تقديم
ثمة من الكتاب من يحظى بالتكريس، ويتمتع بسُمعة طيبة في الأوساط العلمية والبحثية بدءًا من إصداره الأول. ومن بين هؤلاء الناقدة الفرنسية باسكال كازانوفا Pascale Casanova (2018 ـ 1959)، والتي تَتعيّنُ في دوائر الأدب العالمي بوصفها مرجعًا لا محيد عنه، ومثالًا يلفت الانتباه. فمنذ عملها الأول: "الجمهورية العالمية للآداب" La République mondiale des lettres الصادر عن "منشورات سوي" في باريس عام 1999، استطاعت أن تنحتَ اسمها بقوة في مشهد النقد العالمي، فانتشرت آراؤها وتصوراتها النظرية في مختلف القارات، كما أسهمت في ظهور إبدال الأدب العالمي world literature. ومن المعروف أنّ أصل كتابها "الجمهورية العالمية للآداب" أطروحة لنيل الدكتوراة أعدتها كازانوفا تحت إشراف عالم الاجتماع الشهير بيير بورديو، ونوقشت في عام 1997 أمام لجنة علمية ضمّت أساتذة ينتمون إلى تخصصات مختلفة، كالأدبين الفرنسي والألماني، وعلمي الاجتماع والتاريخ، وهم على التوالي: جاك روفيل، جون ماري غولموت، جوزيف يوغ، ميشيل إسبان، وكريستوف شارل.
ولما كان هذا الكتاب ينطوي على رؤية جديدة لفكرة الأدب العالمي التي رأى محمد غنيمي هلال أنها مستحيلة التحقيق، ويحدث تغييرًا عميقًا في طريقة تناول هذا المبحث المعرفي، وكيفية التفكير في الآليات التي يتأسّس عليها باعتباره حقلًا مستقلًا، فإن هذا في حدّ ذاته ما يفسّر الاستقبال الواسع الذي يتمتع به، والترجمة التي حظي بها إلى عشرات اللغات (كالإنكليزية والبرتغالية والإسبانية واليابانية والعربية). لقد فتح كتاب "الجمهورية العالمية للآداب" نقاشًا واسعًا وحيويًا، نظرًا للمقترحات العميقة التي بلورتها مؤلفته مستفيدة من أعمال بورديو، وبالأخصّ كتابه "قواعد الفن"، حول البنية المكانية والزمنية للعالم الأدبي والاستقلالية النسبية للحقل الأدبي الوطني والدولي، كما أنه مهّد لظهور دراسات بعده ليس في أوروبا وحسب، وإنما أيضًا في أميركا وآسيا وأفريقيا تتناول الأدب العالمي من منظور مختلف تحرّكه إرادة القطع مع النزعة المركزية الغربية التي ترى في آداب أوروبا وأميركا الشمالية المثال الذي لا سبيل للوصول إلى العالمية إلا من طريق التأثر به، والرّغبة في التأسيس لفضاء أدبي عالمي يُعادلُ بين الثقافات المختلفة، كما يتيح لكلّ ثقافة الإفصاح عن تميزها عن غيرها.
ولتقريب القارئ من مضامين هذا الكتاب، والتاريخ الذي ترسمه باسكال كازانوفا للأدب العالمي، فضلًا عن التطورات التي طرأت على تفكيرها، نقدّم ها هنا ترجمة للحوار المطوّل الذي أجرته معها الناقدة الأدبية والروائية تيفين سامويو Tiphaine Samoyault، والمنشور ضمن كتاب: "أين الأدب العالمي؟" للباحثين كريستوف برادو، وتيفين سامويو (2005).
