بادئ ذي بدء، يجب التأكيد، على ان اي خلاف حالي ما بين اطراف من الامة العربية وايران هو خلاف من الممكن نزع فتيله بتغليب العقل والرشد واقرار الحقوق المشروعة لجميع الاطراف، انه خلاف مع توجهات النظام الايراني وليس مع الدولة الايرانية وشعبها. بعبارة اخرى انه ليس خلافاً حتمياً، في حين ان الصراع مع الكيان الاستيطاني الصهيوني هو صراع وجودي لا هوادة فيه. انه صراع شامل لا يمكن حلّه الا بمقارعة الكيان الغاصب لدحر عدوانيته واسترجاع كامل حقوق الشعب العربي الفلسطيني المغتصبة … وحدة المسلمين هي أمر إلهي، قال سبحانه "ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون".
عندما أطاحت ثورة الشعب الإيراني المجيدة في 1979 بالنظام الشاهنشاهي المتحالف مع واشنطن وتل ابيب، ابتهج أحرار الأمة العربية وتفاءلوا بتشكيل تحالف استراتيجي ما بين الامتين الشقيقتين، العربية والايرانية، تحالف قائم على الاحترام المتبادل، دون وصاية اي طرف على الآخر، تحالف يحقق الازدهار المشترك ويناهض المعسكر الاستعماري والصهيوني، تحالف جليل كان احرار الامة العربية: مصر عبد الناصر والمقاومة الفلسطينية والابرار العروبيون يطمحون لتحقيقه عندما كانوا يدعمون المعارضة الايرانية في عهد الشاه، تحالف يؤدي الى تلاقي العروبيين مع نظائرهم الإيرانيين في خندق واحد لمقارعة أعداء الامة. شارك في نشوب الثورة اطياف عديدة من الشعب الايراني: اسلاميون، يساريون، دستوريون، ليبراليون، ديمقراطيون، الا ان رجال الدين بقيادة السيد الخميني استطاعوا احتكار السلطة في نهاية المطاف.
ما شجع العروبيين على امكانية انجاز هذا التحالف كان تمجيد السيد الخميني لعبد الناصر بقوله عنه "هو أعظم عربي ظهر في عصرنا، ووفاته خسارة عظيمة للعالم الإسلامي وللعلاقات بين مصر وإيران، لقد كان أقرب زعيم لثورتنا عندما كنا مطاردين من الشاه، لقد كان أول شخص وجهت إليه التحية وترحمت عليه عقب وصولي إلى إيران بعد الثورة"، وذكر السيد خامئني انه عند سماعه بخبر وفاة عبد الناصر "بكيت عليه كما لم أبك على ابي". التوجه السياسي والايماني الناصري، الذي نوّر وميضه ارجاء الوطن العربي والامة الاسلامية والعالم الثالث، كان توجهاً وحدوياً مقارعاً للاستعمار ومحارباً لأية نزعة طائفية، مذهبية كانت او عنصرية. غير ان النظام الإيراني المتمثل في حكامه الجدد ارتأى ان يتخذ موقفاً فئوياً، موقفاً وثّقه في دستوره (الفقرة 12)، موقفاً عكس طائفية النظام ونزعته لتصدير مذهبيته ونشر هيمنته، موقفاً ادى الى مصيبة كبرى تمثلت بحرب شعواء دامت 8 سنين، حرب تداعياتها الكارثية خلقت أسوأ فاجعة حلّت بالأمة العربية والاسلامية منذ اغتصاب فلسطين، فاجعة لا تزال الامة تعاني من ويلاتها.
ان يستخدم اي نظام العنف والدم والنار لتصدير معتقداته هو قطعاً اسلوب ضال. الطريقة المثلى هي بناء دولة يرغب الاخرون في محاكاتها وتقليد نظامها، دولة يكنّ حكامها وشعبها الاحترام والود لبعضهما البعض، دولة قانون وعدل ومؤسسات كفؤه، دولة تحتضن العدالة الاجتماعية والنزاهة والحداثة، دولة نظامها قائم على الجدارة وليس المحسوبية او المذهبية او المحاصصة، دولة توفر الفرص لكل افراد شعبها لتحقيق طموحاتهم المشروعة، دولة تنصف ولا تقمع، دولة تؤمن ان الحياة في سبيل فرائض الله السمحاء والقيّم الايمانية السامية هي أجلّ وارقى من الموت في سبيل المذهب.
