تظهر ثيمة الرحلة بوضوح في رواية "رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ، وقد ظهرت مفردة الرحلة في العنوان نفسه، بل إنها أول كلمة ظاهرة فيه، ومن المعروف أن ثيمة الرحلة تسجل حضورا فائقا في الآداب العالمية وتسجل حضورا واضحا جدا في واقع الإنسانية على امتداد تاريخها وتنوع بلادها. وكان الداعي إلى الرحلة في هذه الرواية هو حب المعرفة والبحث عن الكمال والعودة إلى أرض الوطن لبث ما عرفه البطل كي يكون وطنه أكثر رحمة وأكثر عدلا وكمالا.
وقد قامت الشخصية المحورية المتمثلة في قنديل محمد العنابي بهذه الرحلة ـ واسم قنديل هنا له دلالة ـ فقد ولد لأب جاوز الثمانين من عمره وأم اسمها فطومة بنت الأزهري تزوجها أبوه وهي بنت سبعة عشر عاما، مما يشير بطريقة ما إلى الامتداد الزمني لتاريخنا العربي متمثلا في الأب، وفي الوقت نفسه إلى الخصوبة والحيوية الدافقة المتمثلة في الأم. وقد أثار حديث معلم قنديل رغبة حارة لديه في الوصول لدار الجبل، وعجل برحلته زواج أمه فطومة من معلمه، وضياع خطيبته.
لقد ولد بطل الرواية قنديل محمد العنابي لأب مسن جدا، ولكنه واسع الثراء بسبب تجارته الواسعة في الحبوب والغلال، ولكن هذا الأب ما لبث أن فارق الحياة تاركا طفله صغيرا جدا وأمه شابة ممتلئة بالخصب والحيوية، ولكن أمه أظهرت جزعا عليه، فقد خافت من إخوته غير الأشقاء، وحقدهم الرهيب عليه بسبب ذهاب جزء كبير من ثروة والدهم التاجر واسع الغنى إلى هذا الأخ غير الشقيق وأمه. وكان جزعها هذا سببا جوهريا في إحضار معلم له إلى البيت لكي ينهض بتربيته على أكمل وجه، حتى لا يعترض إخوته طريقه إذا نزل من البيت من أجل التعليم.
وقد شب قنديل ووصل إلى مبلغ الشباب، ورأى فتاة وضيئة سقط برقعها عنها بعدما تعثرت وهي تسحب أباها الكفيف في الشارع فخفق قلبه خفقانا شديدا لها وقرر على الفور التقدم لخطبتها، وقد وافقت أمه بعد إبداء اعتراضها عليها لأنها ليست من مستواه الاجتماعي، ولكنها وافقت في النهاية أمام إصراره. وبالفعل تقدم لها قنديل وتمت الخطبة. كما أن معلمه أبدى له رغبته في الارتباط بأمه، واندهش قنديل من ذلك، وكانت دهشته أشد بموافقة أمه بعد طول رفضها للزواج من قبل.
ثم حدث شئ ترك في نفس قنديل أشد الألم، فقد فوجئ بزواج خطيبته من الحاجب الثالث للوالي الذي لم يستطع أبوها رفضه بسبب سلطته، وهنا تجمعت الأسباب التي جعلت "قنديل" يصر على الشروع في رحلته إلى دار الجبل فورا، فهو قد فقد حبيبته فجأة، وفقد أمه بزواجها من معلمه، وأحس إحساسا رهيبا بالوحدة في عالمه، مما جعله يشعر بأن دار الإسلام لا يتحقق فيها العدل المطلق، فاستيقظ في نفسه حب الرحلة إلى دار الجبل تلك الدار التي حدثه معلمه عنها بأنها دار الكمال المطلق. ومن هنا فقد كانت دار الجبل والعودة منها هي الهدف النهائي لهذه الرحلة، ودار الجبل تمثل العدل والحكمة وكل القيم الفاضلة، أو بمعنى آخر تمثل دار الكمال المطلق كما سبق القول، ولكن الطريق إليها يستدعي مرور البطل بدار المشرق ودار الحيرة ودار الحلبة ودار الأمان ودار الغروب وصولا إلى دار الجبل.
فإذا أضفنا إلى الدور السابقة دار الإسلام التي انطلق منها البطل فإننا نجد سبع دور كاملة مر بها، ولا تخفى بطبيعة الحال دلالة الرقم سبعة. وقد كانت دار الإسلام هي الوطن الأساسي لقنديل محمد العنابي/ ابن فطومة، وعلى الرغم من أنها دار الإسلام، حيث يدين أهلها بدين الإسلام السمح فإن سماحة أهل هذه الدار لم تكن على ما يرام، وقد عانى ابن فطومة الأمرين من الناس فيها، وأولهم إخوته أنفسهم، فقد رفضوا وجوده أصلا في حياتهم. وهم من أطلقوا عليه "ابن فطومة"، وكأنهم يتبرؤون منه.
كما أن الغصة التي تركها الحاجب الثالث للوالي في نفسه لم تكن هينة، فقد تزوج حبيبته رغم علمه بأنها مخطوبة له، مستغلا سلطته باعتباره الحاجب الثالث للوالي، وجعلها زوجة رابعة له، وهنا تظهر المرأة في هذه الدار مغلوبة على أمرها، ويظهر أيضا أن تعاليم الإسلام في واد والناس في واد آخر، فالإسلام يرفض أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وهذا لم يحدث في هذه الحالة، كما أن الغصة التي تركها زواج أمه من معلمه لم تكن هينة، فقد ظن أمه له وحده، ولكنه اكتشف أيضا أنها امرأة ومن حقها الزواج مثلما هي أمه. أما أبوه نفسه ذلك الشيخ الذي تجاوز الثمانين عاما، فقد تزوج ابنة السبعة عشر عاما، بسبب ماله الكثير، ثم تركها وهي في شرخ شبابها وطفلها الرضيع.
ومن هنا فإن هذا المجتمع/ مجتمع الإسلام يفتقد أشياء جوهرية، ومنها العدل والحرية. ويظهر المكان في هذه الدار بتجليات مختلفة، فهناك بيت ابن فطومة الذي يدل على اليسار والغنى، وهو مكان صنعته يد الإنسان من أجل المعيشة فيه، وهو مغلق وله باب يطل به على الشارع، ونوافذ أيضا، وحجرات مختلفة، وبه أثاث يكشف عن الطبقة الاجتماعية لأصحابه. وقد شهد هذا البيت أحداثا ذات تأثير مفصلي في سير الرواية، ومن هذه الأحداث تلقي ابن فطومة للعلم، وتحفيز ما بداخله من شغف هائل بدار الجبل رمز الكمال المطلق، ولكن رغم ذلك فقد تسبب هذا المكان في غصة ليست سهلة على قلب ابن فطومة، وهي إدراكه بحدوث أشياء بريئة من خلف ظهره بين معلمه من ناحية وأمه من ناحية أخرى، جعلتهما يتزوجان. ومن هنا فإن هذا البيت الذي رأى فيه ابن فطومة الحماية والعلم وحب الأم قد أصابه بالغصة أيضا.
ومن تجليات المكان في هذه الدار الشارع، وهو مكان مفتوح لا يخص شخصا بعينه إنما هو مكان عام يخص الجميع، ومن خصائصه الانفتاح وليس الانغلاق، وكان سببا في إحساس ابن فطومة بالحب لأول مرة في حياته، فقد رأى حبيبته فيه وتعلق بها. وهناك أيضا بيت خطيبته، وهو مكان مغلق خاص بأسرة خطيبته وله صالة وحجرات ويدل على طبقة خطيبته الاجتماعية، وقد منحه هذا المكان سعادة واضحة، ذلك حينما تقدم لحبيبته وكشفت عن وجهها له، ووافقت على الزواج منه، ولكن هذا المكان ما لبث أن أصبح محرما عليه، بعد أن أصبحت خطيبته زوجة رابعة للحاجب الثالث للوالي. ومن تجليات المكان الذي ظهر في هذه الدار هو المكان الذي تتجمع فيه القوافل من أجل السفر، وكان آخر مكان رآه ابن فطومة في موطنه الأصلي/ دار الإسلام، حيث انطلق منه في سبيل رحلته الطويلة من أجل الوصول إلى دار الجبل. وهو مكان عام واسع يضم أشتاتا من البشر المسافرين والقادمين من سفر.