تيفين سامويو: كيف تعرّفين الفضاء الأدبي العالمي؟ هل هو فكرة تاريخية (وبالتالي معرّض للتطور التاريخي)، أم فكرة سياسية بحتة؟ على أي أساس تميزين هذا الفضاء عن فكرة الأدب العالمي؟ هل تتفقين مع تعريف فرانكو موريتي [للفضاء الأدبي العالمي] بأنه "واحد لكنه غير متساوٍ"(1)؟
باسكال كازانوفا: أودّ أن أميز منَ البداية بين مفهوم "الأدب العالمي"، ومفهوم "الفضاء الأدبي الدولي"، الذي حاولت تطويره. من الواضح أنني لا أملك مشروعًا ـ سيكون سخيفًا ولا أساس له ـ لفهم الأدب العالمي ووصفه بالكامل، كما لو كان الأمر يتعلّق بتشكيل متن جديد، أو توسيع إشكالياِت الأدبِ المقارنِ. أقترح، بكلّ بساطة، الانطلاق من وجهة نظر في ما يخصّ النصوص وتاريخها مختلفة عن تلك التي يتم اعتمادها اعتياديًا في النظرية المقارنية. ليس المقصود القول إن وجهات النظر الأخرى أو أساليب التحليل التي تطبّق اليوم في الجامعة قد تجاوزها الزّمن، أو أنها غير مشروعة، وإنما القول إن هناك بعدًا رأسماليًا "لصناعة" النصوص ما لبثَ منسيًا أو متجاهلًا، على كلّ حال، في المناطق الأكثر استقلالية في الفضاء الأدبي. وهذا البعد هو بالتحديد البنية العالمية التي حاولت وصفها، أي ذلك الفضاء التراتبي، غير المتوافق مع المساواة، المقيّد، العنيف (حتى لو كان عنفًا ناعمًا)، والذي يَتركُ بشكل غير مرئي (وغير مرئي بشكل أكبر لأنه يتعارض مع الافتراضات العادية للاعتقاد الأدبي)، بصماته على نصوص العالم كلّها. لكن من الصّعب ملاحظة هذا الفضاء لأننا لا نستطيع وضعه على مسافة كما نفعل عند الاشتغال على ظاهرة بعيدة، ومن السّهولة بمكان أن نجسدها موضوعيًا. هذه البنية العالمية هي، في الواقع، مثل "الشكل الرّمزي" عند إرنست كاسيرر Cassirer Ernst، الذي فيه، بوصفنا "أدباء" (سواء أكنا معلمين، أو كتابًا، أو نقادًا، أو قراء، أو ناشرين،... إلخ) نعتقد، ونقرأ، ونجادل، ونكتب، فهو الذي يمنحنا أدوات التفكير فيه، ويرسّخُ بصمته وقيوده ورهاناته وتراتبياته ومعتقداته في أذهاننا، كما يأتي لتعزيز الأشياء المادية التي تشكّلهُ.
هذا ما حاولت شرحه من خلال استحضار العمل الشهير "الشّكل الزّخرفي في السّجاد" Motif dans le tapis' لهنري جيمس Henry James: نحن نعلم أن هذا الأميركي تمكّن بِحذقِ من تحويل مشكلة تفسير النصّ الأدبي إلى تشويق سردي رائع. قبل كل شيء، وضع استعارة السّجاد الفارسي في صميم قَصدهِ، وفي قلب مساءلته لطبيعة التفسير الأدبي والغائية التي تحرّكه. يَعرضُ السّجاد عند النظر فيه عن كثب، أو على العكس من ذلك من دون الانتباه إليه، تعقيدًا مبهمًا، وغير متماسك من الرّسومات والألوان الموزعة تعسفًا؛ ولكن، إذا تمكّن المرء من العثور على المسافة المناسبة، فسيجد أن السّجاد يقدم فجأة للناظر النبيه "تعقيدًا رائعًا" كما يقول جيمس؛ أي مجموعة من الأشكال الهندسية المرتّبة التي لا تُفهم إلا في العلاقة الرّابطة بين المكونات بعضها ببعض، وقبل كل شيء، تصبح محسوسة فقط إذا رأيناها في مجموعها، أي في اعتمادها المتبادل. فقط من خلال النظر في السّجاد كمظهر منسّق من الأشكال والألوان، يمكننا فهم نظامه واختلافاته وعلاقاته، باختصار، يمكننا التحقّق من تماسكه. أجد نفسي تمامًا في هذه الاستعارة للسّجاد الفارسي التي تَفترضُ ببساطة اعتماد وجهة نظر أخرى، وهي تغيير النقطة التي ننظر منها عادة إلى السّجاد، أو، على سبيل المثال، إلى الأدب ككل. هذا لا يعني أننا سنكون مهتمين فقط بالتماسك العام للسّجاد، بل يمكننا انطلاقًا من معرفة جميع الزّخارف وتوزيعها في السّجاد، أن نفهم بشكل أفضل، وفي أقل التفاصيل، كل رسم، وكل لون، بعبارة أخرى، كل نص وكل مؤلف بعينه، بدءًا من الموقع الذي يشغله في هذه البنية الهائلة. وبعبارة أخرى، فإن مشروعي يتمثل في استعادة تماسك البنية العالمية التي تظهر فيها النصوص، ذلك التماسك الذي لا يمكن رؤيته إلا من خلال الموافقة على الالتفاف عبر ما يبدو أنه الأبعد عن النّصوص: هذه المنطقة الهائلة غير المرئية التي أسميتها الجمهورية العالمية للآداب. والحال أنني لا أقترح هذا الالتفاف إلا من أجل العودة بشكل أفضل إلى النّصوص بمجرد التزود بهذه الأداة الجديدة للفهم والتفسير.