تبنى النظام الايراني الجديد نظرية "ولاية الفقيه" المطلقة، وهي نظرية ضيقة لم يرضها الكثير من فقهاء الشيعة الاثنى عشرية، في مقدمتهم مرجع النجف الشريف الأعلى السيد علي السيستاني. وفق هذه النظرية ينوب "الولي الفقيه" (المرشد الاعلى) عن الامام الثاني عشر الغائب، المهدي المنتظر، في قيادة الامة الاسلامية دينياً وسياسياً، اي ان ولايته لا تقتصر على الامور الفقهية بل تمتد الى الامور السياسية والسلطوية، وبذلك يصبح "ولي الفقيه" الحاكم الفعلي والفقيه الاعلى. وبما ان سلطة الامام المهدي، وفق فكر "ولي الفقيه"، لا تنحصر في الدولة التي سيظهر فيها بل تعم سائر الامة الاسلامية، فكذلك سلطة ممثله "الولي الفقيه".
تجلت عدائية "المرشد الاعلى"، رئيس النظام الايراني الجديد، للنظام العراقي حال توليه الحكم. عندما بعثت له القيادة العراقية رسالة تهنئة لاعتلائه السلطة، تضمن رده "السلام على من اتبع الهدى"، وهي عبارة يوجهها المسلمون الى الكفرة فقط، كان قد استعملها الرسول (ص) في رسائله الى القادة الروم والفرس يدعوهم للإسلام. عدائية طهران لبغداد وتحريضاتها ضد القيادة العراقية ازدادت حدة بمرور الوقت، فعلى سبيل المثال في شهر نيسان / ابريل 1980، دعا "المرشد الاعلى" العراقيين الى "الانتفاض وقطع ايادي قادتهم المجرمة"، وناشد الجيش العراقي "الاطاحة بالنظام"، وصرّح بانه "حرام على المسؤولين العراقيين ان يؤيدوا صدام الملعون". سببت تطفلات "المرشد الاعلى" المذهبية في الشأن العراقي كذلك اضراراً للمرجعية الدينية في النجف الاشرف، فمثلاً، أرسل خطاباً، نشرته الاذاعة الايرانية، الى المرجع العربي محمد باقر الصدر يطلب منه عدم مغادرة العراق، خطاب جدّلي، لم يكن هناك داعٍ لإرساله، ناهيك عن اذاعته، تسبب في اعتقال الصدر واستشهاده.
اورد محمود دعائي، سفير ايران لدى العراق 1979/1980 في مذكراته انه ناشد، بدون جدوى، المسؤولين الايرانيين قبل نشوب الحرب بتخفيض حملاتهم العدائية والتحريضية ضد النظام العراقي، وذكر ايضا انه، حسب طلب القيادة العراقية، أوصل رسالة الى "المرشد الاعلى" مفادها ان الرئيس صدام حسين على استعداد للتحاور المباشر، الا ان "المرشد الاعلى" رفض ذلك.. وفي مقابلة مع بي بي سي، صرح المرجع حسين علي منتظري، الرجل الثاني في ايران بعد قيام الثورة، بانه اقترح على "المرشد الاعلى" ارسال مبعوث الى بغداد لتأكيد نية النظام الجديد على اقامة علاقات جيدة مع العراق، لكن اقتراحه لم يُستجب له، واستهان "المرشد الاعلى" كذلك بتحذيره بان القيادة العراقية ستستعد للحرب ان لم تخفف ايران من حدة التوتر. علاوة على ذلك حسب تصريح لأبوالحسن بني صدر، رئيس الجمهورية الايرانية الاسبق، طلبت القيادة العراقية، بعد نجاح الثورة، من موسى الاصفهاني، حفيد المرجع ابو الحسن الموسوي الاصفهاني، ابلاغ "المرشد الاعلى" باستعداد العراق للتعاون مع الحكومة الجديدة، غير ان "المرشد الاعلى" تجاهل المبادرة العراقية واعتبرها دليل ضعف.
