تصحبنا هذه الدراسة الضافية في رحلة معرفية وتأويلية لعالم الكاتب المغربي المرمو، أو بالأحرى لعوالمه الكثيفة المراوغة المتراكبة. وتكشف هذه القراءة عن التحولات الداخلية لنصوص بوزفور الأدبية، وعن ثراء تناصاتها وجدل رؤاها مع نصوص تراثية وغربية في آن، فلسفية وأدبية معا، في سعيها لاقتناص تعقيدات الواقع والحلم في شبكتها الرهيفة.

الزهرة الحالمة / الحلم المزهر

طي المنشور في أدب أحمد بوزفور

حسن حلمي


ماذا لو نمتَ

وماذا لو

في نومك حلَمتَ

وماذا لو

في حلمك

ذهبتَ إلى الجنة

واقتطفت من هناك

زهرة جميلة غريبة

وماذا لو أفقتَ

فوجدتَ تلك الزهرة،

وجدتها في يدك؟[1]

قد يُلتمس الجواب في نكتة مشتركة يكون فيها رد المسئول هو:’’ أشمها وأندب!‘‘ لكن الندبة ليست نكتة، والسؤال كان عن القتل لا عن الأهلة.  وقد يكون القتل عمدا كما في قصة ’’الأعرج يتزوج‘‘ [2] ، وقد يكون خطأ كما في ’’المؤامرة‘‘(76-80). وحين يقترن الحب بالقتل يكون الحوار صداما وصراعا وتكون تهمة القتل متبادلة: الزهرة ذات العينين السوداوين تقتل العاشق الأحمق، والعاشق الأحمق يقتل الزهرة بأن يصب في عينيها جرارا من الحزن الأزرق. ويبدو أن الزهرة قد قضت في حادث دراجة نارية مع أن الـسبا لم تكن في تلك الحقبة مألوفة في شوارع فاس، وهكذا تصير كل الدراجات النارية ألسنة حمراء تحيط بعرصات القيامة.  ويبدو أن العاشق كان موظفا لا ينقصه الخير ويمتلك سيارة، فسبحان الذي وهب على الصغر السيارة لمن لم يحصل قط على رخصة سياقة.

تتشكل  مقطوعة السؤال من ثلاث حركات: حوار محتدم تتصارع فيه الأنوثة والذكورة يكون مآله انهيار الطرفين، فالذكورة تدرك أن لا فائدة والأنوثة تدرك أن لا مفر. تنتهي الحركة الأولى بأن تستقر جثة الأنوثة في لحدها ـ في النفْس المقطوعة للذكورة، فيكون التلازم بذلك أبديا. أما الحركة الثانية فتتشكل من ثلاث رسائل تُعزف كل واحدة منها على وتر مختلف. ويكون عنوان الحركة الثالثة (’’سؤال عن القتل‘‘) تنويعا على عنوان المقطوعة. ويمكن اعتبار الحركة الثانية واسطة العقد، فهي تربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة بواسطة ثلاث رسائل تحاول تحقيق تواصل بين الأحياء والأموات، بين المقيمين والمنفيين. فالرسالة الأولى موجهة من يوليسيس مختلف عن بطل الأوديسة بكونه يؤثر المنفى على العودة، ويصارح الزوجة بأن ’’الحديد يُتيِّه‘‘، وبأن لا رغبة له في أن يجتمع شملهما، وبأنه مصر على المضي في اقتحام المجهول. أما الرسالة الثانية فيوجهها توبة بن الحمير من قبره إلى الحبيبة التي تمر بمثواه صامتة، باردة كقمر الصحراء، يحثها فيها على أن تهيأ له كوكتيلا تمزج فيه القرب بالبعد وأن تُغيث بتلك الكأس صداه المستغيث. أما الرسالة الثالثة فمن عزرائيل، ولا تختلف نبرتها الصارمة عن نبرة إنذار من Lydec أو من Maroctelecom ، واغلب الظن أن الرسالة موجهة إلى الزهرة الهالكة، ويتم فيها إخبارها بأن العاشق الأحمق قد مرض مرضا شديدا جعله يشرف على الموت، وأنه كان مع ذلك ’’لطيفا وطيبا وحزينا‘‘(11)، وأنه لم يكن يردد في هذيانه غير اسمها.

وليس عنوان الحركة الثالثة (’’سؤال عن القتل‘‘) سوى تنويع على عنوان المقطوعة. وتتمثل هذه الحركة الأخيرة في حوار مقتضب يجري بين ساعي البريد والشخص الموجود في عنوان المرسل إليها. ولا يمكن تصور الحوار السوريالي في الحركة الثالثة خارج حلم يكاد يقترب من كابوس. غير أن الإشارة في الحوار إلى الرسائل الثلاث تربط هذه الحركة بسابقتها وتدخلهما معا إلى نطاق الحلم، مما يهدد وضعية الحركة الأولى ويجعل النص بأكمله عنقود أحلام نسغه من رحيق/ حريق مأساة جارفة. فثمة أحلام لا تنمحي من الذاكرة؛  تقول إحدى بطلات  إميلي برونتي عن أحلام ظلت تلازمها بعد أن حلمت بها: ’’غيرت أفكاري: تخللتني كما يتخلل النبيذ الماء، وغيرت لون خواطري‘‘ [3]

هلكت الزهرة، إذن، وظل العاشق اللطيف الطيب الحزين يحلم بها، يتداوى في الأحلام بالقرب وبالبعد،  ويداري مرارة الفقد. تنتابه رؤى مثلُ رؤيا ’’السؤال عن القتل‘‘، وهي رؤيا مفعمة بنبرة كوميديا سوداء تذكر بنكتة ذلك الذي توقف عند ’’الخضَّار‘‘ وسأله : ’’عنْدكْ لْبْزار؟‘‘، كما أنها تشي بردود الفعل الدفاعية التي تصدر عن العاشق اللطيف الطيب الحزين وهو يحاول أن يتخذ  قناعا بعيدا عن اللطف والطيبوبة والحزن، فيكون موقفه بذلك شبيها بموقف ذلك الذي زلِق في الحمام فانتصب على الفور صائحا :’’ Hop la! ‘‘، مداريا بالصيحة حرج الموقف وألم الوقوع  .   والواقع أن ساعي البريد يلمح بسؤاله إلى ما تقدم ذكره من أن الهالكة مقيمة إقامة مؤبدة في الحنايا من ضلوع العاشق اللطيف الطيب الحزين، ولن تفلح الأسماء المغرقة في العامية والابتذال، مثل منى السعداوي وعلال البصلي، في طمس واقع مأسوي مؤسس و ماحق. . وكما أدرك هاملت: ’’ففي غفوة الموت تلك، ينبغي أن يستوقفنا ما قد يأتينا من أحلام ‘‘ [4].

وحتى حين تفلي  الشقيقة القمل وتمزج الزيت بمبيد البرغوث و تطغى ـ بحكم القرب الزمني ـ الواقعية الاشتراكية يظل الحلم حاسما يخفف من وطأتها بانطباعية غربان تطير فوق حقل ثلج، غربان يرشُق الطفل القروي نعيقها الأسود الحائم فوق رأسه بحبات الثلج البيضاء. تغذي الأسطورة الحلم في مخيلة الطفل فتتناسل الأحلام: يحلم بأن تصاب الطيور الممسوخة بالدوار فتقع ويندلق نعيقها الأسود فوق الثلج الأبيض. فتبارك الذي بيده الملك. وإن في الأحلام، كما يقول أندري بروتون، لأشياء ينبغي أن تصنَّع وتعرض للبيع.[5]

يكبَر الطفل ويسافر طويلا ’’وراء الضحكة التي سبتها من فمه كتائب الغربان‘‘. يصير الطفل كهلا فتُوضع على عينيه نظارة ملونة ويُركَّب في فمه طقم أسنان مذهب، لكن هيهات أن ينقضي التعب والجوع والعطش والحزن والقهر! يكبَر الطفل ويظل الحلم صبيا. فمهما تذهَّب الفم الأدرد ومهما انبجس في العينين قوس قزح، فإن ’’شيئا في مؤخر الجمجمة، يشكه كالإبرة ويدفع على وجهه المتشارق بالعبوس القديم.‘‘(58) وهكذا فإن الرحلة الطويلة في البحث عن ذات مفقودة لا تؤدي إلا إلى إعادة طرح سؤال الهوية الكامن في الاسم الشخصي: ’’حمد اش‘‘؟ على وزن ’’براهيم  ياش؟‘‘

وفي الجبل الأقرع، ذلك الجبل الذي لا تثمر فيه الصخور ولا أشجار العرعار سوى أحلام اليقظة، يبلغ توتر الصياد الخائب ذروته في نوبة بكاء وشهيق تثير شفقة الغزالة الحانية، تنحني الغزالة  لتلثم عنقه. وبعد سلسلة من الرؤى المتذبذبة بين الحرب والسلام، يسدد الصياد الأخرق فيصيب الغزالة، وبذلك تكتمل القافية: مصرع الغزالة في سفح الجبل الأقرع يحاكي بالتماثل مصرع الزهرة في ’’السؤال عن القتل‘‘.

وأي مكانٍ ــ غيرِ ملكوت الأحلام الذي يقع عند الأعراف في  موقع ما بين عالم الغيب وعالم الشهادة ــ يمكن أن يتتبع فيه جائع حركة سيارة أجرة ويلتقطَها عند إشارة المرور فتتحولَ في يده إلى برتقالة يقشرها ويأكلها فتجر عليه الوبال؟ فهل البرتقالة فاكهة محرمة في بستان الأحلام؟ وأين يمكن أن تُحوَّر ـ كما تحور السيارة إلى برتقالة ريانة ـ تلك الرسالة الشهيرة لحجة الإسلام الوقور إلى ’’ رسالة ’أيها الولد الجميل‘  لأبي حامد الغزيل‘‘(31)؟ أليس للحالم ألف جواز في الحلم، وخاصة إن كان الحلم ممتدا ـ كل نهاية فيه بداية ـ لا سبيل أبدا إلى الإفاقة منه؟ وهكذا تلعب الألوان لعبتها المستحيلة، وتشدو حبيبات الرمان متباهية بأنها تنفلت من تاريخ الجدران وتجود بالحب وبالدم وتشق القشرة عن جسد الإنسان. فما أقسى أن يحلم المرء بأنه يفيق من حلم يفيق فيه من حلم يلعب فيه الروندا بورق فاسد يتضمن ثمانية ملوك!  لكن متى كانت قواعد اللعب في الواقع مقيدة لتداعي الأحلام؟

ولحبات الرمان شؤون وشجون.  إنها الحبات التي أكلت منها برسفونه فحق عليها أن تقضي نصف عمرها في العالم السفلي (عالم الغيب) وأن تعود إلى الأرض كلما حل الربيع. ولولا تدخل والدتها الإلهة ديمتر بجلالة قدرها لظل الحكم مؤبدا. ونصادف حبات الرمان في ’’النقطة السوداء‘‘ وهي تتطاير من رمانة كانت أصلا بوابة  من بوابات الجحيم، الجحيم الذي نزل إليه مصطفى لينقذ والديه من عذاب السعير. لكن هيهات! إنك لا تنقذ من أحببت. أنى له أن يكون أوفر حظا من ديمتر، وما هو إلا نقطة سوداء، نقطة سوداء قد يخصص لها سٍفْر تكوين كامل، وقد تسلط عليها ممحاة. هاهي أمه التي كانت ساحرة في عالم الشهادة تصير أمام ناظريه  الآن ’’دجاجة مقوقئة تجري وراء الحبات الصغيرة ملتقطة إياها واحدة واحدة، دافعة بها في لهوجة ولهفة إلى رحمها العاقر المحرور.‘‘ (108) ولأن ’’النقطة السوداء‘‘ نص ينبني أساسا على رؤى وأحلام تحاول إقامة جسور بين عالم الغيب والشهادة، فهو نص مكثف ذو معمار معقد تدخل في تركيبه عناصر متباينة كالحكاية الشعبية المحورة والرواية المكيفة من ’’نشيد الإنشاد‘‘. وهكذا تتذبذب النقطة السوداء بين الشهوانية المتقاطرة من ’’نشيد الإنشاد‘‘، والورع المتضوع من حكاية ’’الفقيه‘‘ التقي الذي يُرخص له بالدخول إلى جهنم ليحرر أحد والديه . وإذ تتحرك النقطة السوداء على الصفحة البيضاء، ينشأ خط سردي قد لا يكون مستقيما ولا منكسرا ولا منحنيا، تتناغم فيه وجهات النظر السرديةُ المختلفة، وتتمازج فيه أجواءٌ متباينة تذكر بـهوميروس وفيرجيل والمعري ودانتي، وتجاور فيه وضعانية العلم سحر الأسطورة. فكأن ’’كلمات العالم‘‘، كما يقول باشلار، ’’ترغب في أن تُكوِّن جملا.‘‘ [6]  وهكذا يصادف القارئ طيف زيجمند فرويد ذي اللحية الغزيرة الوقور وقد حل في شخصية مصطفى الطفل الصغير الأمرد، يصادفه وهو منبهر بلعبته الشهيرة Da/Fort محاولا وهو يعزف على وتر الشهوة ووتر الموت أن يذهب أبعد من مبدأ اللذة. ويتم أداء اللعبة هنا بالعامية المغربية: ’’هو ذا مصطفى يخرج من الجامع فرحا بالحرية والشمس، ينطلق إلى العين القريبة فيشرب ويغسل شعره المتلبد بالصمغ، وقبل أن يعود إلى الدار، تنبت له شجرة في الطريق، فيركب أحد أغصانها ويأمره ’ارَّا‘ فيتحرك، ’اشَّا‘ فيقف‘‘(102). ولأن ’’النقطة السوداء‘‘ نص حالم يتوق إلى أن يُقيم صلحا بين العلم والأسطورة، فإننا قد نعثر في طياته على مفتاحين قد يساعدان على حل بعض مغاليق بنيانه الشبيه ببنيان المتاهة. ويتمثل أحدهما في الرقية السحرية التي يتلوها مصطفى على أغلال والده كي تنفك وتتفتت. ويتم تقديم هذه الرقية بالرسم المغربي (رسم المسيد) بشكل متقن يجعلها شبيهة بخطاطة لدائرة كهربائية. ويبين  رسم الرقية عددا من التقابلات والتفاعلات الأفقية والعمودية بين عناصر مثلِ الرؤيا والرؤية، الكهفِ والرأي، البساطةِ والعلاقة، الخوفِ والشجاعة ... إلخ. أما المفتاح الثاني فيتمثل في اقتباس من كتاب لمؤلف يدعى شبنجلر يصف بدقة ظاهرة يسميها علماء التعدين بالتشكل الكاذب. والواقع أن هذه الظاهرة تغدو في ’’النقطة السوداء‘‘ تقنية يتم بها دفع عجلة السرد. لنتذكر مثلا أن إحدى بوابات الجحيم تشكلت تشكلا كاذبا فغدت رمانة تتفتق عن حبات في حمرة الجمر تئن شهوة وشبقا، وسرعان ما تتشكل بدورها تشكلا كاذبا فتغدو نطفا للإخصاب، ولنتذكر أن النطفة الوحيدة التي أفلتت منها  وخرجت إلى الصحراء البيضاء وراء البوابة تتشكل تشكلا كاذبا فتصير نقطة سوداء في صفحة بيضاء. يقول باشلار:’’ الكلمة برعم يحاول أن يكون غصينا. ‘‘ ثم يتساءل: ’’كيف يمكن أن لا يحلم المرء وهو يكتب؟ إن القلم هو الذي يحلم. أما الصفحة الفارغة فتمنح المرء الحق في أن يحلم.‘‘ [7]  وفي سياق الجدل بين الأبيض والأسود تصير النقطة السوداء نطفة بشرية تتحرك فوق البياض فتصير نطفة سردية تصل نهاية النص ببدايته، وبذلك تكتمل دورة الإنتاج. ويصعب تصور كل هذا خارج عالم الأحلام الذي ينشأ أساسا عن تكاثر التشكلات الكاذبة. وسنرى فيما بعد كيف تُوصل البداية بالنهاية، أو تُضمن النهاية في البداية فيصير ذلك تقنية معتمدة في مواجهة الصعوبات التي يطرحها إنهاء النص، التي تحدث عنها المؤلف في أحد الحوارات.[8]

