السرد المفارق وتعدد الأيديولوجيات:
ترمي السرديات المفارِقة الى بناء خطاباتها استنادًا لثنائية الهدم والبناء، فهي تشيد التقنية والتقنية المضادة، وكذلك تبني الوهم وتفككه[i]، وتخوض تلك العملية التي تقابل بين بناء العالم ونقده لتشكيل عالم يوقر الإنسان، وهذا المسعى يهدم نمطية التصور الواقعي للإنسان والأيديولوجيا[ii]. وإذا كان الأدب الرسمي يغلّب الصوت الكلي على الفردي، ويسعى لبناء سرديات كبرى، منها سرديات الأمة التي قد تتصل مرة بالعرق فتنتج أمة قومية أو تتصل بالدين فتنتج أمة دينية، فإن صوت الفرد يتضح في السرديات النقدية المفارِقة. وقد طمح المؤلف الضمني الى بناء موقف يتساوق والسرد المفارق، مستندًا لمنطق السرد ونظام الحبكة في القبض على فوضى الحرب والعدمية التي تبثها، فثمة تقابل بين فعل الاستقرار الذي يؤسسه السرد وفعل عدم الاستقرار والفوضى الذي تؤسسه الحرب، لذا تبحث الرواية عن مسعى لخلق معنى وتثبيت بنية العالم غير المستقرة. ومن هنا يعد الإنسان التاريخي ذا أهمية في الخطاب السردي على حساب الإنسان البنيوي[iii]، الذي يعلي من شأن الأيديولوجيا. وقد قدمت رواية فلاح رحيم توافقًا حواريًا بين الحوارية الباختينية والراوي العليم انتهى بتشكل راو نقدي عوض كلي المعرفة، وقد استدعى الوعي النقدي موقف المؤلف الضمني من التاريخ والأيديولوجيا.
بدأ المؤلف الضمني في رواية (صوت الطبول من بعيد) سرده لسيرة (سليم كاظم حسن)، وتحولاته النفسية والأيديولوجية، وكذلك نقده لمختلف أشكال الأيديولوجيا السائدة في عقد الثمانينيات ونهاية السبعينيات في العراق، تلك الأيديولوجيا التي هيأت الأرضية لحرب مدمرة مع إيران. ولا يمكن فهم أعلمية الراوي بعيدًا عن الوعي السيري الذي يروم نقد التاريخ الحديث وما آل إليه السياق العراقي من حروب ونزاعات. وإذا كانت السيرة تشكل معظم الرواية، فقد مثلت اليوميات بؤرة الصراع السردي، إذ قدمت تمثيلًا أروع للتعددية الصوتية في ساحات القتال، تلك التعددية التي كانت تواجه صيحات الموت بقوة الحياة، وهي تقدم التظافر المعقد بين السرديات الصغرى التي يقدمها الجنود، والسرديات الكبرى التي تقدمها الخطابات الوطنية والشعارات المتلفزة، وترتبط تلك السرديات المتصارعة بإنتاج تمثيلات متنوعة للواقع والتاريخ[iv]، وقد كان الراوي في اليوميات محدود العلم، وقد فرض تلك المحدوديةَ كليةَ الحرب وسطوتها، لذا يجد القارئ نفسه إزاء تقابلات عدة من المعرفة؛ منها تقابل المعرفة النقدية التي تصدر عن المؤلف الضمني، والمعرفة المحدودة التي تظهر في خطاب اليوميات، مع المعرفة الأيديولوجية التي تصدر من السلطة وتبثها الحرب وأدواتها، وأن هذا التقابل بين أشكال المعرفة يتشكل عبر الصراع الذي يرمي لإنتاج حيوات جديدة وذوات قادرة على المقاومة. لذا قدمت اليومياتُ الحربَ من وجهة نظر الجنود، وقد مال المؤلف الضمني إلى الاستثمار الاجناسي في الرواية، فقد كان تموقع السيرة واليوميات صادرًا عن وعي بأهمية الجنس السردي في تطوير الحبكة الروائية أولًا وفي نقد الحبكة الأيديولوجية ثانيًا. وقد استندت الرواية بشكل فاعل إلى الفجوة المعرفية بوصفها قيمة تستند إليها الذوات ، ولا تمثل السيرة واليوميات أنواعًا سردية فحسب، بل هي ضرب من التكنيك مارسه المؤلف في صناعة الشكل وبناء الحبكة، فقد اتصلت السيرة بحياة سليم وعائلته، وهو ما أتاح للمؤلف الضمني فجوة معرفية مناسبة بين سياق سليم التاريخي وسياق سرد تلك اللحظة، أما في اليوميات فقد اشتغل ذاك الخطاب كما سنرى لإقامة سردية الحياة، تلك السردية التي شيدها الجنود لمقاومة الأيديولوجيا وأوهامها.