وقع العراق وايران في الجزائر عام 1975 اتفاقية تعاهدا فيها على عدم التدخل في الشئون الداخلية للبلد الآخر، وعلى تخطيط الحدود في شط العرب. التدخل الايراني في الشأن العراقي بعد ثورة 1979 كان نقضاً واضحاً لاتفاقية الجزائر، وتحدياً وجودياً للقيادة العراقية، وتهديداً للأمن القومي العراقي والعربي. مما لاشك فيه ان "المرشد الاعلى"، الذي استضافه العراق 13 سنة كلاجئ (1965-1978)، كان على علم تام بنهج القيادة العراقية الاستبدادي للاستئثار بالسلطة، وحرصها المطلق على سلامة جبهتها الداخلية، وعلى منع اي اختراق قد يهدد استقرارها الامني، وكان "المرشد الاعلى" على يقين أيضاً ان اي تهديد او استفزاز خارجي سترد علية القيادة العراقية الصاع صاعين. لذلك يمكن الاستنتاج انه كان يتطلع، عن سبق اصرار وترصد، الى اشعال حرب مع العراق.
و هذا ما حصل في ايلول / سبتمبر 1980. سبب التوتر الحاد والجو المسموم الذي ولّدته تحريضات النظام الايراني والقصف الحدودي والاختراق الجوي الى خلق ظرف تفجرت فيه حربٍ كارثية، حرب دامية وعبثية استمرت 8 سنوات طوال اسفرت عن خسائر هائلة لا تعوّض للبلدين الجارين، اُزهقت فيها ارواح مئات الالوف واُهدرت ترليونات الدولارات، حرب استنزافية المستفيد الحقيقي منها كان المعسكر الاستعماري والصهيوني ومصانع الاسلحة والدمار الاجنبية، معسكر شرير اراد وخطط وبذل جهده لاستمرار الحرب سنين طوالاً تستنزف طاقات الطرفيين كلياً. اوضح موقف هذا المعسكر بدقة عرّاب السياسة الامريكية الخارجية، هنري كيسنجر، بقوله "المصلحة الاساسية لأميركا في الحرب هي ان كليهما يجب ان يخسر" (لوس انجلس تايمز، ١٦-٢-١٩٨٦).
حرب اصر "المرشد الاعلى" على عدم ايقافها حتى يتم تحقيق هدفه بالإطاحة بالنظام العراقي. اصرار تطابق مع مصالح معسكر الشر، اصرار عبثي لم يسفر فقط الى فشل "المرشد الاعلى" في الاطاحة بالنظام العراقي بل أيضاً، كما سيتبين، الى مساومة النظام الايراني على مبادئه المعلنة بالعداء الصلب لواشنطن وتل ابيب. ظهرت واستجدت اسباب كثيرة، خصوصاً في 1982، كان ينبغي ان تحث اي نظام رشيد الى انهاء الحرب. اضافة الى ايقاف حمام اراقة الدماء الزكية وكبح الدمار الهائل، من اهم تلك الاسباب: انسحاب القوات العراقية من الاراضي الايرانية، ومبادرات القيادة العراقية لإيقاف العمليات العسكرية، ومنع تزايد انتشار الفتنة بين ابناء الامة، وازالة شماتة وحبور الاعداء، واستجابة للوساطات المكثفة الدولية والاسلامية والعربية.
في مجال مبادرات القيادة العراقية لإيقاف الحرب، اكد في كتابه "الحرب الايرانية - العراقية"، البرفسور بيير رازو، الخبير في معهد البحوث الاستراتيجية، باريس، والمسؤول السابق في وزارة الدفاع الفرنسية، ان الرئيس صدام حسين عرض في كانون الثاني / يناير 1983 استعداده لزيارة طهران للتفاوض مع الخميني لإحلال السلام، الا ان الجانب الايراني رفض عرضه قال الله تعالى "وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم"، واوصى النبي الاعظم محمد (ص) "كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرام: دمه وماله وعرضه".