ليس فضاء الأدب العالمي الذي أقدّمه مفهومًا سياسيًا. على العكس من ذلك: أُحَاولُ أن أظهر أن الفضاء الأدبي مبني ضدّ السياسة، وأنه يَتشكلُ طيلة أربعة قرون من الصّراع الذي خاضه الكتاب من أجل اختراع قانون محدّد للأدب وفرضه، أي الاستقلالية l’autonomie. إن تاريخ الفضاء الأدبي العالمي هو تاريخ التمزّق، والتحرّر التدريجي من قيود وإرغامات السّلطات السياسية والوطنية. ومع ذلك، فإن عملية التمكين التدريجي هذه تَفترضُ في الوقت نفسه، من ناحية، الاعتماد الأصلي للأدب على السّلطات الوطنية، ومن ناحية أخرى، حقيقة أن جميع الأماكن لا تتمتع بالدرجة نفسها من الاستقلالية، أي أنها ليست جميعها مستقلة بالدرجة نفسها عن المحافل و"الواجبات" الوطنية.
لهذا السّبب لا يتعلق الأمر بتسييس politiser النظرية الأدبية، كما فعلت، على سبيل المثال، دراسات ما بعد ـ الاستعمار les études post-coloniales، من خلال صياغة أدوات لا تبدو لي محددة أو دقيقة بما فيه الكفاية لتفسير خصوصية الواقعة الأدبية. بشكل عام، يبدو لي أن [دراسات] ما بعد ـ الاستعمار لها فَضلُ إعادة التأكيد بقوة على العلائق بين الأدب والتاريخ (بالمعنى السّياسي)، ولا سيما بعد إسهامها في تدويل إشكالياته. لكن، من ناحية أخرى، فهي تَختزلُ النصوص في التاريخ السياسي والاستعماري وحده، من دون أية وساطة، من خلال ضرب من الطّريق الأقصر من المعتاد الذي يُميزُ جميع التحليلات الخارجية للنصوص الأدبية. بالنسبة لي، أرمي من خلال فكرة "الفضاء" إلى إعادة ربط الصلة بين "القارتين" كما يقول بارت Barthes، "الأدب" و"العالم"، واستعادة العلاقة، بعبارة أخرى، بين التاريخين (التاريخ الأدبي والتاريخ السياسي والاجتماعي وما إلى ذلك)، من دون "التقليل" من الخصوصية الأدبية.
أعتقد أن فرانكو مورّيتي Franco Moretti وأنا لا نتحدث عن الشيء ذاته. يتحدث مورّيتي عن "النسق"، وهو مهتم بالأنواع الأدبية، وخاصة الرّواية. فهو يعتقد، على الأقل، وهذا ما يبدو أنني أفهمه، أن الطريقة الوحيدة للنظر في مسألة الأدب العالمي world literature، هي القيام بتاريخ عالمي لنوع أدبي، مثل الرّواية، وتتبع تطورها ("حياتها"، كما يقول المقارنون) وتحولاتها وفقًا للبلدان واللغات والتقاليد الوطنية والثقافية واللغوية. لا شكّ في أن موريتي مُخلصٌ في هذا الأمر لرؤية الفكر المقارن التقليدي وتصنيفاته، ويسعى إلى ربط الأدب بالأدب وحده، والتاريخ الأدبي الذي يُعدُّ تاريخ الأشكال والأنواع (وانتشارها في المجالات الثقافية واللغوية المختلفة). إنه يستعيد أو يعزّز، بعبارة أخرى، الانقطاع الجذري بين تاريخ النّصوص وتاريخ العالم.
تيفين سامويو: في الفصل الرابع من الجمهورية العالمية للآداب، تصفين عمل "صناعة الكوني" [ما ينطبق على كلّ شيء] من خلال استحضار المحافل المختصّة بالتكريس والضمانة وإبداع القيمة. هل تعتقدين أن "عولمة" المشكلة يمكن أن تشكّل عائقًا أمام العملية في الوقت الحالي؟ هل تعتقدين أن هناك اتفاقًا أو خلافًا بين العالمي والكوني(2)؟
باسكال كازانوفا: لا شك في أن مسألة القيمة الأدبية هي واحدة من أكثر المسائل إثارة للاهتمام اليوم، فحولها تنتظم، ضمنيًا، أو صراحة، العديد من المواقف النظرية والنقدية. من ناحية أخرى، يطالب جيرار جينيت Gérard Genette في كتبه الأخيرة بالنسبية المطلقة من خلال التأكيد على استحالة التأسيس الموضوعي لحكم القيمة، ويطرح [في المقابل] الذاتية غير القابلة للاختزال لحكم الذوق. من خلال قيامه بذلك، باستناده تقليديًا إلى مبدأ الحكم الجمالي عند كانط، فإن جينيت يعزّز، في الواقع، الأحكام المسبقة الأكثر شيوعًا، والتي بموجبها لا يوجد شيء في الحقل الجمالي سوى الذوق الذاتي (الأذواق والألوان... وما إلى ذلك). في الوقت نفسه، من دون اتفاق موضوعي على الذاتيات، لن تكون هناك تراتبية، أو قيمة مؤسّسية. من ناحية أخرى، نجد تأويلية غادامير l’herméneutique gadamerienne التي تَفرضُ نوعًا من القيمة الأدبية المطلقة والأبدية واللاتاريخية لـ"كلاسيكيات" الأدب العالمي، من دون أي إشارة إلى تاريخ النصوص والأحكام الصادرة بخصوصها.
