يرصد الباحث الفلسطيني جزءا من يوميات طوفان الأقصى والتي شكلت لحظة فارقة في الصراع من أجل الحقوق الفلسطينية الشرعية والتاريخية ورغم عمليات التقتيل الممنهج وعمليات الإبادة الجماعية اليومية والتواطؤ الدولي الصارخ فإن أصوات شرفاء العالم والصمود الفلسطيني وجاهزية المقاومة الفلسطينية تقدم دروسا إضافية من أجل انتزاع الحقوق المشروعة وكشف أقنعة اللوبي الصهيوني الممتد.

تقارير من فلسطين

في ظلال طوفان الأقصى: عدوٌ أحمق وقصفٌ أهوج

مصطفى يوسف اللداوي

ما زالت حكومة الكيان الصهيوني رغم كل ما قامت به ترغي وتزبد، وتهدد وتتوعد الفلسطينيين في غزة باجتياح قطاعهم، وتدمير بنيانهم، وتخريب أرضهم، وتعطيل مرافقهم وتغيير معالم مناطقهم، ثأراً وانتقاماً من حركة حماس، التي باغتتهم ونالت منهم، وصدمتهم وروعتهم، وألحقت بهم خسائر ما كانوا يتوقعون يوماً دفعها، أو التعرض لها في حياتهم أبداً، إذ اعتبروا أن زمن الهزائم قد ولى، وحروب المفاجئات قد انتهت، والجيوش التي كانت تهددهم قد ضعفت وتفككت، وعقيدتها القومية قد تلاشت، وبات قادتها أصدقاءً لهم وحلفاءً معهم، ولا يوجد بعدهم من يتجرأ عليهم أو يعتدي عليهم ويهدد أمنهم، فاطمأنوا إلى قوتهم واستعلوا، وركنوا إلى سلام المطبعين معهم وبطشوا، واستفردوا بالفلسطينيين وقصفوا، ظانين أنه ضعيفٌ وحده، وعاجزٌ بمفرده، وأنها مسألة أيامٍ ويسقط ويذعن.

إلا أن المقاومة الفلسطينية كذبتهم والمواجهة فضحتهم، ووجدوا أنفسهم في رحى معركةٍ لا ترحم، وبين رجالٍ لا يهابون مواجهتهم ولا يترددون في قتالهم، ولا ينتظرون هجومهم بل باغتوهم بالهجوم عليهم، وانقضوا عليهم في بلداتهم ومستوطناتهم، واقتحموا قواعدهم ومقراتهم العسكرية ومعسكرات تدريب جنودهم ومستودعات أسلحتهم، وخاضوا معركةً على مساحةٍ من الأرض هي ضعف مساحة قطاع غزة، على طول خمسين كيلو متراً وعمق ثمانين، قتلت فيها مئات الجنود والضباط، وساقت العشرات منهم أسرى إلى قطاع غزة، وأظهرت للعدو أنه وجنوده أضعف ما يكونون عند المواجهة، وأجبن ما يظهرون عندما يتقابلون وجهاً لوجه، بعيداً عن الطائرات التي تساندهم، والجدران التي تحميهم، والدبابات التي تقويهم.

لم يستفق العدو الصهيوني من هول الصدمة، ولم يتمكن من امتصاص حجم الضربة، ووقف مذهولاً صامتاً عاجزاً عن فعل شيءٍ أمام المقاومة، فلجأ بعد ساعاتٍ طويلةٍ بعد المعركة في قصف أهداف مدنية سكنية وشعبية في القطاع، ودمرت حمم صواريخه مدارس ومساجد وبيوت وأسواق، في قصفٍ أعمى أهوج وحشي، نفذته طائرات هجومية وبوارج حربية، تساندها مدافع الميدان والدبابات التي أحاطت بالحدود الشرقية لقطاع غزة فيما يشبه السور الحديدي، وأحدث القصف المتواصل المجنون ليلاً ونهاراً دماراً كبيراً في أرجاء القطاع، وتسبب حتى الساعات الأولى من اليوم الخامس على انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، في استشهاد أكثر من 1000 فلسطيني، وإصابة أكثر من 5500، وما زال القصف مستمراً، تدميراً للمباني ومسحاً لبعضها من الوجود، ونقباً للأرض وحرثاً للشوارع والطرقات.