الجيش الذي ورثه نظام "المرشد الاعلى" من حكومة الشاهنشاه كان يعد من اقوى الجيوش في العالم، مسلحاً بأحدث الاسلحة الامريكية. قرر النظام الايراني ان اهمية مواصلة حربه مع العراق تتطلب تعزيز اسلحة جيشه الامريكية الصنع والحصول على ادوات الاحتياط والصواريخ والاجهزة التي كانت قواته على دراية بها وتدربت سابقاً على استعمالها، قرار ترتب عليه تداعي خطير: التداول مع واشنطن. جرت هذه المفاوضات سراً حيث ان واشنطن كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران على اثر ازمة احتجاز 52 أمريكياً في السفارة الامريكية في طهران والتي دامت قرابة 15 شهراً انتهت في كانون الثاني / يناير 1981 بعد انتخاب الجمهوري دونالد ريجان رئيساً للولايات المتحدة. لعبت تل ابيب دوراً اساسياً في المفاوضات وكانت المورد الرئيسي للأسلحة الامريكية الى ايران. وقد قدّر البروفيسور بيير رازو، ان "اسرائيل حققت في السنوات الست الاولى من الحرب ما بين مليار وملياري دولار من شحنات الاسلحة وقطع الغيار الى ايران".
على الاغلب، لو توقفت الحرب في 1982 لما اجاز النظام الايراني لنفسه مساومة شعاراته المعادية للولايات المتحدة والكيان الصهيوني. مساومة معيبة تمثّلت بعقد طهران اتفاقيات سرية مع واشنطن وتل ابيب دفعت لهما بموجبها مليارات الدولارات، اتفاقيات لم تقتصر على ما سمي بفضيحة "ايران- غيت" المشهورة، بل تعداها الى صفقات اسلحة كبرى اخرى، صفقات ازالت النقاب عنها صحيفة النيويورك تايمس في 8-12-1991 بواسطة المحقق الصحفي البارز سيمور هيرش المعروف بكشفه فضائح كبرى للجيش الامريكي في فيتنام وابو غريب ومؤخراً عن تفجير انابيب الغاز من روسيا الى المانيا وكثير غيرها. بالإضافة الى سيمور هيرش، وثّق وزير الخارجية البريطاني الاسبق، جاك سترو، هذه الصفقات في كتابه "الوظيفة الإنجليزية" (ص 199-213).
يتبين من اعلاه ان تجذّر عداء النظام الايراني للقيادة العراقية جعله غير مترددٍ في اتخاذ اي اجراء، او التعاون مع اية جهة، من اجل قهر جاره العربي. كمؤشر آخر على هذا السلوك، كان تنسيقه، على ما يبدو، مع الكيان الغاصب لتدمير المفاعل النووي العراقي (مفاعل تموز/ اوزيراك) جنوب شرقي بغداد. من اول الهجمات التي قام بها الطيران الايراني بعد بدء الحرب كانت غارته على مفاعل تموز في 30-9-1980 ولكنها باءت بالفشل حيث لم تتمكن إلا من إحداث اضرار طفيفة.
اثر فشل الغارة الايرانية، عزم الكيان الصهيوني على مهاجمة المفاعل العراقي بنفسه. وفعلاً في 7-6-1981، اي بعد مرور 9 اشهر على الغارة الايرانية، قامت طائرات العدو الصهيوني بقصف المفاعل أدى الى اتلافه. وفقاً لما جاء في كتاب "التحالف الغادر" لمؤلفه تريتا بارسي، البروفسور السابق في جامعة جونز هوبكنز، واشنطن، (ص107)، قبل شهر من الهجوم الثاني، اجتمع في فرنسا ممثلون عن النظام الايراني مع مسؤولين من الكيان الغاصب، شرح فيه الايرانيون تفاصيل هجومهم غير الناجح، ووافقوا على السماح لطائرات الكيان، ان اقتضت الضرورة، بالهبوط في ايران. اضافة الى ذلك، زود الايرانيون الكيان الغاصب بصور وخرائط للمفاعل العراقي.
