سأحاول في هذه الورقة البحثية النبش في المسار الاجتماعي والأدبي لإحدى رائدات الكتابة الروائية والقصصية النسوية في الأدب المغربي، والتي تركت أثرا واضحا وبصمة رائعة في الساحة الأدبية المغربية. إنها الكاتبة والمناضلة الأستاذة خناتة بنونة. إن الحديث عن الأديبة خناثة بنونة لا يتسع له سفر أو سفرين، لأنها أول امرأة طرقت باب الكتابة النسوية في المغرب، واستطاعت أن تخرج من دائرة الصمت صائحة "ليسقط الصمت"(1).
لقد بذأت رحلتها مع الكتابة منذ سنة 1965، وكان هم الأمة العربية هاجسها الأكبر، وكانت القضية الفلسطينية أم القضايا في كل إبداعاتها القصصية والروائية. إن الإنسان عندما يكون طفلا لا هم له سوى اللعب واللهو، ولكن خناثة بنونة لم تعرف اللعب، بل كانت الكتب هي أدوات لعبها، وكان الكتاب هو صديقها الأنيس، تقول الكاتبة "ولهذا كان الكتاب، ومنذ البدء أيضا، لعبي، وملعبي، كان أداة تعاملي الأولى مع الحياة ومع الواقع المتأجج بالأحداث دون ان اعرف جل الأنواع الأخرى من لعب الأطفال، والطفلات، فكنت بذلك في تعامل أكبر من سني مع الكتاب ومع الواقع "(2).
ومنذ طفولتها أيضا حملت هما كبيرا أكبر من سنها في الوقت الذي كان أقرانها يمرحون، ويلعبون، لقد حملت هموم الأمة العربية منذ نعومة أظفارها، وهذا كله كان يؤرق طفولتها ويقض مضجعها تقول: "لأن ذلك النهم الخارق في البحث الدؤوب عن الأجوبة المحققة للتغيير، للجواب الأعم كان يؤرق طفولتي ويفاعتي ومراهقتي... وحتى الآن''(3).
كما ان هذه المرأة كانت على علم بالقضية الفلسطينية، وهي لم تتجاوز بعد العاشرة من عمرها، ورفضت الاحتلال الإسرائيلي لهذه البقعة المقدسة، عند ذلك تحرك سيفها المسلول وهو القلم معلنا عن الرفض لكل بروتوكول يسعى لتمزيق وحدة الامة العربية والسيطرة على بقاعها. تقول: "كان ذلك تلاحم مع قضية القضايا فلسطين المعلمة وفلسطين البعث محيطا وخليجا، ليبدأ النبض الرافض دون العاشرة من العمر، إثر عثوري صدفة على بروتوكولات بني صهيون ... فاشتعل الفتيل للبحث عن أداة تكون سيفا وتكون قلما، وتكون بحثا وتكون أملا"(4).
الإنسان عندما يكون على حق في هذا الزمان الملثات الممزق غالبا ما ينعت بصفات كثيرة تنقص من قيمته كشخص، هكذا كانت خناثة بنونة، ومن أجل دفاعها عن الحق ورفضها للواقع المزري الذي يحتقر المرأة، خاصة وأنها هي الأنثى الوحيدة في أسرة كلها ذكور. من أجل هذا نعتت بالجنون. فقد عبرت عن ذلك قائلة :" مجنونة، كانت هي اللازمة التي تتعقبني من جل اساتذتي، أو أقاربي لما أنفر منه من كماليات أضحي بها في معارك شرسة، من أجل اختيار قاس، في مجتمع ذي قوانين مسبقة، للأنثى المدجنة، والمفروض أن تكون معطلة سوى عن رقم جامد تستطيع ان تتهجاه لتقول: لبيك حين ينادى عليها"(5).
لقد استطاعت خناثة بنونة أن تسجل كل ما يشعر به المغربي من تضامن مع أخيه العربي، وذلك ما يبين أن مأساة العرب في فلسطين مأساة كل عربي في الشرق أو الغرب، ومسؤولية الإنقاذ على الجميع(6).