السلطة وصناعة الحرب:
ولدت الرقابة مع ولادة السلطة، وقد أخذت أشكالًا عدة، فهي "تشير إلى سيطرة الإنسان وإلى إرادته للأمور بما يحقق النظام والانضباط والانسجام والكمال النهائي والوضوح التام الذي لا يعرف الغموض[v]"، وتشارك السلطة في صناعة الذوات وابتكار مواقعها، فهي تقابل بين ذاتين واحدة مراقِبة وأخرى مراقَبة ويدخل الطرفان في الصراع، فـ"السلطة في ذاتها حصيلة علاقات قوة وليست نتيجة تنازل أو عقداً أو تخلياً ولا حصيلة علاقات اقتصادية، ألا يمكن تحليلها أولاً وقبل كل شيء بمفاهيم المعركة والمواجهة والحرب.[vi]" فسردية الحرب التي أسست لها رواية فلاح رحيم نهضت بشكل هرمي، وتشكل ذلك البناء بواسطة السلطة، ومن خلال صراعها مع عدوين: الأول مفترض تشكل في صور عدة منها الأحزاب والأفراد المستقلين ونحوهم، والآخر عدو خارجي. فالسلطة أسست لبنية الحرب قبل الإعلان عنها، وذلك بنوع من الحرب غير المعلنة أو الصامتة، تثبيتها في المؤسسات وفي التفاوت الاقتصادي وفي اللغة وفي أجساد بعضهم[vii]. وقد تجلت آثار الحرب في آليات عدة استعانت بها السلطة وبرزت في الخطاب الروائي، وتمثل آلية الرقابة أهم وسائل الحرب على المجتمعات، فهي تقود حربًا تحت غطاء السلم والشرعية وفرض القانون. وينظر للرقابة بوصفها مقولة كلية تؤسس لها السلطة، وتسعى إلى تأكيدها، يقابلها الخطاب المضاد الذي ترمي إليه الشخصيات التي تساند سليم. تشبه الرقابة إلى حد كبير فعل الحرب الدائمة على العدو، وإذا كان الرقيب في مواجهة العدو الداخلي لارتباطه بالأمن في الغالب، فإن الجندي في مواجهة العدو الخارجي. وفعل المراقبة يشكل معقد التواصل بين تلك الذوات، فقد يتحول الجندي إلى ذات تراقب القصف العسكري مثلما تراقب فعل القتل والموت الذي يقع بين الجنود في ساحات القتال، وأن الفرق بين الرقابة الحربية التي ينهض بها الجنود والرقابة المدنية التي تنهض بها السلطة، أن الأولى تعنى بمقاومة الحرب، في حين أن الأخرى تريد إدامة الحرب وتفعيل آلياتها بين الناس، فالرقابة بالتالي آلية من آليات الحرب سواء كانت تلك الحرب خارجية أو داخلية. وقد بنيت رواية (صوت الطبول من بعيد) في جزئها الأول استنادًا إلى جدل الحرية والرقابة، فمن الصعب فهمها من دون فهم تلك الجدلية وتأويل نظامها. فحين خرج (سليم) من الجيش في تموز 1980 وعاد لينخرط في الحياة المدنية وجد نفسه إزاء شخصية الرقيب، التي بثتها السلطة في المجتمع، وتفترض تلك الشخصية عدوًا تراقبه باستمرار، وفعل المراقبة على وفق ما تراه السلطة وتبثه في وعي أتباعها، فعل مسؤول ومقاوم للعدو المفترض الذي يتحين للظهور والسيطرة على مراكز القرار. وعلى الرغم من هامشية دور سليم في الحزب الشيوعي، بدأ فعل المراقبة مع بداية حياته المدنية، وانتهاء التكليف الإلزامي، إذ مثّل عودته إلى المدينة بداية صراع مع الفاعل السلطوي، الذي دفعه إلى دخول لعبة السلطة، ومثلما قال (حبيب): "قناعتي أن خير مكان يحميك هو الاختباء تحت جناح النسر لأنه سينشغل عنك بما تلتقط عيناه على المسافات البعيدة [viii]" ويقصد بالنسر السلطة، لذا يسعى إلى التمرد عليها، عبر الاقتراب منها، والدخول في لعبتها، كما يقول (حبيب). فنحن إزاء نص يستدعي الرقيب ويمارس معه لعبة ايديولوجية[ix]. فقد مثلت المراقبة معقدًا تدور حوله الشخصيات سواء كان خطاب (سليم) وأصدقائه أو خطاب السلطة المضمر، أي أن فعليْ التطابق وعدم التطابق يحضران بشكل فاعل في بناء الخطاب، فحين تسعى السلطة إلى تكريس آلية المطابقة عبر المراقبة مرة، وعبر رأسمالها الرمزي مرة أخرى. يقابل ذلك سليم ورفاقه بتشكيل وعي غير مطابق لآليات السلطة ومحدداتها، ويشير لذلك(حبيب) قائلًا: "عليك أولًا البحث عن شركة خارج بغداد. الشركات والحياة بأسرها في بغداد خاضعة لتدقيق شديد كونها العاصمة. كلما ابتعدت عن المركز ابتعدت عنك الأضواء..[x]" تغيّب رواية فلاح رحيم صوت السلطة بشكل ظاهر وتستحضره بشكل مضمر، لذا فهي تُبنى على التقابل بين الإضمار والإظهار والصراع بينهما، فتغييب صوت السلطة جاء في سياق نقدي فرضه وعي المؤلف الضمني. ففي النص السابق تحضر هيمنة السلطة على المؤسسات والقطاعات العامة، وهذه الهيمنة قادت (سليم) للدخول في لعبتها والخروج على سطوة الرقيب، وهنا تعمل الأيديولوجيا بوصفها خطابًا تستجوب وتقاطع الكائنات البشرية[xi]، وتتميز الأيديولوجيا عن العلم في جانبها العملي والاجتماعي، فهي نسق من التمثيلات[xii]، وقد قابل المؤلف الضمني هذا التصور النسقي بتصور نظري استند إليه سليم ورفاقه في فهم السلطة وآليات عملها، ومن ثم الانتقال من الجانب النظري إلى العملي، فسليم بذاك يجمع في تصوره البعدين الأيديولوجي والعلمي في نقده تاريخ العراق الحديث. وتغلب على خطاب حبيب الوظيفة التوجيهية، لتكشف تلك الوظيفة عن غايات عدة منها الإخبار وهي المسعى الأول ثم تأكيد الرابط الاجتماعي، بين الموجِه والموجَه، وتهدف الوظيفة للتأثير في الذات المخاطَبة والسياق[xiii]، وتغيير موقفه الحياتي والأيديولوجي، والتأثير في السياق يتم عبر التأثير بالذات، عبر مواجهة السلطة مرة، وخوض لعبتها مرة أخرى لتجنب كمائن الرقيب، " كما قلت لك اخرج لهم والعب لعبتهم القذرة ولتكن لك مكائدك - كما أن لهم مكائدهم الدنيئة. الله نفسه يكيد لمن يكيد له. ولا تخش شيئاً - لأن المعركة في أصلها نكتة ماسخة لا تستحق التضحية بالحياة من أجلها. قتل الكثيرون وهنالك عدد أكبر يقبع في السجون والمعتقلات، من أجل ماذا؟ هل رأيت صدام حسين يرتدي قبعة الفرو الروسية ويتبختر بصحة بريجنيف قائد الحركة الشيوعية العالمية [xiv]" يبني حبيب شكلًا ورؤية مغايرتين للوعي، فهو ينقل السلطة من موقع القمع إلى موقع اللعب، وفي هذا الموقع يمكن لسليم التمرد على كيانها الكلي وهيمنتها، مثلما يمكنه الدخول في دور اللاعب معها، وهذا الدور يمنحه حرية الحركة والتخلص منها، لا سيما بعد اتفاق الحزب الشيوعي مع السلطة البعثية، ثم انهيار الاتفاق واشتداد الصراع،إذ دافع الحزب الشيوعي عن الشيوعية في مواجهة حزب البعث، وفي المقابل يرحب الشيوعيون السوفييت بصدام حسين، وهذه التناقضات السياسية قادت سليم إلى تغيير موقفه من الحياة، فعوض أن تكون السياسة هدفًا أصبح الإنسان وحياته قيمة عليا، بعيدًا عن صراع الأحزاب وجدل السياسة، فخطاب حبيب كان يحمل غايات نقدية تهدف إلى تغيير موقف المتلقي/ سليم من أي أيديولوجيا ينتمي إليها، ويكون ذاك الخروج عبر لعبة المواقع والوعي بآليات السلطة الرقابية. وقد شاركه في عملية التوجيه صديقه (ستار) وهو ينصحه بالتوجه صوب الشركات الأجنبية والعمل فيها، كونه يجيد اللغة الإنكليزية، ويحذره قائلًا: "عمل هذه الشركات من اختصاص المخابرات، أي أن قضيتها تتعلق بالأمن الخارجي لا الداخلي. قال لي يوسف ضمن إرشاداته الثمينة لي إن شخصاً من المخابرات سيتصل بك خلال الأسابيع الأولى ويعرض عليك التعاون معه في نقل المعلومات عن ما يجري في هذه الشركات، وأن تكون عينًا للحكومة العراقية على نشاطات هؤلاء الأجانب في البلد. المهم هنا كما أكد لي يوسف هو الإسراع في الموافقة[...] أما الرفض[...]فإن جهاز المخابرات سيتدخل لإلغاء عقد العمل ويسبق ذلك مرحلة من المضايقات والاستدعاءات. دوخة راس الأجدى بمن يسعى إلى لقمة العيش تجنبها. من يقل نعم حسب تأكيدات يوسف يُنس وقد لا يتصل به أحد بعد ذلك[xv]" يظهر في هذا الخطاب مستويان من السلطة؛ الأولى قسرية والأخرى تعويضية، فالقسرية تفرض بديلًا لأولويات الفرد أو المجموعة، أما السلطة التعويضية فلا تستند الى الإكراه بل تبلغ خضوع المجموعة أو الفرد عبر ما تقدمه من مكافآت إيجابية[xvi]، وأن هاتين السلطتين تشكلان معًا قيم الاستبداد وبناء هرم السلطة، وهنا تدخل الشخصية الرئيسة في حوارات مطولة لا لأجل بناء موقف سياسي بل لكسر قيودها التي تسعى لبناء مقولات كلية، تحول البشر إلى أدوات لتحقيق منافعها، ويشير الدكتور عقيل عبد الحسين إلى "تغليب الحوار على الإخبار[... وهذا] يقود إلى الحوارية في تعبيرها عن انتماء المتكلم الاجتماعي والأيديولوجي، وخضوعه لإكراهات المقام .. الشيء الذي لا يهمله رحيم، فهو يظهر الشخصية الشاهد في سياق إكراهات تاريخية وأيديولوجية تحتم عليها القبول بموقف غير موقف البطولة التقليدية، لتحقيق غايات ثقافية وإنسانية وأيديولوجية أبعد.[xvii]"، يقابل تخلي المثقف البطل عن موقفه، تخلي سليم عن توجهاته الأيديولوجية الحزبية، وسعيه إلى تقديم نفسه بوصفه فردًا يرمي المحافظة على ذاته من سطوة الفاعل الكلي المتمثل بالسلطة. كذلك اتصل اتساعُ الحوار في الرواية بالبعد الأيديولوجي، الذي يحاول تغييب خطاب السلطة الساعي لتكريس المشابهة في المجتمع؛ لذا يعد مفهوم البطل في هذه الرواية شخصيّ، وذا منحى إنساني، وهو يختلف عن البطل الذي "يتسع ليشمل النضال (القومي) لتأكيد الانتماء القومي مقابل العدوان والاغتيال الاجنبي، كما أنه يتسع ليشمل بطولة (الوضع العربي) في مواجهة (التحدي) الواسع (الأجنبي) و(المحلي الرجعي)، (ممارسات التافهين والنكرات لتأكيد أطماعهم الشخصية ضد حركة المجموع)[xviii]"، ومن هنا يظهر تقابل مضمر بين بطل إنساني يحمل همومًا فردية واجتماعية حياتية تتقاطع مع هموم بطل السلطة ووجهة نظره.
وعلى وفق ما سبق يمكن عد الفاعل المهيمن في الجزء الأول من رواية (صوت الطبول من بعيد) هي الرقابة، وأن ذاك الفاعل هو الذي شكل خيوط الرواية، فمن دون فهم دوره المحفز لا يمكن فهم الدواعي التي ساقت (سليم) للعمل في الشركة البولندية، وهو المكان الذي وجده بعيدًا عن السلطة[xix]. وهذا العمل الجديد أدخل سليمًا في عالم من الصراع الفكري، فقد انتقل من السياق المحلي، في محاولة فهم المأزق العراقي، إلى السياق العالمي، إذ قابل بين الحزب الشيوعي في سياقه العراقي والشيوعية في سياقها العالمي، لينتهي إلى أن صراع الأحزاب آنذاك كان صراعًا أيديولوجيا، فالشيوعية التي ترفع راية اليسار في العراق هي ذاتها الشيوعية التي تهيمن على بولندا وتقمع قوى الاستقلال والأصوات الحرة، لذا وجد سليم نفسه في الشركة البولندية إزاء توجهين، توجه يقف مع الشيوعية ويدعمها وتوجه يعاديها ويرفض القيم الأيديولوجية المعدّة، ويمثل الصوت الأول (أوليك) وهو قيادي في الحزب الشيوعي في بولندا، والصوت الآخر تمثله (بيانكا)، فعلى الرغم من كونها زوجة لـ(أوليك) ظلت تحمل ميلًا سياسيًا وسيكولوجية مختلفة، فضلًا عن أن والدها قتل في إحدى التظاهرات التي خرجت ضد الشيوعية[xx]. وقد مكّن سليم وهو يمارس عمله في الشركة البولندية من الجمع بين أشكال الوعي المختلفة، لا سيما أن لقاءه ببيانكا مثل له تحولًا كبيرًا في شخصيته، فقد كانت نقاشاته معها عميقة وجادة أدت إلى انصرافه عن أي موقف أيديولوجيّ، بما فيه اليساريّ؛ لأن اليسارية في الشعوب التي حكمت فيها فشلت، كانت أقبح من غيرها، فكلها أنظمة شمولية. [xxi] ولم تكن بيانكا المرأة بالنسبة لسليم فحسب، بل مثلت الجسد والموقف الفكري المتحرر والرافض للثوابت الأيديولوجية القارة في تفكيره، لذا يمكن أن يعد توظيف اليوميات في الرواية جزءًا من التقنية التي منحتها المرأة الحياة، التي كانت غائبة حاضرة في الخطوط الأمامية[xxii].