لا يبدو أن العدو سيتوقف عن قصفه، أو سيتراجع عن غيه، فهو ما زال تحت هول الصدمة مشدوهاً ومذهولاً، فاقداً لعقله وغير مدركٍ لما يجري حوله، بعد أن أفقده طوفان الأقصى رشده وسلبه وعيه، فغدا كالثور الهائج يبحث عن هدف، ويتطلع إلى كسب، مدفوعاً بمشاعر الحقد وغرائز الانتقام الأسود، مما يرجح أنه سيمضي قدماً في عملياته الوحشية التي بدأ بها، متسلحاً بالولايات المتحدة الأمريكية التي تؤيده وتشجعه، وبدول أوروبا الغربية المريضة نفسياً التي تتفهمه وتبرر جريمته، ومستفيداً من صمت الدول العربية وعجزها، التي لا تمارس دورها وكأن ما يحدث في غزة لا يعنيها وليس من شأنها.

لكن العدو يخطئ كثيراً أنه بهذا القصف المجنون المؤيد بالصمت الدولي المخزي، والتأييد الأمريكي المعيب، يستطيع أن يجبر الشعب الفلسطيني الذي ذاق مرارة الحروب السابقة، وعاش ويلاتها، واكتوى بنيرانها، وتعرض لما يتعرض له اليوم، وأن يدفعه للخضوع والخنوع، والتسليم والاستسلام، والتخلي عن المقاومة، فهذا حلمٌ بعيد المنال، وغايةٌ مستحيلةٌ لن يدركها، فالفلسطينيون قد عرفوا عزة المقاومة، وشرف القتال، وذاقوا حلاوة النصر وكرامة القوة.

 

يجمعون التبرعات لإسرائيل فمن يمد يد العون لفلسطين

وكأن جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي في حاجةٍ إلى مساعداتٍ ماليةٍ ومعوناتٍ غذائية ووجباتٍ ساخنةٍ وسريعة، وسكاكر وحلويات، ووسائل ترفيهٍ وأجهزة تسليةٍ، وملابس وأحذية، وسترات وخوذ، حتى سارعت كبريات الشركات الدولية الأمريكية والغربية إلى تقديم كل ما يلزم جنود الاحتلال وما لا يلزمهم، في أوضح تضامنٍ مع الكيان في عدوانه على قطاع غزة، وتأييدٍ صارخٍ لغاراته الوحشية على سكانه.

وبذا يكونون معه شركاء في هذه الجريمة، ويتحملون مثله وربما أكثر المسؤولية عن هذا العدوان، إذ لولا تأييد حكوماتهم وغطائها السياسي للحكومة الإسرائيلية لما أقدمت على شن هذه الحرب القذرة، فقد أظهرت عملية طوفان الأقصى أنهم ضعفاء في القتال وحدهم، وجبناء في مواجهة عناصر المقاومة، وأعجز ما يكونون بمفردهم على نيل الظفر وتحقيق النصر.

الدعم المقصود هنا ليس الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تغدق به الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، وتقدمه بسخاءٍ كبيرٍ وبصورةٍ علنيةٍ ومكشوفة، رغم علمهم جميعاً أن الحكومة الإسرائيلية تستخدمه في قصف الشعب الفلسطيني وقتلهم في خيامهم ومراكز إيوائهم، وتدمير بيوتهم ومستشفياتهم ومساجدهم وأسواقهم ومدارسهم وجامعاتهم ومؤسساتهم، وكل شيءٍ آخر يتعلق بصمودهم وثباتهم على أرضهم، ويحافظ على بقائهم فيها.

إنما قصدت الدعم المادي والمعنوي الذي تقدمه الشركات والمؤسسات الغربية، وكذلك الشخصيات الإعلامية والثقافية والفنية والرياضية والاقتصادية، الذين يتنافسون فيما بينهم في تقديم مختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي، كتعبيرٍ عن تضامنهم مع الكيان الصهيوني ومساندتهم له، وتأييدهم له في حربه الهمجية على الفلسطينيين عموماً وسكان قطاع غزة على وجه الخصوص، وبالتالي مشاركتهم إياه العمليات الحربية العدوانية، وتحملهم معه كامل المسؤولية عن هذه الجرائم والمذابح وحروب الإبادة التي ينفذها جيش الاحتلال بدعمهم وتأييدهم.

فهذه شركة برسيل للمنظفات الصناعية تضع على غلاف غزة مئات الغسلات الكهربائية، مع مسحوق الغسيل ومولدات الطاقة اللازمة، والمجففات الكهربائية، لتمكين جنود وضباط جيش الاحتلال من غسيل ثيابهم وبزاتهم العسكرية وتجفيفها.

