خرجت على أثره منتصرة، واكتشفتُ طريقة مثلى للتعامل معه كي يوافق على ما أرى فيه سعادتي: التشبث برأيي والإصرار على موقفي فقط. بمجرد نشر الجرائد لقصصي القصيرة، لم يتوقف الهاتف عن الاستفسار إذا ما كنتُ صاحبة القصص المنشورة أم أن الأمر لا يعدو سوى تشابه أسماء، وحيال فرحتي لظهور اسمي جنبًا إلى جنب مع كتاب الأعمدة الثابتة أعلنتُ الخبر، وقلته بما يشبه الفخر، الأمر الذي استدعى نقاشًا طارئًا معه لم يقدم عليه في أكثر أزماتنا شدة. سخرت من فكرته التي قالها: "انشري باسم مستعار.. زي بنت الشاطئ!". عندما لم أجب استرسَلَ:
"طيب إيه رأيك..اكتفى للتوقيع بالحرفين الأولين من اسمك".
لكني كنتُ قد حسمتُ أمري، ثم انتهى النقاش عند هذا الحد. كان يعتقد أن بضع أفكار داهمتني وكتبتُها أثناء زيارة الإلهام لي بالخطأ، ونُشرت لأن الجريدة واجهت نقصًا في المادة التي يجب أن تنشرها، وكي تسد الفجوات قامت بنشر قصصي، ولن تعود لتكرار الخطأ مرة أخرى. وفي ظل استسلامه غزوت بزياراتي قصر ثقافة النجع، وعرفت أسماء الكتاب المتحققين. عرضتُ إنتاجي عليهم وسط فرحتهم المبطنة بدخول أنثى جديدة إلى الساحة.
كان الإبداع يدخل مرحلة ما بعد الحداثة، تلك التي جعلت من الأفكار المبهمة التي أجسدها واللغة الركيكة التي أكتب بها نوعًا من التجديد، لا يملك أحد حياله أن يقول رأيًا صريحًا وإلا اتهم بقلة الثقافة، ثم اقترحتُ إنشاء نادي أدب يخص النساء فقط، وشرعتُ في تنفيذ الفكرة مع بعض كاتبات النجع المبتدئات مثلي، تحسبًا لأي هجوم قد يشنه إخوتي أو أحمد. اخترنا للقائنا يوم الخميس، عندما كان يخلو المكان من الرجال. كنتُ أقدم على هذه التصرفات بغير اقتناع، لأني مارستُ الأدب كالتدخين بالضبط، بعيدًا عن الأعين وبتكتم شديد، وتحت مظلة العادات والتقاليد، لكنها كانت تجربة ثرية، لأننا في تلك الجلسات، جلدنا أنفسنا لصالح النصوص. كنتُ أبحث عن مَوَاطن الضعف في قصصهن، وكن يفعلن الشيء نفسه مع قصصي، وسط ضغينة مبيَّتة تكفي لأن تفري أكبادنا حتى الموت.
نهرول خارجين، بمجرد تناول الإفطار. يكمل أبوك ارتداء ملابسه على السلم. إذا تأخرنا نصف ساعة أخرى سيواجهنا زحام الطريق إلى مصر الجديدة، حيث عيادة الدكتور أشرف. قال يجب أن يراك مرة كل أسبوع. لا أعرف لماذا، على الرغم من انتهاء دوره كما قال الدكتور علي. لم أغفل رأي أبيك عندما قال:
"الدكاترة عايزين حنفية فلوس متخلصش".
لا أشك في مقولته عن الأطباء يا زياد، لكنه أراد بقوله أن أكف عن المتابعة، لتوفير النفقات. لا أقدر على التقصير. حتى إذا ظل حدسي بموتك يطن داخلي. هل يختلف قلب الأب عن قلب الأم، أم تراني أمنح قلبي ميزات لا يملكها؟ يبدأ السائق القيادة ويخلف المدينة السكنية وراءنا، يوجه الراديو إلى الحرم المكي، نستمع إلى نقل حيٍّ لصلاة التراويح، فتتغلغل آيات الذكر إلى روحي، أشف وأشعر بفيض يقين يغمرني، فأراك مقبلاً نحوي من الظلام خارج زجاج السيارة، بكامل عافيتك، ترفع يدك في وجهي وتقول إنها سليمة، تحرِّك ساقك يمينًا ويسارًا بخفة، وترفع جفنك فلا أجد حولاً، تقول لي "أنا خفيت خلاص يا ماما". أنظر بجواري فأجدك تستند إلى كتفي وتروح في سبات عميق لا يوقظك منه تأرجح السيارة التي لا تشبه سوى صرصور عجوز على الإسفلت. أشعر بحيرة يا زياد، أيهما أنت؟ الهواء يهب من النوافذ المفتوحة، والظلمة تُضفي سكينة على الرغم من كل شيء. تنتهي التراويح فيبدأ السائق في تحويل المؤشر إلى قناة الأغاني، أهيم تمامًا مع الصوت. أغنية أم كلثوم "أغدًا ألقاك؟". تأخذني كلمات الأغنية. يجب أن يأخذني أي شيء مما أفكر فيه، وإلا سأجن. نصل إلى العيادة فيركن السائق سيارته ونصعد، نبقى مرهونين في صالة الانتظار حتى وصوله. أرقب المرضى الداخلين والخارجين. هل ما زال في مصر أصحاء؟ لا يجد المرضى مكانًا للجلوس. يَحِين دورنا أخيرًا، نتأهب للدخول إلى غرفة الكشف فيجري بعض المرضى ليلحق أي منهم بالكراسي. يوقع الدكتور أشرف الكشف عليك. يدق ركبتك بمطرقة خشبية تشبه الشاكوش. يغمض بيده عينك السليمة، ثم يحرك إصبعه أمام عينك الأخرى. يسألك أن تتبع إصبعه. تنفذ ما قاله، لكن حدقتك تثبت قبل المنتصف. تعجز عن مواكبة إصبعه وهو يتجه ناحية العين الأخرى. يتنهد ويتحول إلى اختبار قدمك، يطالبك بالنوم، فأهب لمساعدتك. يدفع مشط قدمك اليسرى ويطالبك بالمقاومة، تجاهد لكنك تفشل. لا يستغرق مكوثنا بالداخل سوى ربع ساعة. أناقشه في أمر توقف يدك عن الحركة، وثقل قدمك ولسانك، وما إذا كان هناك إجراء يجب أن يُتبع لتدارك الأمور، يشير إلى ضرورة بدء العلاج الطبيعي. لماذا لا يشير إلى هذا دون أن ألفت نظره؟ أم تراه يفكر في المريض التالي، لينتهي سريعًا ويعود قبل مدفع الإمساك. كنتُ أعتقد أن عودة أعضائك إلى طبيعتها سيكون تلقائيًّا بالسيطرة على الورم، أثناء الاستمرار فى خطة العلاج، لكن أفكاري كانت متفائلة أكثر من اللازم. أعرفت لماذا أهرب مما يحدث إلى التذكُّر والحكي. أنا مثل طالب أثقله الواجب فكبس عليه النوم، أو شعر بالجوع، أنا أهرب يا زياد.. أهرب.
إزاء خروجي بفكرة الكتابة عن حدود البيت لجأ أحمد إلى إخوتي ليستعديهم ضدي، ويوقف نزيف القلم على أوراقي، قال إن تصرفي غير مقبول، مُسفِّهًا من قدرتي على كتابة القصص، وعندما اتصل بي حسين ليقنعني أن الانشغال بالكتابة انصراف عن ذكر الله، وفيه إهمال لبيتي وأولادي لم أقل شيئًا، استمعتُ إليه كأخ أكبر دون أن أردّ بشيء، وتذكرتُ موقفه الذي يشبه موقف أمي من مشكلاتي، ولما أغلقتُ السماعة كان مقتنعًا بأنني لن أمسك القلم مرة أخرى، وكنتُ أدرك أن الكتابة وسيلة جيدة لإثارة حنق الجميع وأولهم زوجي. كان شعورًا رائقًا. صرفَهُ قلقُه عن خط سيره الذي اعتاده سنوات، وبقِيَ في البيت ليرى وقع مكالمة حسين عليَّ. لم يكن يعرف أن نقطة ضعفه تبدَّت أمامي في هذه الليلة. لم يكن اكتشاف نفسي في هذه الفترة أهم من شعوري الداخلي بأنها شيءٌ أقلقه، دفعني قلقه لكتابة مزيد من القصص، والحرص على نشرها، والبحث عن الجرائد التي تنشر كل ما يُرسل إليها بصرف النظر عن جودته. لم يكن عليّ وقتذاك سوى شراء عدة جرائد أثناء عودتي من المدرسة، وقراءة الصفحة الأدبية عدة مرات ومعرفة اسم المشرف، ثم إرسال خطاب يحمل رسالة تشيد بالمجهود الرائع المبذول فيها، مع وضع قصة قصيرة مع الرسالة، وأحيانًا أرسل القصة مشفوعة برسالة استغاثة مفادها أني كاتبة مستجدَّة لا تريد سوى المساعدة بأن يُنشَر لها. بعد عدد أو عددين أراها منشورة في ذات الصفحة. أقرؤها بزهو وأضعها في صدر الأماكن التي اعتاد أحمد الجلوس فيها. لم يعد حسين لمحادثتي، وكلما رأيت أحدًا من إخوتي ألحظ انتقاده الصامت، لم أكن أهتمّ، اكتفيتُ بأن أحمد بدأ في التعامل معي ككائنٍ حيٍّ يحتاج إلى الاهتمام. أصبحتْ لعبتي المفضلة. كانت الكتابة في هذه الفترة فعلَ انتقام صامتٍ وحربًا باردة. ولمزيد من تهيئة نفسي للحالة، سعيتُ جاهدة إلى التزود بكل المعلومات المتاحة عن الأدب. كنتُ أقتني الكتب بكل ما يتوافر لديَّ من مال، وأعدتُ جرد ما لديَّ منها. عدتُ للقراءة بعين المدقِّق لكل شيء. مع تحولي أيضًا إلى كائن أكثر صمتًا على أرض الواقع. هذه الحالة أتاحت لي مراقبة المزيد من تصرفات الآخرين، مع هذا كنتُ أشعر بالفقد. أتشرنق بعزلتي وصمتي، مؤمنة أنني وصلتُ إلى الشيء الغامض الذي يجب أن أكونه، وبه سأحقق نفسي وأكتفي بذاتي مزهوة.