وكما تقيم الزهرة الهالكة إقامة أبدية في صدر العاشق اللطيف الطيب الحزين، يقيم الفقد في صدر العجوز الثكلى الذي يمزقه السعال، فتستحضر ابنها الذي غاب منذ عشرين سنة  ’’في جلبابه الصغير ينظر إليها ويبكي ... وحين تجري إليه ملهوفة تصدمها اليقظة.‘‘(49) وفي النهاية يمتزج الحلم والواقع، يمتزج الولد في الرؤيا بالحفيد ويكون سعال العجوز صلة وصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة. وكما يقول الشاعر:

قصيرة، قصيرة أيامُ النبيذ والورود :

من حلم ضبابي

يبزغ لبرهة دربنا، وبعدها

في حلم يغيب.[9]

وللحلم دور حاسم حتى في نص يبدو للوهلة الأولى أنه يعرض نزعة فلسفية جديدة ويبتدئ بنبرة أكاديمية صارمة. فحين  تُعرَض أعمال الفيلسوف الكبير عن النزعة ’’اليدائية‘‘ يكون أول سفر فيها عن ’’يدي الإنسان في حالة النوم.‘‘(52) ينهي الفيلسوف تأملاته اليدائية باستنتاج طريف: ’’إننا ننظر إلى أيدينا لأننا لا نعرفها.‘‘(53) هكذا يكون الجهل ـ كما هو الأمر غالبا في المحافل النقدية ـ أساسا للنظر وأساسا للتنظير. غير أن التعبير (تعبير الرؤيا) يتغلب على التنظير حين يتعلق الأمر بالأحلام، ولعل سبب ذلك أن الأحلام تستوطن عالم الغيب لا عالم الشهادة.  وهكذا يُعزَف الحلم في ’’اليدائية‘‘ بدل أن يُسرد، فيأتي العزف شبيها بعزف رباعية وترية، وتكون اليد، موضوعُ الفلسفة المستحدثة، مجالا يزهر فيه الحلم. فعلى الكف الفارغ يحط في الحلم عصفور؛ عصفور صغير وساذج كفرحة طفل. وتمتد الكف صحراء شاسعة يستكشف العصفور الصغير أغوارها ويتيه فيها كأنه قطرة ماء. يضطرب الزمن و تذوب من حرارة الحلم آلات ضبط الوقت. ولليد، كما يشرح باشلار، أحلامها وافتراضاتها الخاصة بها: ’’إنها تعيننا على أن نعرف المادة في أجزائها السرية الباطنية. اليد، إذن، تعيننا على أن نصوغ المادة حلما.‘‘ [10]  ففي لحظة التماس بين الحلم والواقع تمتد أنامل الكف لتداعب العصفور، فيفيق الحالم. يحل عصفور اليقظة محل عصفور الحلم. ومع أن للعصفورين معا قدرةً على التحليق تساميا عن دنيوية الواقع، فإن عصفور اليقظة يتميز بأنه عصفور نَفور، يتملى الحالم ـ المفيق لونه وجماله، ويهيم بغموضه الشبيه بغموض الحلم. تغويه أطماع اليقظة فيحاول اصطياد العصفور. يبدو الأمر في البدء مستحيلا لكن الصياد ’’الحاقظ‘‘ سرعان ما تغشاه الدهشة: ’’وضعت الفتات على كفي وقدمته له، فرفرف وزقزق وحط قريبا، ارتميت فوقه بكل جسمي ... أمسكته ولم أصدق.‘‘(53) هكذا يقع العصفور في الكف، كما يقع/ يسقط سؤال حمداش اللجوج، سؤاله الأخير: ’’ أين تَقعُونَ تَقعُونَ تَقعُونَ تُوقَعون.‘‘ (63) والكف ـ كما سبق ـ مجال واسع لرغوة الحلم. فما أضيق العيش! ويذكر اصطياد العصفور هنا باصطياد الغزالة في سياق سابق، وقد يحيل على صيد النعامة في سياق لاحق. لكن الصياد في هذه الرؤيا لا يكتفي بصيد العصفور، بل يذبحه ( وبذلك يكون قد صدق الرؤيا)، يذبحه ويسلقه ويأكل لحمه ويجمع عظمه في كيس صغير يضعه تحت وسادته، فيستلهم به حلما آخر، حلما في قلب حلم يحل فيه العصفور في الصياد والصياد في العصفور. فهل يكون ذلك ثمرة لوصال لم يتم في الواقع بين الزهرة الهالكة والعاشق اللطيف الطيب الحزين، فظل حلما يتواتر بإلحاح في أضغاث الأفلام؟ أيا كان الأمر، فإن الصياد العصفور أو العصفور الصياد يمضي في سعيه لاختراق الآفاق كي يتحرر من حلم انتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب حيث استقر متحكما وظل هناك مصدرا لكل الرؤى وكل الكوابيس. غير أن التحرر وهم: فالقضبان تصد العصفور الحالم أينما اتجه فيدرك بذلك أن العالم على رحابة آفاقه قفص ضيق، وأن السماء، التي بدت له ندف صُوف يحاول عبثا أن يثقبها بمنقاره، حاجزٌ يمنعه من الانفلات. يعود الحالم الطائر بعد أن يدرك أن لا فائدة ولا مفر، يعود ليحط على اليد، واليد ـ كما سبق الذكر ـ مرتع الأحلام. يعود ليعشش في عقلة الخنصر ويغفو هناك ليمعن في سلسلة من أحلام مركبة يحتار معها فلا يدري من أي حلم يفيق وفي أي يقظة يحلم. هكذا تُعزَف الأحلام، وهكذا يعود العاشق  اللطيف الطيب الحزين إلى ذاته بعد كل سعي  يقوم به لتبديد آلام الفقد في معانقة العالم، أو بعد كل محاولة لاسترداد الحلم المزهر. وربما كان له في ذلك أسوة مؤلمة في أرفيوس؛ لكنه يجد العزاء في أن الإنسان ـ رغم الرماد ورغم القُمامة، رغم طبق الزبدة المقرف، ورغم الودَك في الأمعاء ـ لا يحلم بالرغم منه، بل يحلم بإرادته؛ فالإرادة، مرادفة للحلم، كما يقول باشلار: ’’إننا عاجزون عن إنجاز أي شيء متقن، غصبا عن إرادتنا، أعني غصبا عن أحلامنا.‘‘ [11]

وكما أن الإنسان لا يحلم غصبا عنه، بل بكامل إرادته، فإن المريض في ’’ذلك الشيء‘‘ يذهب إلى الطبيب النفسي بإرادته، لا غصبا عنه. وما المريض هنا إلا حالم يحلم بسرعة فلكية، فتتسارع أحلامه. فكأنما يتم تغذية مخيلته بتيار ذي تردد عال دون أن تكون مجهزة بأداة لضبط التنغيم. والواقع أن المريض يذهب إلى الطبيب استجابة لنصيحة أقاربه الذين كان قد قص عليهم إحدى رؤاه.  وفحوى الرؤيا،  باختصار شديد، هو ولوج الحالم إلى حمام شعبي، لعله حمام الشيكي، وانبهاره بكون الحمام يجمع بين الرجال والنساء في نفس الآن: ’’تصور يا دكتور ... أنا المسكين الوحيد الحائر، بصرة الثياب الخجولة المعتذرة في يدي ... أخذوا يحصبونني كشيطان بنظراتهم الغريبة التي اختلط فيها الاستنكار والخوف والكراهية والدهشة جميعا...‘‘(90) ويبدو أن مصدر هذا الإحساس الذي يستشعره الحالم لا يكمُن في مجرد اندهاشه بهذا الاقتران غير المعهود بين الذكورة والأنوثة، بل في أن الحالم ’’يقارب فضاء الحمام‘‘ ـ كما يقال ـ بخطاب يقظوي نهضوي. ولأن الحمام هنا ليس سوى فضاء للحلم، فإن الاختلال في التوازن بين الحلم والواقع يصبح أمرا حتميا. فلا يمكن تفسير كل التجاوزات السوريالية الواردة في رواية المريض لمغامراته الحمامية إلا بكونه يضع إحدى قدميه على هشاشة الواقع ويضع الأخرى على صلابة الحلم. وتُذكر أجواء الحمام في هذا السياق بأجواء المطهر لدى دانتي، إذ هو مِنطَقة عبور من حالة القذارة إلى حالة النظافة. على أن عيادة الطبيب النفسي بدورها منطقة لابد أن تعبرها النفس السقيمة في سعيها نحو السلامة.  وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام ظاهرة سردية يمكن وصفها بظاهرة العلب الصينية.  فإذا اعتبرنا أن عنوان النص ـ وهو عنوان لا يخلو من غموض ـ هو العلبة الأكبر التي تتضمن باقي العلب، فإن رواية السارد لوصوله إلى العيادة هي العلبة الثانية ويصادف فيها القارئ عناصر فانتازماجوريه توحي بأن الأمر يتعلق بحلم ممتد، بل ربما بكابوس كافكوي. وتفضي هذه العلبة بدورها إلى علبة تتم فيها مناقشة وتأويل اللوحة الغريبة المعلقة في الدهليز المعتم حيث يحتد السجال بين المريض ومثقف متعالم يسرف في الحذلقة و يدخن الغليون. أما العلبة الفرعية فتتضمن مقابلة الطبيب والمريض، وتشمل بدورها علبا أصغر ... وهكذا.