وأعلنت شركة ماكدونالدز تقديم آلاف الوجبات السريعة المجانية لجنود وضباط جيش الاحتلال في الميدان وغلاف قطاع غزة، وللمصابين والجرحى في المستشفيات، وعرضت حسوماتٍ كبيرة لكل العسكريين وعائلاتهم الذين يتناولون وجبات ماكدونالدز في صالاتها ومطاعمها.

إلا أن شركتي البيتزا الأمريكية الشهيرة "بيتزا هت"، و"بابا جونز"، قررتا أن يقدما لجيش الاحتلال مجاناً كل ما يطلبه من عروض البيتزا، ولم تحددا الكمية التي تبرعتا بها، بل جعل إداراتها سقفها حاجة الجنود والضباط ومراكز الخدمة العسكرية والشرطية في كل أنحاء الكيان الصهيوني.

أما شركات العصائر والكوكا كولا فقد تباروا في تقديم المشروبات الباردة والبرادات الخفيفة لجنود الاحتلال، وفي الوقت نفسه قاموا بالتبرع بملايين الدولارات لمؤسسات إسرائيلية مختلفة، ومنها مؤسسات استيطانية تقوم بقضم الأراضي الفلسطينية والاستيلاء عليها وطرد أهلها منها.

لا أحاول هنا استعراض كل الشركات التي تتنافس في تقديم الخدمات المجانية لجيش العدو ومؤسساته، لأنها للأسف مؤسسات وشركات كثيرة، وهي لا تخجل مما تقوم به وتقدمه، بل تستعرض خدماتها وتنشر صور جنود الاحتلال وهم يتناولون وجباتها، أو يشربون مشروباتها، ويتناولون سكاكرها وحلوياتها، أو يلبسون ثيابها وأحذيتها، ويعرضون الصور لمزيدٍ من الدعم والتشجيع.

التبرعات لا تقتصر على شركات الطعام والمشروبات والحلويات والسكاكر، بل تتعداها إلى شركات الملابس والأحذية من مختلف الماركات العالمية، التي تحرص على أن يلبس جنود الاحتلال من إنتاج شركاتها، ويضعون شاراتها ويظهرون ماركاتها، وهي تقدمها لهم بالمجان، ويقوم مندوبون عنها بتسليمها إلى المراكز العسكرية الإسرائيلية.

كما لا يقتصر دعم الشركات الغربية للكيان الصهيوني على الخدمات المادية فقط، بل تلجأ الشركات والأشخاص، والمؤسسات الإعلامية والنوادي الرياضية، والبنوك وبيوت المال، وشركات الإنتاج الفني والعمل السينمائي، إلى رفع الأعلام الإسرائيلية، وصور جنوده في الميدان، وتعرض رسائل الإشادة والتأييد، وكلمات المساندة والمواساة لجنود جيش العدو وعائلاته، إذ تتضامن معهم، وتدعو إلى دعمهم نفسياً ومعنوياً، وتطالب بمواساتهم والتخفيف عنهم وتقدير معاناتهم.

ليت أنظمتنا العربية والإسلامية، وشركاتنا وهيئاتنا، ومصانعنا ومعاملنا، وإعلامنا وأعلامنا، يتعلمون من هذا الغرب الفاسد الظالم، المنحرف الضال، الذي يؤيد الظلم ويساند الباطل، فتقف مع حقنا وتؤيد قضيتنا، وتنصر الشعب الفلسطيني، وتقدم له كل أسباب البقاء وعوامل الوجود والثبات.

ويا ليتها تحارب من يحاصره، وتعاقب من يخنقه، وتفتح أمامه كل الحدود، وتزيل من أمامه كل الموانع والسدود، وتدخل كل ما يحتاج إليه من الماء والغذاء والدواء والكهرباء، وكل شيءٍ آخر يلزمه ليثبت ويبقى، ويصمد ويقاوم، فالفلسطيني هو المحتاج للدعم، والعربي والمسلم هو المكلف بالواجب، وهو المسؤول عن العجز والتقصير، والمحاسب أمام الله عز وجل وأجيال الأمة عن الضعف والخذلان.