كان سليم وسيلة البولندين لفهم الحرب والتواصل إبان معها، فقد كان التلفزيون ينفجر بصخب الأناشيد والبيانات، إذ "تولى سليم ترجمة المعنى العام لكل هذا وأصغى له الجميع بأقصى درجات الانتباه على الرغم من ضحالة المادة الخبرية المستخلصة من هذا الصخب الهستيري المطول[xxiii]" ويتصل ذاك الصخب بالبعد التكراري للمضامين، والسياق التعبوي، أي أن الخطابات والأناشيد تسعى لخلق ذوات مضخمة أيديولوجيا، ويجري عبر تلك الخطابات إعادة إنتاجها وتوجيهها، وقد فهم البولنديون هذه اللعبة التعبوي، لوقوفهم خارج اللحظة الأيديولوجيا التي كان يعيشها العراقي في ثمانينيات الحرب العراقية، لذا "حين أدرك أوليك أن معلومات سليم تفتقد الدقة المطلوبة أحضر كراساً صغيراً عن العراق وكتاباً عن إيران باللغة البولونية. وقد حرص على ترجمة المعلومات المهمة إلى الإنجليزية مساحة إيران ثلاثة أضعاف مساحة العراق، نفوسها أكثر من 39 مليوناً بينما نفوس العراق 13 مليوناً، طهران تبعد عن الحدود الدُولية لإيران 700كم بينما بغداد لا تبعد عن الحدود إلا120 كم والبصرة 30 كم فقط. أحصى أوليك هذه المعلومات الطريفة ثم رمق سليم بنظرة مندهشة كأنما قرار الحرب بيده [xxiv]" يقابل (أوليك) بين إمكانات البلدين الجغرافية والبشرية، ليندهش بسعة التفاوت بينهما، في مختلف المجالات، وتمثل المعلومات التي عرضها أوليك بالغة الأهمية، وقد شكلت مسارات الحرب. وقد أراد أوليك بها أن يدرك طبيعة تلك البلدان ووضعها السياسي الطبيعي، ليصل الى أن الحرب تهدد العراق أكثر من إيران على الرغم من امتداد الأذرع الدعائية التي كانت تمثل العراق. فالرواية من جهة تبرز صراع الإنسان والحرب، ومن جهة أخرى تبرز صراع الأيديولوجيات، وقد تمثلت تلك الأيديولوجيا في ظاهرتين سيطرتا على بلدين وقادتهما إلى المجهول، وهما (الصدامية) و(الخمينية) هما نتيجة تضخم ذات المستبد، فهاتان الظاهرتان تعكس البعد النفسي للمستبدين مثلما تعكس هيمنة المستبدين على شعوبهم وما تبعه من حروب ونكبات. وأن هاتين الظاهرتين مثلما تتصارعان كذلك تتداخلان مع بعض، فتصارعهما يظهر في الحرب التي تطحن بعضها بعضًا، ويتحقق التداخل أو التشابه في الموقف من الإنسان الذي صار وسيلة في تلك الحرب، وكذلك تذويب الإنسان في الأيديولوجي والجمعي. لذا تسعى رواية فلاح رحيم إلى مواجهة الصدامية والخمينية عبر السرد، ليفكك آليات الهيمنة في تلك الظواهر التي حكمت البلدين وطوقت سكانها بالنار والكتمان.
الحرب وتحولات الرؤية:
استدعي سليم للجبهة عبر خطاب الصحف، أو الراديو مثلما استدعي غيره من الجنود، ويعد خطاب التجنيد -الذي تبثه السلطة سواء في الإذاعة أو الصحف- شكلًا من أشكال إعادة تشكيل المجتمع وصناعة الطبقات، فيمكن لها عبر الخطاب أن تغير مواقع الناس وطبقاتهم الاجتماعية، وهو ما حدث مع سليم حين نقله خطاب التجنيد من موقع العمل في الشركة البولندية إلى العمل العسكري في الخطوط الأمامية[xxv]، ولا يمكن للأفراد إلا أن ينخرطوا في التنميط الذي تفرضه السلطة وإلا عدوا خارجين عن القانون ومتخاذلين. وفي سياق الحرب تختفي الطبقات الاجتماعية في الغالب، لإعادة تشكيل المجتمع من جديد، كذلك تفرض الحرب تنميطًا آخر وهو تغييب التراتبية الاجتماعية نتيجة الاكراهات التي تفرضها، فقد غيّبت الحروب الحديثة شرط الشجاعة، ليحل محله قوة السلاح، والتقنية العسكرية، فهي حرب آلات لا جنود، وبالتالي فقد انتزعت الأسلحة الحديثة دور البطولة من الإنسان، وأن تغييب الإنسان استحضره فلاح رحيم في روايته عبر إعادة فاعليته إزاء سطوة الحرب، فقد كان لكل هجوم ردة فعل إنسانية من الجنود الذين يسعون للحفاظ على أرواحهم. ومن هنا تظهر أهمية اليوميات بوصفها وسيلة للوصول إلى أصوات الجنود وحيواتهم في المخافر والملاجئ الأمامية التي كانت تحت نيران العدو. وقد شكّل التحاق سليم في الجبهة انتقالًا على مستوى السرد، إذ انتقل المؤلف من السيرة إلى اليوميات، فـ"الكتابة اليومية في ظل حكم ديكتاتوري ذات وظيفتين: أولاهما آنية موصولة بحفاظ الكائن على هويته وبقيمه في ظل نظام يتوق إلى القضاء المبرم عليها، أما ثانيهما فيقوم على عدم السماح للمغالطة والنسيان بالغلبة[...]هكذا تغدو اليوميات أسلوب مقاومة رئيسي. لا السيرة الذاتية التي غالبًا ما تراعي فن التشكيل الأدبي وتصبو إلى العثور على قراء يعسر أن تجدهم في ظل الدكتاتوريات أما اليوميات فهي لا تنتظر أية قراءة كما أن جانبها الفني ينسب الموهبة عادة إلى أفراد مجهولين إن السيرة الذاتية غالباً ما تزهر عند سقوط الديكتاتوريات[xxvi]" وإذا كان زمن السيرة الروائية طويلًا وممتدًا فإن زمن اليوميات قصير ومحسوب بالساعات والأيام، وهذا الحساب يرتبط بمقاومة الجنود للزمن الحربي، وغالبًا ما يبدأ السرد في اليوميات باليوم والشهر والعام "الخميس4/6/1981 منذ يومين والقصف يبلغ أثناء الليل درجات هستيرية من الجانبين.[xxvii]" ويرتبط الراوي الحربي بالملجأ وينطلق منه في سرده، الذي يسعى في الوقت ذاته إلى بناء حياتين، حياة تاريخية يحافظ فيها الراوي على رأسه سالمًا وجسده غير موزع في حرب طاحنة، أما الحياة التخيلية فيقاوم عبرها وحشية الحرب ويسعى الى فهم تلك الوحشية التي استهلكت ذاته مثلما قتلت آلاف الجنود. وغالبًا ما يسرد الراوي العسكري أو يصف من نقطة واحدة، مستندًا إلى فاعلية الذات المراقبة التي تكون فاعلة فيه.