هذه هي الأنثى التي استطاعت أن تخرج الكتابة النسائية في المغرب إلى الوجود بعد أن كانت الكتابة محتكرة من قبل الرجل وظل العنصر النسوي غائبا عن الساحة الإبداعية والثقافية المغربية. وفي هذا الصدد كتب العلامة عبد الله كنون قائلا: "ظاهرة غريبة في أدبنا الحديث يلاحظها القارئ والناقد معا، وهي عدم مساهمة العنصر النسوي في إنتاجه الثقافي لم يكن من القوة بالمثابة التي تجعلها تسهم في الحياة الأدبية إسهاما يسد الفراغ الذي نحسه في هذا المقام"(7).
إن الأستاذة خناثة بنونة وطنية مبدعة، وكاتبة مناضلة على مستوى كل الجبهات، إذ عبرت في كتاباتها عن أصوات بنات جنسها، كما افصحت عن المسكوت عنه، واستطاعت بذلك أن تحطم كل ما هو ذكوري، وما هو نسائي. إن هذه المرأة لم تنل ما نالته فتاة اليوم من الاستمتاع بالدراسة المنتظمة سواء في الثانوية او الجامعة، لكنها حظيت بوعي أرقها وقض مضجعها، وألهب فيها جذوة الاشتغال بالبحث والدرس، فدرست، وتعلمت وأحبطت كل المناورات التي كانت تحاك ضد بنات جنسها في فترة نشأتها الأولى(8). إذن كيف نشأت خناثة بنونة؟ وكيف كانت دراستها؟ وكيف اقتحمت عالم الكتابة؟؟
العوامل المؤثرة في حياة خناثة بنونة(9)
1- نشأتها:
نشأت خناثة بنونة في أسرة لا تنتمي إلى الشريحة الثقافية، بل هي لها اهتمامات نضالية وتجارية بالدرجة الأولى، أي أن كل أفراد أسرتها لهم مستوى دراسي متوسط جدا، ولم يكونوا مهتمين بالوظائف والمناصب، ولكنهم أعطوا وقتهم للتجارة والنضال من أجل استقلال البلاد من ربقة الاستعمار الفرنسي. ويتميزون بكونهم من الأسر الوطنية التي لها مشاركة مشهورة في الساحة النضالية، سواء من جهة والدتها أو من جهة والدها. وتعتبر أسرة والدتها من أهم الأسر التي حملت لواء النضال منذ العهد الأندلسي إلى الآن. أما أسرة آل بنونة فهي معروفة بنضالها الوطني والقومي، وعلى رأسها الحاج عبد السلام بنونة، وعند ولادة خناثة بنونة وجدت كل ذكور الأسرة في السجون حتى الأطفال منهم. فأخوها الأكبر كان في طريقه إلى (الفران) لطهي الخبز وأخذوه إلى المعتقل وهو طفل صغير، وبدون إخبار أسرته. أما خالها فقد حكم عليه بالإعدام، وأخذت كل ممتلكاته، وهو البطل العظيم كما تسميه خناثة بنونة مولاي العربي الإدريسي الذي استطاع أن يسرق للاستعمار 59 شهيدا، ويدفنهم. في الوقت الذي احتل فيه الجيش بيته وألقى القبض على أبنائه، وحاصر النساء ومزق وكسر كل ما في البيت من أجل الضغط عليه. إذن هذه الأسرة هي التي كانت بالنسبة لخناثة بنونة القدوة، حيث أثرت في جل أطوار حياتها، ومسيرتها النضالية، وأرتها الوجه النضالي الحقيقي في أوج عطاءاته، وصدقه، ونقاوته .
وكما قلنا فأسرة خناثة بنونة ليست لها اهتمامات ثقافية، ورغم ذلك فقد أنجبت بنتا مثقفة، وأديبة: وكان والدها رحمه الله لا يعرف إلا كتابة اسمه، وهو الوحيد الذي لم تستطع أديبتنا أن تخالفه، فقد خالفت عددا من الشخصيات والأساتذة، ولكن هذا الرجل لم تخالفه قط. لقد كانت جامعة القرويين هي منبع العلم لكل المغاربة سواء أكانوا مهتمين بالتمدرس أم لا، وقد كان والدها هذا يداوم على صلاة العصر بهذه الجامعة، ويجالس أحسن العلماء مع الطلبة الذين يدرسون، الشيء الذي أدى به إلى أن أصبح بحرا من المعارف، وأصبح في حديثه يستدل بأقوال الشعراء والكتاب والصحابة، ولكنه لم يكن يملك القدرة على تسجيل معلوماته، وكانت له حافظة وذاكرة قوية جدا، مما جعل خناثة معجبة به ومتأثرة به. كانت هذه بعض الجوانب والظروف التي كانت تحيط بأديبتنا خناثة بنونة. وكانت هذه هي الأسرة التي أنجبت المرأة التي أصبحت اليوم رائدة من رائدات الأدب في المغرب.
