بغنائية تتماس مع قصيدة "قارئة الفنجان" للشاعر الكبير نزار قباني، يكتب القاص السعودي كيف تكون قراءة الغيب، أو المستقبل، باعثا على إعادة النظر وتغيير الوضع الآني.

قارئة الفنجان

صالح السهيمي

في الصباح
اقترب من منزلها الكائن في أقصى القرية، متلفعًا بمشلحه المهترئ، سأل عن "قارئة الفنجان"، فخرجت امرأة أربعينية تتوكأ على ابنتها، اقترب منها أكثر، دنا وسألها أن تقرأ فنجانه.

سألته مباشرة: هل اغتسلت من الجنابة؟

ردَّ في ذهول: لا!

ـ هل تريد الاغتسال؟
ـ لا.
ـ إذن، فلتجلس في الركن المظلم من الغرفة، هزَّ رأسه بالإيجاب.

طلبت من ابنتها أن تناوله فنجانًا من القهوة، شربه على عجل، صبت له فنجانا آخر، فعلم بأنه قد أخطأ، فأخذ يرتشفه على مهلٍ، متأملاً الغرفة، والصالة الممتدة إلى الباب الخارجي، انتبه إلى نظراتها المريبة، سألته أسئلة متتابعة، شعر بأنها فارغة، تذمرتْ، فهرعت الابنة إلى الفنجان بعد أن جفَّ، ناولته المرأة. نظرت إليه، تركته قليلاً، تمتمت بعبارات أشبه ما تكون بغناء حزين، تذمر الرجل، همَّ بالنهوض، سألته:

ـ لماذا تبدو شاحباً، ومتذمرا؟
ـ وهل أبدو شاحبًا؟!
ـ نعم.
ـ هل تركتها تتألم؟!

صعق الرجل، وأردف بإشارة تدل على النفي.

ـ إذن. حدثني عما حدث.

تأوه الرجل، وقال: هي ملاك من نور، أضاءت منزلي قبل عدة أيام، غصبها والدها على الزواج بي، ظننت في بادئ الأمر أنها لا تعرفني، أو أنها متعلقة برجل آخر. حاولت أن أكشف عما تخبئه خلف قناعها الحزين، سألتها، فلم تجب بشيء. اقتربتُ أكثر من حياتها، حاولتُ جاهدًا أن تشاركني رغيف الخبز...

تدخلت قارئة الفنجان، وأوقفت الرجل عن استرساله في غنائه الحزين، طالبة منه الاغتسال، والعودة مجددا مساءً... 

في المساء
في منتصف الليل تسلل الرجل إلى منزل المرأة، فصعد إلى السطح، ونزل من فتحة في السقف، تطل على الصالة، هبط منها، ولج الغرفة، رآها جالسة تنتظر قدومه، صعق مرة أخرى حين رآها محاطة بالنور، والزهور البيضاء، والنباتات العطرية المنثورة في أرجاء الغرفة! سألها أن تكمل قراءة فنجانه...

ـ ماذا أقرأ يا سعد؟ فحياتك مهددة بالغرق!.
ـ حياتي في خطر!.
ـ نعم وستغرق في نهر من الحزن، وستحلِّقُ الطيورُ فوق رأسك، وستشعر بغنائها يمزِّقُ جسدك!.
ـ وما الحيلة إذن!.
ـ يا سعد أنت بحاجة إلى أن تتعلم السباحة في النهر الواسع، قبل أن تقودك أقدامك إلى الأنهار الضيقة، والأنهار الحزينة.
ـ كيف؟!.
ـ ....

ساد الصمت في الغرفة، وبدأت تهمس في أذنه بأغانٍ تثير فيه شهوة البوح بالأسرار المخبأة في الماضي، والمساء يهطل بأمطاره الكفيلة بإيقاظ النائمين، دنا سعد من المرأة، وسألها عن إكمال القراءة...

ـ يا سعد المساء كفيلٌ بإظهار الرؤية الصادقة، لأنه يخبرنا دومًا بأن الضوء ليس أصدق حقيقة من الظلام، إذ إنه يخترق الذوات دون استئذان!.

يمَّمَ الرجل وجهه صوب النهر، وكلما اقترب منه شعر بفيض مائه يكتسح مشاعرَ جديدة بدأت تنبتُ في داخله، وتشعل بريقًا من نور آخاذ. ارتشف الرجل قطرات عذبة من نهر السعادة، وظل يردد أغنياته الجديدة دون خوف وترقب. سكبت المرأة له الكثير من فناجين القهوة، تاركة قراءتها للزمن.