وقد كانت للبنية الزمنية أيضا في هذه الدار تجلياتها، فمن ناحية ملامح هذه الأجواء الوالي حاكما للبلاد والحجّاب لهذا الوالي والجمال والقوافل التجارية وسيلة للسفر والدنانير الذهبية وسيلة للتعامل في البيع والشراء. أما الزمن الداخلي، فقد ظهر من تجلياته التوافق الزمني، حيث كان السرد يسير موافقا للحدث، وهذا هو النمط الغالب، كما أن الارتداد الزمني سجل حضورا في هذه الكتلة السردية المخصصة لدار الوطن أي دار الإسلام، فقد كان ابن فطومة يرجع بالذاكرة إلى الوراء حينما يضغط عليه الحدث الحاضر، من ذلك عودته بالذاكرة حينما علم برغبة معلمه في الزواج من أمه، فقد أدرك أن هناك أشياء بريئة حدثت بينهما وهو في غفلة عن ذلك. أما الاستباق الزمني فقد سجل هو أيضا حضورا واضحا، حيث كشف عن توق كبير في نفس ابن فطومة للرحلة إلى دار الجبل رمز الكمال المطلق.
وقد ظهر القفز الزمني بوضوح شديد، فالكتلة السردية المخصصة لهذه الدار قد استغرقت بضع عشرة صفحة، ذلك على الرغم من أن الفترة الزمنية التي تم رصد السرد لها تقترب من العشرين عاما. وقد أدى القفز الزمني إلى إحكام الحدث المرصود له السرد، فلم يكن هناك تشتيت لذهن القارئ، وأخذه إلى مناطق تبعد عن الهدف المرسوم، وهو تركيز مدى المضايقات والكشف عن النقص الرهيب في هذه الدار، مما جعل ابن فطومة يصر على الرحيل.
أما عن ملامح الصراع في هذه الكتلة السردية المخصصة لدار الوطن فقد ظهرت لها تجليات مختلفة، منها الصراع من أجل المال والميراث، وقد ظهر ذلك بين أفراد الأسرة الواحدة، بين ابن فطومة وأمه من ناحية وإخوته من ناحية أخرى. وكان السبب في هذا الصراع هو الحرص الشديد على المال الذي سيرثه هؤلاء الإخوة الكبار، لأنه في نهاية حياة أبيهم الممعن في الشيخوخة تأتي زوجة وطفل يذهبان بجانب كبير من هذه الثروة. ويكشف هذا الصراع عن حالة من عدم النبل، لأنه ليس صراعا من أجل حق مغتصب، وإنما هو صراع من أجل اغتصاب حق. وكانت نتيجة هذا الصراع في صالح ابن فطومة وأمه، إذ لم يستطع هؤلاء الإخوة الكبار والكثار أن يحرموهما من حقها الشرعي في الميراث.
كما كان من نتيجته أيضا القطيعة التامة بين هؤلاء الإخوة من ناحية وابن فطومة وأمه من ناحية أخرى. وتخايلنا في البنية العميقة لهذا الصراع ما هو معروف عن الصراع الرهيب بين إخوة يوسف من ناحية ويوسف الصديق من ناحية أخرى. ومن ملامح الصراع في هذه الكتلة السردية أيضا ملمح الصراع من أجل الحب، وقد تجلى هذا الملمح في جانبين: الجانب الأول صراع ابن فطومة من أجل تحقيق حبه، والجانب الثاني صراع شيخه من أجل تحقيق حبه هو الآخر. وقد كان الفشل الذريع من نصيب الجانب الأول، في حين كان النجاح التام من نصيب الجانب الثاني. وكان سبب فشل الحب عند ابن فطومة هو تدخل طرف ثالث لا قبل له بمجابهته، وهو الحاجب الثالث للوالي الذي جعل من خطيبة ابن فطومة زوجة رابعة له. ولا شك أن هذا الصراع يعد صراعا نبيلا، لأنه من أجل الحب الشريف والزواج على سنة الله ورسوله.
وهناك الصراع من أجل الرحلة والبحث عن الكمال، وكان الطرف الأول في هذا الصراع هو ابن فطومة نفسه، في حين كان الطرف الثاني متمثلا في الأساس بأمه نفسها، لأنها كانت رافضة تمام الرفض لرحيل ابنها الغالي عنها. وهو صراع يظهر فيه النبل بوضوح، سواء من ناحية البطل أم من ناحية أمه، فالبطل يريد أن يصل إلى دار الكمال ليفيد وطنه، والأم متعلقة به، لأنه ابنها. وهنا تظهر الأم باعتبارها رمزا للوطن الحريص جدا على الاحتفاظ بأبنائه الصالحين. وكانت نتيجة هذا الصراع في صالح ابن فطومة، لأنه لبى نداء الرحلة، وبادر باتخاذ القرار من أجل تحقيقها.
وهناك أيضا الصراع من أجل القيم الخالدة، مثل قيمة العدل والحرية، وقد كشف هذا الصراع عن غياب تام في أرض الوطن لهذه القيم، فالحاجب الثالث للوالي يستغل قوته في قهر فتاة مخطوبة لخطيب تحبه، ولا يلقي بالا لمسألة ارتباطها، ويجعل منها زوجة رابعة له بلا وازع من ضمير. وهذا صراع غير نبيل من جانب هذا الحاجب، ولكنه على الرغم من ذلك نجح في مسعاه، ولم يوقفه أحد، وكان ذلك حدثا مفصليا في هذه الرواية، لأنه كان المحرك الأساسي لمغادرة البطل لأرض الوطن، والتمدد السردي لهذا العمل الروائي لنجيب محفوظ.
وقد كانت دار المشرق هي الدار الأولى التي سيتجه إليها ابن فطومة في رحلته الطويلة إلى دار الجبل رمز الكمال المطلق، ومن ثم فهي مجاورة لدار الوطن، والمسافة بينها من ناحية وبين دار الوطن من ناحية أخرى هي شهر كامل على ظهور الإبل. فالقافلة تسير عبر الصحراء القاحلة لمدة شهر، بعدها تصل إلى دار المشرق. وكان ابن فطومة هو الرحالة الوحيد في هذه القافلة، والباقي من التجار الذين يحركهم الشغف الشديد بالربح لقطع هذه المسافات الطويلة. وهنا يبدو التوقف أمام عنوان هذه الدار مهما، فإضافة كلمة المشرق المعرفة بأل لكلمة الدار النكرة يجعل القارئ متهيئا لتقبل فكرة وجود الشمس المشرقة فيها، وهذا ما سوف تؤكده الكتلة السردية المخصصة لها.
يظهر الحدث الرئيسي في هذه الدار من خلال وقوع ابن فطومة على عروسة، تلك الفتاة التي ذكرته بخطيبته السابقة، فخفق قلبه لها خفقانا شديدا، وحصل عليها وأنجب منها أربعة أولاد تباعا. ولكنه يضطر إلى مغادرة هذه الدار بعد أن عُرف عنه أنه يعلم أولاده تعاليم الإسلام، وهذا يخالف قانون دار المشرق. وتظهر بعض الشخصيات المحورية في هذه الدار إلى جانب شخصية ابن فطومة، ومن هذه الشخصيات شخصية عروسة التي وقع ابن فطومة في حبها من أول نظرة، فقد ذكرته بخطيبته السابقة.
تبدو عروسة فتاة في شرخ شبابها تتميز بجمال أخاذ ذلك على الرغم من لونها الأسمر الذي يتميز به أهل دار المشرق، فقد رآها تمر قريبا من الفندق الذي يقيم فيه، فتاة سمراء عارية تماما مثل أهل هذه الدار الذين لا يلبسون شيئا على أجسامهم، وكانت حالتها الجسدية فائقة الجمال والصحة، وهي فتاة حالتها النفسية ليست معقدة، ولديها حرية تامة في اختيار من تحب والمعيشة معه، وهي لا تعرف التحريم والتحليل الذي يعرفه ابن فطومة، ومن هنا كانت صدمته، فقد حصل عليها بسهولة تامة أمام عين أبيها، بل وبمباركة منه. وهي فتاة شديدة الخصوبة، إذ مالبثت أن أنجبت أربعة أولاد تباعا في فترة وجيزة عاشتها مع ابن فطومة، وهي فتاة قوية العاطفة والشغف بالحياة.