مع حلول الشتاء قررتُ أن أحول اكتئابي إلى طاقة أستغلها. لم تكن كتابة رواية بالشيء الصعب في ظل جهلي بأصول الكتابة، وانقطاعي عن متابعة ما يستجدّ من روايات حديثة، سرتُ داخل الفقرات بإصرارِ جاهلةٍ لا تمتلك من عالم الكتابة سوى فكرة داهمتها بينما الأرز يشيط على النار. كان الأمر يشبه المرأة التي وجدت زرًّا صالحًا في الطريق فقررتْ أن تخيط له معطفًا. ما إن يخرج أحمد حتى أهرع إلى المطبخ وأدخن نفسًا من السيجارة التي سرقتها منه سلفًا، أطفئها وبالأثر السريع أبدأ في كتابة فقرة، ثم أسترخي لأتأمل ما كتبته، وأعود إلى السيجارة مجددًا، وأعيد الكرَّة مع الكتابة، ثم أتركها راضية إلى اليوم التالي. قبل أن أقوم بأي شيء في الصباح أرجع إلى الأوراق، لأتأكد أن رضائي عمَّا كتبتُه في محله. أواصل القيام بأعمالي طوال اليوم إلى أن ينام الأولاد، بذهن منصرف كلية للتفكير في الأجواء التي أخرجتها من داخلي وجسَّدتُها حياةً خالصة من الورق وأبطالاً وهميين من الأحبار. أكتب طوال الوقت عن كل شيء على ورق وهمي، لقد ازدحم البيت في هذه الفترة بكل الشخصيات التي اخترعتُها، وشاركتني حياتي في صمت. لم أعد أفكر في أي شيء عداها، حتى أنتم يا زياد كنتم في الهامش، أراكم من خلف زجاج مغبش، أقوم بكل مهامِّي بذهن منصرف. لم تكن حالة سيئة، كنتُ بهذه الطريقة أخفف عبء وجودي بينكم، أراكم سعداء بهذا النأي. مع الوقت عرفتم أنه كي أقبل بأي شيء تطلبونه، يجب أن تختاروا وقت وجودي مع الورق. كنتُ أوافق وأشير لأيٍّ منكم بالابتعاد، بعد الانتهاء أجد بعض المصائب الصغيرة، كأن يطلب عبد الرحمن من حبيبة إعداد العصير، فتقوم بدور سيدة المنزل الخائبة بإعداده، تبعثر السكر في الأركان، وتسكب بعضًا من العصير أثناء صبه لكما في الأكواب، وتترك البيت غارقًا في فوضى تلبُّك السكر بعد ذلك.
ومع بداية الصيف كانت الرواية مكتملة في صيغة "وورد" بعد أن تقصَّيتُ من بعض الزملاء عن مكاتب تخصصتْ في الكتابة التي شاعت آنذاك على الكمبيوتر، وبنِيَّة مبيتة تشبثتُ بإصراري لاصطحاب أمي في سفرها السنوي لزيارة إخوتها في القاهرة، وجدتُ حججًا كثيرة كانت كلها مقنعة لأقولها:
"خالو وحشني وعايزة أزوره مع ماما".
وكلما قال أحمد:
"تلاتة وأمهم فين البيت اللي يلمهم".
كنتُ أزداد إصرارًا. أخذتُ إجازة من العمل وأبلغتُ الأولاد بأننا سنسافر. وأمام فرحتهم وافق أحمد على مضض. لم أكن أفكر إلاَّ في كيفية تسليم روايتي إلى سلسلة تخصصتْ في النشر للمبتدئين، والعودة فخورة بانتصاري، مؤمنة أن الساحة الأدبية تنتظر بزوغ نجمي بصبر نافد.
صباح اليوم الذي قررتُ فيه الذهاب إلى مقر السلسلة الأدبية لتقديم مخطوطة روايتي، تجرأتُ وبدلاً من الذهاب إلى المقر الذي كتبته على ورقة لإرشاد سائق التاكسي، أمرته بمجرد الركوب بالذهاب إلى جامعة القاهرة، وبخطى ثابتة وثقة بأنني مازلتُ أحتفظ بمظهر طالبة الجامعة عبرتُ من الباب الرئيسي. كانت الجامعة أصغر مساحة ممَّا كنتُ أحتفظ به عنها في ذاكرتي، مزدحمة ومتهالكة. في نفس الطريق الذي كنتُ أسلكه إلى كلية الآثار سِرْت، أراني أسير بجواري، بمظهري السابق نفسه، مشرعة نوافذ البهجة، وروحًا تواقة للحب، وحياة مازالت أمامي، كأنني على موعد مع بكر في المكتبة، حتى وصلتُ إلى بوابة الكلية في الركن الجنوبي، بعد عبوري بين كلية الحقوق والآداب، وشق الطريق بين زحام الطلاب في شوارع الجامعة. تداخلتْ الأخرى فيّ وعُدت واحدة، مُصِرَّة على رؤيته على المنصة، يخاطب طلابه بكبرياء عالم في الآثار. اتجهتُ مباشرة إلى الجدول المعلق وبحثتُ عن اسمه، أستاذ التاريخ والآثار المصرية. كانت محاضرته لحسن حظي على وشك البدء، في مدرج الصف الأول، ولم أكن في وعيي بما فيه الكفاية لأتوقف عما نويتُ فعله، لأني بعد ذلك كنتُ أدخل المدرج حاملة مخطوطة الرواية كأيِّ فتاة تدخل في الصف الأول لحضور المحاضرة. كان الموبايل في حقيبتي. بعد أن أصرَّ أحمد- كي أسافر- أن آخذه، ليطمئن بالاتصال على الأولاد كل يوم. في انتظار وصول الدكتور بكر، تصفحتُ الوجوه، فوجدتُني هناك، في أقصى ركن من المدرج، أبتسم لـ"هَنَا" وهي تدخل مشيرة إليَّ بالنزول، لتخبرني أن أستاذ المادة تغيّبَ، وسيحل بدلاً عنه المعيد الذي أسعى لمعرفته، أراني بالخجل نفسه، متداخلة في حدودي، أشير لها بأنني لا أقدر من شدة الخجل على الصمود، وهو واقف عند الباب في انتظاري. ما إن دخل المدرج حتى ساد الصمت، وعدتُ واحدة مرة أخرى. أنظر إليه بكل مسامِّي، وأحصي ما طرأ عليه من تغيير..آااه يا زياد، كانت لحظة مشهودة، لقد رأيته أخيرًا، بعد عشر سنوات، كنتُ كل حين أتخيله في هذا المكان، وأتساءل: "كيف يتعامل مع طلابه؟". بدأت المحاضرة، بصوته الرخيم، وسَمَاره المحبب، وقامته الفارعة، كنتُ طالبة بكل ما تحوي الكلمة من معنى، أعيش حالة قديمة معه. على ظهر المخطوطة بدأتُ- دون أن أشعر- في تدوين ما يقول. ثم.. انتهى هذا كله. رن هاتفي بصوت عال وشق السكون، فتعالى صوت بكر من على المنصة بضرورة إغلاق الهاتف الذي تُرك مفتوحًا أثناء المحاضرة. لم أكن أجيد استخدامه حتى هذه اللحظة فضغطتُ على زر "off" وهو ما يعني رفض المكالمة، فعاود أحمد الاتصال، وسط ضحكات الطلاب، فضغطتُ مجددًا على الزر، فما كان من بكر إلا أن طالب صاحب الموبايل بمغادرة القاعة. كان قلبي يتهاوي وأنا أشق الصفوف خارجةً أمامه، كلما نزلتُ درجًا ازدادتْ حملقتُه ليتأكد من صحة ما يراه، نزلتُ الدرجات العشرين، والموبايل يرن بصوت عالٍ، والطلاب يضحكون دون رادع. عبرتُ أمامه، ونظرتُ في عينيه طويلاً، ثم خرجتُ من القاعة.