في الواقع، يبدو لي أن مسألة القيمة يجب أن تُطرح بشكل مختلف تمامًا. بدلًا من الاستمرار في الاعتقاد بأن حكم الذوق، أو القيمة، موجود في حالة المبدأ المجرد، وبدلًا من مواصلة النقاش القديم بشأن ما يبدو من المستحيلِ الاستناد إليه، والذي ينتهي، في نهاية المطاف باللجوء إلى مواقف النسبية المطلقة، أو من ناحية أخرى، التقديس اللاتاريخي للنّصوص التي تقدّرها التقاليد، أعتقد أنه يَجبُ التفكير في الظروف الحقيقية للإنتاج، وإعلان أحكام من هذا النوع. لا يوجد حكم الذوق (أو ليس فقط) كتعبير بسيط ذاتي، أو بينذاتي: هناك ظروف اجتماعية للإنتاج والتعبير عن حكم الذوق تسمح (أو لا تسمح) بأن يصبح مشروعًا، أي أنه يتمتع بقوة تجعله (أو لا) ذا آثار موضوعية قابلة للقياس. وللتقييم آثار تبعًا لدرجة المشروعية التي يتمتع بها الشخص الذي يصدر الحكم. لهذا السّبب تتعيّن القيمة الأدبية، في الواقع، بوصفها موضوعية وذاتية بلا انفصال. من هنا يمكننا أن نبيّن أن هناك تاريخًا للقيمة (القيم) الأدبية، من دون جعل هذه القيمة حقيقة نسبية وعرضية، وأن هناك آليات تاريخية تساهم في خلق قيمة القيم، أي الكونية. لكن يتعلّق الأمر بكونية تاريخية (مما يجعلها أكثر إثارة للإعجاب).
ها هنا يعد الفضاء الأدبي العالمي أداة أساسية. والواقع أنه من خلال الآليات الدقيقة والمعقدة لتكوين وإضفاء الشرعية على التكريسات الوطنية والدولية التي تتنافس في جمهورية الآداب، يمكننا أن نظهر كيف تفرض القيمة، تاريخيًا واجتماعيًا، وفقًا لأي آليات للتكريس، ومن خلال أي محافل ومؤسّسات، وجوائز أدبية، ووسطاء. بعبارة أخرى، تُزرعُ القيمة الأدبية في كلّ من الأشياء والأذهان، وبعضها يعزّز البعض الآخر باستمرار. وتُخلق القيمة الأدبية في الفضاء الأدبي، وهو ما يساهم في المقابل في إبداع أو تقوية هذا الأخير من خلال نوع من الإبداع المستمر.
إن الاشتغال على صعيد الفضاء الأدبي العالمي وأدواته، هو اشتغال دائم على هذه الأسئلة: كيف تتم صناعة قيمة القيم هاته؟ بأيّ آليات؟ وأيّ وسطاء؟ وبأيّ صراعات؟ ما هو الدور الذي تلعبه باريس في هذا المصنع الهائل؟... إلخ. بعبارة أخرى، ليس لدينا، كما يبدو، وفق اعتقاد جيرار جينيت، حرية قول "أنا أحبّ" بروست Proust، أو فلوبير Flaubert، أو جويس Joyce، أو "لا أحب". هناك آليات اجتماعية تقضي بإمكانية جعل الأحكام الذاتية مشروعة (أي التسجيل بموضوعية في شكل مختارات مدرسية على سبيل المثال)، ومنحها مثل هذه القوة والسمعة بحيث لا نكون أحرارًا في الطعن في تلك الأحكام التي تم دمجها بقوة في معتقداتنا، وتراتبياتنا الضمنية، وما نسميه "قيمنا". من النادر جدًا أن يَقولَ شخص علنًا "أنا لا أحبّ بروست". لا شكّ في أنه ضرب من التجديف العيني، أو "خطأ" (كما يقال في النحو)، وهو نوع من المخالفات المحددة، والتي ينتج عنها عمومًا الاستبعاد من العالم الأدبي.