تعد الرؤية التي انطلق منها الراوي نابعة من طبيعة الحروب، وما تفرضه على المشاركين فيها والقابعين تحتها، لذا ظل الجنود الذين يقبعون تحتها في الواقع سرديات صغرى، لا قيمة معنوية لهم، فـ" كل السرديات التي يرويها الجنود يختلف بعضها عن البعض الآخر وتتشابه أيضاً: تختلف لأن الجيوش تتغير، والأسلحة تتطور، وأرض المعركة تنتقل من مكان إلى آخر، ولكنها تتشابه أيضاً لأن ثمة وراء هذه المتغيرات قصة واحدة دائمًا : رحلة الفرد من البراءة إلى التجربة الاكتشاف التدريجي لما كان يتعذر تخيله من قبل، حقيقة الحرب.[xxviii]" ومن هنا يمكن أن نشير الى أن سرديات الحرب تتصل بما يفعله الرجال في الحرب وما تفعله الحرب بالرجال، وهذان الفعلان يتداخلان مع بعضهما مثلما يجعلان سرد الحرب مشبعًا بالعاطفة وردات الفعل الفردية[xxix]. لذا يصبح الراوي مع هذا السرد محدود العلم، ينقل ما يراه، ويسمعه فحسب، ويشارك سليم في محدودية الرؤية معظم كتاب سرديات الحرب لا سيما سرد الجبهات، حيث يصعب تحديد مواقع الأعداء بدقة في الغالب ومعرفة أهدافهم، واستنادًا لتلك المعطيات يمكن وصف تلك السردية ب(حكاية الخنادق) وهو محكي يقدمه الجنود من داخل الخنادق الضيقة حيث تكون الرؤية محدودة والحركة قليلة، نتيجة اشتداد القصف، وبالتالي لا يرى الراوي من المعركة التي يخوضها كثيرًا[xxx]، فقد أشار (سليم) الى أن "الأيام الأولى بعد وصولنا الموقع الجديد حفلت بالقصف بالرغم من أن موقعنا يلوذ بالتلال تحيط به من كل الجهات وتوفر لنا ساتراً مناسياً. وصلنا تحذير من آمر بطريتنا رائد صبحي أن لا نكثر من الحركة خارج المواضع. موقعنا يقع ضمن مدى المدفعية الإيرانية[xxxi]" منع الرائد صبحي الحركة خارج المواضع، أدى ذلك الى ضيق أفق الرؤية لدى الجنود والضباط، وبينما يمتلك سلاح العدو السماء يلجأ الإنسان الهارب من تلك الحرب إلى الأرض، وأن قلة الحركة تحد الرؤية لدى الراوي المقاتل، فالذات في المعركة ذات ارتدادية، فهي تستجيب لما ترى وما تسمعه من قصف، وغالبًا ما تكون منفعلة وليست فاعلة. أي أنها تستجيب لأفعال المعركة، وهذا التحول تفرضه شمولية الحرب وطبيعتها التي تجعل من الإنسان جسدًا يمنحها علامات، ففعل الجندي استجابة لفعل القصف، وهذا ما تحاول رواية فلاح رحيم إبرازه. "هكذا نعيش صخباً مجنوناً متواصلاً طوال الليل. كنت في الأيام الأولى أراقب النائمين أثناء القصف عندما أكون مستيقظاً أثناء خفارتي (هل يراقبني أحد حين أنام؟) فأرى أن مدافعنا القريبة تجعلهم لفرط شدة صوتها ينتفضون فوق يطغاتهم بحركات عصبية عنيفة لكنهم لا يستيقظون.[xxxii]"مثلت الحرب تحولًا في حياة سليم مثلما مثلت تحولًا في حياة الجنود، فقد تسلل فعل المراقبة الى ذوات الجنود، ولكن هذا الشكل من المراقبة بوصفه آلية لمقاومة سردية الموت التي تسعى السلطة لتكريسها، فقد تحول الجنود رقباء لرصد القصف ولكبح جماحه، وهذا ما يبرر ابتعاد شخصيات الرواية عن المواجهات القتالية واكتفائها بوصف عمليات القصف، ووصف استجابات الجسد، وهذا الابتعاد ينأى بها عن الوقوع بفخاخ الانتماء الأيديولوجي لطرف ما، كذلك يمنح المتلفظ صوتًا مختلفًا يتيح له توصيف عوالم الحرب وما تقدمه تلك العوالم من فرضيات أيديولوجية، وهي تضمر تقابلًا مع الوعي الأيديولوجي التعبوي الذي عد "الحرب الحديثة عراكاً بين مجموعتين من البشر ، صغيرتي الحجم ، تقفان متلاحمتين، كما تعتبر أدوات الحرب الحديثة كالدبابة والطائرة والمدافع والصواريخ صالحة للاستعمال الفردي، ولتحكم البطل الفرد[xxxiii]". وقد واجه فلاح رحيم في روايته الإنسان الأيديولوجي ليمنح الإنسان التاريخي المهمش صوته وحضوره، لذا تلجأ الى تقنية الوضوح، وترمي إلى نقد عالم الحروب المبهم والغامض، فالوضوح يضمر نقدًا للوعي الأيديولوجي المدمر الذي تبثه الحرب والعبثية التي تشيعها، عبر إظهار ما يواجهه الجنود في الخطوط الأمامية، ولم يقدم سليم نفسه شاهدًا على الحرب التي تستعر بين بلدين فحسب، بل حملت رؤيته بعدًا نقديًا، فهو يصور ما تفعله الحرب بالرجال وما يفعله الرجال في الحرب[xxxiv]، فخطاب الراوي كشف عن تحول أجساد الجنود إلى علامات نتيجة الحرب، إذ قابل بين فزعين وقت الهجوم، الأول يستجيب له الجسد ويكون بلا وعي لحظة النوم، والآخر يستجيب له العقل ويكون لحظة اليقظة، وبين النوم واليقظة يتداخل الوعي واللاوعي، ويشارك في إعادة تركيب الإنسان. لا سيما أن سليمًا وجد نفسه في الخطوط الأمامية، في مواجهة المدفعية الإيرانية في جبهة ديزفول، في كتيبة المخابرين قرب خط التماس مع العدو[xxxv] ، وعلى الرغم من اشتداد القصف يظل حبل الأمل معقودًا إلى المفاوضات لدى بعض الضباط والجنود، أملًا في انتهاء هذه الحرب العبثية التي لا تطال سواهم، في حين يقابل بعض الجنود هذا الأمل بسخرية: "لكن خضير جلوب ظل طوال الطريق منشغلاً عن مخاطر الطرق المحتملة بالراديو، يضغط الترانزستور على أذنه وسط قرقعة حديد الإيفا يتسمع آخر نتائج جهود لجنة المساعي الحميدة لإنهاء الحرب. أعدت عليه زاعقاً ليسمعني جيداً نكتة سمعتها من عريف عبد )عبودي) عن عضو اللجنة الذي وشم ذراعه بعبارة ((لجنة المساعي الحميدة)) وعندما لامه زميله لأن إزالة الوشم ستتعذر بعد انتهاء الحرب ر دّ عليه ((مو مشكلة، سأقطع ذراعي إن توقفت هذه الحرب))[xxxvi]" فهذه