لم أسلم من بعض المضايقات، لكن كل شيء يمر، نعود عكس ما كنا نتخيل إلى سيرتنا الأولى. ألا تصدق؟ ستعود معافًى. لا يغرنك جسمك الذي ينتفخ الآن، لا تُحبط لأنك غير قادر على المشي إلا بمساعدتي. ستقفز يومًا من بلكونتا إلى بلكونة الجيران، لا يخفى عليَّ إعجابك بابنتهم، اشتكت لي أمها، أخبرتني عن خطابك الغرامي الذي ألقيته عندهم. أعطته لي لأتأكد من سلوكك، ما ضايقني يا زياد أنك كتبت الجملة هكذا: "باحبك يا ياثمين.. عايز أقابلك جنب البنزيمة". لا تهم الإملاء الآن، لم يعد للرسائل الغرامية وجود. دعني أكمل ما يحضرني الآن..
حدث ما جعلني أتوقف عن الكتابة عامين، ظللتُ فيهما أصرخ بصمت، وأخبط رأسي في جدران وهمية لتنزف ألمًا لا يراهُ أحد، بدأت التداعيات عندما وصلتني رسالة بالبريد. كانت مقالة تحمل عنوانًا مستفزًّا "كاتبات النجع يحصلن على الجوائز بالرشاوى الجنسية" استرجعتُ أحداث الشهور السابقة، عندما قرَّرنا في نادي الأدب النسائي غزو عالم الكتابة، أرسلنا أعمالنا إلى مسابقة الإقليم، التي أُعلن عنها في جريدة قنا. عندما ظهرت النتيجة كنا فائزات بالمراكز الأولى الثلاثة. كان حدثًا هزَّ عالم الكُتاب في النجع. استعددتُ له بشراء ملابس جديدة، وتحفيز أحمد على حضور الحفل، الذي سيُتوِّجُهُ عادل لبيب نفسه بالحضور. كنتُ في قمة انتصاري، على الرغم من محلية الجائزة، لكن درجة قلق أحمد بدأت في الزيادة. كان هذا إنجازًا جديدًا حققتُه بالكتابة، لم يؤثِّر على الشعور به تأخر ميعاد الاحتفال، وإعلان قِنَا الحداد على ضحايا القطارالذين احترقوا بالكامل ليلة عيد الأضحى، وظهرت جثثهم في الجرائد متفحمة تمامًا. وكان لكل شارع ضحية وعزاء. عندما سلَّمني المحافظ في حضور أحمد ظرف الجائزة بعد مصافحتي والثناء على إبداعي انزويتُ في ركن بعيد، لأرى قيمة الجائزة. كانت مائة وخمسين جنيهًا، فما كان مني ليكتمل انتصاري أمامه ولأمنح الجائزة قيمة أتعلَّل بها لمواصلة الكتابة إلا أن أضفتُ مبلغًا مثله في الظرف، قبل أن أُطلع أحمد عليه. لم أتخيل أن يدفع هذا أحدهم لكتابة مقاله بانتقام يُعرِّض سُمعتنا للريح. اتصلتُ بإحدى الكاتبتين على الرغم من التشويش الداخلي الذي أصابني، فأخبرتني أن رسالة مشابهة وصلت إلى كل منهما، وأن هذه المقالة والفضيحة التي خلفتها، محور حديث جميع الكُتاب والمهتمين بأمر الأدب في النجع. لم أجد ما أفعله، كان يوسف أول من طرأ على مخيلتي، اتصلتُ به وأخبرته بما حدث. لم يقل كلامًا مُهمًّا، قابَلَ الحدث بشيء من اللامبالاة، وعندما أخبرتُه بنيتي التي تفتقت فجأة مقاضاة الكاتب، سَفّهَ من كلامي لأنه حَصّنَ نفسه بإغفال ذكر الأسماء، واكتفى بالإشارة إلى كلٍّ مِنَّا بصفاتها ومكان بيتها، كان وقتًا عصيبًا. لم أتخيل أن إحراز نجاح ضئيل كهذا قد يدفع أحدًا بكل هذا الحنق لمهاجمتنا. قبل أن أخلد إلى النوم وجدتُ أنه من الأفضل إخبار أحمد بما حدث. فما كان منه إلا أن تعصب بصمت، زَمَّ شفتيه وحملتْ عيناه هجومًا شرسًا، قال كل ما أراده بجمل صامتة، وعيتُها كلها:
"قلت لك.. الطريق دا مش بتاعنا.. كتابة إيه ونيلة إيه، اتحمّلي لوحدك نتيجة تصرفاتك.. مش هينفع أتدخل لكن لازم تنسي حكاية الكتابة دي.. أنا انفضحت بيكي.. مش هاقدر أورّي وشي للناس!".
كان رده الصامت تشفِّيًا مما حققتُه من إنجازات. شعرتُ بالضآلة. كنتُ بحاجة إلى شخص واحد فقط ليقول لي: "ولا يهمك.. إنتي كويسة بس هما غيرانين"، لكنني لم أجد. تعاملتْ أمي مع مشكلتي كما لو كانت تخص ابنة الجيران، بالاستماع فقط، فشعرتُ كم هي غريبة عني، كم أرهقتني بضغطها النفسي طوال الفترة الماضية! كلما تعرض أحد إخوتي الذكور لمشكلة، وكي أرضيها وأشعرها بوجودي، أتحرك هنا وهناك للتوصل إلى حل، أو البقاء كحد أدنى من المشاركة في حالة غم، لكن تأثير وجود أمي بالقرب انتهى بعد أقل من عامين، عندما حدث ما جعلها تنتقل إلى الغردقة وتريحني من إشراكي في كل ما يحدث لأحد يهمها، حتى بائعة الحمام التي تشتري منها. سأخبرك كيف انتقلت إلى الغردقة بعد قليل. دعني أكمل قصة إخفاقي الآن يا زياد. انتهى حلمي عند هذا الحد، وابتلعتُ غصتي في صمت. بعد عدة أيام تحركتُ بمفردي. اتصلتُ بكاتب المقال، أكد أنه لم يرسل الخطابات، فقلتُ له: "لكن إنتا عملت حاجة أفظع.. كتبت المقالة وادِّيت فرصة للآخرين يشنَّعوا علينا". فأكمل مؤكدًا: "مش إنتي المقصودة. الكاتبتين التانيين هما المقصودين"، ثم تحولت المكالمة إلى سباب متبادل بيننا، كنتُ حائرة أبحث عن مخرج. بعد أسبوع واحد صدرت روايتي، من دار النشر في القاهرة. حاولتُ أن أستمر كأن شيئًا لم يكن، متجاهلة المقالة، والشخص الغامض الذي استغلها وأرسل الرسالة. لملمتُ قصصي الجديدة وأرسلتها دفعة واحدة إلى كل الجرائد، وحرصتُ بمذاق مالح على حضور ندوة أقيمت في النجع، حاملة نسخ روايتي لأوزِّعها على الموجودين، بحرص على أن أبدو سعيدة، على الأقل بصدور الكتاب، متوقعة أن شخصًا منهم أتعامل معه بنِيَّةٍ حسنة الآن قام بتدبير هذه الفضيحة، وعندما أعلنتُ لأحمد أنني مُصِرَّة على الاستمرار، على الرغم من حديثه الصامت، وتخليه الصارخ عني بتجاهل الأمر، أعلمني بلهجة حاسمة أنه يجب أن أتوقف عن الهراء المسمَّى بالكتابة، وعلى الرغم من محاولاتي تجاوز ما حدث ونسيانه، وخلاف هجرة جني الكتابة لي، ظللتُ لوقت طويل تال يا زياد أشعر بالحساسية المفرطة. إذا لم تقابلني جارتي بابتسامة كعادتها عند لقائها مصادفة على السلم أشك أن أحدًا أخبرها بما حدث، أتوقف عكس ما كنتُ أفعل لأحكي معها، وأختبر معلوماتها، وعندما أتأكد أنها لا تعرف شيئًا أصعد إلى شقتي.