اكد هذا التنسيق ما بين الكيان الغاصب والنظام الايراني لتدمير المفاعل العراقي وزير الخارجية البريطاني الاسبق، جاك سترو، في كتابه "الوظيفة الانجليزية" (ص١٩٩-٢٠٠). واضاف جاك سترو ان تل ابيب زودت طهران بصور جوية عن مطار عسكري مهم في غرب العراق ( H3 ) مكّنت الطيران الايراني من شن غارة عليه في ٤-٤-١٩٨١ اسفرت عن تحطيم ٤٠ طائرة عراقية وتدمير القاعدة، الامر الذي ادى، وفق ما ذكره جاك سترو، الى تسهيل مهمة الطيران الصهيوني في غارته على المفاعل الذري العراقي التي تمت بعد 64 يوماً.
تمكن الجيش الايراني في شباط / فبراير ١٩٨٦ من احتلال شبه جزيرة الفاو العراقية. النجاح الايراني في احتلال الفاو اوهم طهران بأن مدناً عراقية مهمة اخرى، كالبصرة مثلاً، ستتساقط في احضانه. العكس هو الذي حصل تماماً، حيث ردعت القوات المسلحة العراقية جميع الهجمات الايرانية المكثفة اللاحقة. من أضخم تللك الهجمات كانت موقعة البصرة التي جند لها النظام الايراني ٢٠٠ الف من خيرة قواته محاولاً احتلال البصرة. ابتدأ الهجوم في ٢٣-١٢-١٩٨٦ واستمر ٦٦ يوماً وانتهى بالفشل في ٢٧-٢-١٩٨٧. تمكنت القوات المسلحة العراقية من صد ودحر هجمات الجيش الإيراني، وكبدته خسائر فادحة في الارواح والمعدات. احد القادة الايرانيين الذين هزموا في معارك البصرة كان قاسم سليماني وقتل فيها رفيقه حسين خرازي.
و في نيسان / ابريل ١٩٨٨ شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً حررت فيه، خلال ٣٥ ساعة، شبه جزيرة الفاو، وتعاقبت اثناء الاشهر الاربعة التالية انتصارات عراقية كاسحة ارغمت النظام الايراني في نهاية المطاف على القبول غير المشروط بوقف اطلاق النار في تموز/يوليو ١٩٨٨. قبول وصفه "الولي الفقيه" "الموت والشهادة أهون عليّ من هذا، كم انا حزين لأنني تجرعت كاساً من السم حين وافقت على القرار" (نوشدين جام زهر).
بعد مرور سنتين على ابتداء الحرب، اي في ١٩٨٢، استعادت ايران كل اراضيها، من الاكيد كان ذلك هو الوقت الانسب للنظام الايراني باتخاذ قرار ايقاف الحرب، ايقاف مشرف من موقع قوة وليس ضعفاً كالذي حصل بعد 6 سنوات، ايقاف اختياري وليس اجبارياً، ايقاف كان سيجنبه الخسائر البشرية والمادية المهولة التي تكبدها منذ 1982، ايقاف يجنبه التغاضي المعيب عن مبادئه بالتداول مع واشنطن وتل ابيب، ايقاف يحفظ له ماء وجهه ويجنبه مرارة تجرعه لكأس السم، ايقاف ربما كان سيؤدي الى تفادي تفاقم مشاعر الحقد والانتقام من العراق. انتهاء الحرب بتفوق العراق اسبغ على قيادته شعوراً بالغاً بالزهو وثقة مفرطة بالنفس وافتخاراً ضخماً بمنعته. تجلى التفوّق أيضاً بامتلاك العراق لقوات لها قدرات قتالية ضاربة واسلحة متطورة وامكانيات تكنولوجية، قدرات شكّلت تهديداً لمصالح معسكر الغرب الاستعماري والكيان الغاصب، معسكر اراد وخطط وعمل على استمرار الحرب لسنين طوال تستنزف طاقات الطرفيين كلياً.
