أعجب من المفكّر الذي ملأت الدنيا إبداعاته الأدبية، وصار له كرسي في كل مركز إبداعي في العالم واستطاع تسجيل حضوره بكل اللغات. أعجب من هذا الكبير الذي لم تستطع السنون أن تخطف منه وهج الإبداع إصراره على قراءة التاريخ بخلفية العالم الإسلامي والغرب. يكتب كمن يريد إصلاح العالم الإسلامي، وليس كمن يريد إنشاء الدولة الحديثة. لا شك في أنّنا نشكل الجزء الأساسي من مشكلة الأمة والعالم العربي، لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى دور الولايات المتحدة راعية الإرهاب في العالم التي قال عنها إنّها جحيم العالم، وإلى فرنسا المقيم فيها التي صانت قوانينها دولة العدو أكثر مما صانت الدولة الفرنسية، وإلى ألمانيا التي اشترطت لنيل جواز سفرها الاعتراف بدولة العدو في فلسطين ليطالب بصورة جديدة للإسلام والمسلمين ولا يدين وجه هذا الغرب المتوحّش.ولا أعرف لماذا يُصرّ على استحضار الإسلام بوجهيْه السياسي عند عمر بن الخطاب، والثقافي والقيم الروحية عند علي بن أبي طالب. ومن دون إنذار يلغي المسافة الفاصلة بين الرجلين والزمن الحاضر، وينتقل ليتحدث عن إسلام اليوم، ويمرّ على الحقبتين الأموية والعباسية مرور الكرام. يكتب عن القطيعة بين الإسلام والمسلمين، وعن القطيعة بين الإبداع والمسلمين التي اكتملت، وينعى العالم الإسلام الثقافي، ويبشّر بأنه أصبح «مجرد سلطة ومجرد ثكنة ومجرد جهاد للحماية والدفاع والهجوم أفراداً وجماعات وفقاً لمصالح السلطة مع الغرب». يتابع في بيانه: «لم يقدر المسلمون العرب على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً أن يؤسّسوا دولة واحدة بالمعنى الحديث، ودولة مواطنة يتساوى فيها الجميع» (الأخبار 4/12/2023). يطالب المسلمين العرب بتأسيس دولة حديثة على طراز دولة اليوم قبل أربعة عشر قرناً. كأنّ الدولتين الأموية والعباسية ليستا من أهم الدول في العالم في زمنهما وليستا من تاريخ ما يزعمه أنّه العالم الإسلامي.
لماذا يصرّ على قراءة العالم العربي بالصورة الإسلامية المحمدية؟ ولماذا يريد مقارنة العالم العربي بوجهه الديني المحمدي مع الغرب من دون أن يُطلق عليه الصفة الدينية، ولا أن يتذكّر الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا وفي طليعتها حرب المئة عام ولا يتذكّر حالة الانحطاط التي عاشها الغرب وقي مقدّمتها صكوك الغفران؟
لماذا لا يتذكّر أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي ابنة أوروبا التي أبادت هجراتها إلى أميركا السكان الأصليين وسيطرت على أملاكهم من أراضٍ وبيوت؟
لماذا يستحضر علي وعمر وإبداعات الشعراء والأدباء في الحقبات الأموية والعباسية والأندلسية ولا يستحضر أولئك المبدعين في بلادنا في زمن العثملة ومن ثم الفرنسة والأنكلزة والأمركة؟
بلادنا ليست بعاقر، فالبلاد التي أنجبت أسطورة أدونيس وأنطون سعاده، أنجبت مئات المبدعين في كل مجالات العلوم والأدب والفن والفلسفة. غريب أمرك أيها الكبير، تدعو في العنوان إلى صورة جديدة للمسلمين والإسلام، ويظهر من سياق المقالة أنك تدعو إلى إسلام محمد وعلي وعمر بن الخطاب ومن ثم تصف المسلمين بأنهم أشلاء وأنقاض وأدوات كلهم تابعون، فأي صورة تريدها للمسلمين: صورة الدولة الإسلامية العربية أم صورة الدولة الإسلامية العالمية أم صور الدول الإسلامية في الأمم؟ وهل يمكن لتلك الأشلاء التي تتحدث عنها أن تقيم دولةً؟ وهل صحيح يا أدونيس أننا بحاجة إلى صورة جديدة للمسلمين؟ أم أننا بحاجة إلى إنشاء الدولة الجديدة التي تقوم على رسالة جديدة إلى العالم والكون والفن؟
لفتني كلامك عن الفكر الديني المسيحي الحديث والفكر الديني اليهودي الحديث وتأخذ على المسلمين أنهم لم يوجدوا فكراً دينياً إسلامياً حديثاً.