استعد الفولي في هذه الأثناء لخوض الانتخابات، واحتشد بمكر هذه المرة ليكسبها. مع رجوعه للظهور مجددًا عاد أحمد لينغمس في تتبع أخباره ومصاحبته، وفي الوقت الذي أعلن فيه مصباح، المرشح عن الفلاحين، بأن المسيحيين لهم الحقوق والواجبات نفسها، وأنه سيتبنى قضاياهم في المجلس، ضمانًا لتأييدهم الكامل له في الانتخابات، ومع بعض المعلومات التي قالوا إنها مسربة من الكنيسة، تأكد الجميع أن المطران منح مصباح دعمًا للدعاية الانتخابية، كان من الممكن الاتفاق معه ليصبحا يدًا واحدة ويفوزا معًا، لكن الفولى أبى إلا أن يتصدر المشهد بمفرده، ويطيح بمصباح ليعلن فيما بعد أنه السبب في الإطاحة به، فأعلن أنه مرشح المسلمين وحامي حمى الإسلام. أرسل بناته في كل جهة ليقُلن ما وضعه على لسانهن: "مصباح خدام الكنيسة لكن أبويا هيجيب حقوقنا". دخلت الدعاية منعطفًا خطرًا، جَنَّدَ له الفولي رجالاً إضافيين، كان أولهم حمام الكموني الذي ارتفع نجمُه كبلطجي يُرهب الجميع ظهوره بما يكفي ليثق فيه الفولي، وفي بادرة هامة ليحوله من بلطجي إلى رجل مهمات، مدَّه بالمال ليفتتح صالة جيم يُدرِّب فيها الشباب على حمل الأثقال، ويُكوّن كتيبة يستعين بها وقت الحاجة. كان أحمد أول الحاضرين يوم حفل الافتتاح. حرص على الوقوف كتفًا بكتف مع الفولي عندما بدأت الكاميرات تلتقط الصور. أصبح النجع على سطح صفيح ساخن. إلى أن حان موعد الانتخابات. حضر المستشارون وتأكدت هيئات المجتمع المدني أن التزوير لن يكون داخل اللجان هذه المرة، ومن يريد الوصول إلى المجلس فليكن بمساعيه بالخارج. كان ما سوف يقوم به الكموني واضحًا. كان عليه جر المسلمين والنصارى إلى حرب صغيرة، لتنقلب الآية رأسًا على عقب، عندما ينحاز الفولي إلى المسلمين ويُعرِّي خصمه أمام الجميع، فيعطون أصواتهم لمرشح الإسلام، هكذا وُضِعَتْ الخطة. وقف الكموني برجاله أمام لجنة السيدات، كلما قدم فوج من المسيحيات تحرَّش بهن. كان من السهل التعرف عليهن، بشعورهن المكشوفة وملابسهن القصيرة. يبدأ رجال الكموني عملهن بجد، يشد رجلٌ شَعْرَ واحدة ويعصر آخَرُ صدرَ الأخرى، وينهال الباقون على مؤخرات الأخريات. وبيُسْرٍ تمَّ كل شيء كما خُطط له وأكثر، تعالى صراخُ النسوة ولُذْنَ بمداخل العمارات القريبة. اتصل شاهد عيان مسيحي بالمطران كي ينقذ الموقف، وقبل أن ينتهي الحادث بتفرقهن كان مصباح قد حضر، حاملاً كرباجًا سودانيًّا متينًا، ليضرب كل من حاول منع المسيحيات من التصويت. بعد ساعة واحدة طَوَّقَ الأمن المركزي النجع من جهاته الأربع، وساعدت الأمطار التي لا تسقط على النجع إلا نادرًا في تفريق المتجمعين، واكتفى المرشحون بالأساليب المشروعة في إخراج المصوِّتين، فمر أهالي كل مرشح على البيوت التي تقع في دائرة نفوذه. طرقوا الأبواب راجين المساندة، لم يرحلوا إلا بإقناع أهل البيت جميعًا بالخروج. عند السابعة مساء انتهى وقت التصويت وبدأت عملية الفرز، كان مستقبل جميع المرشحين معلقًا على الساعات المقبلة، لذا أغلقت المحال التجارية وخلت الشوارع من المارين، وحرص سكان كل عمارة على غلق الأبواب الخارجية بسلسلة حديدية غليظة، كي لا يهجم مؤيدو المرشح الخاسر عليهم للانتقام، لكن الفولي وخصمَه نجحا وسط ذهول الجميع.هل تذكر يا زياد يوم أن دخلتَ عليَّ مهلِّلاً، لأنك رأيت الكموني في الشارع راكبًا موتوسيكله. جريتَ وراءه كي تنال منه نظرة، كما جرى معظم أصحابك أيضًا. اندهشتُ لفرحك وسألتك:
"وليه معجب بيه قوي كدة؟".
فأجبتَني:
"عشان الناس كلها بتخاف منه".
"بتخاف منه عشان هوا بلطجي.. بياخد فلوس الناس من غير حق".
"طيب وإيه الكلية اللى بتطلع البلطجية..عشان أنا عايز أدخلها؟".
كان وصول الفولي ومصباح إلى البرلمان مجرد مجد شخصي. لن يغير من وجه الحياة في النجع، هذا ما تَوَصَّلَ إليه الجميع، لكنه كان وقتًا مستقطعًا نعيش فيه الإثارة، حتى أن مقتل أحد المؤيدين على يد مجهول في هذه الأثناء لا يأخذ بُعده المأساوي بقدر ما يكون مادة للتشويق. كان فقدان الثقة في أداء الحكومة يصل أشُده، مع كل ما كانت تصرح به كل يوم لتحسين الوضع الاقتصادي. كان استجواب الوزراء أمام المجلس مجرد تشويش على الحالة. كل شيء سار من سيئ إلى أسوأ، حتى محل ملابس هادي تأثر. كان بيع قطعة ملابس واحدة إنجازًا، ومرت أيام كثيرة لا تدخل زبونة، ويُضطر إلى أن يمنح موظفة المحل راتبها مما كان يدخره سابقًا. وكلما جاء موظف الضرائب، ليحدد القيمة المستحقة أخبَرهُ هادي بأن السوق نائم، والمحل كالجمل البارك الآن، لكنه لا يعبأ، ويقرر الضرائب الباهظة ويرحل. في أحيان كثيرة بقي هادي مع زوجته؛ توفيرًا للنفقات، عند أمي التي حاولت أن تجعل معاش أبي كافيًا حتى الأيام الأخيرة من الشهر، وإذا لم يمدها شادي أو حسين بمعونة كافية تذهب هي للبقاء مع هادي وزوجته، حاملة تموينًا يكفي أسبوعًا، متعللة بوحدتها بعد زواجه.
في الوقت نفسه اعتادت الحكومة استقطاع بدل النقدي من رواتبنا ابتداءً من شهر يناير نظرًا إلى عجز الميزانية، وسط تذمر الجميع. نظل نرسل التلغرافات إلى المسئولين بصرخاتنا كي يعيدوا الخصومات، لكننا فيما يبدو لم نصرخ بما فيه الكفاية ليستمعوا، وعندما سربت جريدة معارضة خبرًا مفاده أن المحافظين يستولون- بالاتفاق مع مديري الهيئات- على مبالغ بدل النقدي الخاصة بالعاملين لوضعها في البنوك عدة أشهر والاستيلاء على أرباحها، ثم يُفرجون عنها فيما بعد ويصرفونها على دفعات للعاملين. تجمهر الكثيرون، لكن صحيفة واحدة لم تُشِرْ إليهم. كان راتبي وراتب أحمد يقل إلى النصف، ولم أجد سوى القيام- في تكتم شديد- ببيع قطع من الحلي الذهبية التي أملكها كي نستمر قادرين على توفير النفقات وسد العجز، والصرف بحرص شديد، حتى أطلقتُ على هذه الشهور- كما أطلق غيري- موسم المجاعة.