كانت نهاية الحرب إيذاناً أيضاً ببدء مطالبة حكام الكويت العراق بإعادة المبالغ التي دفعوها له اثناء الحرب، مطالبة اعتبرتها القيادة العراقية غير مبررة حيث من وجهة نظرها فإن القتال المرير الذي خاضه العراق على مدى 8 سنوات كان في الاساس لحماية بوابة الامة العربية الشرقية وللدفاع عن دول الخليج العربية. دفاع العراق عن دول الخليج اكده وزير خارجية النظام الايراني، جواد ظريف. في مقال نشره في النيويورك تايمز بتاريخ ١٣-٩-٢٠١٦ شمت فيه بزوال قيادة النظام السابق، وكتب "ان امراء الرياض يتوقون الى ايام حكم صدام حسين .. الذي تصدى لما سميّ بالخطر الايراني. غير مدركين ان صدام قد مات ولا يمكن اعادة الساعة الى الوراء".
اخذت العلاقات العراقية - الكويتية بالتدهور السريع والخطير. اتهمت بغداد الكويت باتخاذ اجراءات عدائية سببت اضراراً جسيمة للعراق منها: سرقة النفط العراقي من حقل الرميلة، الممانعة في تأجير جزيرتي وربة وبوبيان، الاغراق غير المبرر للأسواق النفطية الذي سبب انخفاض اسعار النفط الخام وبالتالي التدني الكبير لإيرادات العراق، في الوقت الذي كان فيه اقتصاده، بسبب الحرب، في امس الحاجة الى عوائد اضافية. "قطع الاعناق ولا قطع الارزاق" هذا ما رددته بغداد.
اعتبرت القيادة العراقية مواقف الكويت غير مسؤولة وعدائية وبانها جزء من المخطط الاستعماري لضعضعة العراق وتحجيمه بعد خروجه منتصراً من حربه مع النظام الايراني. الذي اثار هذا الاعتقاد تزامن سياسات النظام الكويتي السلبية مع اتخاذ واشنطن ولندن مواقف عدائية تجاه بغداد تمثلت في حملات اعلامية ومقاطعات تجارية، حاولت بغداد التصدي لها بصرامة افضت، مثلاً، الى اعتقال واعدام مراسل جريدة بريطانية اُتهمته بالتجسس. أما اخطر النوايا العدوانية كانت تلك التي صدرت من الكيان الغاصب. في ٣٠-٣-١٩٩٠ صرّح ايهود باراك، نائب رئيس اركان جيش الكيان، "ان اسرائيل لابد ان تكون جاهزة لضربة وقائية ضد العراق في اي وقت تشعر فيه ان قواته خطر عليها". بعد 3 ايام جاء رد القيادة العراقية بالتهديد بحرق الكيان الغاصب ان اعتدى على العراق او على اي قطر عربي.
من الاكيد ان انتهاء حرب السنوات الثماني بتفوق العراق، الغريم اللدود للكيان الصهيوني، وبامتلاكه لقوة ضاربة وقدرات معززة ادى الى تعاظم العداء والمقت الامريكي - الصهيوني للعراق، مقت شاركت فيه انظمة دول الجوار. لذلك يمكن القول انه لو توقفت الحرب بدون غالب او مغلوب، مثلاً في 1982، لكان من المستبعد ان تصاب واشنطن المتصهينة بهوس اهلاك العراق، هوس جسيم تجسّد بعدئذ في حرب ضروس شنتها على العراق دامت ١٣ سنة (١٩٩٠- ٢٠٠٣)، حرب اتخذت اشكالا عدة من هجوم كاسح، الى حصار سافك، الى قصف متواصل، الى غزو آثم، الى احتلال جائر، الى نصب حكم فاسد غاشم محاصصي طائفي. حرب ابتدأت بنصب مكيدة وقع فيها الرئيس العراقي تمثلت بقراره لاجتياح الكويت، اجتياح اهوج رافقه قرار أسوأ بعدم الانسحاب. بدون اي شك، ولّدت نشوة انتصار القوات المسلحة العراقية بإرغامها النظام الايراني على القبول غير المشروط لوقف الحرب ثقة مفرطة عند الرئيس العراقي، نشوة ادت الى سياسات متهورة تشابه تلك التي اتبعها "ولي الفقيه" نتيجة نشوة انتصاره على النظام الشاهنشاهي. من الواضح ان نشوة النصر لها تداعيات وخيمة عندما تتحقق لاي حاكم مطلق يفتقر الحُلم والتأني وبعد النظر.