كلما كان محفل التكريس الذي يصدر أحكام القيمة أكثر شرعية (أي مستقلًا ومعترفًا بعدم ارتهانه لأي جهة في إصدار أحكامه) زاد قبول الحكم الصادر باعتباره حكمًا مشروعًا، وبالتالي سيتم فرضه على أنه مؤسّس على بقية الفاعلين المهمّين في الفضاء. تعتمد هذه الشرعية على المكانة والسّمعة والاعتراف الذي يَتمتعُ به من يصدر حكم القيمة (أو تتمتع به الجماعة إذا كان الأمر يتعلق بلجنة مثل لجنة تحكيم جائزة نوبل، على سبيل المثال). وإذا كان صحيحًا أن باريس تعيّنت خلال القرن التاسع عشر بوصفها عاصمة دولية للأدب، أي موقعًا منزوع الانتماء الوطني، مشكّلًا ضدّ الانقسامات السياسية واللغوية، فذلك لأنها، على وجه التحديد، أصبحت مَوقعَ الاستقلالية الأدبية بامتياز، والأرض التي تصدر فيها الأحكام الأكثر استقلالية، أي الأكثر أدبية، وذات الصبغة العبر قومية أكثر.
ومع ذلك، من الواضح أنه لا يوجد حكم مطلق ومشروع تمامًا؛ هناك صراعات فقط من أجل احتكار الشرعية الأدبية، كما يقول بيير بورديو/ Pierre Bourdieu. وهذا هو السّبب في أن الكون الهائل لـ"صناعة الكوني" الذي حاولت وصفه يستند إلى صراع أحكام الذوق. بعض الأحكام يكتسب شرعية كافية للسماح بتنفيذ عملية تكريس عمل له بدوره آثار مادية وموضوعية قابلة للقياس. لقد اشتغلت مؤخرًا على هنريك إبسن/ Henrik Ibsen، وتاريخ تكريسه الدولي، في محاولة لفهم طرق الصناعة الدولية للقيمة بشكل ملموس. يعد إبسن حالة مثيرة للاهتمام، لأنه، بعد أن تم الاعتراف به وتكريسه بسرعة إلى حد ما بوصفه كاتبًا مسرحيًا مبتكرًا للغاية، غيّر الممارسة المسرحية الأوروبية بأكملها في أواخر القرن التاسع عشر. في الواقع، تجسّدت "قيمته" الأدبية والمسرحية من خلال صراع بعض الوسطاء، من بينهم أندري أنطوان/ Antoine André، ولوني بو/ Lugné-Poe، وبرنارد شو/ Bernard Shaw، وجيمس جويس، أي من قبل ضرب من "نادي المكتشفين الأمميين".
ومن المفارقات، اليوم، أن العولمة منظورٌ إليها بوصفها ظاهرة في مجالي التجارة والنشر ـ إما زيادة أو تعظيم الأرباح قصيرة الأمد للناشرين الرئيسيين في العالم ـ تعرّض للخطر جميع الفرص التي خلقها واخترعها الكتاب لإنتاج تدويل حقيقي للأدب، أي استمرارية وجود قيم مستقلة، خاصة وأنها غالبًا ما تتمكن من تقليد مكتسبات الاستقلالية وأشكالها. تعد حالة أمبرتو إيكو/ Umberto Eco واضحة تمامًا في هذا الصّدد، والذي يُعيدُ إنتاج الاستقلالية الأدبية، بينما ينتج أكثر الكتب مبيعًا على المستوى الدولي وفق معايير السّوق الدولية. تهدد العولمة بشدة هذا النوع من "البيئة"، كما يقول مؤرخ الفن إرنست غومبريش/ Ernst Gombrich، وهو أمر ضروري لإدامة الممارسات والمعتقدات والنضال من أجل استمرارية وجود أكثر الأشكال والنّصوص غير متوقعة الظهور، والأبعد عن قوانين السّوق، والأكثر ابتكارًا. يكفي أن جزءًا من هذه "البيئة" بالمعنى الإيكولوجي، وهذا الكل شديد الهشاشة في مواجهة قوة السّوق، ينهار أو يخضع، فإن إمكانية وجود أدب مستقل هي ذاتها المهددة بالاختفاء. من الواضح اليوم كيف أن كل هذا البناء الطويل والبطيء الذي تم تشييده خلال أربعة قرون مهدد بشدة بالاختفاء في ظلّ العولمة.