الحرب كانت على الإنسان والحياة أكثر مما هي صراع بين أيديولوجيتين، لذا يجد الجند أنفسهم محشورين في حرب عبثية، ويقدم الخطاب الروائي عبر أصوات الجنود سردية مفارِقة ترمي لنقض أقانيم السرديات الكبرى التي تؤسسها الحرب وتكرسها السلطة المركزية[xxxvii]، وتعد السخرية عنصرًا فاعلًا في نقد المركزيات وبناء أخرى. فالرواية تقيم تقابلًا بين شكلين من الذوات: شكل يسخر من وعي السطلة وأشكال خطابها، وآخر يتعلق بحبل الأمل وزيف الخطابات، والاثنان يلتقيان في طلب الحياة والهرب من الحروب وبطشها التي أوقدتها السلطة، ومع (سليم) "ظلت هذه الأحداث الكبيرة تطرق مسامعه من إذاعات البي بي سي وصوت أميركا ومونت كارلو كل ليلة لم تكن إذاعة بغداد تستهوي أحداً بعدما أدرك الجميع أنها صيحة حرب لا علاقة لها بالوقائع.[xxxviii]" فقدَ الجنود مثلما فقد سليم الإحساس بالمكان، لتصبح الرابطة بين الذات والمكان هشة واعتباطية، فلم يعد المكان إنسانيًا في سياق الحرب بل فقد ألفته وطبيعته الحية، وتحول إلى كيان لا إنساني[xxxix]، ويمكن أن نقول إن القسم الثاني من الرواية يغلفه الموت لا سيما اليوميات منها، فالقارئ بصدد موت عبثي في زمن تشكله الحروب الأيديولوجية، ويقدم الراوي سرديتين تشكلان الخطاب السردي، الأولى سردية الموت، والأخرى سردية الحياة بوصفها سردية مفارِقة لسردية السلطة البعثية وحربها، التي تقود الإنسان العراقي إلى طريق غير معلوم، في حين تمثل سردية الموت صورة الحرب ووجهه الأيديولوجي الوحشي في الجبهات، "لم يترك لنا القصف الإيراني العنيف الذي تصاعد في اللحظة وأعقب انفجار آخر أعتدة الكدس مباشرة فرصة تأمل ما يعنيه موت قاسم. تفرق الجمع مهرولين إلى مواضعهم تاركين الجثة وحدها وسط أكياس الرمل المسخمة[xl]" يقف الجنود بذهول إزاء سردية الموت، فقد حال القصف الإيراني بينهم وبين الجندي قاسم حالوب الذي تحول الى جثة هامدة بعد نوبة القصف الهستيرية، وفي لحظات القصف يتحول المكان إلى لغم يقبض على الإنسان، لذا يتمسك كل جندي بحياته وينجو بها، وهنا يظهر صراع الموت والحياة، فحين تؤسس سردية الحرب الموتَ، يرمي الجنود عبر سردياتهم للصمود والحفاظ على حيواتهم ورفض السردية الشمولية، فـ"كان أول ما فعله هاشم داخل الموضع فحص الاتصال التلفوني مع مقر الفوج والمقر الرئيس. أطلق لعنة بذيئة حين اكتشف أن الانفجار قد قطع سلك التلفون ولم يبق ما يربطنا بالكتيبة إلا جهاز الراكال اللاسلكي، وهذا لم يعد يُعتد به كثيراً[...] دق التلفون. كان اتصالنا مع موقع الآمر القريب مؤمناً[...]طلب بعصبية أن نحاول الاتصال بالراكال. أغلق هاشم الخط وأطلق بحق الآمر شتيمة أكثر بذاءة.[xli]" ينتقل الراوي بين أمرين الأول تركيز القصف قرب جثة قاسم وتركز القصف قربها على الرغم من مسعى الجنود للوصول إليها، والآخر ردة فعل هاشم بعد انقطاع الاتصال مع القيادة نتيجة انفجار كدس العتاد، وقد حمل خطاب هاشم إشارات مفارقة لوعي السلطة وخطابها، قاده إلى السباب والشتائم، وتمثل تلك الشتائم رفضًا للمآل الذي أصبح الجنود فيه بعد انقطاع الاتصال، وتحولهم هدفًا للقصف الإيراني، ولا يعرف الجندي العراقي في ساحة القتال كيف يموت بل كيف يعيش[xlii]، ويقابل ذلك مسعى السلطة لصناعة ذوات تعرف كيف تموت من أجل أهدافها الأيديولوجية، وهنا يظهر الصراع المضمر بين شكلين من الوعي أحدهم يمثل السلطة ويظهر صوتها بصورتين مرة عبر الحرب وآخر عبر صوت الآمر والشكل الآخر يمثله الجنود الذين يقفون من الحرب والسلطة موقفًا رافضًا، وموقفهم من الموت يقودهم إلى أفعال عدة منها الخوف الشديد والرعب من القصف والعصبية وكذلك نوبة من الشتائم، وتلك الوسائل تمثل آليات لمقاومة الحرب. فالجندي بوصفه جسدًا يعيش لحظات الحرب ويستجيب لها، ولم تعد ثُكْنات الجيش وخنادق الحرب أبنية حيادية، إذ راحت أصوات القنابل والمدافع تعيد تشكيل الجسد وبنائه، فيألف مع الزمن القصف العراقي ويعرف اتجاهه، ويدرك القصف الايراني ويدرك خطورته، ونوعه "صرنا نميز ضرباتنا من ضرباتهم بفضل التنبه لأصوات خافتة تعجز أذن من يصل حديثاً إلى موقعنا عن التقاطها. وقد ظل ن. ض. قاسم يعجب لقدرتنا على التقاط مثل هذه الهمسات البعيدة.[xliii]" يُوظف الحكي في رواية فلاح رحيم كاستراتيجية لمواجهة القتل، وهو ذو أهمية قصوى لبناء الذات وتشييد الهُوية، وسياسات تأويلها لتاريخها الخاص، أي أن السرد يوظف كاستراتيجية مضادة لمواجهة عمليات الإسكات التي تفرض على الذوات، الذي تتمثل بالجنود والضباط الصغار[xliv]، وقد تبين ذلك في تمييزهم لمختلف أشكال القصف بين المتحاربين، وتبقى محاولة النجاة من فوهة النار هي ما قادت الجنود إلى تأمل أصوات القصف ومدياته، فالصراع بين الحياة والموت يشكله صوت الجنود ويعيد تنميط أجسادهم، لا سيما حركتها أثناء القصف، فثنائية الحرب والحياة التي تشكلت في الجبهة تعد معيارًا لفهم تصور الجنود عن الحرب، لا سيما أنهم في الغالب يقفون خارج املاءات الأيديولوجيا، وغياب الأيديولوجيا منح الشخصيات أفقًا معينًا للنقد والسخرية كذلك ابتعادهم عن المعرفة الكلية. وأن تلك الثنائية تقابلها ثنائية المرأة والمراقبة، التي تشكلت في الجزء الأول من الرواية، عبر تظافر تلك الثنائيات قاوم سليم الحرب وسطوتها، فقد ساعد وجود المرأة في تشكيل الزمن النفسي المقاوم.
