تُعد رواية (بنات غائب طعمة فرمان) للروائي خضير فليح الزيدي الصادرة حديثا بمثابة إضافة مهمة ولافتة في منجزه الأدبي؛ ذلك أنها تمتلك لغة وفكرة مغايرتين، إذ استطاع الكاتب اخراجهما من صوامع التقليدية إلى الحداثة عن طريق ايهام المتلقي ما بين الواقعي والخيالي بمحاولة إيهامه بين احساس الشك بينهما، بسبب بلوغ اللغة إلى درجة من التمازج مع الحدث يصعب معه فك شيفراتها في تمييز مساحة التخيل وهو يتداخل مع الواقعي عن طريق تطويع اللغة وبث الروح فيها لتواكب تزايد الخبرات الفنية والأدبية وتطور الوعي الجمالي لدى الزيدي. وبما أنّ النص الأدبي ما هو إلاّ نسيج من الإداء اللغوي وهو الذي يتكلم على حد تعبير بارت فإننا يجب أن نحدد معماريته وطريقة تشكيله، ولا نقصد هنا اللغة السيميائية التي تحلُّ محلَ اللغة اللفظية، ولا نتحدث عن اللغة بمعنى اللسان أو بالمفهوم المعجمي أو النحوي أو الصرفي، إنما اللغة التي نقصدها هي لغة الذوق والأسلوب والاختيار الشخصي، وكيف تكون إبداعية؟! وربما نجد في المثال الذي ضربه (عبد الملك مرتاض) عن اللسان واللغة إجابة وافية لتساؤلنا حين يصفها فيشبّه اللسان بالنبع الذي يستقي منه جميع المتعاملين باللغة في مجتمع واحد أو أمة واحدة، أو يشبّهه بالعين المشتركة بين مجموعة من الناس تجمعهم الجغرافيا والجوار والاحوال والعواطف. بينما كانت اللغة هي ذلك الماء الخاص، فمنهم من يتخذه مشروبا مثلّجا، ومنهم من يتّخذه مشروبا معطرا منكّها، ومنهم من يتخذه مشروبا للدواب، وآخر يتخذه سائلا لسقي النباتات(1).
فكرة النص الروائي ومعمارية أصواته:
إنّ أيّ قارئ لرواية الزيدي يستطيع أن يدرك أن هناك تنوّعا لغويا وتنوّعا فكريا يتوزع على مناطق متفاوتة داخل النص، خاصة أنه تناول فكرة استعادة الروائي العراقي الراحل "غائب طعمة فرمان" مع شخوص رواياته وبث الروح فيهم ليعود لنا من موسكو إلى منطقة المربعة ببغداد في نيسان عام 2006 ويلتقي بالسيد معروف، وسليمة الخبازة، وابنها حسين، وحمادي العربنجي، وكريم داود، وخاجيك ودبش، ومظلومة، والخالة نشمية، وأسومة العرجاء، وصاحب البايسكلجي، وابن الحولة وغيرهم من شخوص رواياته الذين كانوا حاضرين مجلس عزائه في أحد المساجد في منطقة سيد سلطان علي مع شخصيات أخرى لروائيين عرب، ويدخل معهم في موضع آخر من الرواية بسجال وعتاب لتحكّمه في مصائرهم وهذا يشكل اللبنة الأولى من موضوع الرواية الذي ينشق عنه موضوعا آخر يكمن برجوع دلال ابنة صديقه عبد الرزاق البيرقدار الصغرى إلى العراق باحثة عنه بعد عودته عندما يخبرها محامي العائلة جبر الشوك بأمر وصوله إلى العراق، ومن ثم حيثيات التقائها بشخصية المثقف "هاني بارت" لمساعدتها في العثور عليه، ولا يخفى أن الروائي الذي يسعى إلى تحقيق تنوع لغوي داخل نصه الأدبي، له القدرة على خلق شخصيات عدة وهو يتوسمها بأدوارها المعهودة لها لتكون في خدمة الروي وكي يتحقق ذلك بموضوعية لا بدّ له من أن يقف بعيدا عن لغته، وأن يجعل بينه وبين المنطوق الحواري مسافة كافية للتمييز بين لغة الروائي ولغة الشخصية، ذلك أن الروائي الذي يتحدث من خلال شخصيته ينطق هذه الشخصية ما لم تنطق به، ويلوي عنقها لتخدم قناعاته الخاصة، وبالتالي فهو يقحم ذاته بقوة في النص، فيضيق الخناق على الشخصيات التي تود أن تعطى لها فرصة لتكوّن ذواتا تحمل هويتها الشخصية، وليست هوية المؤلف.