تيفين سامويو: هل تعتقدين أن الحديث عن "فضاء أدبي عالمي" يعني أن الكتاب لديهم شعور بوجود فضاء مشترك؟
باسكال كازانوفا: إنه سؤال صعب لأن هذا الفضاء لا يظهر على هذا النحو للكتاب، أو بالأحرى فهو يظهر فقط لأكثر الكتاب تنبّهًا لذلك، أي لمن هم أكثر بعدًا من المراكز، وللمهمشين، ولأولئك الذين، على وجه التحديد، تعدّ مقولة الكوني واحدة من الأشياء التي يعدّ التغلب عليها أمرًا صعبًا. في الواقع، أعتقد أن هنالك نوعًا من الغموض والضبابية يكتنف مصطلح "دولي" في حدّ ذاته، وربّما لم أشرح ذلك بما فيه الكفاية. في عملي، يأخذ مصطلح "دولي" ثلاثة معاني ترتدّ إلى السّياق. أولًا، يمكن أن يكون مرادفًا تقريبًا لـ"عالمي" (وأنا أفضل استخدامه للتمييز بين الظواهر المستقلة والتيارات "المعولمة"): فهو يشير إلى الفضاءات الأدبية الوطنية جميعها، أو الفضاء الأدبي العالمي بأكمله. ويُمكنُ أيضًا أن يعني، وفي هذه الحالة أضيف الفاصلة (-)، العلاقات بين الفضاءات الوطنية، ويسمح بالتشديد على أن "الأمة" بوصفها كيانًا منفردًا ومكتفيًا بذاته غير موجودة، وأنها في الواقع نتاج العلاقات والصراعات بين الدول. وأخيرًا، يمكن أن تكون كلمة "دولي" مرادفًا لـ "عابر للحدود"، أو حتى "المستقل"، وفي هذه الحالة تشيرُ إلى المناطق الأكثر استقلالية في الفضاء الأدبي، تلك التي يمكن فيها المجاهرة والدعوة إلى "تجريد" الظواهر الأدبية من البعد الوطني، وفيها يتم بناء الاعتقاد بوحدة النّصب العالمي للأدب ضد الانقسامات السياسية واللغوية. لا شك في أن باريس، على سبيل المثال، هي، من بعض الجوانبِ، النموذج المثالي لهذه الأراضي العابرة للحدود الوطنية، أو بطريقة ما، منطقة دولية، حيث يجري العمل على حلّ الانقسامات والاختلافات الوطنية.
يلتقي إزرا باوند Ezra Pound (وجيرترود شتين Gertrude Stein، من وجهة النظر هاته، في الوضعية نفسها تمامًا). فبوصفه كاتبا أميركيًا واقعًا تحت تأثير النموذج الباريسي، ويواجه الحاجة إلى بناء فضاء أدبي أميركي، عمل وفكّر طيلة حياته في هذه القضايا كلها. لقد اقترح، على سبيل المثال، التمييز بين "الأمميين"(internationalistes) (أو مناهضي البعد القومي anti-nationalistes) ودعاة التجريد من الطابع القومي (أو المناهضين لفكرة الانتماء القومي ذاتها)، وبما أنه يواجه، بسبب تبعيته الخاصّة لباريس، مسألة الانتماء القومي الحتمية ومعضلة الاضطرار إما إلى توضيح انتمائه القومي، أو وضعه وراء الظهر، فقد سعى إلى إيجاد حلول على هامش القانون المستقل للكون الأدبي.
وبالعودة إلى سؤالك، أعتقد أنه إذا كان هناك، حتى في الحالة الجنينية، من شعور بوجود فضاء مشترك بين الكتاب، فلا يمكن أن يكون إلا في قلب هذه المنطقة المستقلة: المنطقة المتخطية للحدود القومية، أو المنطقة "الدّولية" للفضاء الأدبي العالمي باستخدام مصطلح باوند. لكن هذه المنطقة هي من الهشاشة والعرضة للتهديد لدرجة أن جميع الفاعلين المهمّين في الفضاء من الكتاب والنقاد والناشرين والكتبيين، يقع على عاتقهم واجب العمل من أجل الحفاظ عليها. وبهذا المعنى يمكن أن يكون "الجمهورية العالمية للآداب" كتابًا سياسيًا، لكن يتعلق الأمر بسياسة بمعنى محدد، وبوسائل من أجل سياسة أدبية بعينها.
تيفين سامويو: هل تعتقدين أن ثمة استجابة محددة من الأدب لما تسميه مأساة الهيمنة، مأساة المهيمنين؟ ما هو الدور الذي تلعبه الترجمة في هذا الرّد، وفي تحديد الفضاء الأدبي العالمي(3)؟
باسكال كازانوفا: تشكّل الترجمة أحد المحركات الأساسية لتكوين الفضاء الأدبي العالمي وتوحيده. وبالرغم من كونها "الوسيلة" الرئيسة لتداول الآداب، فإنها دائمًا ما توصف بأنها تحويل بسيط، ونقل أفقي، محايد ومحيّد للنصوص. في الواقع، يبدو لي أنه لا يمكننا التحدث عن الترجمة كما لو كانت ظاهرة فريدة وذات معنى أعمّ، ولكن يمكن الحديث عن تنوع عمليات الترجمة التي يعتمد معناها (مدلولها) بدقة على مدلول (الاتجاه) الذي تتحقق فيه. وبسبب عدم المساواة في بنية الفضاء الأدبي، فإن التبادلات اللغوية والأدبية التي تحدث فيه غير متماثلة أيضًا، لذلك، أعتقد أنه من الضروري إدخال الاختلافات بين هذه الضروب من "النقل" للنصوص، وفقًا لما إذا كانت عمليات الترجمة تتمّ من اللغة الأصل إلى لغات أخرى، أو ترجمة إلى اللغة الأصل، ووفقًا للوضعية التي تتمتع بها كل من اللغة المستهدفة واللغة المصدر في فضاء اللغات الأدبية. في المناطق الخاضعة للهيمنة، تعد الترجمة واحدة من أكثر الأشكال فعالية للرّد على مأساة البعد [عن المركز]: يمكن للترجمة أن تكون إما معجلًا زمنيًا بارتياد الكوني، أو إمكانية للوصول إليه.