2- دراستها:
درست خناثة بنونة تعليمها الابتدائي بمدرسة (الحلف) وهي مدرسة الحركة الوطنية، حيث كان يمنع على أبناء المناضلين الالتحاق بالمدارس الحكومية، وحين حصلت على الشهادة الابتدائية، كان السؤال المطروح ما العمل؟ وكان الجواب هو الالتحاق بمدرسة المعلمات، وحصلت في الامتحانات على الرتبة الأولى، ومنحها السفير الفرنسي رحلة إلى فرنسا تشجيعا لها. ولم تكن لها دراسة منتظمة، فهي لم تدرس المرحلة الثانوية قط، فقد تمكنت من اجتياز الباكالوريا بشكل حر، ثم التحقت بالمعهد العراقي العالي، ودرست الاجتماعيات ولم تدرس الأدب. وبعد تخرجها اشتغلت بالتدريس ابتداء من سنة 1963 بثانوية (ابن كيران) بمدينة فاس إلى سنة 1968 حيث التحقت بعدها بالعمل الإداري، وبالضبط مديرة لثانوية(ولادة) بالدار البيضاء.
3- مواقفها النضالية:
لقد شبت خناثة بنونة وترعرعت مع النضال، إذ كانت أسرتها كما سبق الذكر من السر التي أسست الحركة الوطنية في المغرب، لذلك فتحت عينيها على الوطنية وخرجت إليها. ولا زالت تناضل داخل حزب الاستقلال، وفاء للوطن وللأمة العربية الإسلامية، ووفاء لأبيها الروحي (علال الفاسي) الذي غرس فيها روح الوطنية والنضال، وكان يقول لأسرتها إن هذه الفتاة ليست ابنتكم، إنها ابنتي، وابنة المغرب، لأن المغرب لم ينجب من قبل مثلها، وكان يسميها "قرة عينه"، ولا عجب أن تبقى خناثة وفية لذلك الإخلاص، ولذلك الصدق، والنقاء، ولتلك المبادئ النضالية. ومعروف عن الأستاذة خناثة بنونة قول كلمة الحق، في الجلسات الرسمية وغير الرسمية، واتخاذ المواقف الصحيحة التي تنتمي إلى الشعب، ولصالح الشعب، ومستقبل الشعب، ولوكانت ضد اختيارات حزبها، لأن الحزب أحيانا يمارس السياسة وهي تمارس الوطنية. إن الكاتبة خناثة بنونة امرأة شامخة ومتمردة على وضعية الأنثى ووضعية أمة وحضارة تسخر من كل ما يستحق السخرية. ابنة روحية لعلال الفاسي، وحفيدة عائلة استقلالية لا تتنازل عن إخلاصها لحزب الاستقلال"10
تجربتها الروائية والقصصية:
بدأت الأستاذة خناثة بنونة تجربتها مع الكتابة منذ الستينيات من القرن الماضي، وقد دفعها إلى ذلك "تبرير الوجود على الصعيد الذاتي والمشاركة في معركة التغيير على الصعيد الموضوعي"(11) وبما أن الأدب هو من جملة الفنون التي ترتفع بمستوى الحياة والشعوب، وبما انه تغيير ذاتي، فقد انطلق صوت خناثة عنيفا ممزقا لكل الستر الخارجية، راهنا نفسه للوقوف بالضفة الأخرى من كل ما لا يخدم الإنسان في طرحه للإشكالات وتجاوزها، وإرهاصاته بالمخاض العام للواقع، وذلك في التقاطه للحركات السفلية التي تبشر بالتغيرات المستقبلية.