إن الذين استطاعوا أن يخلقوا عالما روائيا حقيقيا بشخصياته هم الذين استطاعوا أن يتحرروا من اللغة المصطنعة لصالح لغة تعبر عن الشخصيات تعبيرا حقيقيا. ولعل دوستوفسكي أو أرنست هيمنجواي أو جورج اوريل وغيرهم من كبار الروائيين استطاعوا أن يضعوا بصمتهم على صفحات الأدب لأنهم امتلكوا قدرة على جعل الشخصيات الهامشية، بكل تموقعاتها. شخصيات تتحدث لغة تتماشى مع قدرتها الذاتية وخلفيتها الفكرية وهذا ما فعله الزيدي مع شخصية هاني بارت بعدما جلبه بوصفه شخصية رجل مثقف معدم وهامشي واصفا هيأته وصفا دقيقا يشي بفوضويته، ومعاناته مع الفقر والبطالة إلى جانب معرفته بشوارع بغداد ومحلاتها القديمة، وثقافته وسعة أفق لغته التي كان يحمل همّها فأنشأ جمعية (بيتنا ونلعب بيه) وهو تجمع لمثقفي الهامش من الكتّاب المغمورين الذين كان هاجسهم هو هتك قدسية اللغة، في سبيل مشروع حداثي قوامه تفجير اللغة الإشارية / العلاماتية لتكون جديدة ومعاصرة.
إن هذا النوع من الشخصيات التي منحها الروائي هامشا من الحرية لتبرز فلسفتها ونظرتها للعالم وفكرها المحتدم بالانفلات من المعقول والتيه مع الأحلام والرؤى وهي من الشخصيات التي تمتلك اعلى مستويات الروي في الرواية، وفي مناطق كثيرة تتجاوز مستوى الراوي أيضا، ففي أحد المواضع يصف هاني بارت نفسه بالقول: "نعم. أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا. أنا خير من تسعى به قدم. أنا من خطبت يوما في جلاس مقهى الدليمي عن تهافت اللغة التراثية.
ما معنى أن تقول لبائع الفياغرا؟ ترى بَعَرَ الأرام في عَرَصاتها وقيعانها كأنه حب فُلفُل؟ " ص87 من الرواية. فالشخصية هنا أخذت دورا مهمّا في تحملها مسؤولية الفعل اللغوي بعدما انتجت ملفوظها الخاص بها وبوعيها، وهي هنا تحاور شخصية ثانية وهو (جبر الشوك) محامي عائلة البيرقدار الذي كان يحمل لغة مغايرة ومنطقا مختلفا عن هاني بارت فلغته لغة الأرقام والقوانين وثغراتها.
أما لغة هاني بارت فكانت لغة الأدب والثقافة، وتأسيسا على ما سبق، ارتبط التطور اللغوي داخل الرواية بقدرتها على أن تكون ملتقى التنوع الفكري باستخدامها الملفوظات المتباينة والمتصارعة، وبذلك اصبحت لغة الحوار هي اللغة الكاشفة للأفعال وخلفياتها الايديولوجية، ومن ذلك استخدامه اللغة العامية عندما تحاور شخصية غائب طعمة فرمان لشخصية مصطفى الدلال أو اسومة أو سليمة الخبازة التي في كلام لها تقول بعد ان التقت غائب:" عيني. بغداد ظلمة وراك. والمربعة مثل ليلة الوحشة. نخلتك يتيمة وتبجي دم، من يوم عافها الجيران. ماكو طعم بعد لكل شي بالحياة. واني تعبت من العجين والخبز والناس. بصراحة أفكر اهج وين ما عند الله كاع. ارجو منك المغفرة يا غايب بن طعمة" ص117من الرواية.
ولا بد من القول ان هذا المستوى اللغوي يبرز عندما يبدأ الحوار ويتوقف السرد، حيث يحيل الراوي الكلمة للشخصيات لكي تتحاور فيما بينها لتفصح عن معاناتها ورغباتها وتشكو همها، وهي في حديثها هذا تعبر عن طبقتها الاجتماعية التي تصدر عنها؛ لذا فإن كل ملفوظاتها: "تفوح برائحة السياق والسياقات التي عاشت فيها حياتها الاجتماعية بحدة وكثافة؛ إن الكلمات والاشكال جميعها مسكونة بالنيات" (2).