مثلت اليوميات ذروة الحبكة الروائية، وفيها سعت الشخصيات ولا سيما سليم إلى تجاوز الإطار المدمر الذي أسسته الحرب من حولهم، عبر تجاوز فكرة تقرير مصير الأشياء، لتصبح جزءًا من العالم المنكوب، فالحرب تبدأ "بتمزيق كل انتظام ومنطق، تفرض باستخدام أحدث التقنيات التي أنتجتها حضارة الإنسان وأعقدها الفوضى وتمنح السيادة للموت[xlv]"، فالشخصيات ليست بطلة بل إنسانية تعيش مأزق الحرب، وتسعى لتجنبه، عبر فعل القراءة الذي يمارسه سليم، أو فعل طلب الإجازات المتكررة كما هو الحال مع عريف عبد، "وقد قدم نفسه لي بجدية كاملة على أنه عريف ((بريج)) ثم بدأ يحدثني عن سخافة حياته كلما انفردنا[...]موضوعه الأثير الذي يشغله ليل نهار اصطياد إجازة[xlvi]" فالتمرد على الحرب وخلق الحياة في موازاتها، هو ما يفعله الجنود في الخنادق وخارجها، و"لأن كل شيء يموت وهي النهايات القاتلة لسرد الحرب[xlvii]" فقد مثّل موت حبيب في الجبهة نهاية الحبكة وفراقه مع بيانكا، ومع هذين الحدثين أحكمت الحرب سيطرتها على وعي سليم وعائلته. ويمثل موت كريم التحول الأهم في رؤية سليم، فقد سفه هذا الحدث كل التصورات السياسية، مثلما قاده الى رفض سردية الشهادة التي صنعتها السلطة لقتلى الحرب، إذ يظهر الخطاب الروائي صدمته حين رأى خبر موت أخيه "كيف فاتني هذا الاحتمال اللعين؟ كيف أخذت على غفلة؟ هل يمكن أن يحدث هذا لكريم؟ كريم دون كل الناس هو الأبعد عن هذه الأسطورة الخاوية المسماة شهداء الحرب. إنه الحياة نفسها[xlviii]" وتقابل الرفض ذاته لوعي السلطة أم سليم وخطابها حين قالت لسليم وقت دخول للبيت "اي يمه كريم مات" وحاول عدم الامتثال الى هذا التنميط الذي تفرضه للمجتمع بين شهداء وخونة وموتى، فخيارات الحياة أوسع من ذلك لديه ولدى أمه، فقد رفض التوصيف السلطوي لأنه يهدم حياة كريم مثلما يهدم حياة غيره.
الخلاصة:
تمثل رواية فلاح رحيم فضاء سرديًا لبناء خطابات سردية مفارِقة، تعيد من خلالها فهم التاريخ الرسمي الذي دونته السلطة البعثية، فروايته عبر التعددية الصوتية تقيم تقابلًا حواريًا مع الوعي الرسمي لتنأى عن الزمن الأيديولوجي الذي قاد التاريخ وأشكال الوعي إلى حرب طاحنة في الثمانينيات، عبر إقامة فجوة تتيح لها نقد التاريخ والأيديولوجيا والذوات. فقد كان لتلك التعددية دورها في تشكيل الوعي النقدي وهدم أشكال الوعي القائمة في تلك الحقبة، وتبرز تلك التعددية عبر ثنائية سليم وأصدقائه التي أسست لحوارات ناضجة، وأخرى عبر حوار الجنود في جبهات القتال، فثنائية الهدم والبناء بين السلطة والأفراد أو السلطة والمجتمع ظلت تشكل الخطاب الروائي. وقد منحت السيرةُ فجوة معرفية للنقد والتمرد على السياق الأيديولوجي. أما في اليوميات فيندمج في اللحظة التاريخية ويبني عليها، وبذلك تذوب الفجوة ويغيب الوعي النقدي بشكل أقل، ولكن اليوميات ظلت تحافظ على التعددية بكثافة أكبر، فقد مثلت على الرغم من اندماجها بالزمن الايديولوجي – موقفًا رافضًا لهيمنة الحرب والدمار الذي تشيعه. وإذا كانت اليوميات وسيلة للوصول إلى صوت الجنود وحيواتهم في المخافر والملاجئ الأمامية التي كانت تحت نيران العدو، مثلت السيرة الروائية وسيلة لنقد الأيديولوجيا التي قادت العراق إلى الخراب من خلال الوقوف خارج سياق الحرب وشرطها الأيديولوجي،
وبذلك أخذ كل جنس يشكل زمنه الخاص ولكنه يلتقي في رفض الأيديولوجيا. ويقابل فاعلية ذاك الراوي النقدي في الرواية فاعلية الرقابة بوصفها آلية من آليات القمع مرة ووسيلة للمقاومة من لدن الجند مرة أخرى. وقد واجه سليم تلك الرقابة عبر بناء الثنائيات، فقد بني الخطاب الروائي استنادًا الى موضوعتي الحب والرقابة، بوصفهما وسيلة لبناء خطاب مفارق للسلطة، ثم تشكلت على أثرها ثنائية أخرى، تستند الى المرأة بوصفها حاضرًا ومجسدًا لقيم الحياة، لذا مثلت ثنائية الحياة والموت مصدر صراع في وعي الشخصية الرئيسة، وغيره من الشخصيات، وهذا الصراع بين الثنائيتين شكل الرواية بشكل فاعل، فقد كان الحب في الجبهة مسعى للتشبث بالحياة، مثلما كانت القراءة واتقاء الاوهام الأيديولوجية وسيلة للتمرد على قواعد الحرب.