وقد دفعها انفجار الوعي على الهموم الكبيرة، وعلى الدمار العام في المؤسسات الرسمية والممارسة السياسية البعيدة عن البناء الحقيقي للمعارك والشعوب بعد نكبة يونيو 1967، دفعها من كتابة الأقصوصة إلى ولوج عالم الرواية وكتابة ( النار والاختيار) التي عكست "حقيقة الاتجاه القومي لهذه الكاتبة والتمثل العميق لذلك الواقع المؤلم الذي شاع في الوطن العربي، عقبة نكسة يونيو المشؤومة، وما أحدثه من جرح للوجدان العربي، ومن مدمة عنيفة للكثير من التصورات"(12). كما ان رواية النار والاختيار كانت صيحة رهيبة ضد هذا الفتك الماحق للجسد العربي من المحيط إلى الخليج، ومن هنا كان على خناثة بنونة أن تتحمل هموم وآلام ورفض الشعوب العربية للواقع المزري، وتطلعها نحو المستقبل ونشدانها للتغيير. تقول الكاتبة: "... لهذا كان علي أن أكون أهلا لحمل أنة ورفض ووجع وتطلع هاته الجموع، نحو البدائل التي ترهن المستقبل لتغيير حاسم وذلك بالتعامل الفكري والإبداعي مع الأرضية الواقعية لها واستلهام بنيات التغيير من عناصره المتشابكة، وذلك بالتحاور معه في حركيته الجدلية، من أجل تحطيم كل الأسس المشكلة سابقا "(13).
إن التسجيل لهذه المرحلة من تاريخ الأمة العربية، وأخذ موقف منها قد جعل مفهومي السياسي والاجتماعي يفرض على كاتبتنا في نطاق سياق الحدث الروائي أن ترفض كل تقاليده وأخلاقياته في نظرته للمرأة. وإذا رجعنا قليلا إلى الوراء فإن الكاتبة ومنذ أول نتاج قصصي كانت قد حاولت تلمس قشرة الواقع من زاوية رؤية خصبة، وفي شكل فني متطور سواء من ناحية الشكل أو المضمون أو اللغة، حيث لم يتسم فيه الحدث أو الفعل بالتعقيد، وغنما أيضا بمحاولة مزج الواقع بالفكر غالبا مع الخلفية الفلسفية، لكن أيضا بالانتماء للأرض ومحاولة تثبيت الأقدام لمعايشة الواقع واستنطاق القوى المظلومة فيه من أجل كشف زيفه وكشف مضمون ووعي مصحوبين بالتزام ما أيضا. وفي محاولتها مزج الواقع بالفكر، فإن ذلك كان نتيجة لعدم اتقاطها للعالم في صورته اللازمة، إنما في نمطيته الخانقة مع كل تلك الضربات القاتلة التي تنزل على الجسد الشعبي في العالم العربي والعالم الثالث سياسي واقتصاديا، وفكريا واجتماعيا، ومن هنا كان " الشعور بالاغتراب، هو ملجأ ما بشكل من الأشكال، حيث لا قاعدة تكون بدءا لفعل يستطيع أن يكون مردوده خلاصا من الانغمارفي الحزن الميتافيزيقي"(14).
إن الانغماس في العالم الداخلي يعكس بشكل ما فداحة العالم الخارجي في بناه وعلاقاته، ورعب النظمة فيه، لهذا اهتمت خناثة بنونة وخاصة في القصة بالنفعالات الداخلية، حيث يكثف الشعور وتقل الحداث، دون ان تهتم بالتفاصيل المادية، لكن مع ذلك كان الالتزام الحر على التداعي واللاشعور. والذي ساعد على ذلك هو انصهار النماذج التي تطرحها في نارها الداخلية حيث تتبنا ها لتصبح قضايا ذاتية ترتبط بما هو موضوعي، ليتولد العمل الإبداعي دون مسافة بينهما، مما يجعل الانفعالات والإبحار داخل الأشياء والقضايا الفكرية ذات التوغل والعمق والرهافة له تأثير حاسم في المعمار الفني.