تيفين سامويو: منذ صدور كتابك، كيف ترين فكرتي الأدب العالمي والجمهورية العالمية، من حيث الحضور، أو التراجع، في حقول مختلفة (النقد الأدبي والخطاب السياسي وعلم الاجتماع)؟
باسكال كازانوفا: من المؤكد أنه في الولايات المتحدة (وأيضًا في إنكلترا من خلال نيو ليفت ريفيو/ New Left Review) بدأ نقاش أراه لافتًا بالنسبة لي حول فكرة الأدب العالمي. ثمة سؤال يطرح الآن بين المقارنين حول ما إذا كان الأدب العالمي يمكن أن يحلّ محلّ الأدب المقارن. كما أن المناقشة النظرية والنقدية في الولايات المتحدة أكثر حيوية مقارنة بفرنسا، فهي تقيم تعارضًا بطريقة أكثر وضوحًا وحدّة بين مؤيدي القراءة الداخلية للنّصوص، ودعاة التفسير الخارجي، كما أن النقاد والمقارنين يبحثون عن أي أسلحة محدّدة جديدة يمكن استخدامها في مناقشاتهم. صحيح أيضًا أن لديهم منذ البداية رؤية أكثر "تسييسًا"، وأكثر مادية للظواهر الأدبية. النقد (البريطاني والأميركي) هو أيضًا أكثر حساسية لمسألة الهيمنة المحددة منذ "ثورة" ما بعد الاستعمار التي يعدّ سعيد [إدوارد] رائدها، ولكن أيضًا جيمسون [فريديريك] ، وإيغلتون [تيري]، وغيرهم.
على سبيل المثال، تطورت دراسة النهضة الأدبية الأيرلندية كثيرًا في السنوات الأخيرة، في أيرلندا نفسها وفي الولايات المتحدة تحت تأثير دراسات ما بعد الاستعمار، وتجدّد التفكير التاريخي والأدبي في الإبداع الأدبي في أيرلندا بين عامي 1890 و1930 بشكل كبير. أصبح الفضاء الأيرلندي تقريبًا نوعًا من المختبر لتجريب أدوات ونظريات ما بعد الاستعمار أو اختبارها. في الواقع، أعتقد أن هذه الدراسات لا تزال واقعة تحت تأثير مقولات التفكير الخارجاني externaliste، كما أنها تمارس ما أسميته سابقًا طريقًا أقصر بكثير من المعتاد، من خلال ربطها ربطًا مباشرًا، ومن دون أيّ وساطة، الإبداعات والابتكارات الأدبية بالحقائق والأحداث السّياسية. كنت مهتمة جدًا بهذه المناقشة، وبحالة الفضاء الأيرلندي على وجه الخصوص: لقد خصّصت فصلًا لها في كتابي "الجمهورية العالمية للآداب" بعنوان "النموذج الأيرلندي". يبدو لي أنه نوع من "النموذج المصغر" لأشكال وآثار الهيمنة السياسية والأدبية. استعمرت أيرلندا لمدة ثمانية قرون، ووجدت في حوالي أربعين عامًا وسيلة لتحرّرها الأدبي والفني. وآمل أن أكون قادرة على بدء مناقشة "علمية" حقيقية مع الباحثين الأيرلنديين حول هذه القضايا مقارنةً بمناهجنا وافتراضاتنا المختلفة التي هي أيضًا نتاج تقاليدنا الوطنية النقدية. بالنسبة لي، فالأداة الرئيسة هي فكرة الاستقلالية النسبية، وهي فكرة طورها بيير بورديو، واستثمرتها، في مسعى لأن أستمدّ منها النتائج كلّها على نطاق الفضاء الدولي. إنها أداة غير عادية (وقوية للغاية) لحلّ التناقضات الناتجة عن الانقسام المفترض الذي لا يمكن التغلب عليه بين التفسير الداخلي والقراءة الخارجية للنصوص الأدبية، بين تفردها الواضح وضرورتها التاريخية.