ومن الشخصيات اللافتة التي ظهرت في هذه الدار شخصية حكيم دار المشرق، وقد لعب هذا الحكيم دورا كبيرا في إظهار رؤية للعالم مخالفة لرؤية ابن فطومة للعالم. وحينما رأى ابن فطومة عادات غريبة جدا في دار المشرق ونمطا من المعيشة لم يكن يتخيله أصلا طلب من صاحب الفندق الذي يقيم فيه أن يدله على حكيم دار المشرق، وبالفعل تم اللقاء به، وهنا حدث حوار بينهما تعجب منه ابن فطومة أشد التعجب، وبدا أن هذا الحكيم كان ندا قويا لابن فطومة فيما دار بينهما من حوار. يظهر هذا الحكيم في مرحلة عمرية متقدمة في السن، وهو في حالة جسدية متماسكة بالنسبة لسنه، ويتمتع بقوة عقلية واضحة ظهرت في الحجج التي قابل بها حجج ابن فطومة، كما أن حالته النفسية متزنة، لا يشعر بقلق نفسي جراء عبادته للقمر. وهو كاهن القمر الذي يعبده أهل هذه الدار.
ومن الشخصيات أيضا شخصية والد عروسة المسن، وهو شخصية كانت لافتة جدا لابن فطومة، فقد لا حظ هذا الشيخ المسن أن ابن فطومة توقف عن سيره أمام خيمته ناظرا بإمعان لابنته داخل الخيمة، فنادى عليه قائلا هل تعجبك عروسة أيها الغريب؟ فظن ابن فطومة أنه وقع في المحظور، ولكنه فوجئ بهذا الأب يكرر عليه هذا السؤال، وحينما هز رأسه بالموافقة أخذه من يده ودخل به على ابنته وقال لها هل يعجبكِ هذا الغريب؟ فقالت ببساطة آسرة: هو مطلوب يا أبي. فأسدل عليهما باب الخيمة وتركهما في غرامهما اللاهب. وبعد ذلك أجر ابنته لابن فطومة، وظل ابن فطومة يدفع الإيجار طيلة مكوثها معه في الفندق على مدار بضع سنوات متصلة.
يبدو والد عروسة في مرحلة عمرية متقدمة، وقد ظهرت آثار الزمن على جسده النحيل، فتثرمت أسنانه، وبدا جسده ضعيفا ضعف الشيخوخة بوضوح شديد. أما حالته النفسية فهي متزنة لا أثر فيها لقلق أو لاكتئاب، وإنما هو شخصية متصالحة مع واقعه ومع قوانين بلاده وعاداتها. وقد بدت حالته العقلية متماسكة أيضا، ذلك على الرغم من تقدمه في العمر، ولديه فراسة يعرف بها ما يجول في النفوس، فقد عرف ما يجول في نفس ابن فطومة وهو ينظر إلى ابنته دون أن يتكلم.
وهو شخصية لديها القدرة على الحسم واتخاذ القرار، وقد كان له دور محوري في حياة ابن فطومة، فقد سهل عليه تماما الوصول إلى ابنته، مما تسبب في تعطيل رحلته إلى دار الجبل، فقد كان من المقرر أن يظل ابن فطومة في دار المشرق عشرة أيام متصلة، هي مدة إقامة القافلة التي جاء فيها، بعدها ينطلق منها إلى دار الحيرة، ولكن تعرفه على عروسة، ومعيشتها إلى جانبه وإنجابها أربعة أولاد كل ذلك عطل رحيله عن دار المشرق عدة أعوام.
ومن الشخصيات أيضا شخصية صاحب الفندق، الذي كان في كثير من الأحيان مرشدا لابن فطومة ومجيبا على كثير من الأسئلة التي ثارت في ذهنه حول هذه الدار الغريبة عليه. ويأخذ المكان في دار المشرق ملامح متعددة، منها الفندق الذي قضى فيه ابن فطومة الفترة الزمنية التي امتدت لعدة أعوام تلك الفترة التي قضاها في دار المشرق. وهو مكان ينزله الغرباء والمسافرون، فيه الكثير من الحجرات التي يتم تأجيرها للمقيمين فيه، وتبدو الحجرات فيه أقرب إلى البدائية في أثاثها، والطعام المقدم فيه يكشف بطبيعة الحال عن المستوى المعيشي العام لدار المشرق، وهو مستوى أقرب للفقر منه إلى الغنى. وفي هذا المكان عاش ابن فطومة أحلى سنوات عمره ونهل من كأس السعادة الصافية ألوانا وفنونا مع عروسة التي منحته ألوانا من السعادة كما تنبغي أن تكون، ولكن بقدر هذه السعادة التي لا شبيه لها بقدر الألم الرهيب الذي تعرض له في النهاية، حيث أجبر على مغادرة البلاد محروما من حبيبته وأولاده جميعا.
ومن ملامح المكان أيضا شوارع وبيوت دار المشرق، وهي شوارع واسعة جدا، لايبدو عليها أثر للمدنية، شوارع قريبة من الطبيعة، والبيوت متناثرة تتميز بالبدائية الشديدة، ليس فيها آثار التمدن الواضح، ولكن هناك قصرا منيفا عرف ابن فطومة أنه قصر حاكم دار المشرق، وقد بناه على طريقة عصرية، إذ جلب إليه مهندسين وعمالا من دار الحيرة المتقدمة جدا، فبنوه له. وهو قصر شاهق، يتميز بالفخامة، وفيه الأثر الواضح للمدنية، ويدل على التمييز الشديد جدا الذي ميز به حاكم دار المشرق نفسه تمييزا كبيرا جدا عن بقية شعبه الذين يرزحون تحت نير الفقر والحاجة الثقيل الوطأة على رقابهم.
وهو مكان خاص له حجرات واسعة وبه كل مظاهر الفخامة والأبهة. ومن ملامح المكان التي ظهرت في هذه الدار الساحة الواسعة التي تشهد الاحتفال باكتمال القمر، وهو مكان مفتوح وواسع جدا وليس ملكا لأحد بعينه، وإنما مكان عام يجتمع فيه أهل دار المشرق مرة كل شهر يعبدون فيها القمر على طريقتهم، وكانت هذه الطريقة مدهشة جدا لابن فطومة، حيث يتلو كاهن القمر بعض الصلوات للقمر، ثم يشير للجموع ببدء الاحتفال فينخرطون في رقصات متوفزة مع موسيقى صاخبة، ثم يقع كل رجل على المرأة التي بجانبه كيفما اتفق دون أن يشعر أحد بأن ذلك عيب أو حرام. وقد تجلى في هذا المكان أن الحياة يجب الاستمتاع بها دون تعقيدات، وكان ذلك ما أدهش ابن فطومة جدا. وهو نفسه وجد امرأة أربعينية في أحضانه.
وهناك مكان آخر كان له دور كبير في إصابة ابن فطومة بحالة من الدهشة الشديدة في هذه الدار أي دار المشرق، وهو بيت الحكيم كاهن القمر، فقد حدثت فيه المناظرة الكبيرة بين ابن فطومة من ناحية وكاهن القمر من ناحية أخرى، وقد كان ابن فطومة يظن بأنه قادر على دحر هذا الكاهن، ولكنه فوجئ بقوته الرهيبة في الحجاج. وهو بيت خاص بحكيم دار المشرق، يظهر عليه أثر النعمة واليسار بعكس بيوت باقي السكان في هذه الدار.
أما البنية الزمنية التي تجلت ملامحها في دار المشرق فقد كان هناك التوافق الزمني الذي كان سائدا في الحكي، وكانت هناك ارتدادات زمنية واضحة، على نحو ما كان يظهر أمامنا من مقارنة دائمة بين ما يشاهده ابن فطومة في هذه الدار من ناحية وبين ما كان يوجد في دار الوطن من ناحية أخرى. وسجلت أيضا الاستباقات حضورها الواضح. كما تظهر ملامح الصراع المتعددة في هذه الدار، فقد كان هناك الصراع الديني، متمثلا في طرفين ظاهرين: الطرف الأول هو ابن فطومة، ويندرج معه بطبيعة الحال أبناء القافلة من دار الإسلام، والطرف الثاني جاء متمثلا في حكيم القمر ويندرج معه أهل دار المشرق، ولكن التجلي الظاهر جدا لهذا الصراع قد تمثل في اللقاء الذي جمع ابن فطومة مع كاهن القمر.