غزو العراق ما كان لينجز بهذه السهولة لولا تحريض وتواطؤ انظمة دول الجوار. "منذ عملية عاصفة الصحراء عام ١٩٩٠ وحتى إطاحة الولايات المتحدة بنظام صدام حسين عام 2003، كانت المملكة العربية السعودية الشريك العربي الاساسي لأميركا في مواجهة المشاكل التي تواجه الاستقرار الدولي والنابعة من العراق" هذا ما ذكره تقرير خاص (رقم ١٥٧، كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٦) اعده معهد السلام الامريكي وهو مؤسسة رسمية أنشأها ويمولّها الكونجرس الامريكي. النظام الايراني، بدوره، دفعه عداؤه للنظام العراقي ورغبته في الانتقام لخسارته المريرة لحرب السنوات الثماني الى التنسيق مع الادارة الامريكية في خططها لغزو العراق. تنسيق وثّقه زلماي خليلزادة الدبلوماسي الامريكي البارز.
زلماي خليلزاد، ممثل اميركا في الامم المتحدة والذي عيّنه بوش في ٢-١٢-٢٠٠٢ كمندوبه الخاص عند "المعارضة" العراقية في الخارج، اقر في كتابه "المبعوث" (ص: ١٦٤-١٦٥) انه قبيل الغزو عقد اجتماعين مع محمد جواد ظريف، ممثل ايران في الامم المتحدة في حينها ولاحقاً وزير خارجيتها، اكد له فيهما عزم واشنطن على ازالة نظام صدام حسين، وبعدم وجود اي خطط لتوسيع الحرب الى ايران، وتطلعه لتعاون ايراني في بعض النواحي. وابلغه كذلك برغبة واشنطن في ان تشجع ايران 'الشيعة العراقيين' على مساهمتهم في الحكومة العراقية الجديدة. في المقابل اشار ظريف بوجوب اعادة تشكيل جذري للقوات الامنية العراقية لعدم امكانية اصلاحها، ودعا كذلك الى اجتثاث عميق لحزب البعث.
من اول ما قامت به الادارة الامريكية عند احتلالها للعراق هو تنفيذ كلا المطلبين الايرانيين: حل القوات المسلحة العراقية واجتثاث البعث. تنفيذ ابان امتنان واشنطن لما قدمته لها طهران من تسهيلات لإنجاح احتلالها وعمق تنسيقهما المتبادل. تسهيلات وتنسيق ثبته محمد علي ابطحي، نائب الرئيس الايراني للشؤون القانونية والبرلمانية، بقوله في ١٥-١-٢٠٠٤ بأن بلاده "قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد افغانستان والعراق"، مؤكداً "لولا التعاون الايراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة".
من هم 'الشيعة العراقيون' الذين اشار لهم خليلزاد عند اجتماعه مع جواد ظريف؟ من الإثم ان يطلق عليهم صفة الشيعة، انهم لفيف خارج على ثوابت شيعة آل البيت الأصلاء، لفيف استطاع النظام الايراني توظيفه لخدمة مصالحه الذاتية، لفيف تبنى الولاء الفتنوي على حساب الانتماء الوطني، لفيف قاتل ابناء وطنه ودعم الحصار الاجرامي الذي فتك بمئات الالوف من اهل بلدهم، لفيف ركب الدبابات الامريكية، دبابات تقطر عجلاتها دماءً، دبابات سحقت جنازيرها اجساداً، دماء واجساد مقاتلين اشاوس استشهدوا دفاعاً عن وطنهم ولأيمانهم بأن هتاف "هيهات منا الذلة" هو للتطبيق وليس للمتاجرة، لفيف مهد له الاحتلال العيث في العراق فساداً منذ ٢٠٠٣، لفيف هو المكون الرئيسي "للفئة الباغية" التي تضم كل من حرّض وتواطأ وارتضى بغزو واشنطن المتصهينة.