تيفين سامويو: كيف تواصلين هذا التفكير؟ هل ترين انبجاس أشكال جديدة؟ هل تغيرين المنظور لرؤية ظواهر أخرى؟
باسكال كازانوفا: أود توسيع نطاق تفكيري في اتجاهين. من ناحية، أقوم بتطوير العمل على النّصوص نفسها، والانتقال إلى الحدود القصوى لما كان يبدو مستحيلًا بالنسبة لي في كتاب "الجمهورية العالمية للآداب"، فما كان باستطاعتي القيام به هو إعطاء لقطات واسعة، أو بانوراما. وبعبارة أخرى، أودّ أن أتطرق إلى نص معين، بنية سردية أو شعرية. ليس فقط لأن هذا هو ما يثير اهتمامي أكثر، ولكن أيضًا لإظهار أن التحليل من حيث الفضاء والمواقف العلائقية ليس وصفًا مجردًا لآليات غريبة عن تكوين الأدب نفسه، وإنما يتعلق الأمر فيه بأداة ومنهج يهدفان إلى تجديد تحليل بعض الأعمال وتفسيرها، أو على أية حال، كما قلت في بداية هذا الحوار، من أجل الأخذ بالاعتبار المتغيرات والحقائق البنيوية التي قليلًا ما يتم الاهتمام بها حتى اليوم.
لقد كان الكتاب عن بيكيت/ Beckett بالفعل محاولة في هذا الاتجاه، لأنني أردت إظهار أنه حتى في ما يتعلق بمثل هذا المؤلف الشهير بغير التاريخي، وبعمل قليل الارتهان، على ما يبدو، للظروف التاريخية، يمكن أن نطور تحليلًا تاريخيًا يجري بدقة، وإذ يأخذ [هذا التحليل] في اعتباره بنية الهيمنة في الفضاء الأدبي، يمكن أن يؤدي إلى التشكيك في افتراضات المعرفة النقدية الشائعة. في هذا الكتاب، اقترحت تفسيرًا لـ Le Dépeupleur (من خلال النسق الفلسفي لأرنولد غولنكس Geulincx)، ولا سيما، لأحد نصوص بيكيت الأخيرة، Cap au Pire، والذي يمثل، في ما أعتقد، أحد قمم أبحاثه "المجردة" والشكلية. بعبارة أخرى، حاولت أن أفهم الظروف التاريخية التي يمكن أن تفسّر كيف ولماذا لا ترتهن بعض الأعمال للظروف التاريخية.
وبهذا المعنى، أيضًا، كُنتُ أشتغل منذ فترة طويلة على عمل كافكا/ Kafka. وفي مسعى لمواصلة المهمة التي استهلتها مارت روبير/ Marthe Robert، بدا لي أنه من الممكن البحث عن السبل التي لم يتم استكشافها بعد لتفسير النّصوص، ولفهم مسار كافكا بالتركيز على عواقب وضعية الرازح تحت الهيمنة في براغ/ Prague بداية القرن العشرين. من ناحية أخرى، أشتغلُ على الترجمة. يبدو لي من خلال التفكير فيما أنجزت أنني لم أضع الترجمة بما فيه الكفاية في قلب آليات "صناعة" وتداول النّصوص في جمهورية الآداب. وأود، في الوقت نفسه، أن أقدم تاريخًا موجزًا للصّلة بين الترجمة (حتى اللاواعية أو الضمنية) والمكانة التي يشغلها المترجمون في الفضاء ـ كما أن التأمّلات المقارنية لجياكومو ليوباردي Leopardi [Giacomo] في أوائل القرن التاسع عشر في إيطاليا حول اللامساواة في الترجمة، تعدّ بمثابة دعم تاريخي لي ـ وأن أحاول تحديد دور مختلف عمليات الترجمة في الاقتصاد الخاص بالأدب، ووظائف الترجمات وفقًا لوضعية كل من اللغة المصدر واللغة المستهدفة. وبالنسبة لي، فهذا ليس تغييرًا في المنظور، ولكنه تعميق لعملي الأول الذي لم يكن في الحقيقة أكثر من برنامج عمل.
رابط النص الأصلي:
https://urlz.fr/nkLD
إحالات:
[1] . Voir en particulier La Relation esthétique, Éditions du Seuil, Paris, 1997.
[2] . Cf. Vérité et Méthode. Les grandes lignes d’une herméneutique philosophique, Éditions du Seuil, Paris, 1976 (trad. par E. Sacre).
[3] . Beckett l’Abstracteur. Anatomie d’une révolution littéraire, Éditions du Seuil, Paris, 1997.
- المترجم: إدريس الخضراوي
عن (ضفة ثالثة)