وتستعمل خناثة بنونة في كتاباتها أسلوب الجمل الشعرية القصيرة فمثلا حين قول: "شرعت النظر، كانت الرابية هناك، تستلذ بوهن الكهولة وتبحث عن الشريان، غير ان السماء كانت قد تعبت من جحود الأرض فنسيتها، لكن استرحام الربوة والشجرة، ورأس الخروف المنكب على ضرع الأرض الجاف، يفعل فعله في السماء(15). وحين تقول: " الصمت بلا صمت وكل القاعة تتكلم، اللغة غير لغات الملفات، والرسميات، وهو وحده بلا صمت يقول... ماذا يقول؟ افهم ولا تسأل. لكن لماذا تقسو الوقائع؟"(16). وهذه الجمل الشعرية هي جمل دالة على معان كثيرة، يمكن تفصيلها في فقرة أو أكثر، ولكنها عبارة عن طاقات تفجر الواقع والفكر، وبذلك فإن " السائر عبر السطور يسير فوق أرض دون أمان إطلاقا، وإنما فوق سلسلة من تفجرات متراصة تقتل أمن القارئ وتدفعه للمشاركة في عملية التهديم والإتمام حتى مرحلة بناء البديل"(17).
إن عدم التركيز على الوصف الخارجي، يتلازم عند خناثة بنونة مع بحث شرس في نفسية الأشخاص، مع مرونة التعبير الشعري الموحي بانفعال وتوهج. وإضافة إلى هذا يكون الحوار الداخلي والتداعي من أهم العناصر التي تقيم توازنا شبه متكامل بين العالمين الخارجي والداخلي الشيء الذي لا يجعل من إنتاجه انعكاسا مضبوطا لظروف وأشخاص محددين، وإنما هو لقطات لنماذج بشرية تعكس فكرة من الأفكار التي تستقي طبعا من بحر الواقع المتلاطم. وقد اجتهدت كاتبتنا في التحرر من البناء المعماري التقليدي، ويتجلى لنا ذلك واضحا من خلال رواية الغد والغضب التي يمكن اعتبارها "رواية في الرواية"(18)
إذ هي عبارة عن روايتين، كل واحدة ذات مضمون منفرد يلتقيان ويبتعدان عبر محور متحرك، وتطرح الأولى إشكالا فكريا فلسفيا، هو نتيجة تأثير تعتيم الواقع عند مراهقة ذكية تعايش فترة ازدهار الفلسفة الوجودية، باحثة عن الأرضية ذات المعنى التي تستطيع أن تجيب على استفهامها الضخم حول نقطة البداية أين هي؟ أما الرواية الثانية فهي تنطلق بشكل ملتزم متعمق الوعي، مخطط لإنجاز ذلك الوعي عبر ممارسته مع مجموعة من الطلبة الذين يتطور مفهومهم للواقع، ولمسؤولياتهم اتجاه هذا الواقع، وذلك من أجل تغييره. ثم تلتقي الروايتان أخيرا بموت الأب والتقاء كل العناصر في حركة جماعية ذات أرضية واقعية ودلالات اجتماعية. وقد حاولت الكاتبة أن تغير وتجدد في الشكل المتداول في الرواية والأقصوصة وذلك بواسطة التعددية في كل عناصر الخطاب السردي،فصورت بذلك كل الشرائح الاجتماعية وأشركتها في إنجاز الحدث الروائي، تقول الكاتبة:" إن تعدد الأصوات، وتعدد الأرضيات، وتعدد الطروحات، وتعدد الأبطال(أو حذف البطل) أو تهميشه.
وتداخل الأزمنة وتعدد الأمكنة، واختلاف البناء في كل رواية، مع اختلاف المواضيع وتكاملها، هي ما حاولت أن أغير بها الشكلية المتداولة في البناء الروائي وذا القصصي، ففي الوقت الذي حاولت فيه هذه التعددية، فإنني رغبت في تجميع أكثر ما يكن من شرائح الواقع، والاستحواذ عليها. وسجنها في بحبوحة الكلمات، لأعطي أكبر عدد من الشرائح الاجتماعية والفكرية التي تعكس مرحلة تاريخية معينة"(19). ولذلك نجد أن البطل عند خناثة بنونة غالبا ما يثور ضد التأطير، والبطل عندها هو الحركة المضطربة والمستقرة في ذات الآن، والذي يعطي للعمل الأدبي خاصية الحياة في فوضاها المنتظمة، وفي نظامها الفوضوي الذي يصور الواقع في تناقضاته، وصراعاته، وتطلعاته، وأحزانه، مصورا الأشياء التي ينظر إليها المبدع رغم أنها غير متوافقة مع كل أشياء العالم لأن الفنان هو «سيد إبداعه، ومن تم فهو المسؤول وحده عن نجاح أو عدم نجاح ما أراد إبلاغه"(20).