إزاء تدهور حالة هادي المادية، اقترح يوسف أن يوكل إليه مهمة الإشراف على اليخت، الذي يخرج مرتين إلى عرض البحر، حاملاً السياح في جولة للغوص ورؤية الغروب، نظير أجر مرتفع، حدده يوسف بما لا يناسب المهمة، بل ليكفيه ويفيض. لم يكن هناك مفرٌّ أمام هادي من القبول، على الرغم من إدراكه الكامل أنها مجرد منحة، يساهم بها يوسف ليساعده في حفظ ماء وجهه أمام نُسَبائِهِ، ولحلّ أزمة مكان الإقامة في الغردقة منحهم شقة من الشقق الكثيرة التي اشتراها ليستثمر أمواله. كاد يوسف ينسى المحاماة، ويتحول إلى العمل الحر، مثل شراء الشقق وبيعها بعد حين. وافقت أمي على الانتقال معه وزوجته، ليس تحت إلحاحه كيلا تبقى وحيدة في النجع بعد سفره، بل لأن شادي كان يمر بإحدى أصعب الأزمات التي واجهته، كانت أنيتا قد سافرت مصطحبة الولد الصغير معها، تاركةً شادي على وشك الجنون، لأنه رفض الانتقال معها إلى ألمانيا. لم تكن مشكلاتهما تخرج عن عدم قدرتها على التكيف مع عادات المجتمع المصري، كانت تضجر من ملاحقة العيون لها، وتعتقد أن إخوتي غير راضين عن دخولها حياتنا، لم يخْفَ عنها كرهُ أمي لها، على الرغم من احتفاء أمي المبالغ فيه كلما وُجدتا معًا في مكان واحد. يبدو أن المشاعر السلبية تنتقل عبر الأثير يا زياد.على كل حال، لم يكن قرار انفصالهما مفاجأة، في السنتين اللتين بقِيَتْ فيهما زوجة له، سافرت ثلاث مرات، كانت عازمة في كل مرة على ألا تعود، لكن وساطة بعض أصدقاء شادي والشوق إليه كانا يُعيدانها دون ذاكرة. تستمر إلى أن يتكرر كل شيء يضايقها بالطريقة نفسها فتسافر مرة أخرى. كنتُ مندهشة من شخصية شادي، لأنه لم يُقْدِم على الزواج منها إلا لأنه وضع في حسبانه أنه سيغيرها، ربما كان بحاجة إلى التجربة ليصل إلى قناعاته، ويعيد ترتيب أوضاعه. في المرة الوحيدة التي حضرتُ شجارهما، ولم أكن أتصور أن حرب الأطباق الطائرة وقذائف الشلت والسباب بلغة أجنبية قد يحدث من زوجة ألمانية خالصة، على الرغم من تأزم الموقف، لم أجد سوى البلكونة لأتوارى فيها حتى تنتهي نوبة الضحك التي صاحَبَت اكتشافي. عند رجوعها إلى ألمانيا أبلغت السفارة المصرية هناك، بأن زوجها قد يجيء في أي وقت، وليس له هدف من الحضور إلا اختطاف الطفل، فقامت السلطات بوضع اسمه في خانة الممنوعين. بعد سفرها بقليل تركتْ أمي هادي وزوجته وانتقلتْ للإقامة مع شادي، حتى تُعِينه في مصابه، وكي يبقى هادي بحُرية مع زوجته. كان بقاء شادي وحيدًا بعد رحيل زوجته مريحًا لأمي، على الرغم من إظهار حزنها في كل مناسبة، وبكائها المستمر كلما وُجدتُ معها. كانت وحيدة، وبوجوده على هذه الحالة وجدتْ ضالتها. كنت ألحظ احتفاءها به في كل ما تفعله، كي لا يشعر أنه يفتقد شيئًا، لم تعد تلح في زواجه، وإذا فعلت فبنبرة لينة غير مُصِرَّة. إذا تزوج فستنتهي الحالة التي تدفعها إلى الحزن، وهو ما لا تقدر على العيش دونه، كانت بحاجة دومًا إلى هَمٍّ يشغله لتقف جواره، ولما اشترى حسين- من باب الوجاهة- شقة في الغردقة، مدفوعًا بتشجيع الجميع، لكي يملك قربهم مكانًا دائمًا، انتقلت بشكل دائم للإقامة فيها وأصبحت مركز تجمع الكل. كانت ولاء مغيبة عن أحداثنا، وهذا أمر شكر الجميعُ الله بسببه، لأنها لو كانت بهيبتها السابقة لما سمحت لأحد بالاقتراب من الشقة.
بانتقال أمي إلى الغردقة، تغيرت حياتي كثيرًا. كنتُ أنفلت بعيدًا في مدار يخصني، كعربة انفصلت عن باقي القطار. لم تتوقف الأحداث أو تسر في اتجاه لا يُثير حزنها ومخاوفها على إخوتي، بل حدث الكثير. كنتُ أشارك وجدانيًّا بمقدار ما تسمح به روحي فقط، وليس بالمقدار الذي يرضيها، وأحيانًا لا أشارك بأي شيء. تجلت لي فجأة صورة ما يجب أن تكون عليه علاقتي بالجميع. كل ما حدث بعد سفرها كان يصلني من وراء زجاج مغبش. لم يستحوذ على انتباهي، اكتفيت بأحداث حياتي فقط، وجنبني هذا المشاعر السلبية كلها. ربما لم يلحظ أي منهم ابتعادي، أو لاحظ أحدهم ولم يهتم. على الرغم من قسوة اختياري كنتُ أشعر بأن الوضع هكذا مريح لي.
مع حتمية بدء العلاج الطبيعي أدخل البند ضمن خطة المصاريف. أحذف بند الكولا والسجائر والفاكهة. الفاكهة لا، تحتاج إلى تغذية سليمة يا زياد. أبوك أيضًا عاد للسجائر بشراهة، نسي تحذيرات الأطباء. يجلس مساء في البلكونة يدخن علبة كاملة. يجب البحثعن طبيب يقبل المجيء متخليًا عن راحته بعد الإفطار، ليبدأ معك صفحة جديدة من العلاج، تسير بالتوازي مع كل ما سبق.أنتظر استشارةالدكتور علي أيضًا، ربما كان البدء في العلاج الطبيعي يتعارض مع علاجك بالكيماوي والإشعاع. أدق هاتفه الآن، يرن حتى يفصل، ربما هو مشغول بمريض. أنتظر قليلاً وأعيد الاتصال،يضغط أثناء الجرس على زر الرفض. سأنتظر نصف ساعة. لماذا لا أرتاح لهذا الرجل؟ يضايقني ارتداؤه البدلة في هذا الحر! هاتفه مغلق الآن. ألا يقلقه اتصالي؟ أشعر بالغرق. لم أكن أعرف أن لأطباء العلاج الطبيعي أهمية بعيدًا عن ملاعب الكرة. أحمد لا يتحرك لتدبير طبيب، يتخبّط ويترك أمر تدبير العلاج الطبيعي لي:
"إنتي عشتي في القاهرة وبتعرفي تتصرفي أكتر مني.. أنا راجل عيان".
ببساطة يعترف. ربما لأنه حقًّا كما وصف حاله، وربما كي يُجنب نفسه بذل أي محاولات كالعادة. لا أجد وسيلة للاستدلال على طبيب سوى كتابة عبارة على صفحتي في الفيس بوك:
"حد من الطيبين يدلني على دكتور علاج طبيعي!".
أين حبيبة؟ لماذا لا تغسل الأطباق، لتوفر عليَّ الوقت الكافي للتصرف. تترك كل شيء خلفها وتغلق الباب وراءها. منذ أن أدركت وجودها وهي عبء. لم أعد أذكر منذ متى لم تعد تقنع بما أتيحه لها أو أقوله.. سأحكي القصة منذ البداية يا زياد، على الرغم من وجودك شاهدًا على مشكلاتنا معًا. كنتَ دومًا ابنًا طيبًا، تشي لي بكل ما تفعله في غيابي، بمن اتصلتْ في الهاتف، وبماذا تسبني أمامك كلما ضربتها، وهل تطبق ما آمرها به، أم تضرب به عرض الحائط؟
لم يكن جسم حبيبة اتخذ هيئته الأنثوية بعد، نحيفة لدرجة مثيرة للشفقة، بعلامات الجروح التي خلفتها مرحلة اللعب كالذكور على ركبتيها وكوعيها، وتموجات الضفائر في شعرها. كانت تبقى كثيرًا عند بنت الجيران، وعندما يزيد غيابها عن الوقت الذي أحتاجه لتفرغي أغضب، فأناديها بصوت عصبي من السلم، لكنها تماطل، وعندما تجد إصراري فولاذيًّا تصطحب ابنة الجيران وتصعد لتكملا معًا حديثهما السري في غرفتها. لم أعد أذكر منذ متى بدأ عصيانها، كانت أول واقعة عندما دخلتُ غرفتي فجأة فوجدتها مع صديقتها تتهامسان في الهاتف. ما إن رأتاني حتى تصلبتا، سألتُ بصوت هادئ:
".. فيه إيه؟".
تهدلتْ يدها الممسكة بالسماعة، فذهبتُ صوبها وأمسكتُها، وبتوجس سمعتُ صوت ولد على الطرف الآخر يهتف باسمها مرة واسم صديقتها مرة، ولأن فترة الصمت طالت بما جعل القلق يغمره. أعدتُ السماعة مكانها دون أن أقول كلمة واستدرتُ لأواجههما، حاولتُ أن أكون أمًّا ليبرالية، تضبط إيقاع غضبها. جلستُ إلى السرير صامتة فعبرتا جواري في سكون إلى الغرفة المجاورة، وبعد دقيقتين تهامستا بما لا أسمعه، ورحلت ابنة الجيران وتركتها لما تنتظره مني. الآن أندهش يا زياد، لماذا لم أتعامل مع الموقف كما كنتُ أتمنى من أمي عندما كنتُ في مثل سنها، لم أستطع قمع ثورتي ودخلتُ غرفتها في حالة هياج. سألتها بوضوح:
"مين الولد دا؟".
نظرت إليَّ بتحدٍّ فواصلتُ:
"ليه بتتكلموا معاه طيب؟".
لم تجب فقابلتُ صمتها بصفعة وعدتُ لغرفتي، هكذا فشلتُ في أول اختبار. كنتُ أشعر بالحزن والإخفاق، أعزي ما فعلته إلى إهمالي السابق لها. داهمني تساؤل:
"هل من الممكن أن تكون الفتاة سوية دون أن تسود البيت الذي تربت فيه روح السعادة؟".