كاظم حسن عسكر: ماجستير في الأدب العربي، جامعة البصرة، كلية الآداب، قسم اللغة العربية ٢٠١٨.
صدر له كتاب عنوانه (الأمة والشعر: نقد التفسير القومي للأدب في العراق) العام ٢٠٢١، مركز دراسات الكوفة.
كذلك صدر له أبحاث عدة منها:
- المخاطَب في الخطاب النقدي عند عبد العزيز حمودة، مجلة (الثقافة العراقية).٢٠١٨
- الاستبداد وصراع التقابلات قراءة في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مجلة (خطابات).٢٠٢٣.
[i]- ينظر: الميتافكشن المتخيل السردي الواعي بذاته: النظرية والممارسة، ياتريشيا ووه، ترجمة: السيد إمام، دار شهريار – البصرة، ط1 2018: 13.
[ii]- ينظر: الميتافكشن المتخيل السردي الواعي بذاته: 13.
[iii]- ينظر: الميتافكشن المتخيل السردي الواعي بذاته: 26.
[iv]- ينظر: تمثيلات السرديات الكبرى دراسة في بلاغة الرواية العربية المعاصرة، عماد عبد اللطيف، مجلة جامعة الكوفة- العراق، العدد10, 2016: 85.
[v]- المراقبة السائلة، زيجموند باومان وديفيد ليون، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للإبحاث- بيروت، ط1 2017: 7.
[vi]- يجب الدفاع عن المجتمع، ميشيل فوكو، ترجمة: الزواوي بغوره، دار الطليعة- بيروت، ط1 2003: 43.
[vii]- ينظر: المصدر نفسه: 43.
[viii]- صوت الطبول من بعيد، فلاح رحيم، دار الرافدين- بغداد، ط1 2020: 35.
[ix]- ينظر: مسارات الرقابة ومستوياتها، سعد البازعي، مجلة حقول- السعودية، عدد 10, شوال 1431: 30.
[x]- صوت الطبول من بعيد: 35.
[xi]- ينظر: أيديولوجيا السلطة وسلطة الأيديولوجيا، جوران ثربورن، ترجمة: إلياس مرقص، دار الوحدة- بيروت، ط1 1982: 33.
[xii]- ينظر: معجم تحليل الخطاب، باترك شارودو ودومينيك منغنو، ترجمة: عبد القادر المهيري وحمادي صمود، المركز الوطني للترجمة- تونس، ط1 2008: 292.
[xiii]- ينظر: المصدر نفسه: 257.
[xiv]- صوت الطبول من بعيد: 36.
[xv]- المصدر نفسه: 29.
[xvi]- ينظر: تشريح السلطة، جون كينيث جالبريث، ترجمة: عباس حكيم، دار المستقبل- دمشق، ط2 1994: 19.
[xvii]- المثقف الشاهد بديلًا عن المثقف البطل في روايات فلاح رحيم، عقيل عبد الحسين، دراسات الأقلام- بغداد عدد2, 2022: 116.
[xviii]- حول مفهوم البطل في الرواية العربية، محسن جاسم الموسوي، مجلة الأقلام- العراق، العدد 3 , مارس 1973: 7.
[xix]- ينظر: المصدر نفسه: 90.
[xx]- ينظر: المصدر نفسه:52-53.
[xxi]- ينظر: المثقف الشاهد بديلا عن المثقف البطل في روايات فلاح رحيم: 114.
[xxii]- ينظر: صوت الطبول من بعيد: 7.
[xxiii]- صوت الطبول من بعيد: 114.
[xxiv]- المصدر نفسه: 109.
[xxv]- ينظر: المصدر نفسه: 115.
[xxvi]- هكذا تحدث فليب لوجون، كمال الرياحي، تعريب: صلاح الدين بوجاه، الشركة التونسية للنشر- ط1 2009: 51- 52.
[xxvii]- صوت الطبول من بعيد: 175.
[xxviii]- حكايات الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين، صموئيل هاينز، ترجمة: فلاح رحيم، دراسات فكرية- جامعة الكوفة، ط1 2016: 38.
[xxix]- المصدر نفسه: 46
[xxx]- ينظر: المصدر نفسه: 34-35.
[xxxi]- صوت الطبول من بعيد: 170.
[xxxii]- المصدر نفسه: 175.
[xxxiii]- فصول في النقد، غالب هلسا، دار الحداثة- بيروت، ط1 1984: 6.
[xxxiv]- ينظر: حكاية الجند: 46.
[xxxv]- ينظر: صوت الطبول من بعيد: 169.
[xxxvi]- المصدر نفسه: 169.
[xxxvii]- ينظر: سرديات بديلة: 76.
[xxxviii]- الشر الأخير في الصندوق، فلاح رحيم، دار الرافدين- بغداد، ط1 2021: 20.
[xxxix]- ينظر: مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، طوني بينيت ولورانس غروسيرغ وميغان موريس، ترجمة: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة- بيروت، ط1 2010: 650.
[xl]- صوت الطبول من بعيد: 288.
[xli]- المصدر نفسه: 288-289.
[xlii]- ينظر: فن السلام، موريهاي أوشيبا، ترجمة: فريد عبدال، دار الرافدين- بغداد، ط1 2022: 53.
[xliii]- صوت الطبول من بعيد: 183.
[xliv]- ينظر: سرديات ثقافية من سياسات الهُوية الى سياسات الاختلاف، محمد بوعزة، دار الأمان- الرباط، ط1 2014: 37-38.
[xlv]- صوت الطبول من بعيد: 199.
[xlvi]- المصدر نفسه: 181.
[xlvii]- IDEOLOGY AND NARRATIVE IN HEMINGWAY'S WAR FICTION، Edith-Hilde Kaiter، JOURNAL OF ROMANIAN LITERARY STUDIES، Issue no. 5/ 2014 : 169
[xlviii]- صوت الطبول من بعيد: 307.