وكانت الوسائل المستخدمة في هذا الصراع هي الحجج الدامغة من الطرفين لتقويض حجج الآخر. فابن فطومة يعبد الله الواحد الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وكاهن القمر يعبد القمر الذي يظهر واضحا في جو السماء ويغيب أيضا. وقد اعتقد ابن فطومة بقدرته الكبيرة على دحر كاهن القمر في هذه النقطة، ولكن رد الكاهن لم يكن سهلا، فقد قال له نحن نعبد ما نرى، أما أنتم فتعبدون ما لاترون. كما أبدى ابن فطومة تعجبه من الحرية الجنسية التامة على أرض دار المشرق، في حين هناك قيود منظمة لها في دار الإسلام، ولكن الكاهن قال له وهل أسعدتكم هذه القيود، أم أنها كانت سببا كبيرا في عقدكم النفسية، واحتياجكم الكبير للجنس حتى أصبح مشكلة حقيقية. ولكن ابن فطومة قال له حتى الحيوانات تغار على أنثاها وأنتم لا تغارون فقال له الكاهن يجب أن نكون أفضل من الحيوانات.
وأخبره ابن فطومة بان الدين في دار الإسلام يدعو إلى العدالة والرحمة وحب الخير، فكان رد كاهن القمر عليه بأن دين دار المشرق لا يدعي ما ليس فيه، مثلكم. كما أبدى ابن فطومة تعجبه الكبير من إله لم يرسل لهم رسالة أصلا، فكان رد الكاهن إن القمر يوحي بأن الحياة قصيرة فاغتنموا ما فيها من متعة. وقد انتهى هذا الصراع وكل منهما على رأيه، وإن كان ابن فطومة بدأ يشعر بغصة في الحلق والنفس، لأن أهل دار الإسلام لم يستطيعوا أبدا أن يلتزموا بتعاليمه كما ينبغي أن يكون، بل إن الأمر قد يصل بهم بأن يكون الدين في واد وهم في واد آخر. ويعد هذا الصراع صراعا نبيلا، لأنه التزم بشرف الخصومة فكل منهما يدلي بحججه فقط ولم يتطور الأمر لاتخاذ أحد الطرفين سلوكا مشينا ضد الآخر. ومن مظاهر نبله أن كل واحد يكشف عن عقيدته باتزان شديد.
وهناك ملمح آخر من ملامح الصراع وهو الصراع العاطفي، وقد ظهر ذلك بوضوح شديد حينما وقع ابن فطومة في حب عروسة، وقد كانت نتيجة هذا الصراع في صالح ابن فطومة، لأنه حصل عليها وعاش معها أجمل سنوات العمر. وهناك صراع زمني بين الحاضر والماضي، الحاضر متمثلا في عروسة والماضي ظهر متمثلا في خطيبته السابقة، ولكن نتيجة هذا الصراع كانت في صالح الحاضر، فقد عاشه ابن فطومة مكتفيا به عن الماضي وما فيه من شقاء. وهناك صراع العادات والتقاليد، وقد ظهر ذلك بوضوح شديد وزلزلت نفس البطل بسبب ذلك زلزالا شديدا، من ذلك مسألة الملبس والعري، فابن فطومة متعود على الملابس الضافية التي تستر الجسد على نحو ما هو موجود في دار الوطن، ولكنه فوجئ بالتعري التام لسكان دار المشرق جميعا حتى أصبح هو نفسه بملابسه وكأنه هو الشاذ عنهم، وقد انتهت نتيجة هذا الصراع بتغلب عادة أهل دار المشرق على ابن فطومة فأصبح يسير متخففا كثيرا جدا من ملابسه حتى لا يلفت له الأنظار.
ومن العادات أيضا عادات أهل هذه الدار في الارتباط فالأمور في غاية السهولة عندهم، فإذا رغب رجل في امرأة ورغبت فيه يعيشان مع بعضهما حتى يملا، فيبحث كل منهما عن بديل لصاحبه، دون أن تصاب نفسيته بأذى، وإذا وجد أولاد فإنهم يكونون مع الأم وباسمها. وقد رضخ ابن فطومة لهذه العادة الغريبة في ارتباطه بعروسة الفاتنة. وهناك الصراع مع قانون دار المشرق، فقانون هذه الدار يقضي بأن الأولاد ينسبون إلى الأم وبالتالي تصبح عقيدتهم هي عبادة القمر، ولكن ابن فطومة حاول أن يربي أبناءه على تعاليم الإسلام، ففشا أمره، فكان نصيبه الطرد من هذه الدار تاركا حبيبته عروسة الفاتنة وأولاده جميعا.
يبدو للمتأمل في هذه الكتلة السردية الخاصة بدار المشرق بأنها ترمز إلى إفريقيا، فالشمس الشديدة الإشراق واللون الأسمر لسكانها والمعيشة القريبة جدا من البدائية كل ذلك يوحي بإفريقيا قبل أن يتطور الكثير من بلدانها.
* * *
بعد ذلك ينتقل ابن فطومة إلى الدار المجاورة لدار المشرق، وهي دار الحيرة، فيستقل القافلة التجارية ويظل سائرا في الصحراء الممتدة شهرا كاملا هي مقدار المسافة بين الدارين المتجاورتين، ثم يصل إلى دار الحيرة، فيرى أسوارها من بعيد وعلى الفور يظهر تقدمها الشديد عن دار المشرق التي تتميز بالبدائية الواضحة. يبدو الحدث الرئيسي في هذه الدار متمثلا في وصول ابن فطومة لها، وقيام الحرب بين دار الحيرة من ناحية ودار المشرق من ناحية أخرى وانتصار دار الحيرة الحاسم على دار المشرق، وقتل الكثير من أهلها وأخذ الباقي منهم عبيدا ، ومنهم بطبيعة الحال عروسة التي رآها ابن فطومة، واشتراها من سوق الجواري وهي معروضة للبيع، ولكن الحكيم زيدج حكيم دار الحيرة، يرغب فيها بشدة، فيرفض ابن فطومة تسليمها له مما يجعله يلفق له تهمة ويزج به في السجن عشرين عاما متصلة، ولكنه يخرج بعد حدوث ثورة يعفو فيها قائد الثورة عن المسجونين في العهد السابق، ويدخل كاهن الملك السجن ويخرج ابن فطومة باحثا عن عروسة فيعرف أنها قد غادرت دار الحيرة متوجهة إلى دار الحلبة، فيقرر الذهاب إلى دار الحلبة تاركا دار الحيرة.
تظهر بعض الشخصيات في هذه الدار إلى جانب شخصية البطل المحوري، ومن هذه الشخصيات شخصية الحكيم زيدج، وهو رجل متقدم إلى حد ما في العمر، وله قوة جسدية واضحة ورغبة في الحياة عارمة، وهو لا يتميز بالإنسانية، وإنما استغل قربه من الملك ونفوذه في خطف عروسة التي لا تطيقه من حبيبها، واستغل سلطته في تلفيق تهمة له جعلته يقبع في السجن عشرين عاما متصلة. أما حالته النفسية فهو يتميز بالأنانية الشديدة والشراهة الكاملة على العكس من لقبه الذي يتلقب به وهو "الحكيم" وحالته النفسية ليست متزنة، وعقله عقل تآمري لا يرعوي عن ارتكاب الجرائم من أجل الوصول إلى هدفه حتى ولو كان هذا الهدف رخيصا. وقد نال في النهاية جزاء عادلا وشرب من نفس الكأس التي سقاها لابن فطومة، فقبع في نفس السجن في نهاية حياته.