كنتُ أعترف لنفسي أنني لم أهيئ لها الإحساس بالأمان إلا نادرًا، كان يأتي دومًا بين فترتيْ تجاهل، كأنه اعتذار أو تدارك، حتى أنها كانت تندهش من هبّة الحنان التي أغدقها كل حين، وتتعامل معها بلا مبالاة تُفقدني ثباتي وتعيدني سريعًا إلى ما كنتُ عليه. كان هذا الموقف بداية انتباهي إلى ضرورة التقرب منها، والتحايل لأبدأ من جديد في إزالة ما بيننا من أشواك، وإلا سأفقدها إلى الأبد، وقد تعاني مني بأكثر مما عانيتُ مع أمي. كان الأهم أن أتوقف عن ضربها، حتى لو ربطتُ يديّ أثناء الحوار. وضعتُ الخطة التي يجب أن أتبعها عند التعامل معها. بعد هذه الحادثة وضعتُ تصرفاتها تحت المجهر. تلاشى كل شيء من بؤرة انتباهي لتحل محله، لكن الهواجس كانت تهجم في الوقت نفسه، إذا بقِيَتْ عند صديقتها أنهي وقت استمتاعها وأناديها. ربما تحثها على المضي في ما لا أرضاه، وإذا نظرتْ من البلكونة أتوقع أن الشاب الذي حدثها على الهاتف يلوّح لها من مكان بالشارع. وكي أنهي حالة القلق تلك، أناديها بهدوء أخفي أسفله الكثير من التوتر. قلتُ لها ذات مساء:
"مش هتقوليلي يا ماما مين الولد دا؟".
فأخبرتني بخجل ما لبث أن تحول إلى براءة أنه ولد يريد أن يحدثها، وأنها فرحت برغبته فكلمته، لكنني ضبطتها في أول مكالمة، ثم عقبت:
"مفيش حد هيحبني عشان أنا رفيعة قوي، لكن الولد دا كلمني ومهتمش إني وحشة".
كانت ملامحها تشع وهي تتحدث بما ضاعف همي، حزني عدم تنبهي إلى غزوة الأنوثة التي داهمتها، وعودها الممصوص الرفيع. اكتفيتُ ببقايا الطفولة على مظهرها، مرجئة الاهتمام بها إلى وقت لاحق، فقلتُ لها مطمئنة:
"بكرة تتخني والولاد كلها تجري وراكي".
اكتفيتُ بما قلتُه وتقبلتْه، بعد أن رجوتها أن تصرف اهتمامها عنه، لأن الوقت مازال مبكرًا للحب، ثم تركتُها وذهبتُ لقضاء شئوني. كنتُ غير مقتنعة بما أقول، تتكشَّف تناقضاتي أمام عيني. مع هذا لم أستطع إلا أن أكون هكذا. تمنيتُ لو استمرت في الحديث معه، على أن تنجح في التكتم، ولا يصلني ما تفعله. ألا أضبطها أبدًا، كي تأخذ نصيبها من الحب، لكنني كنتُ أنسى أمنيتي سريعًا، وأبدأ من جديد بالتلصُّص على كل ما تفعله.
لم تكن مشكلاتك عاطفية مثل أختك حتى هذه المرحلة. كان اللعب في الشارع ومشاكسة الآخرين كل همك. إذا أرسلتك لشراء شيء من الخارج تدق أجراس أبواب الجيران جميعًا وتختبئ في عتمة السلم، وإذا وجدتَ إحدى الجارات تقف أمام شقتها ومؤخرتها في مواجهتك تضربها وتجري. حتى عجلة زوج جارتنا المسيحية لم تسلم من عبثك، كنتَ تُفرغ إطاراتها كلما وجدتها في مدخل العمارة، على الرغم من شخصيتك تلك كان الجميع يحبونك. في إحدى المرات جئتني من المدرسة دون حقيبة. سألتك عن السبب فأخبرتني أن صديقك رماها من الدور الرابع إثر شجار وقع بينكما فعلقتْ بالإفريز، فلما عنَّفتك اندهشتَ وأكملتَ:
"دا كويس قوي إنها جات على الشنطة.. هيا فيها إيه غير شوية الكتب!".
مرت ساعتان. أجد رسالة من أحد الأصدقاء يُخبرني أن أحد أقربائه طبيب شاب. بتبادل بعض الرسائل معه أرتب كل شيء. ألم أقل لك إن الله رحيم. يدبر الأمر من حيث لا نحتسب. أخطره بالمكان البعيد الذي نسكنه وما أقدر على دَفعه مقابل العلاج. يقبل المجيء بعد صلاة التراويح مرتين أسبوعيًّا إلى مدينة الشروق، يعطيني رقم هاتف الطبيب لأحدثه وأرتب معه الأمر. أجري الاتصال به فورًا. يجيئني صوته، لديه علم مسبق باتصالي!هذا جيد. يستفسر بالتفصيل عن بعض المعلومات التي تخص حالتك يا زياد: طبيعة الورم ومكانه وموعد الجراحة التي أجريت لك، وحجم التلف الذي يشل أطرافك، نتفق على موعدين مغايرين ليومي المتابعة الطبية. أغلق معه الهاتف وأتنفس بعمق. في المباريات للهدف قيمة حتى أثناء الخسارة الحتمية. لا يهم أن تفهم كل كلامي يا زياد، أهذي أحيانًا. أعلّم بالأحمر في ورقة التأريخ الخاصة بي على اليومين اللذين اتفقتُ معه عليهما. وأخرج إلى البلكونة لأدخن..
أبدأ في نفث الدخان. عجيب، لونه أبيض في الظلمة، كيف لم ألحظ هذا من قبل. كم سيجارة دخنتها قبل أن ألحظ؟ يرتفع رنين الهاتف. أترك أفكاري جانبًا. رقم لا أعرفه، صديقة حبيبة في الجامعة تسألني عنها، لأن هاتفها مغلق، أخبرها أنها نائمة كالعادة ولا تستيقظ إلا بعد نومنا، أو خروجنا!يطرأ على بالي أن أسألها عن أخبار النتيجة، فتصدمني بتلعثمها، أسألها:
"هيا حبيبة سقطت؟".
لا تجيب فأعاود سؤالها:
"هيا عارفة النتيجة؟".
مازالتْ على عادتها في التكتُّم. أفكر في الذهاب إلى غرفتها لأوقظها. أصفعها على وجهها حتى أتخلص من غيظي. أتراجع. أحبس الأخرى داخلي، كي لا تخرج مني بغضبها. تفاجئني باستيقاظها في هذه اللحظة. القدر يخدمني. أتركها تدخل الحمام. لا أدق على الباب على الرغم من تأخرها تحت الدش. فقط أجز على أسناني وأتمشى في الطرقة. لا أتمالك نفسي عندما أمسكت السيشوار ووقفتتتأمل نفسها أمام كسرة المرآة التي وجدناها في الشقة، أسألها:
"إنتي من إمتى عارفة إنك ساقطة؟".
تنظر إليَّ باسمة وتقول:
"بصراحة من أسبوع.. لا أسبوعين".
وبدلاً من تعنيفها أجدني كالمتوسلة إليها:
"وليه يا ماما.. أنا قصرت معاكي.. عشان تكافئيني بسقوطك سنتين ورا بعض؟".
"أنا مش باحب الكلية الخرااا دي".
"ليه بس.. دي في مصر الجديدة.. حد طايل".
"عشان كلية بنات.. بنات بس.."
أتركها قبل أن أنفجر في وجهها، مقررة تأجيل إخبار أحمد بما عرفته.
لا أتصور أنني وصلت معها إلى هذه الدرجة. أذكرها عندما أكملت عامها السادس. واجهتنا عقبة اختيار المدرسة التي يجب أن أُلحقها بها. كانت ولاء قد حسمت أمرها بمعزل عمَّا سوف نفعله فيما بعد وأدخلت أولادها الكبار مدرسةً للغات افتتحت في مدينة الألومنيوم. حاولتُ التفكير في مستقبل البنت بمعزل عن الغيرة. جلستُ مع أحمد وتناقشنا بمظهر زوجين حريصين على مستقبل أولادهم.. قرَّرنا بعد نقاش قصير إلحاقها بمدرسة حكومية قريبة من البيت، لكن عندما أعلنت دعاء أمامي قرارها إلحاق محمود ابنها بمدرسة اللغات، أصبح إدخال حبيبة مدرسة حكومية نوعًا من القناعة لا أملكها، متكبدة مصاريف إضافية للحصول على كتب اللغة الإنجليزية، ولسنوات كنتُ أعتقد أن المدرسة توفر مناخًا راقيًا وتعليمًا مميزًا بعيدًا عن الأوساط المتدنية. في العام التالي الحقنا عبد الرحمن بالمدرسة نفسها، واعتقدتُ أنهما سيتخرَّجان في نهاية المطاف: حبيبة من كلية الطب وعبد الرحمن من الهندسة، وفي ظل هذه الآمال قضيتُ أمسيتي بعد إغلاق التلفزيون وحرمانهما من مشاهدة كرتون توم وجيري في مراجعة الواجب، وتسميع كلمات اللغة الإنجليزية، وتعليم كل منهما أن "بْلَصّ" تعني زائد و"ماينَص" تعني ناقص، وضفدعة بالإنجليزية تسمى "فْرْوجّ". إذا أخطأ أحدهما أنهال عليه بالعصا، وإذا تفوق محمود ابن يوسف في امتحان الشهر أحرمهما من زيارة أمي الأسبوعية، وفي عدة مرات قمتُ بزيارات مفاجئة للمدرسة للوقوف على تفوقهما، والتأكد من الشكاوى التي أمطرتني بها إدارة المدرسة، عن عناد حبيبة مع المدرسات، وسبها لهن إذا عاقبنها، ورفضها النطق بالإجابة إذا جاء الدور عليها على الرغم من علمها بها، وإصرارها غير المبرَّر على شدّ شعر الفتيات وعضّ الأولاد! الآن يا زياد، بعد مرور كل هذه السنوات، أشعر أنها لا تعض أحدًا سواي!