ومنذ بداياتها الأولى كانت خناثة بنونة تنشد التغيير في الواقع، وفي البناء، وفي الموضوع، وفي التفكير السائد، وفي اللغة أيضا. وذلك حتى لا تكون لغتها لغة إنشائية وصفية حيادية، بل تكون لغة" محمومة كحمى هذا الواقع مملوءة بالألوان والإشارات والعلم، والخلفية الفكرية والكثافة الشعرية والعمق النفسي مع الأرضية الاجتماعية"(21). ومن هنا تصير الكتابة الروائية تحطيما للحواجز وتجاوزا لها، وتتفاعل مع المجتمع، وتتبخر في الكون، وتخترق غوامضه وأسراره، وترغب في كشف حقائقه.
كما ان اللغة في إبداع خناثة بنونة لغة شاعرية، حيث نحس عندما نقرأ أغلب الفقرات من إنتاجها القصصي والروائي وكأننا نقرأ شعرا منثورا وقد وقفنا على ذلك في بعض قصصها، مثالا حين تقول: " يا تاريخ العبودية، لم يبق في عمرك غير يوم... وكل أحابيل السياسة غير الشعبية تنكشف ألاعيبها لكل ذي رؤية. ومسيرة التاريخ لن تكون إلا إلى الأمام. وضريبة يؤديها شعب لن تكون غير جسره الأساسي. والمراحيض والسجون حينما تتحول وسيلة للعقاب، فذلك هو البدء"(22)، من هنا إذن نستنتج ان لغة هذه المرأة لغة حية تنبض باللمعان والتوهج، توهج النار التي يلمع فيها ضياؤها الدافئ المنير لطريق التمرد على الواقع. ولمزيد من التأكيد والتوضيح نقرأ لها هذه الفقرات" ... ابتسم القمر، فارتعدت البسمة فيها، ذلك أن شيئا ما يريد أن يبسم لها، هو كالقمر، قمر الأمس لا قمر اليوم"(23). وحين تقول:" وحيدون.. بل وطن، بلا بيت.. بلا جنسية.. بل ظهر حنون يحمي ظهورنا.. ومع ذلك، أبدا لن نموت."(23). وهذه الفقرات التي استندنا إليها عكس لنا هذا المزج في لغة خناثة بنونة بين الشعر والنثر، مما يدفعنا ونحن بصدد دراسة هذه الفقرات من قصصها إلى طرح هذا السؤال أين ينتهي السرد عندها وأين تبدأ قصيدة النثر؟
وخناثة بنونة تكتب لتذيب ذاتها في لهيب الحروف، كما أنها تتميز بخصوصية الإصرار على إبداع فن خاص من الأدب يتميز بنضالية المضمون والروعة في الأداء، مع صور شعرية ودلالة في العناوين، فلنقرأ لها " الصمت الجهل هو كل الصمت. والأحكام الخرساء تحز رقابنا وكرامتنا ولا حماية. والعالم يعيش تمطيته الخرقاء وكل الراضين في الدفء، والرافضين مهملين بين أنياب الجهل ويأس المسيرة وسيطرة الصمت"(24). إن هذه الأمثلة التي نسوقها نريد أن نؤكد بها قدرة أديبتنا على الإبداع بلغة سليمة وجياشة، وقدرتها على مسايرة الركب الروائي، ونرد في نفس الوقت على بعض النقاد العرب الذين تحاملوا على كاتبتنا حيث زعموا أن " اللغة التي تكتب بها هذه الكاتبة لغة عادية، لا مجال فيها للإبداع"(25)، كما رأوا أنها " كاتبة موغلة في البدائية، وتفصح عن انفصال كبير عن رحلة الرواية العربية"(26). ولعل مجموعة (الصمت الناطق) تعتبر مرحلة متطورة جدا في الكتابة القصصية لدى الكاتبة، حيث أعطت للحكي حقه، وظهرت الشخصيات أكثر حيوية، وأصبحت اللغة أكثر تجسيدا وتصويرا للواقع على مختلف مستوياته كما تم وضع معالم محددة للفضاء والزمن.