 

مرتزقة العدو جيفٌ لا يُذكرون ونكراتٌ لا يُقدرون

يتشدق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه يؤاف غالانت وأعضاء حكومة الحرب، خلال جولاتهم المرتعشة على القواعد والتجمعات العسكرية حول قطاع غزة، بقوة جيشهم، وحزم قادته، وجرأة جنوده، والجاهزية العالية للقتال، والروح المعنوية المرتفعة للجنود، واستعدادهم للتضحية بأرواحهم في سبيل "الشعب والبيت"، ويتفاخرون بأن عشرات الآلاف من الجنود والضباط الاحتياط، قد هبوا للالتحاق بالخدمة العسكرية، والمشاركة في الحرب والقتال ضد المقاومة في قطاع غزة، وأن العديد منهم قطعوا إجازاتهم وعادوا من رحلاتهم الخارجية الخاصة وعطلاتهم العائلية، وأبدوا حماستهم للمشاركة في الحرب، والثأر والانتقام من الفلسطينيين ومقاومتهم، الذين أوجعوهم ومرغوا أنفهم بالتراب صبيحة يوم السابع من أكتوبر الماضي.

لكن نتنياهو وحكومة الإجرام والتطرف التي يقودها، يعلمون تماماً أن الذين اجتمعوا حولهم، ورفعوا معه أصواتهم، وهددوا وزمجروا وتوعدوا، قد انفضوا في أغلبهم من حوله، وتخلوا عنه وعن حكومته، ولم يعد معه وإلى جانبه من يضحي بحياته من أجل غاياتٍ وأهدافٍ باتوا يعلمون أنها غاياتٌ وأهدافٌ شخصية، تخدم نتنياهو وفريقه فقط، وتفرط في حياتهم ومصالح كيانهم، وتغامر بمستقبلهم وتقامر باستقرارهم، وقد تأكد لديهم أن حكومتهم غير معنية باستعادة الجنود الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، بل إنها تتعمد قتلهم والتخلص منهم، وأنه لا خطة عملية لديها لاستنقاذهم، ولا استعداد لديها للمفاوضة لاستعادتهم وتطمين عائلاتهم.

أمام هذا الخلل الحادث والاضطراب الناشئ في بنية الجيش وتركيبته، وفي عديده وجاهزيته، واستعداده وقابليته، بات لزاماً على قيادته أن يعوضوا النقص، وأن يرأبوا الصدع، وأن يوفروا البديل الذي يقوم بالدور ويؤدي الواجب، فاستقدموا على عجل مئات المقاتلين المرتزقة، من دولٍ وجنسياتٍ مختلفة، وتعاقدوا مع العديد من الشركات الأمنية، التي تمتهن القتل وتمارس القتال، واستجلبوهم إلى فلسطين من كل مكانٍ، وألبسوهم زي جيشهم، وحملوهم سلاحه، وعلقوا على أكتافهم شاراته، وأطلقوهم كما الكلاب في مدن ومخيمات وأحياء قطاع غزة، وأوصوهم بالشدة والقسوة، ووعدوهم بالهدايا والمكافئات.

إلا أن المرتزقة الذين أغواهم الإحتلال وضحك عليهم قادة جيشه، ظنوا أن المهمة في القطاع سهلة، وأن مدة القتال قصيرة، وأنها ليست إلا أياماً معدودة، يعودون بعدها إلى بلادهم وأسرهم، وجيبوهم ملأى بالأموال، وأيديهم مثقلة بالهدايا والألعاب، وأنهم سيحصدون بالأسلحة التي يحملون، والمهارات التي يتميزون بها، أرواح المقاتلين الفلسطينيين، وسيجهزون عليهم خلال أيامٍ قليلة، وسيحققون للكيان الصهيوني ما عجز جيشهم عن تحقيقه، لكنهم فوجئوا بأن المهمة صعبة، وأن القتال شديداً، ووجدوا أن الأرض عليهم غريبة وأن القتال فيها خطر، والثبات عليها مستحيل، فالقتل يلاحقهم والمقاتلون يباغتونهم، ولا يوجد من ينقذهم أو يحميهم.

ومن جهةٍ أخرى وجد المرتزقة أن غرفة عمليات جيش الاحتلال لا تعبأ بهم ولا تفكر فيهم، ولا تقلق لشأنهم، ولا تستنفر قواها للدفاع عنهم، وأن جل اهتمامها ينصب على الجنود الإسرائيليين فقط، فهم محل اهتمامها ومحط تضحيتها وقتالها، تتابع شؤونهم وتتفقد أحوالهم، وتحفظ أسماءهم وتعرف أماكنهم، وتكون قريبة منهم، تلبي طلباتهم وتستجيب إلى احتياجاتهم، وتحرص على أمنهم وراحتهم، تستبدلهم بقواتٍ أخرى، وتنقلهم وقت راحتهم إلى أمان آمنة، يقضون فيها حاجاتهم، ويتصلون بعائلاتهم، ويطمئنون على أوضاعهم.