ويبدو أن السارد في ’’ذلك الشيء‘‘ ليس مجرد مستحم يتطهر، أو مريض يتداوى، بل هو إلى جانب ذلك صياد يحاول اصطياد الأحلام:

لم أعرف ما إذا كنت أحمل عصا أو بندقية ... ولكنني كنت أجري وراء وحش، وأحسست بالحر، فأخذت أقلع ملابسي وأرميها قطعة قطعة ... قلعت الدرابزين والسترة والسلم والسروال والدار والعائلة والحذاء والمدير والساعة والكتب والثياب الداخلية ... حتى أصبحت عاريا تماما، فوق رأسي السماء الزرقاء، وأمامي على أعشاب الغابة كان الوحش الهائل الغامض يجري وأنا أجري وراءه في ثقة ثملة ... وفجأة يختفي عني في أحد الأدغال، وحين أطل عليه متلصصا من بين فروع الأشجار أجده يأكل يوم الخميس. (95)

ما كان لمثل هذه الغنائية الرعوية التي تنطلق فيها الطاقات البدائية أن تتأتى إلا لسارد يمارس حقه في أن يحلم، وما كان لمثل  هذه الغنائية المرحة المدعومة بالثقة والنشوة أن تمتزج بسوريالية مندفعة رعناء تخلع السُّترة والسلم والحذاء والمدير إلا في مثل هذه الرؤيا الجامحة لطراد يكاد الصياد فيه أن ينجح في اقتناص هذا الوحش الغامض: هذا الحلم الأكبر. لكن كل ذلك سرعان ما يتمخض عن رجل مراء قميء: احماد البارمان الذي يقدم الروج بالمجان. وواضح أن اسم البارمان ليس إلا تنويعا على اسم ’’حمداش‘‘، وأن ما يقدمه ليس إلا الروح وقد أضيفت تحتها نقطة سوداء أو، ربما، حمراء. لكن ماذا يصطاد الحالم؟ وماذا يشرب الأطفال؟  ألم يقل نيتشه: ’’إننا نستهلك في أحلامنا من الجهد الفني أكثر مما ينبغي، ولذلك فإن حياتنا اليقظة غالبا ما تكون بئيسة؟‘‘ [12]  لعل هذا هو ما يجعل نموذج الصياد المندفع المغرق في البداوة والبدائية والذي لم يعرف الرصافة ولا الجسر نموذجا متواترا في سياقات مختلفة، كما هو الحال في ’’الجبل الأقرع‘‘ وفي ’’صياد النعام‘‘.

وما إن يشرع الطبيب في تأويل أحلام المريض (ولا بأس من التنبيه هنا إلى أن المريض كان مبدئيا معارضا لكل تأويلات الطبيب) حتى تحدث فجأة واقعة ذات أبعاد قيامية: تسقط الثريا المعلقة في السقف في دوي مفاجئ على المنضدة اللامعة التي تفصل بين المريض والطبيب. وقد يكون في هذه الرؤيا محاكاةٌ لرؤيا مشابهة في رواية يوليسيس حيث يحطم ستفن ديدالوس، في نوبة تمرد واشمئزاز،  الثريا المعلقة في المبغى[13]. ولاشك أن لهذا الانهيار الذي قصد منه أن يكون مذكرا بالانفجار الكوزمولوجي العظيم (The Big Bang) أثرا ماحقا على المنضدة التي يفترض أنها تمثل حدا فاصلا بين موقع المريض وموقع الطبيب. وباختفاء هذا الحد يبدأ الاقتراب من تحديد ماهية ’’ذلك الشيء‘‘ الغامض الذي يحيل عليه العنوان، فقد تناثرت

عشرات المصابيح الصغيرة الملونة المشعة والمصلصلة ... أما أنا فقد انتزعت مصباحا ووضعته في جيبي ... خرجت هادئا من الغرفة دون أن آبه بالممرضة والدكتور. لقد كنت مكتفيا بنفسي، وبذلك الشيء الصغير الملون الحلو الحلو الزوين الزوين الذي وضعت يدي عليه. (96)

يبدو أن خروج المريض من العيادة مشابه لخروجه من الحمام؛ فالاكتفاء بالذات هو سيد الموقف في كلتا الحالتين. وتوحي عبارة وضع اليد (وما أدراك ما اليد؟) بأن السارد/المريض/الحالم/ الصياد قد اغتصب شيئا لا حق له في امتلاكه. وبقليل من الشطط في استعمال التأويل، يكون بوسع القارئ أن يدرك أن المصابيح الصغيرة الملونة الزوينة التي تناثرت من الثريا المنهارة ليست إلا بتلات من تلك الزهرة التي اقتطفها القدر من على متن الـسبا. ( فيا زهرة في خيالي!)

وأخيرا ـ بعد التعرف على ’’ذلك الشيء‘‘ـ يصل القارئ إلى آخر علبة من العلب الصينية، علبة الفحوى، علبة المراد والأرب، أعز (أي أصعب) ما يُطلب: وضع نهاية مقبولة لهذا النص المركب من سلسلة أحلام متمردة بدأت تهدد بالانفلات من نطاق سيطرة الكاتب. ومما يثير الانتباه أن النهاية تأتي على شكل فقرة مستقلة موضوعة بين مزدوجتين، ومرقونة ببنط أصغر من البنط المستعمل في باقي النص. ويبدو أن في هذه الفقرة عودةً أو محاولة للعودة إلى زمن الطفولة المفقود؛ فالسارد/الحالم هنا يقشر برتقالة وبجانبه أخته الصغيرة ـ وفي هذا عود على موضوع الفاكهة المحرمة برتقالا كانت أو رمانا. تتشهى الأخت فصا من البرتقالة. وفجأة تُمسخ الطفلة الصغيرة قطة جائعة تترجاه أن يعطيها فصا من البرتقالة وتعده مقابل ذلك بشيء ’’زوين زوين وحلو حلو‘‘. يحاول أن يعرف منها ذلك الشيء ولكنها تصر على أن تذوق من البرتقالة أولا. تتناقص فصوص البرتقالة الريانة إلى أن تنتهي، وتتولى عنه القطة غاضبة. ولعل في انسحاب القطة الغاضبة ما يوازي انسحاب الزهرة الهالكة التي كانت كثيرا ما تعبر عن مرارتها وغضبها قبل أن تأفل. إن العناد الطفولي المتبادل واكتفاء السارد، كما عودنا بذاته، يضيعان فرصة أخيرة في الاقتراب من ماهية ’’ذلك الشيء‘‘.  فهل هو الحلم المحبط بالمشاركة في تذوق الفاكهة المحرمة؟ لا يسع المرء إلا أن يخمن. وبذلك يظل ’’ذلك الشيء‘‘ غير متعين، وحتى حين يوشك أن يتعين، إنما يكون ذلك في الأحلام. وبذلك تحيل نهاية النص، مرة أخرى، على بدايته. ففي بداية السارد نهايته. إن حتمية هذه القدرية الحلمية لتذكر بإنهاء بورخيس قصته ’’الأطلال المتحلقة‘‘ بهذه العبارة: ’’ أحس بالفرج، والمهانة والرهبة، إذ أدرك أنه بدوره كان وهما، و أنه كان حلم حالم آخر غيره.‘‘ [14]

تبدو فكرة البداية في النهاية/النهايةِ في البداية جذابة لأنها تغري بمحاولة تربيع الدائرة، ولهذا فقد غدت تقنية ناجعة لحل مشكلة النهاية. ويتضح هذا على الخصوص في ’’اللوح المحفوظ‘‘ حيث يتكرس أيضا ما سبقت الإشارة إليه من إحساس بقدرية حتمية وبصعوبة الفصل بين الحلم والواقع. ولا حاجة إلى الإشارة إلى أن هذا العنوان يوحي بحتمية القدر: فكل شيء مدون في اللوح منذ الأزل؛ غير أن صفة ’’المحفوظ‘‘ هنا صفة مزدوجة الدلالة، فقد تحيل على اللوح الذي يمحوه طالب القرآن ليكتب عليه من جديد. وبذلك يكون اللوح هو ذلك الذي يُمحى ويَنمحمى باستمرار: فهو لا يحفظ شيئا لأن العلم في الصدور، كما يقال. وكما يُمحى اللوح حتى يُكتب عليه من جديد، تنمحي الأحلام من الذاكرة حتى تستوعب، مؤقتا، أحلاما جديدة. فمن المفترض أن الذاكرة تحفظ الأحلام، ولو إلى حين. ومن لا يتذكر أبدا أحلامه، فهو يقضم أظافره، كما كان يشرح في ’’الحلقة‘‘ المرحوم ’’السحار‘‘. وتحفظ الذاكرة في هذا السياق أن قرويا يحل بالمدينة، وما إن ينزل من ’’الكار‘‘ حتى يحمل حقيبته الثقيلة الحمراء ويمضي في البحث عن شخص يدعى ’’الفاطمي‘‘، أغلب الظن أنه ساع في إحدى شركات التأمين، و لعله من قريته، وحين يخفق في العثور عليه يضطر إلى أن يبيت في حديقة ساحة النصر (كان ذلك حين كانت الحديقة ما تزال تتوسط الساحة، أيام ’’شركة بلوقيد‘‘، وإشهار Chaud de soleil). وتشاء الأقدار أن يلقى هذا الوافد المثابر حتفه مطعونا في ’’ساحة النصر‘‘، حيث يُغتال وتنتزع منه الحقيبة التي استمات في التشبث بها. رحلة عبثية، فيما يبدو، وموت عبثي. لكن الحقيبة الحمراء مَحفظة، أي أنها، مثل اللوح، ومثل الصندوق الأسود في الطائرة، تحفظ ما بداخلها. وحين يفتح القاتل الحقيبة، لا يجد فيها سوى ورقة بيضاء. يشعر بالإحباط والاستياء، فيلقي بالورقة في وعاء القُمامة، أي في وعاء يحفظ القمامة إلى حين. وفي الصباح الباكر تعثر على الورقة خادمة جاءت لتفرغ القمامة في الوعاء. لماذا الخادمة ’’كوثر‘‘؟ أ لأننا أُعطينا الكوثر؟ ذلك مكتوب! تلتقط كوثر الورقة وتبدأ في قراءتها. وذلك مكتوب! تتهجى كوثر السطر الأول: ’’... ونزل من الباب... الخلفي ... للكار ... وفي يده ...‘‘ (112)  لماذا تتعثر كوثر في تهجيتها للجملة؟  ألأنها شبه أمية؟ ذلك مكتوب! تنتقل كوثر إلى نهاية الورقة لتتهجى أخر جملة: ’’وأسرعت ... إلى الدكان ... القريب ... لشراء... الحليب.‘‘ (112) ذلك مكتوب؛  يستأنف السارد سرده دون أن يتعثر: ’’نظرت كوثر إلى الدرهمين في يدها اليسرى، رمت الورقة، وأفرغت الزبل، وأسرعت إلى الدكان القريب لشراء الحليب.‘‘ (112) إن في سجع العبارة الأخيرة تذكرة بالنهاية المتواترة في ألف ليلة وليلة: ’’وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.‘‘ وذلك أيضا مكتوب. وما تجاوزته دون أن تقرأه كوثر هو باقي الحكاية كما وردت بين العبارتين اللتين قرأتهما: فالعبارة الأولى هي بداية النص والثانية هي نهايته. وبين البداية والنهاية تضيع الحكاية من كوثر؛ لأن قدراتها على الإدراك محدودة، ولأن الحكاية رهينة اللوح المحفوظ. وهذا كذلك مكتوب. وأين، في غير دوائر الأحلام،  يمكن أن توصل النهاية بالبداية؟ فكما يقول أحدهم: ’’أوجه سبب للحلم هو أن الأسباب ليست ضرورية في الأحلام‘‘ [15]. وقد يكون السبب وجيها حتى في الأحلام، كما ورد في حلم للنواب: ’’ومر غريب يعرف قدر الزهر، وأفرد حجريه لروحي، فتساقطتُ له ... ذلك مكتوب.‘‘ [16]

’’النظر في الوجه العزيز‘‘ هو النص الذي اختار الكاتب عنوانه عنوانا للمجموعة. وحسب إعراب الجمل، فإن العبارة في سياقها الأصلي مفعول مستثنى لفعل منفي محذوف تقديره نفي وحاجة، وقد يكون فاعله بدوره منفيا مسلوبا. ولأن النظر في الوجه عزيز، فإنه لا يتحقق إلا في الأحلام. فالنفي إذن نفي من عالم الشهادة نحو إثبات في عالم الغيب. والآن تفصيل الإعراب:

’’النظر‘‘، هنا، اسم مبتدأ. به تبدأ الحكاية. والحكاية باختصار عن قط ’’أغر تياه‘‘. لنتذكر أن آكل البرتقالة الذي رفض أن يذيق منها أخته بدون مقابل، كان أيضا أغر تياها، ولنتذكر أن الأخت المحبطة مسخت قطة. ولنتذكر أن الزهرة الهالكة كانت تتهم العاشق الطيب الحزين بأنه كان مغرورا تياها. يصعَد القط إلى سطح البيت قبيل الشروق ويراقب الأفق. و حين تظهر له هناك السلسلة الجبلية على هيئة أفعى زاحفة، تنتابه الحيرة، فالخوف، فالتحدي، ثم يرفع عقيرته بالمواء.

’’فـــي‘‘ ،  حرف جر ـ وهو هنا متعلق بـــ :

  1. حوارٍ بين أب وأم هجرهما ابنهما. تحاول الأم أن تجد السلوان في تربية قطط مرمدة، أما الأب الممتعض فيلعن القطط والكلاب، ويلعن الروس واليابانيين، والناس أجمعين.
  2. تبريرٍ من شرطي لاعتقال أو اغتيال متشرد كان جسمه ’’يزرع الوسخ في الشوارع النظيفة‘‘ (99) ـ ومن غير المستبعد أن يكون المتشرد هو الابن المهاجر.
  3. خطبةٍ بليغة من معلم يمدح فيها القط ويدافع عنه. وماذا يحسن المعلمون غير المدائح والخطب؟
  4. مقتطفٍ من رسالة موجهة من فتاة إلى خطيبيها تعلن فيها فسخ الخطبة ـ وليس من العسير أن يتعرف القارئ في الرسالة على النبرة المستاءة للزهرة الهالكة.
  5. تراشقٍ مألوف بين سياسيين محترفين ـ وفي التراشق نبرة استقطاب وإقصاء.