ودليلا على ما نقول نأخذ قصة (الاستثناء الراجح )(27) نموذجا لهذه الكتابة القصصية الجديدة، لنعاين عن قرب التطور الذي استطاعت خناثة بنونة أن تحققه في مسيرتها القصصية، ففي هذا النص نجد تنوعا وتعددا في الفضاءات فهناك: الشارع، البيت، قاعة الاجتماعات الحزبية، السجن. وتتواجه الشخصيات من خلال تجاور أو تفاعل هذه الفضاءات، كما أن اللغات متنوعة، فهناك لغة الشارع العادية وتتمثل في لغة (مسعود بائع الخضر، وحارس المدرسة)، وهناك لغة الإيديولوجيا أو اللغة الحزبية وتتجسد في لغة (هشام وأحد مسؤولي حزب). ومن خلال هذه الشخصيات والفضاءات تتكون قصة تختزن في طياتها ماهو سياسي وما هو اجتماعي، ونلاحظ في هذه المجموعة غيابا للجانب القومي الذي كان هو العنصر الرئيس في أول مجموعة قصصية للكاتبة (ليسقط الصمت).
وهكذا عملت هذه المبدعة في إنتاجها القصصي والروائي على تطويع التعبير الشعري للكتابة السردية، وعلى الإسهام في تكييف الرواية مع معطيات السؤال القومي، في إطار خطاب أطروحي يتسم بالجرأة والتحدي لمواجهة كل أصناف الاستبداد والهيمنة، فأضافت بذلك أمورا جديدة ومتميزة لكتابة القصصية والروائية العربية المعاصرة، كما ان الأستاذة خناثة بنونة استطاعت أن تفرض نفسها، من خلال تجربة روائية طويلة، ومن خلال عمر إبداعي غير قصير، ضمن سيرورة الكتابة النسائية العربية، وضمن المسار الروائي والقصصي المغربي.
أعمالها الأدبية:
لا يسع المتتبع للكتابة الأدبية في المغرب إلا أن يعترف بالمكانة المتميزة التي تحتلها خناثة بنونة في مجالي القصة والرواية على السواء، فمنذ الستينيات من القرن الماضي وهي تنحت بإصرار وكفاءة تقاسيم عالم تتداخل في تشكيله عناصر واقعية وفكرية وخيالية. لقد خاضت معركة الحياة والكتابة للتعبير عن الذات، ذلك أن الكتابة عندها كما تقول: " معركة الإبداع معركة الحرائق والبراكين الداخلية، معركة البحث عن الذات الفاعلة المغيرة المتغيرة الذات غير النمطية، الذات المساهمة في الفعل الموضوعي والبحث النظري"(28) لقد وصفها العلامة عبد الله كنون فقال: "هذه فتاة رائدة جندت نفسها لخدمة الكلمة، ولم تعرف انقطاعا ولا فتورا.. من الجيل الطالع الذي نبغ في عهد الاستقلال، أعمالها تهدف إلى غاية تداريها بالأسلوب الرمزي، وتثور أحيانا فتصرح بها في غير مواربة ولا تحذلق"(29)، من هنا إذن نستنتج أن الكتابة متنفس يفصح عن عمق المعاناة النفسية للنماذج المرسومة في دنيا الإبداع، وهي نماذج تصور الواقع وتعمل على تجاوزه، ويعتبر الصمت أهم مشكلة عانت منها المرأة، وكلما حاولت هذه المرأة التخلص من عقدة الصمت وعيا منها بذاتها، تواجه بالجملة التقليدية من تكونين؟ أنت كسائر البنات وكفى.