*
وبما أن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر اتساعا وقابلية لإدماج واتساع مختلف الرؤى، والمنظورات الخاصة بموضوع ما وذلك بحكم تعدد شخصياتها وتنوع مراتبهم الاجتماعية والثقافية، وإن مسلمة النثر الروائي الحقيقي هي التقسيم التصنيفي الداخلي للغة، وتنوع اللغات الاجتماعية واختلاف الأصوات الفردية التي تتمادى داخلها، فإننا نجد إن صوت الراوي كان حاضرا يصنف ويقلد الأدوار وينشئ علاقاتها الا أن تأثيره كان ثانويا إلى جانب دور هاني بارت الذي كان يتمتع بسلطة ايديولوجية واستقلال كامل داخل الروي حتى ان دوره اللغوي أفصح لنا عن شخصية دلال تلك الشخصية البيروقراطية المتعالية التي قدمها صوت الراوي أول الأمر على أنها ذات ثقافة واطلاع على أدب غائب طعمة فرمان ومحبة له ولا يهمها سوى العثور عليه، لا بل جعلها لا تكترث لثروتها التي أحست ازائها بالخطر بعدما علمت بنوايا المحامي جبر الشوك ورغبته بالاستيلاء عليها، هذا غير كرمها وإغداقها الأموال في سبيل مهمتها النبيلة، في العثور على غائب طعمة فرمان، وطبع مخطوطته التي كانت لديها، والتي كانت تتحدث عنها وأختيها لتكون بمثابة سيرة لهنّ. كتبها الروائي الغائب صديق والدها واسماها "بنات غائب طعمة فرمان"، وعند النظر إلى التسمية نجد هناك مخادعة ظاهرة يمارسها الزيدي على القارئ فيجعله يقع في شرك الايهام ما بين الواقعي والتخييلي. هل كان المقصود بعنوان الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها بنات عبد الرزاق البيرقدار صديق غائب طعمة فرمان؟ هل حقا كانت هناك رواية مخطوطة لم تنشر للروائي؟ أنا شخصيا غير مقتنعة بأسباب التسمية فعندما يتفحص المتلقي ما يقرأه في هذه الرواية من حيثيات واحداث فإنه يجد اجواء روائية تحمل روايات غائب طعمة فرمان وشخصياته التي لها ثقلها في الرواية، وبذلك فإن عتبة العنوان تشي بالروايات المعروفة الخاصة بالروائي وفي مقدمتها رواية "النخلة والجيران" بعدما اطلق سليمة الخبازة واخرجها من اتون نخلته وجيرانها ليجدها تعود إليه وتقلق مناماته، إذ أنها لم تجد لها مكانا خارج اتون الرواية بعدما رجعت للمربعة ولبيتها كي تحقق مصيرا مغايرا لمصيرها الذي رسمه لها راويها وخالقها، وبذلك نفهم أن بنات غائب هي رواياته ولا دخل للمخطوطة الإبهامية بتسمية الرواية.
ايهام الحقائق الروائية:
عمل الروائي على خلخلة قناعات القارئ ويبدو أنها كانت غايته ليجعل المتلقي في نهاية الأمر يتساءل هل أن غائب طعمة فرمان ميتا أم حيّا؟ هل عاد للحياة حقا واختفى في المربعة؟ هل هناك مخطوطة تخصّه بقيت عند ابنة صديقه؟ هل هناك تمثالا له في ساحة الوثبة ببغداد؟ وما حقيقة استدعاء شخصيات الروائي غائب الروائية داخل النص وإضافة سمة جديدة للروي وهي الاستخدام الحاذق للتناص؟ التناص الذي استطاعت من خلاله الرواية أن تقدم لنا الحاضر وهو ينعكس على مرايا الماضي فيبدو أكثر تألقا وجاذبية من هذا الحاضر الكابي البليد الذي زحف حتى على قلب المدينة العتيق ولم يكتف بأطرافها الهامشية. لأن هذه الرواية تدور في أحياء السيد سلطان علي والميدان والحيدر خانة والمربعة وشارع الرشيد في بغداد، وتتعمد اقتناص ذاكرة هذه الاحياء التاريخية في ثنايا النص، وإماطة اللثام عما ترسب في ذاكرة الشخصيات المكانية وفي طوبوغرافيا المنطقة، والتعرف على ما انتاب بيوتها من تحولات. لأن من يقرأ هذه الرواية يدرك أن أحد همومها الأساسية هو انقاد تواريخ هذه الشخصيات الأساسية البسيطة من طوايا النسيان والاندثار، لكنها مشغولة كذلك ببنيتها السردية الشيقة التي دفعت الكاتب إلى تقديم عمله بمقتطفات ذكية وجاذبة ولو نظرنا للبناء الفني للرواية نجده يهدي إلى القول بأن كل مشهد يرويه صوت من أصوات الشخصيات هو في حد ذاته مشهد مكتمل الأجزاء والعناصر والأركان.