ومن الشخصيات في هذه الدار شخصية عروسة، وهي هنا في أسوأ حالاتها، فقد تعرضت لأسوأ أنواع الألم، حيث فقدت أولادها جميعا في لحظة واحدة، ولم تعرف عنهم شيئا، وقُتل أبوها أمام عينيها، وتم أسرها وبيعت في سوق الجواري، وما كادت تطمئن بأن حبيبها وأبا أولادها ابن فطومة اشتراها حتى فقدته أيضا بتدبير الحكيم زيدج الذي دبر له مكيدة وأودعه في السجن عشرين عاما، واستأثر بعروسة رغم أنها لا تطيقه، ومن ثم فقد فقدت اتزانها النفسي إلى أقصى درجة وبدت شاحبة الجسم والنفس والعقل، ورأت أقسى ما يمكن أن تراه امرأة في هذا العالم. أما ابن فطومة نفسه فقد لاقى الأمرين في هذه الدار، حيث فقد أولاده وحبيبته وثروته وعشرين عاما كاملة من عمره قضاها في سجن تحت الأرض لا يكاد يرى فيه بصيصا من نور حتى كاد يفقد قواه الجسدية والنفسية والعقلية، ولكنه في النهاية خرج بعفو عام من قائد الثورة، واسترد ماله، ولكنه لم يسترد عروسة فقد رحلت إلى دار الحلبة.
تبدو طبيعة البنية المكانية في هذه الدار بملامح مختلفة، ومن هذه الملامح المكان الفندق الذي نزل فيه ابن فطومة حينما وصل إلى هذه الدار، وهو فندق يبدو عليه نوع من الأبهة والفخامة والأثاث الذي يكشف عن تقدم هذه الدار كما أن الطعام فيه حسن، ولكنه أغلى من دار المشرق بطبيعة الحال، وهو مكان عام ينزله أي إنسان خصوصا الغرباء، في مقابل أجر، وبه غرف متراصة لها هيئة حسنة. وهناك الشوارع والساحة التي عرضت فيها عروسة وغيرها للبيع، وهي أماكن عامة واسعة، كما أن هناك البيوت المنظمة التي تكشف بوضوح عن تقدم هذه الدار.
على أن المكان المحوري في هذه الدار هو السجن الذي سجن فيه ابن فطومة عشرين عاما ظلما وبهتانا، وهو مكان مخصص للعقاب، وهو متطرف جدا في عاصمة دار الحيرة، يكاد يكون مظلما كئيبا جدا، والبعض ممن دخله قضى فيه أكثر من نصف عمره، وهناك من يفقد حياته وهو فيه، وهو أيضا مكان مزدحم بالمساجين عليه حراسة مشددة.
وهناك أيضا قصر الملك الإله فأهل هذه الدار يعبدون الملك، وهم يعتقدون أن الإله يحل في جسد ملكهم فينطق بالحق الحاسم. وهذا القصر شديد الفخامة، له هيبة واضحة في النفوس. وأقل منه درجة قصر الحكيم زيدج الذي دار فيه لقاء بين ابن فطومة من ناحية والحكيم زيدج من ناحية أخرى. وكل هذه الأماكن أماكن صنعتها يد البشر على اليابس، ومن هنا فلا نجد أماكن طبيعية من جبال وصحراء أو بحار وأنهار وغيرها.
أما البنية الزمنية في هذه الدار فقد تراوحت بين التوافق الزمني، حيث يسير السرد سيرا طبيعيا مع الحدث، والارتداد الزمني، حيث يقطع السارد التسلسل الزمني للحدث ويعود بذهنه إلى حادثة وقعت في الماضي ولها تأثيرها الضاغط على الشخصية، وقد حدث ذلك كثيرا في ذهن ابن فطومة حينما كان يتذكر أولاده في دار المشرق، كما أن الاستباق الزمني له حضوره أيضا على نحو ما نجد من تشوف ابن فطومة للقاء عروسة بعد معرفته بالعفو عنه أو لقائها في دار الحلبة بعد معرفته بسبقها إليها. أما عن ملامح الصراع في هذه الدار فقد ظهرت منه ملامح متعددة، ومن هذه الملامح ملامح الصراع على المرأة، وقد ظهر ذلك في صراع الحكيم زيدج مع ابن فطومة على عروسة ومحاولة كل منهما المستميتة من أجل الظفر بها. وكانت وسائل ابن فطومة في هذا الصراع هو ماله ودنانيره الذهبية التي لم يبخل بها في شراء عروسة من سوق الجواري، وظفر بها فعلا، وكانت وسائل الحكيم زيدج هي سلطته ونفوذه وقد أزاح ابن فطومة من طريقه بالزج به في السجن، وأخذها لنفسه. وكان هذا الصراع غير نبيل من جانب هذا الحكيم زيدج فقد اتسم بالشره والأنانية، ولكنه كان نبيلا من جانب ابن فطومة لأنه يعيد إليه حبيبته وأم أولاده.
وكانت نتيجة هذا الصراع تدميرا هائلا لكل أطرافه، فالطرف الأول، وهو البطل ابن فطومة ذهب إلى غياهب السجن عشرين عاما متصلة، وفقد عروسة وفقد ماله وقبل ذلك فقد حريته، والطرف الثاني، وهو الحكيم زيدج على الرغم من فوزه بعروسة فقد لاقى الأمرين من عروسة، لأنها لم تكن تطيقه أصلا، وقد ترك ذلك في نفسه أشد الغصص، وقد اعترف بذلك لابن فطومة حينما زُج به في السجن، وعرفه ابن فطومة. وعروسة التي تصارع عليها الاثنان لاقت أشد الألم، فقد خطفها زيدج وأجبرها على المعيشة معه، وهي دامية القلب بسبب ضياع أطفالها وقتل أبيها وفراقها لحبيبها.
وهناك الصراع الديني، وقد طالت دهشة ابن فطومة من عبادة أهل دار الحيرة، فهم يعبدون ملكهم من دون الله، وحينما تقابل ابن فطومة مع الحكيم ديزج في بداية وصوله إلى دار الحيرة شرح له هذا الحكيم سبب عبادة الملك، فأحيانا يحل في جسده الإله فينطق بالحق الصراح، وبطبيعة الحال لم يقتنع ابن فطومة بعبادة الملك، كما لم يقتنع الحكيم زيدج بعبادة الله مثل ابن فطومة. ومن ملامح الصراع في دار الحيرة ذلك الصراع الدولي، الذي نشب بين دار الحيرة من ناحية ودار المشرق من ناحية أخرى، وقد كان هناك سبب معلن لهذه الحرب، وهو سبب نبيل، وسبب غير معلن، وهو غير نبيل.
أما السبب المعلن فهو تحرير دار الحيرة للعبيد في دار المشرق، حيث جعل حكام دار المشرق من شعبهم عبيدا لهم، وأما السبب غير المعلن فهو الطمع في خيرات دار المشرق وبيع سكانها في سوق العبيد والجواري. وقد كانت عدة دار الحيرة في هذا الصراع جيشها القوي وقوتها الحربية الظاهرة، في مقابل ضعف دار المشرق، مما جعل كفة الصراع تميل إلى جانب دار الحيرة فتضم دار المشرق إليها بسهولة شديدة وتنهب منها خيراتها.
ومن هنا فإن هذا الصراع لم يتسم بالنبل من جانب دار الحيرة. وهنا يستطيع القارئ أن يربط في ذهنه بين ما فعلته دار الحيرة مع دار المشرق وما فعلته أوروبا مع إفريقيا حينما انطلقت لنهب خيراتها وتشريد سكانها دون وازع من ضمير. وحينما استعاد ابن فطومة عافيته بعد إطلاق سراحه وعرف بأن عروسه غادرت دار الحيرة إلى دار الحلبة انضم إلى القافلة الذاهبة إلى دار الحلبة، وظلت هذه القافلة في سيرها شهرا كاملا هي مقدار المسافة في الصحراء الممتدة بين هاتين الدارين حتى لاحت له أسوار دار الحلبة الفخمة.
* * *
يظهر الحدث المحوري في هذه الكتلة السردية المخصصة لدار الحلبة من خلال دهشة ابن فطومة من التقدم الهائل في هذه الدار ودهشته من الحرية الطاغية فيها، بحيث يمكن القول إن أهم ما يميز دار الحلبة هو الحرية الطاغية التي يتمتع بها المقيمون على أرضها، هذه الحرية التي أدهشت ابن فطومة ورآها تقترب من الفوضى العارمة. وما أدهشه أيضا في هذه الدار هو سماعه للآذان الذي لم يسمعه منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، ثم لقاؤه بسامية المسلمة وزواجه منها وإنجابه لثلاثة أولاد تباعا، ولقاؤه مصادفة بعروسة التي أخبرته بزواجها من بوذي وعزمها على الرحيل إلى دار الجبل، مما أيقظ في قلبه الهدف الأساسي من رحلته وهو الذهاب إلى دار الجبل، فيقرر الرحيل إلى دار الأمان التي تبعد شهرا عن دار الحلبة.