’’وجهكم‘‘ ، اسم مجرور مضاف إلى الضمير المتصل. وفيه ترتيلة لهف مرفوعة إلى ألوان الأحاسيس وإلى أصواتها(أي إلى التشكيل وإلى الموسيقى). ولعل في هذه الترتيلة تلميحا إلى أن هذين القطبين ظلا منذ القدم متصارعين وأن التراجيديا نشأت من الصراع بينهما؛ ومن ثم توق الفنان المرتل إلى أن يكتشف صيغة خيميائية يستخلص بها ذاته إكسيرا.

’’العزيز‘‘ ،  صفة متعالية مجرورة، توحي بالعزة والندرة، وبالغلاء والغلواء، وبالعسر والصعوبة. وهي في السياق متعلقة بالقط ’’الأغر التياه‘‘ الذي تركناه على السطح قبيل الشروق. وهاهو الآن ، بُعيد الشروق، يرى السلسلة الزاحفة كالأفعى تمتد إليه وتعتقل كينونته، تعتقل حيرته وخوفه وتحديه وتيهه. عبثا يحاول القط، وبكل ما أوتي من مخالب وأسنان، أن ينفلت من هذه السلسلة التي صارت شركا، فما إن يقطع منه خيطا حتى يقع في آخر. وإذ يحاول يائسا، ’’يضرب النقطة بالنقطة فتتطايران شظايا متعددة من عشرات النقط الصغيرة المتدحرجة الزاحفة المتناحرة الناحرة.‘‘ (100) قد يوحي هذا بانشطار ذري، لكنه في الواقع وصف دقيق لما يفعله الكاتب. فعن هذه النقط الصغيرة تنشأ كلمات تتدحرج وتزحف جملا سردية عن نقط سوداء، في ليل أسود، تُحفظ في صندوق أسود، أو دن أسود، في خمارة القط الأسود.

لنقفز على ’’الغابر الظاهر‘‘ تاركين الماء ينوب، ظهورا وغيابا، عن الأحلام المؤسسة. ولننتقل إلى الأحلام الضمنية والصريحة في ’’صياد النعام‘‘. لكن، قبل ذلك لا بد أن نسجل، في إيجاز شديد، بعض الملاحظات :

  1. أن هذه المجموعة ـ على استقلالها ـ استمرار لتجربة ماضية في طريق النمو.
  2. حضور الماء، ظاهرا وغابرا، في أغلب نصوص المجموعة. يكاد الماء هنا يكون قدرا، كما يرى باشلار، لكنه ليس ذلك القدر العابث للصور المنفلتة فحسب، أو ذلك القدر العابث لحلم لا يتحقق، بل هو قدر جوهري لا يكف عن تغيير جوهر الكائن.[17] وأول النصوص في هذه المجموعة ’’مدخل عن العطش‘‘ (115- 119)، وفي آخر نصوصها نجد السارد الحالم ـ وقد اشتدت أزمته حتى أخذ يكلم نفسه (ضمير المخاطب) ـ يقرر أن يدخل ’’جواه‘‘ وبعد أن تتفتت أشلاء نفسه يستعيدها ’’أطفالا في بركة ماء‘‘ (196). وفي هذه المجموعة نجد الأطفال يشربون ما يشربون، وفيها نجد ’’الكأس المكعبة‘‘(132-147)، ونجد السارد في ’’سبعة رجال‘‘ (148-152) نادلا والزبناء ينغمسون في ما يشربون حتى يتماهى الشارب والمشروب واللابس والملبوس. وفي ’’الأحد‘‘ (127-131) نصادف السارد وهو يغالب الخمَار يتأمل إحدى المارات ويصفها وصفا تطفو فيه المياه فوق الأحلام: ’’تبتسم لك معتذرة ... جمال فريد ... كأنما لم يعرف قط ليلة سبت ... مري في أمان، يا ذات الابتسامة المدرعة بالأحد ...‘‘ (128) وحتى حين يكون الحديث عن ’’حديث الشراب‘‘، فإن الموصوف يكاد يطابق الحلم: ’’تعلّم يا ولدي أن حديث الشراب كالعصفور، مرح نزق قافز، لا يستقر على موضوع، وذلك طعمه الحريف الشهي. لأنه لو استقر على موضوع يضغط عليه حتى يقتله لكان فيلا لا عصفورا، ولكان حديث أكل لا حديث شراب.‘‘ (140) ويمكن القول إن قطبي الأكل والشراب في علاقتهما بالسرد يتجاذبان جو هذه المجموعة. يقول باشلار: ’’حين نتمكن من جعل الماء يتوغل عميقا في جوهر التراب المنسحق، حين يشرب القمح المطحون الماء ويأكل الماء القمح المطحون، تبدأ تجربة ’الربط‘، ويبدأ الحلم الطويل الطويل، حلم ’الربط‘. ‘‘  [18] ويبدو أن هذا التفاعل أساسي في الأحلام، فالتداعي الحر فيها متوقف على ’’الربط‘‘ بقدر ما هو متوقف على ’’الحل‘‘.  وهكذا نجد خبز الشعير المالح مقابل الماء الشروب، ونجد الشيطان ينسحق بينهما كما بين المطرقة والسندان. وما الشيطان هنا إلا شيطان السرد. فحديث ابن الجوزي ـ وقد استعمل هنا ابيجراما يتم منه الولوج إلى نص يفترض أنه سردي عنوانه ’’ مدخل عن العطش‘‘ـ حديث مروي بعبارة ’’قال بعض القُّصاص‘‘(115) والنص مكتظ بألاعيب ميتاسردية تحاول أن تجمع كل القطط أو كل القصص في كيس صغير وتنم بذلك عن أزمة سردية: ’’هاأنذا أكتب بالفعل حكاية عجوزا تتوكأ على واو العطف.‘‘ (118) ويبلغ التعبير عن هذه الأزمة ذروته في هذا الاعتراف: ’’أعرف ـ وبأي تمن عرفت! ـ الكتابة عن هذه المادة بصدق كالسير في حقل ألغام، كلما استصعبتُ أو عييتُ فأسرعتُ سقطت في التشويه والنمذجة والاحتذاء، فانفجرتُ وغار الماء.‘‘ (119) ويتميز الماء عن غيره من العناصر، كما يلاحظ باشلار، ’’بكونه واقعا شعريا مكتملا‘‘ [19]. وبنضوب الماء ينضب مصدر الحلم والشعر.
  3. الندرة النسبية للأحلام، مقارنة بوفرتها في المجموعة الأولى، وذلك في مواجهة  طغيان واقع لا يرتفع. فحين يغور الماء يحل الجفاف وتندر الأحلام ويتأزم السرد فيُطلب الإلهام في الموسيقى، لكن الموسيقى شعبية ساذجة رتيبة فقيرة فقر الواقع منغمسة فيه كل الانغماس، تحاول أن تستحضر بالترميز المنمط الديانات الموحدة الثلاث في نفس الآن، مع أن التنويع على نغماتها الأساسية لا يتجاوز صيغا  ثلاث: ’’التريللان‘‘، ’’الترالالان‘‘، و’’الترولالان‘‘ (159). وهكذا نجد السارد مرتبكا، يكلم نفسه ويتعثر في ’’جلائله‘‘ باستمرار: ’’ذات يوم كان هناك رجل ... ذات ويوم وكان وهناك ورجل، هل أنت مصاب بإسهال؟‘‘ (153) في منتصف الليل تُستبدل شيخة من واد زم بزهرة الأحلام، وفي منتصف الليل تخيم علمانية الواقع الغاشمة: ’’وأنا أيضا في منتصف الليل، والعالم كله في منتصف الليل، وهي سألتني ماذا تفعل بالليل؟ أكتب القصص. وماذا تفعل بالقصص؟ أنشرها. وكم يدفعون لك؟ لا شيء. وعلاش كتعذب رأسك أحبي؟ ‘‘ (157) هكذا يحاول السرد المهلهل أن يلتمس الوعد في البعد، ويلتمس في عين المصباح قطرة ماء أخضر قد تجعل الدنيا حبة برقوق.

وبفعل التحولات الداخلية للمتن الأدبي الذي يخلف في بعض الأحيان انطباعا بأنه يسير في خط مستقيم شبيه بطريق جعيدان، يصير الماء الأخضر في عين المصباح ماء أزرق في ’’نانَّا‘‘ (201-204), أول نص من مجموعة ’’صياد النعام‘‘. فبعد مباهج العسل المرتبط بصفاء الطفولة وبراءتها، تُري ’’نانَّا‘‘ الطفل أحمد العين ’’الزرﮜــا‘‘، فتتحطم البراءة ويتكدر الصفاء ويرتبك الطفل محتارا بين تأويل إيجابي للسرد التاريخي يضفي عليه مسحة ملحمية وبطولية، وتأويل سلبي لا يرى فيه سوى الوحشية والإجرام؛ وبذلك يتغير المنظور وتنهزم القيم أمام شكلانية عروضية ليس فيها معنى سوى أنها فضول. وأمام انسداد الأفق يلجأ السارد مرة أخرى إلى إنهاء النص بألعوبة ميتاسردية لا تخلو من افتعال، لكنها ملائمة لنص يحاول أن يجمع الأجزاء ليصل إلى الكل.

وتظل قراءة هذا المتن، مع ذلك ممتعة، ولعل مصدر متعتها هو اكتشاف العلاقة بين الواقع والحلم، بين الأصل والصورة، كما يشرح الفنان: ’’الأصل عادي والصورة عادية لكن المسافة بينهما مكان جميل.‘‘ (205) على أن القارئ يدرك عند نهاية ’’الفنان‘‘ أن الفنان هو الموت، وأن الإنسان هو الموت، وأن الجمال هو الموت.  وقبيل أن ينهار الفنان ، يعرف الجمال بأنه الموت، ولعل في هذا التعريف تلميحا يحيل على ذكرى الزهرة الهالكة في بداية المتن، وبذلك يكون بوسع العاشق اللطيف الطيب الحزين أن يحور المقطع الشهير من أغنية فيروز إلى: ’’وأنا صرت كبير ... و زهرة بعدها زغيري ... عم تلعب عالحبل ...‘‘

وكما نابت عن الزهرة الغائبة شيخة من واد زم في منتصف ليلة سرد، ينوب الآن عنها ملصق لـرومي شنايدر يتأمله الصياد الجريح الذي وقع في الفخ، يتأمله من موقعه على مقعد التواليت: ’’على ظهر الباب الخشبي صورة كبيرة لـرومي شنايدر وهي تبتسم ابتسامتها الملغزة، الملغزة أكثر من ابتسامة الموناليزا هي في منتهى البراءة والمرح إذا وضعت غطاء على باقي الوجه، ولكن العينين فيهما حزن عميق عمق الحزن الذي عرفته الإنسانية في تاريخها كله.‘‘ (259) إن هذا الحزن الكوني ليذكر بجرار الحزن الأزرق المسكوبة في عيني الزهرة الهالكة. فيا لعينيها! ويا لعبرات الألم في عيون الأقوياء! دموع هادئة باردة بعيدة لا توحي إلا بأن الألم بئر عميقة. ولأن في العيون ماء، ولأن الماء يفصل جزر الأرخبيل ويصل بينها، فإن صراخ طفل من إحدى هذه الجزر يتناهى إلى الصياد الجريح وهو جالس على مقعد التواليت يتأمل الكسرة النائبة عن الفتحة، ويتأمل الملصق النائب عن رومي النائبة بدورها عن زهرة كانت قد غابت منذ أكثر من عقدين. ينقله صراخ الطفل إلى زمن بيوغرافي سحيق مثل بئر الألم، إلى ضريح ’’سيدي الطاهر‘‘ حيث تضعه الأم على تراب الضريح البارد. تتركه وتغلق الباب من الخارج. عتمة المكان ووحشته تصعق الطفل فينتابه البكاء والصراخ. لكن تواصلا عميقا يتم بين عينيه وعيني وزغة تتحرك أمامه على الجدار المقابل: ’’حين أبكي، تتحرك. وحين أصمت، تسكن تماما، ويقف العالم كله صامتا ساكنا باذخ الإثارات كخيط من حرير يربط بين عيني الجاحظتين وعينيها الفارزتين.‘‘ (260) يا لعينيهما! وهكذا يكون لهذه الصدمة الاستشفائية دور كبير في تحديد ذوق الصياد المنجذب أساسا نحو عيون النساء ونحو العلامات المميزة في وجوههن.

يشرد صاحبنا فيتذكر تجاربه في الغرام والنضال والإبداع.  يتذكر كيف كتب أول قصة وهو في الزنزانة، وكيف استنكرها رفاقه لأنها عن الحب لا عن الشعب، فقرر أن يكف عن الكتابة. وهاهو الآن يتناول القصة من بين أوراقه المهملة. تذكره الأوراق المطوية بحكاية صحيفة المتلمس فيقرر قراءة قصته. وفي هذا عود إلى تقنية العلب الصينية: قصة ضمن قصة. فإذا كان قدر صياد النعام محتوما لا مفر منه، كما يوحي بذلك المثل الدارج الذي يحيل عليه العنوان، فإن قدر صياد القصة أن يعود ويقرأ صحيفته المطوية ولو بعد حين. فكفى بنفسه عليه قارئا وحسيبا. ذلك مكتوب. وعنوان الصحيفة هو ’’العصفور على الشجرة ولا شيء في اليد‘‘ ــ تحوير كلبي آخر لمثل سائر. ويرتبط هذا العنوان بموضوعة الصيد المنصوص عليها تصريحا في عنوان النص الذي تم اختياره عنوانا للمجموعة. وهو بذلك يحيل على صيد الغزالة في ’’الجبل الأقرع‘‘ وعلى صيد العصفور في ’’اليدائية‘‘، وربما على صيد زرافة مشتعلة في سياق آخر.