ولكن المبدعة خناثة بنونة استطاعت أن تخرج من دائرة الصمت، وتخترق حواجزه وذلك بإصدار أول مجموعة قصصية سنة 1965، حيث هتفت فيها بكل صدق الأنثى (ليسقط الصمت)، ومع الإصرار على النطق والبوح وجدت نفسها تواجه التحدي، وليس أمامها إلا أن تصدر رواية (النار والاختيار) وذلك عام 1968، ومنذ هذا التاريخ بدأت رحلة أخرى مدتها سبع سنوات لتصدر بعدها مجموعة قصصية موسومة ب (الصورة والصوت) سنة 1975، وارتفع إيقاع التحدي وانتشت الإرادة عند إصدار مجموعة قصصية أخرى تحت عنوان (العاصفة) سنة 1979، وتظل أديبتنا مخلصة لمسيرة الحرف مرتقية مراتب الوجد والتجلي مفعمة بشفافية لا تلين، وصوفية رعناء تطاول الاستكانة والاستسلام، حيث أصدرت رواية (الغد والغضب) سنة 1981، وبعد ست سنوات ينطق الصمت وتصدر مجموعتها القصصية بعنوان (الصمت الناطق) سنة 1987، لتتوقف قرابة العقدين لتطل بعدها على قرائها من جديد بمجموعة قصصية موسومة ب (الحب الرسمي) سنة 2006، وبعدها بسنتين يتم إصدار الأعمال الكاملة للكاتبة سنة 2008، لتكون بذلك أول أعمال كاملة لكاتبة امرأة تصدر في المملكة المغربية.
كما لا يمكن أن ننسى أن الأديبة خناثة بنونة كان لها الفضل والسبق في إصدار أول مجلة نسائية في المغرب عنونتها ب (شروق)، وكانت تتوخى من هذه المجلة تحريك مياه راكدة، وإثارة قضايا المرأة في المغرب، ومناقشتها من خلال زاوية فكرية ثقافية. ولعل المتصفح لهذه الأعمال الأدبية، ليلاحظ أنها تصور هموم الإنسان العربي بصفة عامة، والمرأة العربية بصفة خاصة، وكذلك تعبر أصدق تعبير عن قضية أساس وهي القضية الفلسطينية.
كاتب من المغرب
هوامش
عنوان أول مجموعة قصصية لخناثة بنونة ظهرت سنة 1965 (1)
(2) خناثة بنونة. الكتابة سؤال لانهائي. العلم الثقافي.17 دجنبر 1994. صفحة 4
(3) نفس المرجع ونفس الصفحة
(4) نفس المرجع ونفس الصفحة
(5) نفس المرجع ونفس الصفحة
(6) علال الفاسي. مقدمة رواية "النار والاختيار". صفحة 11
(7) عبد الله كنون. أزهار برية. صفحة 76
(8) نجاة المريني. الكتابة ومعركة اختراق الصمت. العلم الثقافي.17/12/1994. صفحة 9
(9) لقاء أجريته مع الكاتبة في 6 يناير 1997
(10) محمد بنيس. شطحات لمنتصف النهار. صفحة 56
(11) خناثة بنونة. نبضات من التجربة الروائية الشخصية. مجلة الآداب. عدد 2-3. 1980. صفحة 124
(12) أمين مازن. في المحتوى الذهني لرواية "النار والاختيار". مجلة الفصول الأربعة. عدد 29. صفحة 49. سنة 1985
(13) نبضات من التجربة الروائية الشخصية. مرجع سابق. صفحة 122
(14) نفسه. صفحة 123
(15) خناثة بنونة. الصمت الناطق. صفحة 66
(16) خناثة بنونة. النار والاختيار. صفحة 75
(17) نبضات من التجربة الروائية. مرجع سابق. صفحة 123
(18) عبد القادر الشاوي. سلطة الواقعية. صفحة 305
( 19) نبضات من التجربة الروائية الشخصية. مرجع مذكور. صفحة 123
(20) نفسه. صفحة 124
(21) خناثة بنونة. الكتابة سؤال لانهائي. العلم الثقافي. 17/12/1994. صفحة 4
(22) الصمت الناطق. صفحة 128
(23) النار والاختيار. صفحة 78
(24) خناثة بنونة. الغد والغضب. صفحة 104
(25) أمين مازن. في المحتوى الذهني. مرجع سابق. صفحة 54
(26) نفس المرجع ونفس الصفحة
(27) قصة من مجموعة "الصمت الناطق". صفحة 113
(28) خناثة بنونة. الكتابة سؤال لا نهائي. مرجع سابق. صفحة 4
(29) عبد الله كنون. أزهار برية. صفحة 77
(30)