يظهر المكان في دار الحلبة عبر تجليات مختلفة، منها المكان الفندق، الذي نزل فيه ابن فطومة بمجرد وصوله إلى دار الحلبة، وبطبيعة الحال هو مكان يضم أشتاتا مختلفة من النازلين فيه، وهو ذو غرف يبدو عليها الفخامة والترف من أثاث وطعام وخدمة، ولكن تكلفة الإقامة فيه مرتفعة عما سبقه من فنادق، وهناك المكان الشارع، وما يبدو من خلاله من بيوت فخمة تدل على مستوى معيشي مرتفع جدا لأهل هذه الدار، وقد حمل الشارع لابن فطومة إشارات مدهشة عن مدى الحرية الكبيرة الممنوحة لأهل هذه الدار، فقد رأى بعينيه مظاهرات مؤيدة للحرب ضد دار الحيرة التي انتصر عليها جيش دار الحلبة وضم أرضها وما يتبعها من دار المشرق إلى دار الحلبة فأصبحت واسعة جدا، ولكنه وجد مظاهرات حاشدة ضد هذه الحرب التي راح ضحيتها الكثير من القتلى، كما أنه رأى مظاهرات للشواذ ومظاهرات لأهداف مختلفة جدا ومتضاربة، ولكن دهشته الأشد كانت حينما سمع صوت الأذان، لأول مرة منذ أكثر من ربع قرن حينما ترك وطنه دار الوطن، لدرجة أنه تساءل هل دار الحلبة مسلمة، ولكنه عرف أن الحرية الدينية متاحة للجميع في دار الحلبة، والكل يعبد ربه بطريقته دون أن يعترضه أحد، وتوجد أماكن للعبادة خاصة بكل فئة.
وهناك أيضا المكان المسجد الذي صلى فيه ابن فطومة وتعرف على شيخه. وهناك بيت شيخ المسجد الذي استقبل فيه ابن فطومة، وجلس مع أسرته وتعرف على سامية ابنة الشيخ وأنجب منها ثلاثة أولاد تباعا، وهناك المحل الذي شارك فيه ابن فطومة أخوين مسيحيين، وجلس فيه فجاءت عروسة هذا المحل وعرفها ابن فطومة وعرفته، وأخبرته أنها الآن متزوجة من رجل بوذي، وأنها تستعد للسفر إلى دار الجبل، فاستيقظ الرحالة داخل ابن فطومة، وقرر استكمال رحلته إلى دار الجبل. كل هذه الأماكن أماكن من صنع البشر، تبدو عليها الفخامة التي تعكس تقدم دار الحلبة وهي تنقسم بين الأماكن الخاصة مثل البيت والأماكن العامة مثل المسجد.
وظهرت البنية الزمنية من خلال التوافق الزمني، ولكن بنية الاستباق كانت حاضر بقوة، فقد كان ابن فطومة دائما ما يقفز بذهنه إلى كيفية لقائه بعروسه في هذه الدار الواسعة جدا والمزدحمة جدا بنفس القدر من اتساعها. وظهر الارتداد أيضا على نحو ما نجد من عودته بالذاكرة إلى الوراء حينما سمع الآذان في دار الحلبة فتذكر على الفور دار الوطن.
أما عن ملامح الصراع في هذه الدار فقد ظهرت له ملامح متعددة، منها الصراع الدولي، فقد قامت الحرب بين دار الحلبة من ناحية ودار الحيرة وما يتبعها من دار المشرق من ناحية أخرى، واستطاعت دار الحلبة أن تنتصر وتضم أراضي دار الحيرة ودار المشرق إلى أراضيها، وكانت وسائل الصراع هي القوة الغاشمة، خصوصا من دار الحلبة التي تمتلك جيشا شديد البأس استطاعت به أن تدحر دار الحيرة. وكان السبب الجوهري للصراع هو الطمع في خيرات دار الحيرة ودار المشرق، على عكس المعلن من تحرير العبيد. وهو سبب لا يتسم بالنبل. وهناك صراع الآراء، وهذا الصراع تجلى من خلال المظاهرات الكثيرة المتضاربة، فكل فئة لها رأي معين في قضية ما تنزل إلى الشارع وتعبر عن رأيها دون أن تعترضها قوات الأمن، بل إن هذه القوات تقوم بحراستها.
وهناك الصراع العاطفي، وقد تجلى ذلك في نفس ابن فطومة حينما تعرف على سامية وأعجب جدا بشخصيتها وتزوجها وأنجب منها ثلاثة أطفال تباعا، وهو كان عاشقا لعروسة لا ينساها، وعلى الرغم من فوز سامية به وزواجها منه فإنه حينما رأى عروسة وعرف عزمها على الرحلة إلى دار الجبل قرر هو الآخر استئناف رحلته. ويستطيع المتأمل لهذه الكتلة السردية التي رصدتها الرواية لدار الحلبة أن يجد تراسلا واضحا مع الولايات المتحد الأمريكية، فقد كونت معسكرا يطلق عليه المعسكر الغربي، يضم امريكا وأوروبا وما لهما من مستعمرات في إفريقيا.
وقد انضم إلى القافلة التجارية المتوجهة إلى دار الأمان وظل شهرا كاملا معها في الصحراء الممتدة هي مقدار المسافة بين دار الحلبة من ناحية ودار الأمان من ناحية أخرى، حتى لاحت له أسوار دار الأمان، ودخلها مع القافلة التجارية وأقام في فندقها.
* * *
يظهر الحدث الأساسي في الكتلة السردية المخصصة لدار الأمان من خلال إقامة ابن فطومة في الفندق واصطدامه بعادات غريبة جدا لم تخطر له على بال، فقد رأى دارا متقدمة جدا لا تقل في تقدمها عن دار الحلبة، ولكن الفرد فيها يفتقد تماما للحرية على عكس دار الحلبة، فابن فطومة نفسة حينما استأجر غرفة في الفندق وجد أن الغرفة بها سريران، فتعجب، ولكنه عرف أن هناك ملازما له من أهل دار الأمان، في حله وترحاله، ينام معه ويستيقظ معه بل يدخل الحمام معه، فأراد ابن فطومة أن يغادر دار الأمان فورا، ولكنه عرف أن لا سبيل إلى ذلك، فلن تتحرك القافة قبل عشرة أيام، فوطن نفسه على ذلك، ولاحظ أبن فطومة أن البيوت كلها على طراز واحد ولون واحد والشوارع متساوية في كل شئ، مع فخامة واضحة أيضا، وأن الشوارع خالية تماما من السكان، فالكل يعمل، سواء كان رجلا أم امرأة، أما المسنون والأطفال فلهم أماكن خاصة بهم. وكانت السمة الغالبة على دار الأمان هي العدالة التامة. ولكنه لم يستطع أن يظل بها أكثر من عشرة أيام.
تظهر ملامح المكان في دار الأمان عبر تجليات مختلفة، منها المكان الفندق، وهو المكان الذي أقام فيه ابن فطومة، وهو مكان حسن وبه غرف ذات أثاث حسن وطعامه جيد مثل دار الحلبة، ولكن ابن فطومة فقد فيه راحته بسبب ذلك الملازم له كظله. وهناك الشواع وما يظهر فيها من بيوت فخمة شديدة التشابه ببعضها وتدل على العدالة التامة بين السكان جميعا. وهناك المكان المخصص للأطفال وكم كانت دهشته حينما عرف أن الأطفال تنهض الدولة بتربيتهم تربية صارمة، وتفصلهم تماما عن آبائهم منذ نعومة أظفاهرهم. والمكان المخصص للمسنين الذي شاهد فيه رجلا ثمانينيا يتزوج من امرأة في مثل عمره دون أن يمنعهما عمرهما المتقدم من الاستمتاع بحياتهما. وقد ظهر الماء في هذين المكانين مما يساعد النفس على الراحة.