تنقسم الصحيفة إلى ثلاثة مقاطع، وهو عدد يوافق عدد المجموعات المكونة لــ’’ديوان السندباد‘‘. في المقطع الأول ينغمس الطفل القروي في أحلام اليقظة. يجر شاحنته ويتجه إلى المدينة ليبيع البطيخ. ويبدو أن الأمر يتعلق بــ Love Story يحب فيها الطفل العاشق الحلوى والزبدة واللعب مع زهرة.  لكن ما يحبه أكثر هو اللعب مع زهرة. وهناك شبه كبير بين نظرته إلى عالم الكبار ونظرة الأمير الصغير في رواية سانت إكزبري: ’’محوت من خيالي أبي وعمي وخالي (إنهم كبار السن قساة، ويستحيل أن يقولوا ما تخيلت أنهم قالوه) واستدعيت زهرة.‘‘ (264) تستجيب زهرة فيجلسها بجانبه في مقصورة الشاحنة ويهربان إلى المدينة مخلفين وراءهما الغبار ... والكبار. واللي كبرها تصغار.

وإذا كان المقطع الأول من الصحيفة  يمثل أحلام الطفولة، فإن المقطع الثاني يمثل الفتوة والعنفوان. إذ نرى الفتى هنا سابحا في زورق من صنع أحلام الشباب. وهذه الأحلام إنما تتأسس بتكثيف لحظات العمر الهاربة لكي تصبح خالدة لا ينالها الفناء. ويتحقق هذا بالنسبة للفتى باكتشافه حبة عرعر برية ثمثل بالنسبة له إكسير الخلود: ’’رأيتها أولا وسط الأوراق الصنوبرية الدقيقة الحادة الرؤوس كالإبر: زرقاء/ خضراء، مستديرة صغيرة في حجم بيض الطيور، تستقر في قاع العالم وتجتر غذاءها المزيج من حفيف الريح وشذى الزهر وضوء الشمس ورفرفات الأجنحة.‘‘ (264) بهذه الغنائية المجنحة يصف الفتى الحالم حبة العرعر البرية التي أسرته. واقتداء بأمير سانت إكزبري، يحاول أن يدجنها، أن يتملكها ويضعها في جيبه، متصورا أنها تخفي لبا صغيرا أبيض لا يختار له من الأسماء سوى اسم ’’زهرة‘‘ ، ثم يأخذ على نفسه هذا  الوعد: ’’سأحتفظ به حتى أشيخ، فأحك بضع ذرات منه في كأس الشاي كل يوم وأشرب مغمضا عيني على شمس الصباح الطالع نصفها من الأفق البعيد: حمراء حلوة محبوبة حية حلمية: حاء طفلة تتقافز على الحبل بجديلتها الطائرة خلف ظهرها، وصندلها الأحمر، وصوتها الرفيع الحاد كأنما يخرج من وتر صوتي واحد، وأنا لا جسم لي، مجرد عين، مجرد نظرة عين، نظرة عين مغمضة.‘‘ (265) يا للفراش الحائم الحالم الذي دنا فتدلى فكان من قاب القوسين أدنى ! هاهي زهرة الطفولة تصير في عالم الغيب جوهرا، لب ثمرة برية، وفي غيابات العالم السفلي، تصير البذرة ، بالقوة، بذرة تؤبد كل الثمار وكل الأشجار.

وتحيل العين المغمضة في نهاية المقطع الثاني  مباشرة على الحلم المركب في المقطع الثالث. فإذا كان المقطع الأول عن الطفولة والثاني عن الفتوة، فإن الثالث عن الشيخوخة. يحبو السرد في الأول،وينتصب في الثاني، ويتكئ في الثالث على عكاز، أو هكذا ظن أوديب. لكن الزهرة تظل محورا ثابتا في المقاطع الثلاثة. وتتجلى للحالم هنا في دامس الظلام وهو على حافة حفرة في منقلب زبالة، تتبدى في البدء قطعة معدنية أو كسرة مرآة متلألئة يشار إليها مرة أخرى بـ ’’ذلك الشيء‘‘ :

ترددت في الهبوط لاكتشاف طبيعة ذلك الشيء الذي يلمع. الغريب أنه بدأ يصعد، يصعد كما لو كان طافيا فوق بحيرة، وكما لو كانت البحيرة في حالة مد، فهو يقترب ثم يبتعد، ولكنه يتصاعد دائما، وتدفعه الموجة تلو الأخرى نحوي، وأنا أتبين ملامحه شيئا فشيئا ... وفجأة أكتشف أنه وجه (زهرة).(265)

إن تجلي طيف زهرة هنا طافيا على سطح البحيرة ليؤكد ما سبقت الإشارة إليه من علاقة الماء بالأحلام، بل يبدو أن ذلك التجلي كما قدم في هذا الوصف قريب مما هو موصوف في قول باشلار: ’’إن الكائن الحي الذي ينشأ عن الماء انعكاس يتجسد شيئا فشيئا، إنه صورة قبل أن يكون كائنا، شهوة قبل أن يكون صورة.‘‘ [20]  والواقع أن هذه الصورة المشتهاة في رؤيا السارد الحالم تكثيف لكل أوجه التعقيد والالتباس في العلاقة بين الزهرة الهالكة والعاشق اللطيف الطيب الحزين. وهي فيما يبدو علاقة كانت منذ البدء مستحيلة لأنها محكومة  بمزيج من أحاسيس متناقضة. ولعل في هذا ما يفسر  ظهور الأب في الرؤيا ظهورا يذكر بظهور الشبح في هاملت. فها هو الأب يطالب الابن صارما بأن يكون حاسما في اختياره:

وفي غمرة هذا المزيج المركب من الاحساسات: الرغبة في رؤيتها والخوف من نطقها اسمي، والخوف من الليل ومن القمامة، والرغبة المزدوجة في زهرة، وفي البقاء وحيدا في نفس الوقت ـ في غمرة ذلك كله، سمعت صوتا آتيا من القمامة في قاع الحفرة: صوتا يشبه صوت أبي ... صوت أبي في كهولته، قبل أن يشيخ ويهرم، صوته الخشن الصارم والواثق الذي يتحدث عن الغد جازما كأنما يخبر عن أمس: (زهرة أو الحياة). (266)

يفهم الحالم من هذا أن الأب يخيره بين زهرة وكل طموحاته و تطلعاته، وخصوصا منها الإبداعية ( ’’الكلمات التي أحلم بصياغتها للتعبير عن هذا كله، أو للتعويض عن هذا كله‘‘(266))فيدرك بأن اختيار زهرة وحدها بدون العالم لن يكون إلا اختيارا لزهرة مقطوفة. ومع أن تعبير الحالم عن رفضه لم يكن إلا تعبيرا عن رفض لهذا  الاختيار الظالم، فإن الأب يفهم  من ذلك أن ابنه رفض زهرة. وهكذا تنحسر البحيرة ويغيب طيف زهرة. يحتج الحالم بمرارة وعنف: ’’ولكن الحياة ... هي زهرة‘‘، لكن احتجاجه يذهب سدى. وتُلخَّص المأساة في لحن رتيب لعله من المغرب الشرقي:

نبدا قولي بالزاي: زهرة لابسة لخضر، الشدا صفرا، والحزام حمر

نختم قولي بالزاي: زهرة ركبت التران، تران الزمان، الّي ما عندو فران.

وبين البداية والنهاية، تظل حكاية زهرة سرا محفوظا في ذاكرة الحالم. ويبدو أن مرور السنين لا ينال من ذكرى تظل غصة في حلق الحالم، ويظل يستشعرها حسرات يحاول الهروب/ الاقتراب منها برحلات وهمية يرتاد فيها الآفاق الفسيحة دون أن يبرح مكانه الضيق. لكن السارد/الحالم الذي كرس عمره لتخليد زهرة حالمة/حلم مزهر، وذلك بالصراع مع الكلمات التي يحلم ’’بصياغتها للتعبير عن هذا كله، أو للتعويض عن هذا كله‘‘(266) غالبا ما تنتابه لحظات يأس لابد أنه يسر فيها لنفسه بما فكر فيه هاملت: ’’يا إلهي! بوسعي أن أكون حبيس قوقعة محار، فأنصب نفسي ملكا على أقاليم لا تحد، لولا أحلامي المزعجة.‘‘ [21]

فهاهو السارد الحالم يطرق أبواب الشيخوخة (أصبحت أصلع الآن) ويتذكر بحسرة وحنين: ’’كانت لي زهرتي يومئذ ... ولكنها كانت تتقدم نحوي دائما ولاتصل ...‘‘ (286). والزهرة لا تصل لأنها إنما تتقدم في الحلم. أما السارد فيدرك أنه بدوره لا يصل إلى شيء ولا يصل إليه أحد. ورغم كل هذا فإن الكلمة الأخيرة تكون للعناد المسيحي المميز: ’’ماذا يهم إذا خسرت العالم. لقد ربحت نفسي ... نفسي ... نفــــــ ...‘‘ (268)  بهذا يكون الحالم قد ربح نصف نفسه، أما النصف الآخر ففقد للحلم المزهر ـ والطريف أن نصف نفسه المفقود صار لقبا عادة ما ينادى به الكاتب. ولعل في هذه النهاية ما يذكر بنهاية ’’سرنمة‘‘: ’’وحين سمعت العالم يسكت، استيقظت، فوجدتني على الحافة. وأنا لن ...‘‘ (224) إن الحافة التي وجد عليها الحالم نفسه هي حافة تلك الــــ ’’نفـــــ‘‘، أي نصف تلك النفس المفقودة أو المستعادة، ليس مهما، المهم أن الجملة تنتهي بأداة نفي، وليس مهما أي فعل تنفيه؛ والأهم أن أداة النفي هنا تأبيدية، وأنها تؤكد عناد القديسين وإصرارهم. وكما قال الشاعر:

هانحن قد تباطأنا في غرف البحر

قرب فتيات البحر المكللات بأعشاب البحر الحمراء والسمراء

إلى أن أيقظتنا أصوات بشرية، فغرقنا [22]

وفي مجموعة ’’ققنس‘‘، تصير الأحلام في أغلب الأحوال ملمحا بنيويا يعلن عن نفسه تصريحا وبدون مواربة. ينتهي نص ’’تعبير الرؤيا‘‘ ـ أول نص في المجموعة ـ بأن يحدق السارد في المجهول، ثم يصفه هكذا: ’’ المجهول: ماء كماء بحيرة نرسيس، وأنا أطل عليه، وأنظر إليه، وأحدق فيه، فلا أرى في الماء غير الماء.‘‘  [23] الثابت أسطوريا أن نرسيس يحدق في البحيرة فلا يرى إلا وجهه. فهل كان وجه نرسيس معلوما أو أنه كان مجهولا في صيغة مبنية للمعلوم؟ ولماذا لا يرى السارد وجهه منعكسا في البحيرة؟ يحتمل السؤال الأول أي جواب، كأن يُفترض، مثلا، أن الحلم قناع اليقظة، أو أن الوجه والقناع يتبادلان الأدوار: ’’وجهي خلف القناع؟ أم القناع خلف الوجه؟ كما لو كان وجهي الظاهر قناعا، والقناع الإفريقي الأسود الكامن هو وجهي الحقيقي.‘‘(57) أما السؤال الثاني فجوابه بسيط: السارد أعمى. هذا ما يؤكده في بداية النص حيث الجملة الافتتاحية هي: ’’رأيتني أعمى، تحت المطر.‘‘ (7) إن المفارقة واضحة في الكلمتين الأوليتين من هذه الجملة. لكن الحلم سلطان. هكذا تتكرس سُـنة وصل النهاية بالبداية. وهكذا تُلقى ظلالٌ إبستيمولوجية ووجودية على ثنائيات الذات والموضوع، الواقع والحلم، الهوية والاختلاف، البداية والنهاية؛ والواقع أن هذه الظلال تعمِّق الإحساس بغياب أي يقين يمكن الركون إليه. ولعل بنية النص أيضا تعمق هذا الإحساس، فالنص منقسم إلى أربعة مقاطع: الحلم، والهوامش، والتعبير، والمجهول. فأما ’’الحلم‘‘ فنسيج معقد من عناصر كالماء والجنس والعنف، لكنه محبوك بخيط سردي واضح. وأما ’’الهوامش‘‘ فلا يبررها سوى زيغ تمليه رغبة في العبور من جنس إلى آخر، وقد يكون من وراء هذه الرغبة إحساس بأزمة سردية. ولعل في هذا ما يجعل الهوامش أحيانا تنزلق إلى مستوى ميلودرامي يصدع فيه السارد بتنظير مجاني قد يجنح نحو الابتذال، كأن يلجأ، مثلا، إلى أوكتافيو باث ليبرهن لنفسه عن قرابة ما بين قديسي أمريكا الجنوبية وقديسي الثقافة الإسلامية، أو يحاول ـ في سياق التعليق على ظهور كاسترو في الحلم ـ أن يلوح بهذا الاستنتاج النظري الطنان: ’’ولكن الوجه الكاستروي في الحلم بدا معاديا، ولذلك أثار الشك في نفسي، فكأنه وجه مزيف ... قناع مغرض يسرق به الثقة كأنه وجه راسبوتين ... ماض يسرق الحاضر، رؤيا تضبب الرؤية، أو أسطورة تعوق الحداثة.‘‘ (14) وقد يكون هذا النزوع الميتاسردي نحو التنظير، وهذا الولع باللاهوت المقارن، هما اللذان جعلا السارد يعرض تأويل ابن سرين إلى جانب تأويل فرويد، للتدليل ربما على ذلك الماضي الذي يسرق الحاضر، وتلك الأسطورة التي تعوق الحداثة. غير أن السارد يعيد الأمور إلى نصابها في المقطع الأخير حيث يخرج من المنزلق النظري ويعود إلى جادة السرد. فكأنه يعبر بذلك عن وعي بأن المرء لا يمكن أن يرى في الهوامش غير الهوامش، ولا في التأويل غير التأويل، أي أنه لا يمكن أن يرى في هذه الألاعيب الميتاسردية  سوى ما يعتبره الحكام في الكرة تسللا (hors jeu). فالرائي، من قبل ومن بعد، أعمى.