ليتك يا أدونيس كتبت لنا عن الدين المسيحي الحديث في الغرب ودور هذا الدين في نشوء الدولة الحديثة من وجهة نظرك في الغرب والعالم بشكل عام، إذا كنت تقصد فصل الدين عن الدولة والعلمنة، فهذا إقصاء للدين من المجتمع وليس تنشيطاً له. ليس الدين المسيحي الحديث وراء حركة التطور العلمي في الغرب، بل هو نشوء الدول القومية التي عرفت مصالح الشعوب وعرفت كيف تتعامل مع بعضها لمصلحة هذه الشعوب، ولم يكن آخرها السوق الأوروبية المشتركة ولا عشرات المؤسسات المشتركة التي تعرفها وقد تكون عضواً في بعضها. الأديان يا أدونيس لا تقبل الحداثة، فهي «كلام الله على الأرض» وأنت تعلم أن كلام الله عند المسلمين لا يُناقش، فعندهم شرع الإسلام بحلاله وحرامه باق إلى يوم قيام القيامة.
أما عن الحداثة في الفكر الديني اليهودي، فهذا كلام ليس بمستغرب فقط، بل هو مدان أيضاً. إن كنت تقصد أنّ الديانة اليهودية تطورت من الإصرار على ملكية القبر لزوجة أبرام إلى ملكية الأوطان وطرد الناس من أراضيهم وبيوتهم، وإن كنت تقصد أنّ السامية أصبحت عقدة نفسية عند أمم العالم ودفعت الغرب إلى الاعتماد عليها عبر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين لتحقيق مصالحه في إضعافنا وإتاحة الفرص له لاستغلال كل الموارد الطبيعية في بلادنا والعالم العربي، إن كنت تقصد أنّ الفكر الديني اليهودي استطاع خلق المسيحية الصهيونية، فأنت بذلك محقّ. نعم، فقد ظهرت حداثة الفكر الديني اليهودي في احتلال فلسطين وفي مشروع إبادة الفلسطينيين اليوم في حربهم على غزة والضفة والقدس وكل المدن والقرى الفلسطينية.
أخبرنا عن مساهمة الفكر الديني اليهودي الحديث في شأن من شؤون الحياة. وهل نحن بحاجة إلى فكر ديني إسلامي محمدي حديث أو إلى فكر حديث؟ ثم مَن تقصد بالأنظمة العربية الإسلامية؟ لماذا لم تقل إنّها السعودية وقطر والإمارات ومصر والمغرب ومعظم دول الجامعة العربية؟ ما هي قضايا المصير الإسلامي؟ هل هي كما ذكرت حجاب المرأة الظاهر وحجاب الرجل الخَفي؟ أم أنها قضية نهوض العالم العربي الذي يجب أن يتخلّى عن الإسلام كدولة وعقيدة اجتماعية ويكتفي بأنها علاقة فردية بين الفرد والدين الذي يختاره أو وُلد عليه؟
لماذا عليك يا أدونيس أن تجعل من فلسطين قضية عربية إسلامية؟ كأنك تجهل تاريخ الحرب في فلسطين منذ جيش الإنقاذ الذي كانت مهمته تسليم فلسطين إلى اليهود، إلى مشاريع التطبيع وما بينهما من اتفاقيات اقتصادية وسياسية ومعاهدات؟ وتسأل عن الارتباط العضوي كأنك لا تعلم أن هذه الأنظمة فراخ لا تكبر في قن دجاج بناه الأجنبي. خسرنا فلسطين في حرب النكبة لتنازل الأمة السورية عن إعلان حصرية التعاطي معها وتحويلها إلى قضية عربية إسلامية. يحق لك وأنت على مشارف النصف الثاني من التسعين أن تتحدث عن قضية الإنسان لا عن قضية الأمة وقضية الإنسان المجتمع.
أؤكد لك يا أدونيس أنه انتهى زمن عالم الإسلام العربي مع نهاية الخلافة العباسية، مع أننا عشنا مفاعيله التي قتلت الحياة فينا في زمن حقبة العثملة، ولأن الإسلام الذي تروق لك صورته كان إسلام دمشق وبغداد وطليطلة، وأنه لن يعود إسلام محمد وعمر وعلي مهما حاول المسلمون، ولو لم يخرج الإسلام من مكة إلى دمشق وبغداد لاندثرت الرسالة الإسلامية كما اندثرت رسائل كثير من الأنبياء. لا شك في أنّ الإسلام المحمدي الذي أنشأ دولته في دمشق ومن ثم في بغداد، هو حقبة من تاريخ البلاد مسبوقة بحقب وملحوقة بحقب. وهاتان الحقبتان الأموية والعباسية عبّر الشاعر أحمد شوقي عن الترابط بينهما ببيت من الشعر في قصيدته «قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا»:
لولا دمشق ما كانت طليطلة/ ولا زهت ببني العباس بغدان.