ثم بات واضحًا أن أختك ماضية في تمردها، عندما وصلني خبر الترقية إلى المدرسة الثانوية للبنات، قبل توقيت التحاقها بعام دراسي حزنتْ لأن مدرسةً واحدةً ستجمعُنا في المستقبل. شعرتُ بغصة مما قالته، استفسرتُ علَّ إجابتها توضح فأجابت:
"عشان عسكري الدرك اللى جواكي هيشتغلني في المدرسة كمان".
كانت طوال مرحلة الإعدادية على درجة من التفوق تجعلني لا أقلق، وكناظرة كنتُ أتصفح وجوه صديقاتها كل حين كي أشعر باطمئنان، بمقاييس العجائز في إحكام الحصار حول الفتاة، أهتم بطول أظافرها وما إذا كانت إحدى صديقاتها قد خففت حاجبيها، أو وضعت في غفلة من أمها روجًا. إذا لاحظتُ شيئًا مما سبق، أمنعها من اصطحابها، لكنها أشعلتْ فتيل القلق بتصرفاتها الجديدة، تركتْ صديقاتها السابقات وفضَّلت الانضمام إلى شلة جديدة، ممن يتسمن بالاستهتار والرد على المدرسات بوقاحة، والمزاح مع المدرسين. كن مشهورات بالتزويغ من الحصص، والبقاء خلف المدرسة للتحدث في الهاتف مع أولاد مدرسة الشهيد خيرت. لم أكن أتعامل معها بمعزل عن وعيي، لكن ثمة شيئًا يتحكم في تصرفات الجميع، وهو حكم الآخرين على تصرفاتنا، كنتُ أحاول أن أكبح انطلاقها كي تظل دومًا الفتاة "الطيبة" لكنها لم تكن مثلي عندما كنتُ في مثل سنها، راغبة في اكتساب احترام الآخرين، حتى إذا تبدَّى للجميع أنها مستهترة، وفاشلة، وتتسم بقلة الأدب. أعتقد أن هذا هو أحد أهم الفروق الجوهرية بين فتيات جيلي وهؤلاء، لكن المدرسات بدأن في الزن قرب أذني، كانت أول ملاحظة تلقيتها من مدرسة التربية الدينية، عندما لفتت نظري إلى ضرورة ارتدائها الحجاب كالفتيات الأخريات. لم أكن مقتنعة بإلزامها به، وأنتظر أن ترتديه برغبتها، لكني حكيتُ لها بما قالته مدرِّسة الدين، فما كان منها إلا أن قالت: "دي عايزة تطلع عليا أم كبتها وتمارس أم جبروتها بس". فجأة أدخلتني في دوامة مغايرة؛ ذكرتْ أن ابنة المعلمة نفسها غير محجبة، وأنها تريد أن تطبق شريعتها على الفتيات كتعويض عن عجزها.
عندما تمت ترقيتي إلى هذه المدرسة ترددتُ. كنتُ طالبة في المدرسة نفسها، أحمل لكل ركن فيها ذكريات ملونة، المدرسون هم أنفسهم الذين قاموا بتعليمي منذ عشرين عامًا. مع ما يحدث بداية كل عام من مشاجرات بين المدرسين، توقعتُ بخبرتي التي كونتها من المدرستين اللتين عملتُ بهما من قبل، أنني سأراهم بصورة مختلفة، وستنمحي الصورة الطيفية عن كلٍّ منهم، لكنني قبلتُ الترقية في النهاية. جميع المدرسين تعاملوا معي منذ اليوم الأول كأني مازلت ابنتهم الطالبة، على الرغم من حرصهم على أن آخذ حصصي كلها، لتنقص أعداد حصصهم. حملوني غير عابئين بإرهاقي في العام الأول ثلاثة مناهج، من ضمنها مادة الاقتصاد، التي لم أكن أعرف طريقة حفظها ولا كيف أدرِّسها، خاصة وأن الطالبات يكشفن المدرس المهزوز، ويُحوِّلن الحصة إلى مولد للسخرية منه. ما لم أحسب حسابه أيضًا أنهم بمجرد التحاق حبيبة بالمدرسة، بعد وصولي بعام، تعاملوا معها بوصاية كأنها حفيدتهم، إذا لم تسِر على الصراط فعليهم تنبيهي، إذا استأذنتْ من الحصة للحمام تمر المُدرِّسة على غرفتي وتخبرني، إذا أخطأتْ في الإجابة أو قالتها منقوصة، وإذا تركت الحصة الأخيرة وعادتْ للبيت، فإنهم يشككون في كل تصرف، ليس بكلمات صريحة، بل بطريقة القول نفسها، وبعد كل شكوى أتحول إلى كرة ملتهبة، تتدحرج إلى البيت، وما إن أصل أنصب لها محكمة عاجلة، وأطالبها بكشف لكل ما فعلته. أكذِّب كل ما تقوله فتتركني دون اهتمام، وتعود لشئونها كأن شيئًا لم يكن.
كانت المدرسة مغايرة للمدرستين السابقتين، على الرغم من أهمية المرحلة الثانوية، وضرورة كفاءة المعلم، لم تكن المهارة الوسيلة للحكم عليه، لأنه في الوقت نفسه، لم تكن المدرسة بالنسبة إلى الطالبات سوى مكانٍ للترف، يلتقين فيه للحكي ومعرفة أخبار كلٍّ منهن، أو رؤية كل واحدة للشاب الذي تحبه كلما عبرت أمام مدرسة الأولاد في طريق مجيئها وعودتها. أدرك المدرسون اعتمادهن على الدروس خارج المدرسة، لذا لم تكن العملية التعليمية إلا تمثيلية يجيد الجميع أداءها، وبسبب حتمية الدروس الخصوصية نتيجة خوف أولياء الأمور على مستقبل أبنائهم أصاب الثراء المدرسين.
مع بدء الصيف رفضتْ حبيبة أن أختار ملابسها كالعادة، وقررتْ أن تخرج مع ابنة الجيران لشراء ما تريده، نبهتُ قبل خروجها بضرورة أن تكون الملابس محتشمة، لكنها اشترتْ كل ما قد يثير الزوابع بيننا، كانت البلوزتان قصيرتين، وضيقتين. كأنها تفعل ما يثير غضبي كاملاً. واجهتُها قائلة:
"جسمك رفيع.. إزاي تلبسي ضيق.. الواسع سترة ليكي".
لكنها خرجت إليّ بنظرية في الأزياء تؤكد: "الرفيعة تلبس الضيق والتخينة تلبس الواسع". على الرغم من أن المعلومة راقت لي ورأيتُها صحيحة تمامًا حرمتها من ارتدائهما، بعد خروجها عدة مرات مع صديقاتها للتنزه، اتصلت بي جارة تسكن في آخر الشارع، قالت إنها رأت حبيبة وانتقدت ملابسها الضيقة. أصابتني الدهشة لأنها خرجتْ أمامي بملابسها القديمة، التي اخترتها بنفسي في الموسم الماضي. عسكرْتُ في البلكونة منتظرةً رجوعها، معتقدة أن الجارة أخطأت وتحدثني عن فتاة نحيفة أخرى، لكنها ظهرتْ في نهاية الشارع بالملابس الضيقة نفسها، تسير بجوار ابنة الجيران، التي ارتدت ملابسها بنفس الطريقة، فتواريتُ حتى دخلتا العمارة، لكن فترة صعودها إلى الشقة طالت، مما أثار شكوكي. فتحتُ الباب وناديتها، فخرجتْ من شقة ابنة الجيران بالملابس التي كانت ترتديها أولاً، بعد أن غيرت البلوزة الضيقة، وأخفتها في بطن الحقيبة. اندلع زعيقي عاليًا، ولم تكن المرة الأخيرة- منذ ذاك الحين- التي يسمع فيها الجيران شجارنا. لم تحتوِ إجازة الصيف إلا على هدنات قصيرة بين شجارات متصلة. تنتهي كلها بصفعها على وجهها، ثم تتقوقع في حجرتها يومًا كاملاً. لا تخرج منها إلا لأخذ طعام، بعد وضع الأطباق على صينية، والدخول سريعًا إلى الغرفة قبل أن نلتقي مصادفة في الممر بين غرفتينا، تتناوله ثم تركنُ الصينية بالأطباق الفارغة، حتى تتكدس المواعين القذرة في حجرتها، في تحدٍّ سافر لما كنتُ أنبه به على الجميع، بضرورة إعادة الصحون والأكواب الملوَّثة بالطعام إلى المطبخ. يتقمَّص أحمد دومًا دور المشاهد، ويرى أنه شجار أنثوي، وعليه أن يُريح عقله بالابتعاد، أحيانًا ينحاز إليَّ، وأحيانًا يُوبِّخني لأنني أعاملها هكذا. عادةً لا أفهم وجهات نظره، حتى عندما ينحاز إليّ لا أقتنع بموقفه. كانت حبيبة تستغل الأوقات التي ينحاز إليها فيها فيعلو صوتها لتتهمني بالقسوة. أتركه ليحل مشاكلها علّه يقوم أخيرًا بدور الأب، ويشبع حاجتها إلى الحنان، لكنه يتراجع سريعًا ويعود إلى موقفه الأول من عدم الانحياز لأحد، ولأنها كانت تستعد لمرحلة حاسمة من حياتها. إذا لم تحصل على مجموع عالٍ فلن تستطيع الالتحاق بكلية توفر لها مستقبلاً مستقرًّا. فكرتُ أنه عليّ المزيد من الاحتيال، لترويض جنِّي التمرد الذي سكنَها. كنتُ أعي التغيرات التي تطرأ عليها، ومشكلات مرحلة المراهقة. قرأتُ عن الطرق المُثلى لتربية الفتيات والتعامل معهن في هذه السن، لكنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين الاقتناع بما قرأتُه والقدرة على التطبيق. كان رد فعلها مخالفًا لكل توقعاتي، كلما تقربتُ منها توجستْ، وأدركتْ بذكاء ورثته من تزاوج سلالة عائلة أبيها بعائلتي، أن الهدوء والتودد اللذيْنِ أعاملها بهما، ليسا سوى سياستي الجديدة، كي تجتاز المرحلة بسلام.