يتألف نص ’’ققنس‘‘ من أربعة مقاطع: ’’الحلم‘‘، ’’تعليقات الحالم‘‘، ’’التفسير‘‘، ’’تفسير التفسير‘‘، وبذلك يتم تكرار البنية الرباعية التي رأيناها في ’’تعبير الرؤيا‘‘. والواقع أن المقطع الأول في النصين يحمل نفس العنوان: ’’الحلم‘‘، وهو المقطع الوحيد الذي يلتزم السرد في كلتا الحالتين، فباقي المقاطع خارج عن جادة السرد.

والحلم هنا مزهر حقا، لأن روح الزهرة الهالكة تحل فيه بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على غيابها. وتتمثل روح الزهرة هنا في الشعر والموسيقى، ولهذا كان لا بد من استلهام ’’الشعاعة الصافية‘‘ موتسارت من بذخ  النمسا، واستلهام الشاعر الزنجي بيراجو ديوب من شظف السنغال ليكونا معا في عالم الغيب شاهدين على قران الشعر والموسيقي. وقد تستوقف القارئ صيغة المؤنث في ’’الشعاعة الصافية‘‘ في الإشارة إلى موتسارت، ولعل في الأنوثة التي قدم بها فيلم ’’أماديوس‘‘  شخصية موتسارت ما يفسر هذه الصيغة الغريبة. لكن ارتباط موتسارت في هذا النص بطائر الققنس، يجعلنا نلتمس تفسيرا أشد طرافة في ملاحظة باشلار المتعلقة بازدواجية جنس الطائر. يقول:

إن صورة ققنس، ككل الصور الفاعلة في اللاوعي، صورة خنثوية . فهو مؤنث في تأمل المياه المنيرة، ومذكر في الفعل. فالفعل، بالنسبة لللاوعي، حدث. وليس ثمة، بالنسبة إليه، سوى حدث واحد ... وعلى أي صورة توحي بحدث ما أن تنتقل، في اللاوعي، من المؤنث إلى المذكر.[24]

يلتمس السارد الحالم، في ’’ققنس‘‘، كتابا في كشك لبيع الصحف، يكون الكتاب في البدء هو ’’منطق الطير‘‘،  لكن عبث مورفيوس بالأشكال سرعان ما يناله، فيصير على التوالي: ’’موسيقى الطيور‘‘، ثم ’’كيف تطير الموسيقى‘‘، ثم يصير شريطا موسيقيا، ويصير بائع الصحف بدوره بائع أشرطة يقتني منه الحالم هذا الشريط، وعنوان الشريط هو ’’موسيقى ققنس‘‘. يطير الحالم حتى قبل أن يسمعه. يطير بالمعنى الذي سبق أن حدده، أي، ’’يذهب أو يرحل أو يغيب أو يمحي‘‘ (17) وهو بهذا الامحاء أو الغياب أو الرحيل إنما يمضى نحو عالم الغيب، يرحل ليستعيد من هناك الزهرة المفقودة، كما رحل من قبل اورفيوس ليستعيد يوريديس:

فجأة، وأنا لا أزال أقرأ غلاف الشريط أحسست بأني أطير، أطير فوق الكشك، بين العمارات، أدخل من باب شرفة ضيقة، أطل، وأنا لا أزال محلقا، على شخص يكتب فوق مكتب. أكتشف فرحا أن الشخص هو ’’زهرة‘‘ (18)

هكذا يرى السارد ’’زهرة‘‘ تكتب قصيدة، ابتهال يأس شبقا إلى أنوثة موتسارت وإلى ’’قبيلة الكمانات المجنونة‘‘، وعلى أذنيها سماعتان. لاشك أنها كانت تسمع موتسارت، ولعلها كانت تسمع ’’ققنس‘‘، أي تسمع قطعة بهذا العنوان، أو تسمع غناء الققنس. وعن غناء الققنس يقول باشلار:

يمكن تأويل غناء الققنس قبل موته بأنه تعبير فصيح عن عهود العاشق، بأنه صوت العاشق الدافئَ قبل البرهة الأسمى، قبل هذا الحد المهلك للنشوة، هذا الذي يمكن وصفه بأنه ’’موتٌ عاشق‘‘ ... وهذا التغني بالشهوة النشوانة التي سيتم إرضاؤها نادرا ما أفصح عن دلالاته الجنسية المعقدة ...  لا تمثل صورة ’’ققنس‘‘ سوى شهوة من الشهوات... فهو يغني باعتباره شهوة ... لكن، ليس ثمة من شهوة تغني وهي تحتضر، وتحتضر وهي تغني، سوى هذه الشهوة: الشهوة الجنسية. وهكذا يجسد ’’غناء ققنس‘‘ الشهوة الجنسية في أوج اضطرامها.[25]

يقترب الحالم من ’’زهرة‘‘ ويسمع، لا يسمع  مباشرة بل يسمع ذرات الموسيقى المتسربة من السماعة، وبسماعه يتغير فجأة كل شيء: ’’وكأنما في كفتي ميزان. كان صوت زهرة يخفت، وصوت الموسيقى يتصاعد، وأنا أغمض عيني، فأرى موجات من المياه تتعاقب وتتوالى ناشرة أعرافها البيضاء على حافة الوجدان.‘‘ (18-19) ماذا لو ظهر باشلار مبشرا بالماء عند حافة الوجدان؟ لكنه لا يظهر، بل ينبت الشاعر السنغالي حزين العينين على ضفة أم الربيع، ينبت ويمتد غصنا إفريقيا يكشف عن هويته. وفجأة يسمع الحالم جرسا يرن: ’’ققنس... ققنس... ققنس‘‘ فيدرك أن هذا الجرس إنما يقرع له هو. يحس أن الماء يغمره، أن السيل بلغ التراقي، وأنه يغرق، فيكون آخر ما يقوله هو: ’’ الماء... فـــي... فمي.‘‘ نهاية موفقة للحلم، لا ريب. فالفم الذي يملأه الماء لا بد أن يتوقف عن السرد.

ينتهي الحلم، ويفيق الحالم، فيبدأ تعليقه اليقظ على حلمه. ويتمثل التعليق في ثلاثة هوامش: رقعة من ’’الصاهل والشاحج‘‘ [26] عن طائر الققنس، وهامش عن ’’زهرة‘‘، وهامش آخر عن  بيراجو ديوب. يستفاد من رقعة المعري أن هذا الطائر أسطوري منقرض، وأنه حين تقترب نهايته بسبعة أيام يزداد حسن صوته حتى أن السامع يموت من فرط الشجن، وأن هذا الطائر تنتابه في أيامه الأخيرة نوبة طرب وبهجة شديدة تجعله يواصل الصياح. وعن انقراض هذا الطائر، يوضح المعري: ’’ويزعمون أن ذلك الطائر هلك فلم يبق منه ولا من ولده شيء، وكأنهم يرون أن ماء البحر غشي ققنس ورهطه بالليل في الأوكار، فلم تبق له بقية.‘‘ (20) ولا يخفى أن في هذا التوضيح ما يوازي ما سبق أن رأيناه من غرق الحالم في ’’الحلم‘‘. أما الهامش المتعلق بــ ’’زهرة‘‘ فيؤكد أنها نفس الزهرة الهالكة التي يتعرف عليها القارئ في أول نص، ’’يسألونك عن القتل‘‘. ويستفاد من هذا الهامش أنها كانت تحب موتسارت، وتحب البحر، وتحب حصان الريح، وتحب ’’سيدي علي‘‘ (لم تكن مياه ’’سيدي علي‘‘، ولا فلم ’’أماديوس‘‘ قد ظهرا بعد في عصر الزهرة الهالكة. لكن، متى كانت الأحلام تراعي الدقة التاريخية؟ على أن الأمانة التاريخية تقتضي أن نذكر أن كل هذا كان معاصرا لفيلم Love Story الذي يخبر فيه البطل عن زهرته الهالكة بأنها كانت تحب باخ، وبيتهوـن، والبيتلز، وتحبه هو) ويستفاد أيضا من الهامش أن أساس الصراع بين الزهرة والعاشق كان هو اختلاف ميولهما الشعرية. فهي تعتبر نفسها شاعرة حقيقية، بينما تعتبره، وهو الذي يقدم نفسه شاعرا سورياليا، شاعرا ناقصا: ’’مبدع لاروب‘‘ (21)، فتصنفه مع سالييري، بينما تصنف نفسها مع موتسارت، وتتوقع أن  يقتلها العاشق يوما بكأس سم، كما تتوقع أن تتغنى قبيل موتها بجناز تقول فيه:

بحر من النار البعيدة يقترب

وأنا على الشط

والشمس في كبد السماء

كبدي على تلك السماء

وبدون ماء ... (21)

ويخبرنا السارد أن ’’زهرة‘‘ ماتت بعد ذلك بيومين، وأنه لم يكن يحسدها كما كانت تظن، بل كان يحبها، وكان يحب ما تحبه، ويحب أن يحب ما تحب. وبوسعنا أن نحس أنه يتحسر الآن على أن إبداعه يظل بعدها ناقصا، وأنه ـ رغم مضي كل هذا الوقت ـ ليس سوى عجوز عازب وعقيم. وفي الهامش المتعلق بــراجو ديوب، يعرف السارد بالشاعر ويقتبس هذا المقطع من إحدى قصائده:

استمع إلى صوت المياه

استمع في الريح إلى الأشجار تبكي

هذه أنفاس الأسلاف

أولئك الذين ماتوا لم يرحلوا عنا

إنهم في العتمة التي تستضيء

وفي الظل المتكاثف

إنهم في الشجرة التي ترتجف

إنهم في الغابة التي تئن

إنهم في الماء المنساب ... (21-22)

ويبدو أن السارد حين يقتبس هذا المقطع إنما يفكر في الزهرة الهالكة، فهو يراها حاضرة في كل الأشياء. وهاهو يستمع إلى صوت المياه لأن الغائب في سماء جنازها هو الماء،  ولأن الماء غمره  في الحلم.

ويبدو أن الوعي بأن المرء لا يمكن أن يرى في الهوامش غير الهوامش، ذلك الوعي المعبر عنه في آخر مقطع من ’’تعبير الرؤيا‘‘، يتعمق الآن في ’’ققنس‘‘، مما يجعل المقاطع الخارجة عن السرد غنية، وتغني النص بأكمله. ولعل مصدر غناها هو تلك النبرة الساخرة  المستهزئة بكافة أشكال التنظير القائم على الحذلقة والتعالم. ففي مقطع ’’التفسير‘‘، مثلا، تشخص حالة الحالم بأنه يعاني من ’’فصام مزدوج‘‘ يمزق ذاته بين الهوية والحرية، ويُقتَرح علاج سايكودرامي يتمثل في المواظبة على  أداء دور هاملت في ظروف مجحفة. لكن سرعان ما يتم تسفيه التشخيص المقترح من طرف المشخص نفسه حين يستنتج: ’’والواقع أن الحالم لا هوية له، لأن الهوية تعني الاطمئنان، وهو قلق، ولا حرية له، لأن الحرية تعني القدرة، وهو عاجز.‘‘ (22) وتكون السخرية من العلم بالنفس مضاعفة حين يقوم المفسر الشيخ بانتقاد تشخيص المفسر الشاب مقترحا أن العلاج النفسي بالسرد، لا بالدراما، هو الحل. ويستنتج الشيخ قائلا:

لذلك أنصح الزميل الشاب بكتابة قصة يتخيل فيها حالما يحلم ومفسرا يفسر حلمه. فربما ساعده ذلك على التخلص من هذه  الإسقاطات التي يغرق بها مرضاه، لأن التفسير الذي قدمه ليس إلا إسقاطا للهلوسات التي بثتها في نفسه الموضة التلفزيونية عن الصراع بين العرب والغرب، أو بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الشمال والجنوب .... إلخ ... إلخ. أما الحلم فهو بسيط. وهو مجرد تعبير عن الحنين الذي يحسه الحالم الشيخ  نحو طفولته. هذه الطفولة التي أصبح يراها الآن بشكل  أوضح. (23)

وتصير السخرية مثلثة حين يرد المفسر الشاب في اقتضاب ماحق: ’’أنت الذي قلت.‘‘(24)

وبعد مقطع ’’التفسير‘‘ يرد المقطع الأخير ’’تفسير التفسير‘‘ في شكل يصعب معه القول أهو حوار أو مونولوج وفيه تلميح إلى أن الإبداع حتما أبتر، وأن الهوية حتما ناقصة. فالكتابة لن تكون إلا أرشيفا، والقراءة لن تكون إلا إسقاطا. أما الهوية فلن تكون  إلا ’’قْلّْ تُلُت‘‘: ’’أنـ ...‘‘. وهكذا تكرس نهاية ’’ققنس‘‘ ذلك المجهول الحاسم الذي ينتهي به ’’تعبير الرؤيا‘‘.