وهم بلا شك يلاحظون أنهم ليسوا أكثر من أرقامٍ وأعدادٍ، لا مكان لهم ولا قدر، ولا قيمة لهم ولا شأن، فإن قتل أحدٌ منهم في القتال فلا يعبأ به أحد، ولا تعترف به قيادة الجيش، ولا تذكر اسمه، ولا تورده ضمن قوائم القتلى وأسماء الضحايا، بل إنها لا تبذل جهداً في نقل جثامينهم، أو علاج جرحاهم ولا تعجل في نقل مصابيهم، وهو ما يفسر بيانات الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذي يورد بالأدلة والصور عدد الآليات المستهدفة تدميراً وحرقاً وعطباً، وبالتالي أعداد القتلى المتوقعين، والجنود المجندلين في أرض المعركة، فالأدلة والشواهد تؤكد أن عدد القتلى الإسرائيليين كبير، ولكن العدد الذي تعترف قيادة الجيش أقل مما هو متوقع، ما يعني قطعاً أن جيش الاحتلال لا يعترف بالقتلى المرتزقة، ولا يعتبر مقتلهم خسارة.

ليت المرتزقة البلهاء والمأجورين السفهاء، يدركون جهالتهم، ويكتشفون غباءهم، ويستدركون أنفسهم ويحفظون حياتهم، ويعودون من غزة أدراجهم، فهذا العدو الموقن بالهزيمة، والمدرك للخسارة، والفاقد للأهلية والمفتقر للمناقبية، يقاتل بهم ويفرط في حياتهم، ولا تعنيه حياتهم، وهو يتعامل معهم كسلعةٍ يشتريها، يدفع ثمنها ويلقي بها عندما تنتهي حاجته فيها، وإلا فإنهم سيقتلون على أرض غزة، وسيتركون في الميدان كجيف الكلاب والحيوانات، ولن يجدوا من يدفنهم تحت التراب، ولا من يعوض عائلاتهم عن تضحياتهم، ولا من يدفع لهم بعد قتلهم، فهلَّا انتبهوا واستدركوا، وتراجعوا وكسبوا.

 

تساؤلاتٌ إسرائيلية عن جدوى الجباية وحصاد الستين يوماً

لم تكتف حركة حماس من وجهة نظر عامة الإسرائيليين بجباية الأرواح، إذ قتل مقاوموها خلال المناورات البرية أكثر من مائة جندياً وضابطاً، وأصابوا أكثر من خمسة آلاف بجراحٍ مختلفة، وذلك وفق إحصائيات الجيش التي يشككون في مدى صحتها ومصداقيتها، ويظنون أن قيادة الجيش تخفي عنهم حقيقة الخسائر التي هي أعلى بكثير مما هو معلن.

إلا أنها جبت أشياء أخرى قوامها الخوف والقلق والتوجس، الذي سيطر على عامة المستوطنين وطغى عليهم، وبات من الصعب عليهم التخلص من عقدة الخوف والرعب التي زرعها عناصر القسام في نفوسهم، وقد خلت بلدات الغلاف كلها حتى عمق أربعين كلم من ساكنيها، ومثلها بلدات الشمال التي لم يعد إليها أهلها، ولا يبدو أن أحداً في الشمال أو الجنوب سيعود، ما بقي حزب الله في الشمال يهددهم، وحركة حماس في الجنوب تتوعدهم.

كما جففت المقاومة الفلسطينية الشارع الإسرائيلي من الشباب والقوى العاملة، بعد استدعاء أكثر من ثلاثمائة ألفاً من الاحتياط، بالإضافة إلى 170 ألف جندي في الخدمة النظامية، ولا يوجد من يعوض عنهم من الأيدي العاملة الفلسطينية التي اضطرت أو أجبرت على العودة إلى بيوتها، مما أثر على الاقتصاد وسوق العمل والإنتاج العام في البلاد، في أسوأ أزمةٍ اقتصادية يشهدها الإسرائيليون، ولا يوجد ما يبشر بقرب علاجها، رغم تدخل البنك المركزي والدفع باحتياطاته الاستراتيجية إلى الأسواق، فضلاً عن الدعم الأمريكي المباشر، ومحاولات حقن الاقتصاد بحلولٍ عاجلة ومسكناتٍ سريعة.