أتساءل الآن: كم عامًا قضيتها في الشدِّ والجذب؟ أتلو عليها كل عدة أيام أهمية أن تجتهد، وتترك الفتيات المستهترات جانبًا إلى حين، أن تنتبه أثناء قيام المدرس بشرح المنهج، لأننا ندفع ثلثيْ رواتبنا في الدروس الخصوصية، وكل يوم أستفسر عن أحدث المراجعات.وأنساق- كباقي أولياء الأمور- إلى إعطائها درسيْن عند مدرسين مختلفين في كل مادة، إذا نسي أحدهم معلومة شرحها الآخر، لكنها كانت تعود من يومها الحافل بالحصص متأخرة. تبدأ التمهيد للنوم طيلة الليلة برغبتها في الاسترخاء لمدة ساعة، لكنني كنت أوقظها قبل ذهابي إلى المدرسة في اليوم التالي.
إلى أن تغيرت مفاهيمي كلها. الدروس الخصوصية كانت السبب، سأحكي لك كيف دخلتُ المجال. كيف تتحول مصائب قوم عند قوم فوائد، وتذكر أنني لم أعُد مؤمنةً بالاستمرار. كل قناعاتي تتهاوى في هذه اللحظة. كنا نشهد الفصل النهائي في حياة حسين وولاء. لم يستمر استسلام ولاء لما يحدث، بدت تصرفاتها هستيرية، عندما أخبرها حسين بأنه يجب أن يقضي يومًا معها ويومًا عند زوجته الأخرى انفجرت وطردته من البيت الجديد الذي انتقلوا إليه قبل فضيحة زواجه بشهر، واستعانت بأبيها ليضع ترباسًا على باب الدور الذي تسكنه. كانت العمارة كبيرة. اشترى حسين أثاثًا جهَّز به إحدى الشقق وانعزل عنها. كانت تبقى أيامًا لا تراه، ثم تذهب إليه بوداعة قطة وتطالبه بالعودة. كانت تصرفاتُه تزيد جنونها، ما إن يصل حتى تدخل غرفتها وتُغلقها على الرغم من وعودها السابقة، وفي أحد النقاشات بينهما تدخل ابنه الكبير، الذي وصل إلى الثانوية العامة، واعتقد أنه سيتفهم موقفه، لكنه وجده منحازًا كليًّا إلى أمه، فانفعل ووجَّه إليه كلمات اللوم بصوت عال، ثم اكتشف أن باقي أولاده يتبنون الموقف نفسه، بدا الوضع كما لو كان معركة يقف فيها وحيدًا أمام كتيبة من الأعداء. خرج مُقرِّرًا تأديبهم بالبقاء يومين في شقته القديمة وإحضار زوجته الجديدة إليها. نهاية اليوم الثالث دق الباب، وفوجئ بولاء تقف على السلم، وتهدده إذا لم يرجع معها ستصرخ بصوتٍ عالٍ. في لحظة خاطفة دعاها إلى الدخول، مُعتقدًا أنه يستطيع إقناعها بما ينص عليه الشرع. أخبرها أن الرسول جمع زوجاته في مكان واحد، ولم يكن هناك ما يدعو إلى تشاجُرهن، لأن الشجار فعل الشيطان، والشيطان ينجح مع ضعاف النفوس، كان ردُّ فعلها غير متوقع، هدأت ووعدته بالاستسلام وتقبل ما حدث، لكن مس الجنون ظل يعاودها كل حين، ولم تفلح الأقراص المهدئة، ولا الآيات القرآنية التي تتلوها كل يوم. كانت تصرخ في وجهه كلما رأته. كنتُ أشعر بانحياز لها، ربما لأنها امرأة فقط. كنتُ أرى في ما أقدم عليه حسين انتهاكًا صارخًا. لم يظهر استياءه منها منذ البداية. قال ما خبأه طوال سنوات بعد انكشافه فقط، ولم يبدُ مرة غاضبًا منها، ظهرا دومًا مع أولادهما بهيئة الأسرة السعيدة. أحيانًا أخرى كنتُ أشعر بالراحة، لأنني شهدتُ تهاوي عرشها، بعد أن تعالتْ علينا جميعًا. وحركتْ بداخلي الأحاسيس السلبية، أجد في ما تعانيه فرحةً وتشفِّيًا. قبل أن تحسم أمرها بعد عامين وتغادر، مكتفية بما وصل إليه الحال معه، واختيارها أن تصبح مطلقة لا تجد ما تصرفه، على أن تظل زوجة قديمة تسكن عمارة فخمة، مهما أقام حسين بينها وبين ضرتها العدل. ساعدتني بطريقةٍ ما طوال العامين. الفترة بين زواج حسين وطلاقها منه. كانت لا تهتم بمستوى أولادها التعليمي، نفذ الابن الأكبر وحصل على الثانوية العامة بمجموع أهَّلَهُ للالتحاق بكلية طب خاصة، لأنها في هذا الوقت كانت تقاوم حالة الاستسلام، وترى في أبنائها تعويضًا من الممكن أن تقبل الوضع الجديد لأجله. مع الوقت كانت هذه الفكرة تخفُت وتفرُغ من محتواها، وانعكس التطور الذي لحق بتصرفاتها على ابنها الثاني. بعد أن ظهرت نتيجة الصف الثاني الثانوي وكان مجموعه صدمة أصابت حسين، فأقنع ابنه بالتحويل إلى القسم الأدبي لسهولة المناهج، كي يتحسن مجموعُه ويستطيع الالتحاق بكلية جيدة. اتصل بي حسين في هذه الأثناء، وطالبني بمساعدة ابنه في مادة التاريخ. أخبرته أنني مازلت لا أجيد شرح المنهج، لكنه قال إن ابنه لن يتوقع هذا، وما عليَّ إلا أن أقرأ معه المنهج فقط، وأركز أكثر على التسميع.
عادة أقرأ الدرس في المدرسة بمجرد وصولي. أدخل الفصل متجهِّمة، كي لا يتشجعن بالسؤال إذا استغلق عليهن شيء، تداهمني حالة نسيان، فأنظر إلى إحداهن وأسألها عن أسباب سرحانها، أعنفها إذا لم تجب، ثم أمسك الكتاب وأطالبهن بقراءة ما شرحتُه. تصبح فرصتي للاطلاع على الفقرة التالية متاحة، كيلا أنفضح أمامهن، وفي مرات كثيرة كنتُ أدَّعي معاقبتهن بالامتناع عن شرح باقي الدرس. كنتُ أريد خوض تجربة الدروس الخصوصية. أضع نفسي في المأزق، حتى أستعد له، وبهمَّةٍ، كأنني سأدخل الامتحان، أخطط الجزء المخصص لكل حصة، وأعيد قراءته عشراتِ المرات. اشتريتُ ملخصًا. كنتُ أكتب ملخص الدرس بنظام متضمنًا الأسئلة على الكمبيوتر، وأطبعه قبل الحصة. في نهاية العام أصبح المنهج كاملاً في مذكرة تخصني. عندما حصل هيثم على الدرجة النهائية في الامتحان، تدفَّق على بابي الطلاب، كي يحصلوا على الدرجة نفسها التي حصل عليها.
لم أكن لأصل إلى قناعاتي الجديدة إلا بالبقاء مع الطلاب متخلين عن الصورة التقليدية في بيتي بعيدًا عن رسمية المدرسة. ما إن تمكنتُ من المنهج، وتَغَيَّرَ وضعي في المدرسة من مجرد مدرسة، إلى مدرسة محترفة، تقبل وترفض الطلاب في دروسها، كنتُ أتشكل من جديد وقت أن اعت