أما البنية الزمنية التي تجلت ملامحها في الكتلة السردية المخصصة لهذه الدار، فقد ظهر منها التوافق الزمني، وظهر الاستباق حينما سأل ابن فطومة عن عروسة، وعرف أنها قد غادرت إلى دار الغروب، لكي تنطلق منها إلى دار الجبل، وظل ذهنه منشغلا بلقائها في المستقبل، كما أن الارتدادات كانت كثيرة،وظهر ذلك في عمليات المقارنة بين ما يراه ابن فطومة ويدهشه وبين ما سبق أن رآه من قبل في الدور التي مر عليها، خصوصا دار الحلبة.
وتظهر ملامح الصراع في هذه الكتلة السردية المخصصة لدار الأمان من خلال الصراع الدولي، فقد أشارت هذه الكتلة إلى احتمالية نشوب الصراع الرهيب بين دار الأمان من ناحية ودار الحلبة من ناحية أخرى، وكان السبب هو الخلاف حول آبار المياه الواقعة في الصحراء ما بين الدارين، وحينما دخلت دار الحلبة في صراع مع دار الحيرة تنازلت عن هذه الآبار لدار الأمان حتى لا تدخل في حرب على جبهتين، ولكن بعدما ذهب التهديد عنها بدأت تطالب دار الأمان بهذه الآبار، وكان تعجب ابن فطومة كبيرا من احتمالية نشوب صراع هائل بين هاتين الدارين الكبريين على آبار مياه في الصحراء رآها لا تستحق أن تدمر حضارتين كبريين نفسيهما من أجلها. وكان ابن فطومة يعرف هذا الخلاف وهو في دار الحلبة، وحينما مر وهو متوجه من دار الحلبة إلى دار الأمان على هذه الآبار تعجب من أن تكون هذه الآبار البسيطة سببا للحرب.
وهناك الصراع من أجل الحرية الشخصية، وهذا الصراع دخل فيه ابن فطومة مجبرا، فقد رصدت دار الأمان له "فلوكة" يلازمه في حله وترحاله وفي صحوه ومنامه، حتى في دخوله الحمام، وقد حاول ابن فطومة أن يغادر دار الأمان فورا، ولكنه عرف أن القافلة لن تتحرك قبل عشرة أيام، فوطن نفسه على ذلك. وهناك صراع من أجل اللحاق بعروسه، ولكنه لم يستطع أن يلحق بها، فقد عرف أنها فعلا جاءت دار الأمان، ولكنها غادرتها إلى دار الغروب.
ويبدو للمتأمل فيما تبثه هذه الكتلة السردية عن دار الأمان أنها تتراسل مع المعسكر الشرقي، فقد ركزت تركيزا كبيرا على قيمة الاشتراكية في مقابل غياب الحرية، فالدولة هي كل شئ، والأفراد يتمتعون بالعدالة التامة في العمل والدخل، والأطفال تكفلهم الدولة وتربيهم بطريقتها. وبعد انتهاء الأيام العشرة انضم ابن فطومة للقافلة التجارية الذاهبة لدار الغروب، وظلت القافلة تسير شهرا كاملا في الصحراء الممتدة، حتى وصلت إلى دار الغروب.
* * *
يبدو الحدث المحوري في هذه الكتلة السردية المخصصة لدار الغروب من خلال وصول ابن فطومة لهذه الدار الغريبة، فقد كانت هي الدار الوحيدة التي ليس لها أسوار وليس فيها فندق أو بيوت أو شوارع، وليس فيها أي مظهر من مظاهر تدخل الإنسان في الطبيعة، في هذه الدار كل شئ متاح، فهي واسعة جدا، ولها هواء ساحر وبيئة لا شبيه لها، والفاكهة الطازجة على الأشجار الخصيبة متاحة للجميع. وقد وجد ابن فطومة شيخا وحوله مريدون يجلسون تحت شجرة ولكم كانت دهشته شديدة حينما أخبره الشيخ بسر نفسه، فقد كان الشيخ يدرب مريديه على تحفيز قواهم الداخلية وإطلاقها من عقالها، ويهيئهم في رحلتهم إلى دار الجبل، فقد كان هذا الشيخ يستهدف أن يصل بمريديه إلى الطيران والتحليق في السماء بغير أجنحة، فانضم ابن فطومة إلى حلقته، وبدأت تظهر ملامح من قواه الداخلية، ولكن جيش دار الأمان وصل إليهم، وقد وقعت الحرب بين دار الأمان من ناحية وبين دار الحلبة من ناحية أخرى، فأرادت دار الأمان أن تضم دار الغروب إليها حتى لا تسبقها دار الحلبة لاحتلالها فتطوق دار الأمان، وقد أصبحت دار الغروب خاضعة لقوانين دار الأمان الصارمة، فهي لن تسمح لأي فرد بعدم العمل والانخراط في قانونها، وهنا تم تخيير الناس بين شيئين: الشئ الأول الخضوع التام إلى قوانين دار الأمان، والشئ الثاني الرحيل إلى دار الجبل، وهنا اختار ابن فطومة الرحيل إلى دار الجبل.
تظهر البنية المكانية في دار الغروب ذات نسق خاص، فهي دار تنتمي إلى الطبيعة الخصبة، في آبارها شديدة العذوبة، وأشجارها وافرة الثمار الناضجة، وهوائها الساحر، وشمسها الرقيقة. وليس فيها بيوت خاصة بأهلها، وإنما يعيش فيها الناس وكأنهم جزء من الطبيعة. وتجلت البنية الزمنية من خلال التوافق الزمني والارتدادات الزمنية التي ذكرها الشيخ لابن فطومة عما حدث في حياته السابقة، فكانت دهشته شديدة عن كيفية معرفته لما في نفسه دون أن يخبره أحد، كما سجلت الاستباقات الزمنية حضورا واضحا، من خلال تشوف ابن فطومة الكبير لدار الجبل التي اقترب منها كثيرا.
ويبدو الصراع في هذه الدار من خلال صراع الإنسان مع نفسه من أجل تنقيتها وتحفيز ما فيها من قوى فائقة، حتى أن الشيخ كان يستهدف بمريديه أن يصلوا إلى الطيران والتحليق في السماء بغير أجنحة، حيث كان يعدهم لرحلتهم المرتقبة إلى دار الجبل. وقد تحقق هذا الهدف جزئيا، فقد ظهرت ملامح القوى الداخلية عند ابن فطومة، فقد ذهب إلى الشيخ فجأة، وحينما سأله الشيخ لماذا جئت؟ أجابه بأنه سمع في نفسه نداءه عليه. ولكن جيش دار الأمان أعجل الشيخ ومريديه عن الوصول إلى استكمال تدريباتهم الروحية. كما ظهر الصراع الدولي، حيث احتلت دار الأمان دار الغروب بسهولة شديدة ودون مقاومة، وفرضت عليها قوانينها الصارمة، ولم تجد القوى الروحية شيئا في صد هؤلاء المغيرين.
وهناك الصراع من أجل اللحاق بعروسة، ولكنها كانت قد مرت على دار الغروب وانطلقت منها إلى دار الجبل، فهي دائما تسبق ابن فطومة، بسبب ما تعرضت له من آلام لا يتحملها بشر، مما جعل قواها الروحية في غاية النقاء، فكانت مجهزة أكثر لرحلة دار الجبل. وهنا بدأ ابن فطومة ينضم للقافلة الذاهبة من دار الغروب إلى دار الجبل، وقد بدأت القافلة تسير عبر الصحراء المترامية، حتى اعترضها أخيرا جبل شاهق، فتم تسلقه، حتى وصل ابن فطومة ومن معه إلى قمته الشاهقة، فلاح لهم جبل آخر بدا قريبا لهم، وعلى قمته الممتدة دار لا تشبه أبدا دور الدنيا، فأشار رئيس القافلة إليها قائلا: هذه هي دار الجبل.