كما يعترف الإسرائيليون أنهم لن يستطيعوا دفن رؤوسهم في الرمال كالأنعام بعد انتهاء الحرب، فصورتهم لدى دول العالم أصبحت صورة مقيتة ظالمة قاتلة، وقد ظهر جيشهم وهو يقتل الأطفال والنساء والشيوخ ويدمر معالم الحياة، ويقضي على كل صور العيش الكريم، في أبشع المجازر والمذابح التي ارتكبت ضد الإنسانية في العصر الحديث، ويعتقدون بأن عشرات السنوات القادمة، لن تكفيهم لردم هذه الهوة، وطمس الصورة التي أحدثتها آلتهم العسكرية الوحشية، وسيكونون ملزمين أمام العالم لتقديم إجاباتٍ عن مستقبل الفلسطينيين الذي دمروه وأفسدوه.

أما بالنسبة لعملية التطبيع الواسعة التي منوا أنفسهم بها مع الدول العربية والمملكة العربية السعودية، فقد ذهبت أدراج الرياح، ولم يعد ممكنا للدول العربية مواصلة الخطوات التي بدأت بها، بل إن الدول العربية التي ترتبط مع إسرائيل باتفاقيات سلامٍ قديمة، أصبحت أقرب إلى تجميدها أو الانسحاب منها، وقد حذرت مصر والأردن من أن الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تهدد استمرار اتفاقيات السلام معها.

ومن جهةٍ أخرى يقر الإسرائيليون أن قيادتهم السياسية قيادة غير حكيمة، وأنها لا تعمل لصالحهم ولا لمستقبل كيانهم، بل هي قيادة شخصية نرجسية أنانية متغطرسة، لا يفكر رئيسها إلا في مصلحته وفي بقائه رئيساً للحكومة، وفي مستقبله السياسي وائتلافه الحاكم، ولا يعنيه استنزاف الشعب أو قتل الأسرى ، إن لم يكن يريد فعلاً الخلاص منهم، والتحرر من المسؤولية عنهم، ليطلق يد جيشه أكثر في الإمعان ضد الفلسطينيين والإثخان فيهم، وهو بدلاً من استنقاذهم واستعادتهم بأثمانٍ أقل، يضطر إلى التضحية بحياة جنوده وكبار ضباطه، الذين يقتلون في شوارع غزة دون أدنى إنجازٍ يحلمون به.

كما يبدي الإسرائيليون وهم الأغلبية قلقهم الشديد من سياستي بن غفير وسموتريتش، الذين يرعيان الإرهاب الرسمي للدولة، ويشجعان المستوطنين على حمل السلاح ومهاجمة الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وقد غدا الشارع الإسرائيلي مسلحاً، وأصبح حمل السلاح في الشارع مشروعاً، الأمر الذي يسهل اندلاع حربٍ أهليةٍ في حال اشتعال فتيلها، ووقوع خطأٍ غير محسوبٍ قد يؤدي إلى انفجارها، ولا يوجد ما ينفي وقوع هذا الاحتمال في ظل تردي الأوضاع العامة، وإصرار الحكومة ورئيسها على مواقفهم، وتمسكهم بالسلطة ورفضهم دعوات الاستقالة والدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرة، مخافة التحقيق والمساءلة ورفض اتهامهم بالتقصير، وتحمل المسؤولية عما جرى.

لسان حال الإسرائيليين يقول إن ما جبته حماس منا أكبر من قدرتنا على احتماله، وأكثر بكثير مما رصدته أجهزتنا ومؤسساتنا، وما ستظهره الأيام أكثر بكثير مما جبته بالدم والنار، فقد أسست حماس لمستقبلٍ جديدٍ للشعب الفلسطيني والمنطقة، ووضعت حداً فاصلاً لتفوق إسرائيل وهيمنتها، وأرست قواعد مرحلةٍ جديدةٍ قد لا يكون فيها لإسرائيل موطأ قدم، أو حق الوجود والبقاء، بينما وضع الفلسطينيون أقدامهم على عتبة الخلاص، وبداية الانعتاق واستعادة الحقوق والعودة إلى الأرض والديار.