إن الكاتب قد منح كل شخصية الحرية التامة للبوح عما يمور في داخلها من مشاعر وما تخطط له من طموحات، إذ تعددت أصواتها وشخصياتها وأيديولوجيتها الفكرية،
وإن المتأمل في بنية الرواية يكتشف أنها لا تتكأ على الراوي العليم الذي يقوم بالإخبار عن الوقائع والأفعال الحادثة على رقعة القص اتكاءً كلياً، لكنّ هذا الراوي - أحياناً - يتجلى في الرواية بوضوح، فيعرِّف بالشخصيات، ويكشف عن تصرفاتها، فيسرد بجلاء بعض أحداث الرواية معلقاً وواصفاً، وفي أحايين أخرى يتخفى الراوي وراء رواة آخرين، فيتخلى عن عدسته المحايدة، فيصبح صوتاً داخلياً للرواة، يهجس ويهمس، ويعلن ما يمور داخلها من رؤى وانفعالات، ومحاولاً تفسير ما يحيط بها من أحداث وسلوكيات صادمة، كما أن الراوي يتسلل عند مفاصل معينة، فيتحدث بصوت الراوي العليم الذي يتجلى بما يمتلكه من معلومات واسعة، وثقافة متنوعة، فيأخذ دور الموثق والمحلل للظواهر؛ ذلك أنه يتخفى بحذر وعناية واقتدار في ظل الشخصية؛ لتسريب ما تود البوح به من أفكار ورؤى وأحاسيس ولذلك اختتمت الرواية بوجود هاني بارت بجوار تمثال غائب طعمة فرمان وهو محطم ليتهم بتخريب أحد المعالم الحضارية في بغداد، وعند التحقيق معه يقول إنّ اسمه غائب طعمة فرمان، وهذه إضافة نوعية للمؤلف حين يوهمنا بأن شخصية دلال هي صنيعة هاني بارت وكأن قصة المخطوطة وتحرير الرواية لطباعتها ما كان الا وهما اختلقه هاني بارت وما يدل على ذلك تساؤله وهو بجوار التمثال المهدم " أخبرني يا خال، ما رأيك في هذه الرواية؟ أرجوك أخبرني. هل شخصية دلال مكتملة؟ " ص97 من الرواية.
الهوامش :
1 ـ ينظر: في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد) ص81، عبد الملك مرتاض، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ديسمبر 1998م.
2 ـ باختين المبدأ الحواري، تزفيطان تودوروف، تر: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 11 بيروت، ط،2 ،1996 ص2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيرة الروائي خضير فليح الزيدي: ولد عام 1958 في مدينة الناصرية، وفي العام 1984 أصدر روايته الأولى بعنوان شرنقة الجسد وفازت بجائزة تقديرية، صدرت له العديد من الروايات منها: رواية خريطة كاسترو عن دار ينابيع دمشق، 2009. كتاب الباب الشرقي 2013 طُبع ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة. وفاز الكتاب بجائزة ناجي الساعاتي. رواية الملك في بيجامته 2018 عن دار الرافدين/ بيروت.
رواية أبناء غائب طعمة فرمان عن منشورات مسكلياني 2023.
سيرة الناقدة رنا صباح خليل: ناقدة عراقية تعنى بنقد السرديات، حاصلة على بكلوريوس لغة عربية عام ٢٠٠٠. صدر لها:
- الوردة والسكين، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب، بغداد، 2020.
- مرايا اليمام، تمثلات التجريب في نصوص سردية مختارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2023.