وكان الوصول إلى هذه الدار يتطلب النزول من فوق الجبل والسير في الصحراء الممتدة بين الجبلين، وتسلق الجبل الثاني حتى يصلوا إلى دار الجبل رمز الكمال المطلق القابعة فوقه. وبالفعل هبطت القافلة من الجانب الآخر، وظلت تسير في الصحراء الممتدة بين الجبلين فاندهش ابن فطومة من طول المسافة بينهما، حيث كان يراها قريبة جدا، وهو فوق الجبل الأول. وقد وصلت القافلة إلى حافة الجبل الشاهق جدا جدا الذي تقبع فوقه دار الجبل، وتوقف قائدها عن المسير معلنا نهاية رحلته عند هذا الحد، فطلب من معه أن يصعد بهم الجبل، فقال لهم إن هذا ليس في إمكانه فالصعود لا يحتمل غير فرد واحد بمفرده، فليس هناك طريق ممهد لسير قافلة فيه.
وهنا أعطى ابن فطومه لقائد القافلة دفتره الذي سجل فيه أحداث رحلته منذ غادر دار الوطن حتى وصوله إلى حافة الجبل الذي تقبع عليه دار الجبل، وطلب منه أن يعطي هذا الدفتر لأهله في دار الوطن، ومنحه نظير ذلك أجرا كبيرا. ثم انطلق بمفرده متسلقا طريقا وعرا بمفرده، ثم انقطعت أخباره تماما من بعد ذلك. وقد كان هذا الدفتر هو الحيلة الفنية التي تشكلت الرواية من خلالها، فبدا أن الدفتر يقص ما حدث لا ما يحدث أو ما سيحدث.
ومن هنا فإن الرحلة إلى دار الجبل تختلف اختلافا كبيرا عن الرحلة إلى غيرها من الدور السابقة، فهي الدار الوحيدة التي لا نجد تفاصيل سردية عنها، وإنما السرد عنها يأتي عن طريق الإيحاء بأنها موطن الكمال المطلق، حيث لا يوجد فيها أي نقص، وهي الدار الوحيدة التي تذكر الرواية أنه لم يعد أحد منها لكي يقص عنها ما رآه فيها، وهي الدار الوحيدة التي لا يذهب الذاهب إليها في قافلة أو في جماعة، وإنما يذهب إليها فردا، وهي الدار الوحيدة التي يسلك الذاهب إليها طريقا رأسيا، وليس طريقا أفقيا كما كانت عليه الدور السابقة، وهي الدار الوحيدة التي تحتاج تدريبا روحيا مهولا من أجل الوصول إليها، وهي الدار الوحيدة التي لا يوجد دار من بعدها، وهي الدار الوحيدة التي يحتاج الإنسان إلى قمة جبل شاهق لكي يراها من بعيد. ومن هنا فإن القارئ يستطيع أن يحدس من خلال ذلك بأنها رمز لجنة عدن.
ومن هنا فإن هذه الرواية التي تحمل عنوان «رحلة ابن فطومة» للأديب العالمي نجيب محفوظ كانت ذات زخم فكري شديد الوضوح، وقد كشفت عن دهشة ابن فطومة الكبيرة لأنه وجد رؤى وشرائع وقوانين مختلفة عما كان متعصبا له في دار الإسلام، ولكنه بعد الفحص وجد أن استغلال الإنسان للإنسان والقهر المنظم له والظلم البين تحت شعارات زائفة واستغلال الدين سمات موجودة في كل الدور التي مر بها.
وقد كانت كل دار تدعي لنفسها التميز وامتلاك الحقيقة على مستوى الكلام والشعارات، ولكن رغم جمال وبريق المبادئ فإن تطبيق هذه المبادئ لم يخل أبدا من عوار في كل دار. ومن هنا فقد كشفت هذه الرواية عن تمثلات مختلفة ظهرت في أماكن وحضارات مختلفة في العالم، ولكنها أبدا لم تبلغ شأو الكمال. وعلى الرغم من وجود إيجابيات في كل دار فإن النواقص كانت هائلة أيضا بقدر هذه الإيجابيات، مما جعله دائب البحث عن دار الجبل التي يقال عنها إنها موطن العدل والكمال والراحة.
وعلى الرغم من وجود سبع دور مر بها البطل، وكل دار لها كتلتها السردية فإن هذه الرواية قصيرة نسبياـ حيث تقع في 130 صفحة ـ ولكنها مليئة بالأفكار المختلفة، وتتميز بالإحكام. وهذه الرواية تسبح في جو من الماضي ومتعلقاته، ولكن الإسقاطات على الحاضر واضحة جدا. وقد كانت الرحلة أفقية وذات اتجاه واحد، ولكن قد يحدث بها وقفات طويلة أو قصيرة لأسباب مختلفة، ولكن عند التوجه إلى دار الجبل كانت الرحلة رأسية. وكانت الناقة هي أداة الرحلة ضمن قافلة من التجار المتنقلين من بلد لبلد، كما أن اليابس متمثلا في الصحراء الممتدة كان له الهيمنة التامة، وليس الماء أو الهواء.
وقد ظهر المكان في هذه الرواية ممتدا ومتنوعا وكأنه يبتلع العالم كله، ولكل مكان مذاقه الخاص وتفاعلات الشخصية المحورية معه. أما الزمان في هذه الرواية فإننا نجدها قد صدرت في عام 1983م، وهي فترة تسجل تعصبا شديدا في أفكار بعض الجماعات في وطننا، مما استدعى تفكيك هذه القناعات الراسخة عن طريق رؤيتها من بعيد في ضوء قناعات أخرى لمجتمعات مختلفة. أما الزمان الداخلي في هذه الرواية فقد جمع بين التوافق السردي والارتدادات الكثيرة والاستباقات أيضا. وعلى الرغم من تنوع أماكن الرحلة فإن اللغة الواحدة كانت هي المعتمدة ولم يكن هناك ما يشير إلى حاجة الرحالة ابن فطومة إلى مترجم. وكان السرد بالفصحى والحوار أيضا بالفصحى، ولكنها فصحى ليست متقعرة، ويظهر فيها بوضوح فائض المعنى بسبب كثرة الانزياحات بين مفرداتها. كما تظهر بكثرة الحوارات التي تعتمد بنية السؤال والإجابة، ولكنها في بعض الأحيان تكون إجاباتها مثيرة للحيرة أكثر مثلما حدث في دار الغروب.
وتكثر أيضا في هذه الرواية المونولوجات الداخلية للبطل، لأنه يقارن دائما بين ما يراه في رحلته من ناحية وبين ما عاشه من تجارب سابقة خصوصا في وطنه الأول من ناحية أخرى، وكثيرا ما كان يشعر بالمرارة لأن ما يتم التشدق به من عدل ما هو إلا كلام ولا يمت للواقع بصلة.
وما يلفت النظر بقوة في هذه الرواية هو نهايتها، لأنها نهاية مفتوحة، حيث فارقنا السارد البطل الذي يستخدم الضمير الأول/ "أنا"، ليعطي سلطة الحكي لسارد آخر يستخدم الضمير الثالث/ "هو" وصل إليه كتاب ابن فطومة الذي خطه بيده قبل أن يصعد الطريق الصعب إلى دار الجبل ليغور في اللانهاية، وهنا تظهر بحق الأهمية الكبيرة للكتابة باعتبارها مختزن التجارب الإنسانية. وتنتهي الرواية بأسئلة كثيرة لا نعرف منها شيئا عن مصير ابن فطومة، وكثرة الأسئلة في نهاية الرواية تحفيز للمتلقي كي يملأ الفراغات السردية بنفسه، كما أن بنية السؤال تعطي نغمة صاعدة في السرد، ويساعد بالتالي في عملية تصوير دار الجبل باعتبارها حلما إنسانيا بعيد المنال.
ومما يميز هذه الرواية أيضا ظهور سمات الأدب الطبيعي فيها، من حيث البشر والحيوان والنباتات والأرض، فكلها أشياء تنتمي إلى الطبيعة، وليس فيها ذكر لمخترعات حديثة. وإذا كان الهدف الأساسي من الرحلة هو الذهاب إلى دار الجبل والعودة منها فإن نجاح بطلها ظل مخايلا لأن وصوله لدار الجبل غير مؤكد في حين كان عدم رجوعه لوطنه مؤكدا، ولكن ظهر نجاح جزء من هدف الرحلة وهو رؤية الوطن من بعيد في ضوء بقية الديار. ويظل حلم الوصول إلى الكمال هو هاجس البشرية الأول في هذا العالم.
أستاذ الأدب والنقد بجامعة أكتوبر