اثبت التنسيق الايراني الامريكي ان العدو الاخطر لأطماع واشنطن المتصهينة وطهران المُضللة هو عراق قدير متماسك، عراق وحدوي عروبي. فمن اجل تدمير امكانياته كان كلاهما على استعداد لتناسي خصامهم المتبادل. عند البعض، تطبيق المبدأ الميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" لا يتعارض مع ثوابتهم الواهية. اولئك الذين يشككون، من منطلقات طائفية او عاطفية، في التعاون الامريكي الايراني في الشأن العراقي، عليهم دراسة الحقائق الموضوعية ومصادرها الموثقة. في هذا المجال، قال احد المفكرين الكبار "طالب الحق يكفيه دليل، وصاحب الهوى لا يكفيه الف دليل، الجاهل يُعلّم وصاحب الهوى ليس لنا عليه سبيل".
لم تقتصر عواقب الغزو الامريكي على تدمير العراق فحسب، بل أيضاً على استحواذ النظام الايراني على ما فشل في تحقيقه في حرب السنوات الثماني: الاطاحة بالنظام السابق، وتنصيب نظام حليف له، نظام تقوده "فئة باغية" تعيث في العراق فساداً، فئة شرذمت العراق واسقطته الى الحضيض. يا لها من مفارقة: واشنطن تغزو وطهران تنتفع! يتساءل ابرار الامة العربية كيف يمكن للنظام الايراني، الذي ناضل وثار ضد النظام الشاهنشاهي لفساده وظلمه، ان يبرر تحالفه واحتضانه ودعمه لنظام اكثر فساداً وظلماً: نظام "الفئة الباغية"، الفئة التي ينطبق عليها وصف الحسين (ع): "هؤلاء قوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء". الفئة التي حولت مهد الحضارات، العراق، الى مرتع للشعوذة المذهبية الدنسة.
حتماً ستدرك طهران، ان شاء الله عاجلاً وليس اجلا، ان احرار العراق يرفضون اي تبعية او هيمنة اجنبية، ولن يساوموا في اي حال من الاحوال على عزة العراق وسيادته وكرامته، انتماؤهم الوطني يسمو فوق اي انتساب آخر، وكلما اسرعت طهران في ادراك هذه البديهية كان ذلك افضل لها. ان من مصلحة النظام الايراني ان يعيد النظر بدعمه "للفئة الباغية" قبل تفاقم وانفجار نقمة احرار العراق والتي تجلت بوادرها في مظاهراتهم التي احُرقت فيها القنصليات الايرانية في النجف وكربلاء والبصرة، وفي هتافهم المدوي "ذيل لوكي العن ابو ايران لابو امريكا". النظام الايراني الذي اقترف خطأ جسيماً بتصميمه على استمرار حربه على العراق لسنين طوال، حرباً انتهت بفشله وبتجرعه لكاس السم، عليه تفادي خطأ استراتيجي مشابه باستمرار دعمه "للفئة الباغية". على طهران الاتعاظ بالآية الكريمة "و ما ابرئ نفسي، ان النفس لأمارة بالسوء، الا ما رحم ربي، ان ربي غفور رحيم".
مما لا شك فيه، تحقيق الوئام ما بين الدولتين الجارتين، يتطلب من طهران التخلي عن سعيها لتصدير معتقداتها وفرض هيمنتها. الوحدة الاسلامية وعلاقات حسن الجوار التي تدعو اليهما طهران لا يتحققان قولاً، بل عملاً وتطبيقاً. لن يتم ذلك ما لم يتجاوز النظام الايراني مصالحه الانانية، وينبذ "الفئة الباغية"، نبذ يستوجبه دافعان: الاول اخلاقي والثاني ديني. قال الامام علي (ع) "الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَإِثْمُ الرِّضَى بِهِ".
مع كل هذا، لا يزال ابرار العراق يكنون الود لأخوتهم ابناء الشعب الايراني، ويتطلعون الى اليوم الذي يجمعهم مع احرار ايران في خندق واحد، ليس ليتقاتلوا بل ليقاتلوا معاً اعداء الامة من استكباريين، وصهاينة، وطائفيين، وتكفيريين. انهم متمسكون بقوله تعالى، انه في نهاية المطاف، "ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون" صدق الله العظيم.