ويبدو أن ’’طيران الموسيقى‘‘ في ’’ققنس‘‘ يفضي توا إلى ’’الرقص مع الباليرينا‘‘ وهو النص الذي يليه، حيث يتتبع السارد الحالم على شاشة التليفزيون الكاميرا وهي تركز على الراقصة، ثم على ’’قدميها الصغيرتين الواقفتين منتصبتين، كأذني فرس عتيق ... يديها المبسوطتين كالجناحين، ساقيها اللتين تطير بهما مع الموسيقى في الفضاء.‘‘ (25) تبتعد الكاميرا عن الخشبة  وتتجه نحو القاعة لتحط على وجه حسناء في الصف الأمامي: ’’وجه حالم شارد في سماء الموسيقى محمول على غنى وتنوع واتساق أنغامها كما لو على ريش أجنحة الملائكة. وجه غسقي يقع على التخوم.‘‘ (26) ولأن الحلم ينتقل بالعدوى، فإن السارد الحالم يرى أن هذا الوجه الحالم ’’يحلم بأن يرقص ... يحلم بأن يرقص نفس الرقصة التي يراها، وعلى نفس الموسيقى... يحلم بأن يحلم نفس حلم الباليرينا وهي ترقص على الخشبة الآن ...‘‘(26) وهكذا يعتمد الكاتب مرة أخرى تقنية العلب الصينية: حلم ضمن حلم ضمن حلم ....إلخ. فإذا كان حلم الباليرينا هو الحلم النواة، فما طبيعة هذا الحلم؟ الجواب ـ كما حلم به السارد ـ هو: ’’ ربما تحلم بالحليب: ثوبها الأبيض الحليبي، والضوء السائل المتخثر الأبيض، والموسيقى المهروقة؟ كلا، المسكوبة كالحليب، ربما كانت الباليرينا تحلم بأن ترضع العالم وأن تُرضعه. ربما كانت تحلم بأنها هو وأنه هي.‘‘ (26) يبدو أن في الجملة الأخيرة التباسا، فليس واضحا هل الضمير ’’هو‘‘ يعود على السارد أو على العالم. وقد يكون الالتباس في هذا السياق مقصودا، فالراقصة هنا راضعة ومرضعة في نفس الآن. لكن ما سر الحليب هنا؟ هل عنَّ لـمورفيوس أن يكون كريما فحول الماء حليبا؟ يلاحظ باشلار أن ’’الماء يغدو حليبيا ... بفقدان شفافيته.‘‘ [27]

عن سر الحليب عموما، يروي باشلار موقفين متناقضين لكل من الشاعرين جاك اوديبرتي وجول رُنار[28]. حيث يتحدث الأول عن السواد الخفي في الحليب (la noirceur secrète du lait)، بينما يرى الثاني أن الحليب أبيض بشكل ميؤوس منه، فهو ليس إلا كما يبدو. ويعلق باشلار على الفرق بين الموقفين بأنه فرق بين منطق العقل الذي يرص التناقضات لكي يغطي كل الإمكانات، ومنطق الخيال الذي يعثر على الواقع في ما هو خفي أكثر مما يعثر عليه في ما هو ظاهر[29].

لكن ما سر الحليب في هذا السياق؟ لا يبدو أن لون الحليب يكشف سره. أيمكن أن يكون الحليب هنا ’’حليب الحنان البشري‘‘، كما يسميه شكسبير؟ لا يبدو من السهل اكتشاف سر الحليب هنا، إذ أن السياق لا يسعف. فنحن أمام حالم يحلم بأنه يتفرج على التلفزيون. ويقسم الكاتب الفضاء الذي يشاهده الحالم إلى مستويين: الخشبة التي تظهر فوقها الراقصة، والقاعة المظلمة حيث الجمهور وحيث الفتاة ذات الوجه الحالم. يحلم الحالم بأن الفتاة تشاهد العرض وتحلم بأن تؤديه، كما يحلم بأن الراقصة تحلم بالحليب. فلماذا يحلم بأن الراقصة تحلم بالحليب؟ أ لأن الحليب مهدئ كما يلاحظ باشلار: ’’ الحليب أول المسكنات. ولهذا فإن هدوء الإنسان يلقح بالحليب تلك المياه التي يتأملها.’’ [30]

وحتى يكتمل اللبس بين سواد الحليب وبياضه، بين الضوء والظلام، بين الواقع والخيال، بين اللبس والعري، يقدم الكاتب فضاء آخر، مستوى آخر من الواقع/ الحلم. امرأة وحيدة تجلس في صالون مغربي وتشاهد نفس العرض على جهاز التلفزيون. تتأثر بالعرض فتغرورق عيناها، لكن دمعها ليس دمع فرح ولا دمع حزن، دمعها ليس إلا حلما بالدمع: ’’هو فقط دمع موسيقى. كأن الموسيقى تنسكب في وجدان المرأة حتى تمتلئ البحيرة فتفيض. والمرأة تحلم بأنها داخل الشاشة، بأنها الفتاة المتفرجة داخل القاعة، أو حتى الباليرينا نفسها، وترقص أمام نفس المتفرجين ... فقط لو أضافته هو إلى الصف الأول للمتفرجين، ولو عصرته عصرا حتى يفيض من عينيه دمع كهذا الذي يبلل خديها الآن.‘‘ (27) تواصل المرأة استيهاماتها حول صديقها أو عشيقها أو طليقها إلى أن تدرك أنها وحيدة.

فما لون الحليب؟ وأين معشوقها الآن؟ ينتقل السارد إلى فضاء آخر، أي إلى مستوى آخر من الحلم/ الواقع حيث يجلس الكاتب ذو البصر الكليل وحيدا وبدون تلفزيون في الطرف الآخر من المدينة، يمسح نظارته، ويحاول إتمام هذه القصة، وعنوان القصة ’’الرقص مع الباليرينا‘‘.

فما سر الحليب؟ ومن يرقص مع الباليرينا؟ بل من يخاف من الباليرينا؟ أسئلة لا بد أن تظل مؤجلة، لأن ’’الرقص مع الباليرينا‘‘ ليس قصة بل حلما بقصة: إبداعْ لاّروب! وبوسع القارئ أن يكون مفتريا فيذهب مع المفسر الشيخ في ’’ققنس‘‘ إلى أن هذا الانفصال بين المرأة والكاتب ليس سوى إسقاط للفصل القدري بين الزهرة الهالكة والعاشق اللطيف الطيب الحزين. لكن ما سر الحليب؟

قد يقترب القارئ مؤقتا من سر الحليب في الغيابة الأولى من ’’غيابات القلب‘‘. فكل ما يُلقى به في غيابات القلب قد يلتقطه بعض الحالمين أثناء طيرانهم مع الملائكة أو زحفهم مع الشياطين. ويتألف هذا النص من ثلاثة مكونات مستقلة ومترابطة، وهي معنونة كالآتي: ’’الغيابة الأولى: الحليب‘‘، و’’الغيابة الثانية: الحلم‘‘، و’’الغيابة الثالثة: النمر‘‘. ومفتتح الغيابة الأولى هو: ’’أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي.‘‘ (31) يمضي السارد بعد هذا المفتتح ـ في ما يشبه البرهان بالتراجع ـ في استحضار تجاربه الطفولية مع الحليب. يتذكر رائحته وبخاره و’’شرشرته وهو يهبط من الإبريق الأبيض إلى الكأس المزوقة في الصينية النحاسية الصفراء.‘‘ (31) ثم يتذكر الحلاب الأحمر المغسول، وحليب المعزة الملتذة بالحلب. ويتوغل بعد ذلك في الغيابات القصوى للحليب، فيتذكر حليب الرضاعة: يتذكر أمه وهي ترضعه، ويتذكر الجارة ، الخالة ’’فاطنة‘‘، وهي تلقمه ’’ثديها الأسمر الكبير.‘‘ (32) يتذكر السارد كل هذا وهو الذي لم يذق الحليب منذ أن بلغ السابعة، ويتذكر أن طعمه كان مشوبا بطعم الصلصال الذي كان مدمنا على أكله وهو صغير. ثم يقرر أن يبحث ـ في ما يشبه تجربة كيميائية ـ عن زمن مفقود. يشتري نصف لتر من الحليب ـ وهو الذي لم يقربه منذ طفولته المبكرة ـ ويغليه في ’’الكاصرونة‘‘ لأنه لا يملك الإبريق، ويصبه في الفنجان لأنه لا يملك كأسا ولا صينية ولا صلصالا.  فكل هذه الأشياء تنتمي إلى الزمن المفقود، إلى عالم الغيب. يتذكر حكمة الوالدة: ’’اللي ينفخ على الحليب يشتاقو‘‘. حكمة تنتمي إلى عالم الغيب وتتحقق الآن في عالم الشهادة. وما إن يتذوق الرشفة الأولى حتى يستعيد الحلم ’’كاملا، وبوضوح. بوضوح باهر ورهيب.‘‘ (33)

هكذا تفضي الغيابة الأولى إلى الثانية. فإذا كان الحليب قد انتهى إلى مرحلة الرضاعة، فإن الحلم هنا يمتد إلى لحظة الولادة، إذ يحس الحالم أنه يتولد بالتدريج دون أن تكتمل الولادة. يحس بنفسه بين يد مجهولة ترسله، ويد مجهولة أخرى تستقبله، يولد دون أن يولد، كأنه ’’محكوم بولادة مؤبدة.‘‘ (34) وضمن إحساسه هذا إحساس آخر بأنه يموت. ومن خيط الموت وخيط الميلاد ينسج الحلم نسيجا يؤبد اللبس والمفارقة: ’’بين بين أحسني أتولد، بين بين أحسني أتلاشى، أتو ... اشى، أتلا ... لــد.‘‘ (34) وهنا يفيق الحالم بعد أن يكون الحلم قد نحت من التواشي والتلالد لغته.

يعبر ييتس في إحدى قصائده عن استنكار ميل الشيوخ إلى محاولة البحث عن الزمن المفقود. يقول:

لمَ يتذكر خيال رجل

جاوز شبابه أشياء ترمز

إلى الحب والحرب؟

تفكر في ليلة الأسلاف التي تستطيع،

لو يزدري الخيالُ الأرض

والبديهةُ شرودها

في هذا وذاك،

أن تخلص من جريمة الموت والولادة. [31]

لكن صوتا في نفس القصيدة يدفع بأن الشيوخ أيضا أحياء:

الرجل الحي أعمى يعب قطرته.

ماذا يهم لو كانت الغدران ملوثة؟

ماذا يهم لو عشت ذلك كله مرة أخرى؟

لو تحملت عناء النمو؟

خزيَ الصبا

بؤسَ الصبا المتحول إلى الرجولة،

الرجلَ الناقص وآلامه

موضوعا وجها لوجه أمام خرقه ...؟ [32]

لكن ما سر الحليب؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه المفيق إذ يدرك أن لا حليب في الحلم ولا صلصال. فهل يكتشف في الغيابة الأخيرة سر الحليب؟

الواقع أن لا ذكر للحليب في الغيابة الثالثة والأخيرة. النمر هنا سيد الموقف. نمر وحيد وحر وعار. والزمن نهر متدفق من منبع الأمس إلى مصب الغد. فالأنسب أن يتم تصور الزمن مكانا يسمى جزء منه ’’الآن‘‘، ولهذا الجزء حافة يسير عليها النمر. يمشي واثق الخطو، فارضا نموريته  ووحدانيته وحريته وعريه. كائن ذو مهابة وصولة وسلطان. تشخيص للطاقات الأزلية المتجهة نحو الأبد. ولعله تركيبة من نمر بليك الشهير، ذلك المتوهج في غابات الليل، ومن نمور بورخيس، تلك الجواهر المهلكة الفتاكة التي تطبع ’’آثار ه]ا[ على حواشي النهر.‘‘ [33] ليس على هذا النمر أن يفعل أي شئ، فمجرد مشيته كافية لفرض وجوده على هذه الضفة من الزمن، و على الضفة الأخرى، ينشأ طقس يكون هو فيه ذلك المعبود الذي تتبلور في بوتقة المفارقة ألوهيته. فعلى الضفة المقابلة  تحتشد ’’قبائل القلب‘‘. توقد النار وتضرب الطبول وترقص وتتضرع إلى هذا ’’الكائن حتى القتل‘‘ (35)، هذا ’’الفاسد حتى النفي‘‘ (35)، متوسلة إليه أن يدعها ’’تحيا‘‘ (36). قبائل القلب تجتمع على إحدى الضفاف في الغيابة القصوى من غيابات القلب لتشحذ الحياة من رمز الطاقة والعنفوان، رمز الفتك والتدمير. ويتخلل ابتهالاتها دق الطبول: ’’دم دم ...دم‘‘ ــ فهل تحول الحليب إلى دم؟ لنتذكر أن السؤال كان في البدء عن القتل.  هكذا يبلغ القارئ نهاية الغيابة الأخيرة دون أن يكتشف سر الحليب، فيفطن بذلك إلى أن أي سعي من أجل اكتشاف السر لن يؤول إلا إلى  ما وصف في ’’ناتاشا‘‘ بـــ ’’المستحيل الأبيض المسكوب في روحه كلبن أم في ذاكرة يتيم.‘‘ (45)