الإسلام حقبة من حقب التاريخ، وليس هو تاريخ الأمم، ولا هو هذه الأمم التي يتواجد فيها مسلمون. وليس المطلوب أن يستمرّ الإسلام كعقيدة اجتماعية ودول في هذه الأمم. يجب الاعتراف بأنه لم تعد هناك دول إسلامية منذ انتهت الخلافة العباسية والدولة الفاطمية، وأن المنطقة ومنها سورية الطبيعية والأمم العربية، دخلت في حقب متعددة آخرها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنّ علينا أن ننظر إلى هذه الحقبة ليس من منظار العودة إلى استحضار الدولة الإسلامية الحديثة، بل استحضار الدولة الحديثة التي يكون على عاتقها مواجهة الغرب الذي لم يبن منه للأمم والشعوب سوى حروب الإبادة والتدمير، ولم يبن منه سوى السيطرة على حريات الشعوب حيث استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإشعال الحروب ووضع اليد على الموارد الطبيعية. لذلك علينا الدعوة إلى إقامة الدولة القومية الاجتماعية التي تحمل الرسالة الجديدة إلى الحياة والكون والفن. أليس السبب في الذي نحن عليه هذا الغرب الذي أبهر كثيراً من المثقفين والمفكرين ولا يزال يبهر بعضهم حتى يومنا؟
هذا الغرب حاقد، لم تشف غليله همجية الحروب الصليبية التي كان يريد لها أن تفعل بنا ما فعله في ما بعد بهنود أميركا، واستاء جداً من هزيمته وعودته منكوسة راياته وحفظ ما حصل له في حطين في ذاكرته، وأظهر حقده عندما عاد خلال الحرب العالمية الأولى ووقف الجنرال غورو على قبر صلاح الدين وقال له: «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
إلى أين عادوا؟ وماذا لهم عندنا من حقوق؟ نعم هذا هو الغرب الذي يريدنا أن نواجهه بصورة جديدة للإسلام والمسلمين. عندما عادوا، لم يكن في بالهم سوى فكرة واحدة هي البقاء في بلادنا إلى الأبد بصورة مباشرة. وإذا تعذّر بصورة غير مباشرة، ولم يخفوا هذا الحلم بل أعلنوه على الملأ.
كتب أنطون سعاده في مقالته «الإمبراطورية الإفرنسية الشرقية»: «ولما رأى ميلريان وبريان أنهما عاجزان عن إبقاء كيليكية، أخذا يصرّحان أنهما لم يقصدا الاستيلاء عليها، أو البقاء فيها على الإطلاق لأن البلاد ليست في حاجة اإى حمايتهما. أما سورية، فإنهما سيبقيان فيها إلى الأبد لأنهما لو تركاها لذهبت صروح الإمبراطورية التي أشادها كليمنصو». كليمنصو هذا الذي لا يخجل الكثير من شعبنا أن يكون له في بيروت شارع باسمه. وقبل أن يغادر جيشهم البلاد، أهدوا كيليكية إلى الأتراك.
ألا يرى أنهم ما زالوا في بلادنا كجرذان يقطعون جذور كل شجرة طيبة. ومن أعظم الأشجار التي قطعوا جذعها ويقطعون كل يوم جذورها، على أمل أن لا يكون حياة منها في هذه البلاد أنطون سعادة.
ليس الحل لمواجهة الغرب بتغيير صورة الإسلام والمسلمين. الحل يا أدونيس هو بإقامة الدولة القومية الاجتماعية الحديثة وجبهة العالم العربي وحمل رسالة سورية الجديدة التي كتبها زعيمنا وزعيمك أنطون سعادة التي هي النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن. لنشوء الدولة الحديثة في بلادنا، نحتاج إلى الكتابة عن عقبتين أساسيتين: الأولى قراءة التاريخ كمصدر نستمدّ منه قوتنا، والثانية دور الغرب في إجهاض مشاريع إنشاء الدولة الحديثة في بلادنا.
عن (الأخبار اللبنانية)