يستعير السارد عنوان ’’ناتاشا‘‘ من رواية بيضاء اقتناها ’’رمانة مغمضة‘‘ دون أن  يتصفحها، ثم اكتشف أن ما هو مكتوب فيها ليس سوى الصفحة الأولى والصفحة الأخيرة، وأن كل ما بينهما صفحات بيضاء.[34]  يقرأ الصفحة الأولى ويعلق عليها تعليقين يعنون أولهما ’’المستحيل الأبيض‘‘ وثانيهما ’’الحلم المجوسي‘‘، ثم يقرأ الصفحة الأخيرة فينتهي النص. لكن كيف يستطيع السارد أن يجزم بأن الصفحات البيضاء ليست مكتوبة بالحبر الصيني؟ ألا يمكن أن تكون في هذه الصفحات أحلام بهية أو مرعبة قد تدمر أي قارئ يطلع عليها؟  أليس بوسع المرء أن يتصور هذا، على الأقل من الناحية النظرية؟ يروي نيتشه عن لوكريتيوس:

إنما تجلت الصور الإلهية العظيمة لأرواح البشر ـ أول ما تجلت لها ـ في الأحلام؛ ففي الأحلام شاهد الخالق العظيم  البنيان الجسدي السني لكائنات أرقى من البشر، ولو سئل  الشاعر الهلني عن أسرار الإلهام الشعري، لاقترح التماس الجواب في الأحلام، وقد يقدم تفسيرا شبيها بتفسير هانز زاخس في  Mastersingers : ’’يا صديقي، تلك بالضبط  هي مهمة الشاعر، أن يسجل أحلامه ويعطيها معنى. صدقني، إن أعمق أوهام الإنسان تتكشف له في الأحلام، وما كل النظم والقريض سوى تأويل لها.‘‘ [35]

في الصفحة الأولى، يعود الأمير ميشكين من أوروبا إلى موطنه بترسبوغ بعد غياب دام أكثر من عشر سنوات. صار الآن كهلا، ولم يعد منغمسا في ملذات الحس كما كان في أيام الشباب. يحاول أصدقاؤه القدامى أن يحتفوا به، لكنهم يخفقون في جذب اهتمامه. بدا لهم ’’عجوزا ملولا وضجرا إلى حد الغثيان، ليس فقط من وجوده في هذا المجتمع كما يبدو، بل من وجوده أصلا، ومن الوجود ككل.‘‘ (43) وأثناء الاحتفاء به في بيت صديقته الجنرالة، تُقدَّم إليه ’’ناتاشا‘‘ وهي الابنة الصغرى للجنرالة، تلك التي تركها طفلة في الخامسة أو السادسة. يصعقه جمالها فيرى فيها ’’غيمة مضغوطة‘‘ (43) بوسعه أن يفجرها أمام الملأ بلمسة خفيفة من أصابعه الخبيرة. لكن الأمير هو الذي يتفجر حين يحاول أن يفجر الغيمة المضغوطة.

بعد أن ينتهي السارد من قراءة الصفحة الأولى، يتذكر في تعليقه الأول بطلة  ’’الحرب والسلام‘‘، ويشرد في أجواء الفيلم الروسي عن هذه الرواية. يتذكر كيف سحرته أجواء الفلم وبهرته شخصية ’’ناتاشا‘‘ التي كانت تمثل بالنسبة إليه ذلك الــ ’’جمال المطلق ... ملاك الموسيقى.‘‘ (45) أما تعليقه الثاني فتدوين لحلم من أحلام اليقظة. ولعل في تسمية هذا الحلم بــ ’’المجوسي‘‘ ما يوحي بأن السارد، هنا وفي باقي المتن، إنما يصوغ أحلامه بنار كتلك التي وصفها أماديوس بأنها ’’نار لا تخبو أبدا ... نار تحرقك إلى الأبد‘‘ [36]. ويبدو أن هذه النار هي نار الحلم، فالسارد يرى أن هناك قرانا كاثوليكيا بين الحلم والحياة لا يفصم عراه إلا الموت: ’’وكما أن من لا يحلم ميت، فإن من يموت لا يحلم.‘‘ (46) ولذلك فإن السارد الحي ـ وهو الآن وحيد عجوز عقيم ـ  لا يرى غضاضة في أن يحلم بالزواج من فتاة اسمها ’’ناتاشا‘‘، ولكنه يدرك أن الأوان قد فات، فيتحسر على كونه لم يتزوج بأية امرأة، أيا كان اسمها. فلو كان قد فعل، لولدت له طفلة، ولسماها ’’ناتاشا‘‘، ولرباها على الفن والجمال، ولجعلها تذوق حلاوة العيش في البرازيل، وتنعم بالتأمل في الهند، و بالصفاء في فنلندا، ولجعلها تحس بالمأساة في ’’بويا عمر‘‘. كانت ستضع، بعد موته، شاهدة فوق قبره تكتب عليها: ’’أحبته ناتاشا‘‘، أو ’’أحب ناتاشا‘‘، أو على الأقل ’’حلم بناتاشا‘‘. لكن نار الحلم تسفح حليب الحنان، و’’شجاعة الترك أقسى من شجاعة الفعل‘‘، وليس بوسعه الآن إلا أن يقرأ الصفحة الأخيرة.

تسجل الصفحة الأخيرة لقاء عابرا ووجيزا بين الغيمة والأمير. كان يحاول النزول من قطار كانت تحاول الصعود إليه، حين اصطدمت به بغتة. ساعدته على إنزال حقيبته. تعرفت عليه وهو يشكرها. صحيح أنه أصبح الآن عجوزا طاعنا في السن، لكن ذلك لم يغير من سحر ابتسامته الجذابة. وقبل أن ينطلق القطار ذكرته بنفسها، وأخبرته في عجالة بأنها مسافرة إلى مكان بعيد وأنها تأمل أن تراه مرة أخرى. مضى كل إلى غايته. شيخ كان قد عاش حياته بالطول والعرض يهبط من القطار وشابة  وصفها بالغيمة المضغوطة كانت قد أسرته تصعد إلى القطار. وإذ ينطلق القطار، تتسع ابتسامة العجوز وهو يترنم من ’’غيمات‘‘ ليرمنتوف بمقطع طالما ردده في ظروف مشابهة:

أيتها الغيوم الراحلات أبدا

من يطردكن؟

أبدا باردات

وأبدا حرات

ليس لكن وطن

وليس لكن منفى. (47)

فهل تبخر الحليب الأبيض فوق نار الحلم وتعالى في الفضاء غيمات بيضاء، غيمات عابرات، غيمات باردات، لا يرتبطن بشيء أو شخص، غيمات يظللن محلقات في سماوات الأبدية ـ لا وطن لهن ولا منفى؟

بدأت بـكولريدج، وسأختم بــجويس:

من الأحلام الندية أفيقي، يا روحي،

أفيقي من الموت ومن  غفوة العشق العميقة

وانظري ! فهاهي  الزفرات تملأ الأشجار

وهاهي الأشجار يعاتب أوراقها السحر.[37]



هوامش

[1]   What if you slept
And what if
In your sleep
You dreamed
And what if
In your dream
You went to heaven
And there plucked a strange and beautiful flower
And what if
When you awoke
You had that flower in you hand...?

Samuel Taylor Coleridge, ************************

[2]  أحمد بوزفور، ديوان السندباد، (الدار البيضاء، 1995)، 64-75. سيتم، بعد الآن، إثبات  كل الإحالات على هذه الطبعة ضمن المتن بإيراد أرقام الصفحات بين قوسين.

[3]  “ I've dreamt in my life dreams that have stayed with me ever after, and changed my ideas: they've gone through and through me, like wine through water, and altered the colour of my mind.”, Wuthering Heights, chapter 9 *************

[4] ...‘‘  For in that sleep of death, what dreams may come must give us pause.”, Hamlet, 3 :1.

[5]  “Objects seen in dreams should be manufactured and put on sale.”, http://www.painterskeys.com/getquotes.asp?fname=cf&ID=83 (5/ 5/ 2006)

[6]  “The words of the world want to make sentences.”

[7]  The Poetics of Reverie, 1960 ????

[8]   عبد العزيز جدير، مع أحمد بوزفور: الطفل في مهب الفراشة، (الرباط، 2006)، ص.  72.

[9]  They are not long, the days of wine and roses:

Out of a misty dream

Our path emerges for awhile, then closes

Within a dream.

The Poems And Prose Of Ernest Dowson with a Memoir By Arthur Symons, http://www.gutenberg.org/dirs/etext05/8pped10.txt (6/ 5/ 2006).

[10] Mary McAllester Jones, Gaston Bachelard, Subversive Humanist, (Madison, Wisconsin, 1991), p. 105. 

[11] “We can accomplish nothing good against our will, that is to say, against our dreams.”, http://www.notio.com/2006/02/gaston_bachelar.html (6/ 5/ 2006).

[12] “We use up too much artistic effort in our dreams; in consequence our waking life is often poor.”

[13]   James Joyce, Ulysses, (Harmondsworth, 1977), p. 517.

[14]  “With relief, with humiliation, with terror, he understood that he also was an illusion, that someone else was dreaming him…”.

[15]  “The best reason for having dreams is that in dreams no reasons are necessary.”  ~Ashleigh Brilliant

[16]  مظفر النواب، ’’وتريات ليلية‘‘، الشريط الشهير.

[17] “ L'eau est … un type de destin, non plus seulement le vain destin des images fuyantes, le vain destin d'un rêve qui ne s'achève pas, mais un destin essentiel qui métamorphose sans cesse la substance de l’être.’’  L’eau et les rêves, (Paris, 1942), p. 8.

[18]  “Quand on a pu faire pénétrer vraiment l’eau dans la substance même de la terre écrasée, quand l’eau a manger la farine, alors commence l’expérience de ‘la liaison’, le long rêve de ‘la liaison’. ’’, ibid, p. 143.

[19] “l'eau est une réalité poétique complète. Une poétique de l'eau, malgré la variété de ses spectacles, est assurée d'une unité. L'eau doit suggérer au poète une obligation nouvelle: l'unité d'élément.’’, ibid, pp. 22-23.

[20]   “L'être qui sort de l'eau est un reflet qui peu à peu se matérialise: il est une image avant d'être un être, il est un désir avant d'être une image.’’ ibid, 49.

[21]  Hamlet, 2: 2 .

[22]  We have lingered in the chambers of the sea

   By sea-girls wreathed with seaweed red and brown

   Till human voices wake us, and we drown.

                                    T. S. Eliot, Collected Poems (London, 1963), p. 17.

[23]  أحمد بوزفور، ققنس، (الدار البيضاء، 2002)، ص. 15. سيتم، بعد الآن، إثبات  كل الإحالات على هذه الطبعة ضمن المتن بإيراد أرقام الصفحات بين قوسين.

[24] “Comme toutes les images en action dans l’inconscient, l'image du cygne est hermaphrodite. Le cygne est féminin dans la contemplation des eaux lumineuses; il est masculin dans l'action. Pour l’inconscient, l’action est un acte. Pour l’inconscient, il n’y a qu’un acte … Une image  qui suggère un acte doit évoluer, dans l’inconscient, du féminin au masculin.’’, L’eau et les rêves, (Paris, 1942), p. 52.

[25] “Le chant du cygne avant sa mort peut s’interpréter comme les éloquents serments de l’amant, comme la voix chaude du séducteur avant l’instant suprême, avant ce terme si fatal a l’exaltation qu’il est vraiment « une mort amoureuse » … ce chant du désire exalté qui va trouver son apaisement n’ apparaît que rarement  dans sa signification complexuelle … L’image du « cygne » … est toujours un désire. C’est … en tant que désire qu’il chante. Or, il n’y a qu’un seul désire qui chante  en mourant, qui meurt en chantant, c’est le désire sexuel. Le chant du cygne c’est donc le désire sexuel a son point culminant.’’ Ibid, pp. 52-53.

[26]  أبو العلاء المعري، رسالة الصاهل والشاحج، تحقيق  د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء، (القاهرة، 1984)، ص.554.

[27] “L’eau devient laiteuse... en perdant sa transparence.”, ibid, p. 165.

[28]  Jaques Audiberti ( 1899 –1965)....  Jules Renard (1864-1910).

[29] Colette Gaudin, On Poetic Imagination and Reverie, (1987, Dallas Texas, 1987). p. 8.

[30] “Le lait est le premier des calmants. Le calme de l’homme imprègne donc de lait les eaux contemplées.’’, L’eau et les rêves, p. 164.

[31] W. B. Yeats, Collected Poems, (London, 1950), p. 265.

[32]  Ibid, p. 266.

[33]   خورخي لويس بورخيس، مختارات من شعره، ترجمة حسن حلمي، (القاهرة، 1999)، ص. 81-83.

[34]  قد يكون في هذا تطبيق لتقنية  البداية والنهاية في ’’اللوح المحفوظ‘‘ على مستوى سردي أشمل.

[35]  The Birth of Tragedy, in Basic Writings of Nietzsche, translated by Walter Kaufmann, (New York, 1968), pp. 33-34.

[36]  Peter Shaffer, Amadeus, (Screenplay), http://sfy.ru/sfy.html?script=amadeus (6/ 5/ 2006).

[37]  FROM dewy dreams, my soul, arise,

From love's deep slumber and from death,

For lo! the trees are full of sighs

Whose leaves the morn admonisheth.

James Joyce, Collected Poems, (New York, 1957), p. 23.