يعود اشتقاق مصطلح "الصهيونية" إلى اللفظة القديمة "صهيون"، التي استخدمت بعد سقوط مملكة يهوذا في أيدي البابليين عام 586 ق. م. وكان يقصد بها أورشليم، تلك التسمية عربية الأصل، التي يروي العهد القديم أنها كانت عاصمة مملكة داود عليه السلام، ثم عاصمة مملكة يهوذا، بعد موت سليمان عليه السلام. أما أول ظهور للمصطلح في العصر الحديث فكان في نهايات القرن التاسع عشر، ويشير إلى تلك الحركة التي كانت تهدف إلى العودة إلى فلسطين، وإنشاء وطن قومي فيها.
ولا ينكر أحد أن تيودور هرتسل كان مؤسس ذلك الاتجاه الذي يدعو اليهود في العالم إلى التوحد من أجل هذا الهدف، وهو من قاد أول مؤتمر صهيوني في بازل في نهايات القرن التاسع عشر، لكن أصول فكرة تأسيس وطن قومي سبقت ذلك بعقود على يد رواد يهود كانوا يعتقدون أن وجودهم المستقبلي مشروط بعودتهم لـ"موطنهم التاريخي"، أمثال يهودا القلعي (1798 ـ 1878)، وتسفي هيرش كاليشر (1795 ـ 1874)، وحاييم لوريا (1821 ـ 1878)، وآخرين.
غير أن الفكرة التي ولدت على أيدي هؤلاء تجددت على يدي جمعية أحباء صهيون التي نشأت في شرق أوروبا عام 1881، وأعلنت أن أي شخص ينتسب إلى بني إسرائيل، ويقر بأنه لا خلاص إلا بتأسيس حكومة خاصة في "أرض إسرائيل"، يمكن اعتباره عضوًا في هذه الجمعية. وهكذا انعقد أول مؤتمر للجمعية في يناير/ كانون الثاني 1882، بعد أن بدأ مؤيدوها في الاتساع في رومانيا، ثم عقد مؤتمرها الثاني في روسيا عام 1887، بعد أن تمكنت من جذب مؤيدين لها هناك. كانت جمعيات أحباء صهيون المتعددة أقرب إلى أن تكون إحياء للفكرة من دون تطبيقها على المستوى السياسي، ولذلك لم يكن مستغربًا حينما ظهر ثيودور هرتسل، وحركة الصهيونية السياسية، أن تختار أغلب هذه الجمعيات الانضمام إلى المنظمة الجديدة. وهكذا لم تكن الفكرة لدى هرتسل منفصلة عن أولئك الذين سبقوه، وأغلبهم كانوا من رجال الدين.
لكن ما فعله هرتسل، وكان مختلفًا فيه عن سابقيه، أنه ومنذ اليوم الأول، حرص على ألا تبقى الصهيونية مجرد فكرة ثقافية، أو توجه ديني، وكانت حركته موجودة من أجل هدف واحد، وهو أن تترجم العبارة "شعب بلا أرض" حتى توصل إلى عبارة "أرض بلا شعب"[1]، فيلتقي في النهاية التعبيران، لتقوم الدولة الصهيونية. ولم تكن الطريق أمام الصهيونية مفروشة بالورود عند اليهود أنفسهم، فقد واجهت رفضًا شديدًا، واستهجان أي تفكير في الانضمام إليها في أول الأمر. ومما يحكى عن المؤرخ اليهودي يوسف كلاوزنر أنه قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في 1897، سأل حاخامًا أميركيًا عن وجود أي صهيوني في الولايات المتحدة؟ فكانت إجابته "نعم! هناك اثنان؛ رجل مجنون يدعى ستيفن وايس، وامرأة مجنونة تدعى هنريتا سولد"[2].
كانت هذه الإجابة تعني أن الحركة الصهيونية لا مستقبل لها في الولايات المتحدة، أو هكذا بدا الأمر، شأنها شأن أي مكان آخر في العالم؛ فقد كانت السنوات الأولى للصهيونية توحي أنه لا مجال لها أمام رفض المفكرين ورجال الدين اليهود؛ خاصة في اليهودية الأرثوذكسية والإصلاحية. وكان رفض الصهيونية نابعًا من سببين أساسيين أحدهما ديني وفكري، والآخر يتعلق بالمصلحة والخوف على اليهود.
الرفض الديني الفكري
كان رد فعل المتدينين اليهود سريعًا في مواجهة الصهيونية؛ حيث اعتبروا أنها تقدم مبررات متعمدة لرفض الديانة اليهودية نفسها، فقد كان في إمكان أي شخص صهيوني التنكر للديانة اليهوديةK من دون أن يمنعه ذلك من اعتبار نفسه "يهوديًا صالحًا". والأكثر من ذلك أن هذه الحركة ادعت أنها الحارس المتقدم لليهود كافة، وليس مجرد خيار سياسي بين بدائل مختلفة. وقد كان السبب الأهم الذي دفع رافائيل هيرش (1808 ـ 1888)، وهو واحد من أهم مفكري اليهودية الأرثوذكسية، لرفض الصهيونية هو فكرة القومية التي قدمتها؛ ويؤثر عنه قوله "إننا لا نرفع صلواتنا من أجل أن نلمع كأمة بين الأمم، ولا لكي نتوحد في أرضنا ... ما يلزمنا هو أن نعبر عن شوقنا للأرض البعيدة فقط عبر الحداد والتمني والأمل، وهذا يتم فحسب من خلال الوفاء الصادق بجميع الواجبات اليهودية في انتظار تحقيق هذا الأمل، وذلك يحرم علينا أن نسعى للم الشمل أو امتلاك الأرض بأي وسيلة غير الوسائل الروحية"[3].
وعلى الرغم أن كلام هيرش كان يعني وجود ذلك الشوق إلى فلسطين، فإنه يعني، وبشكل أوضح، أنه كان يرفض مجرد السعي إلى تجميع اليهود، أو الذهاب إلى فلسطين، أو حتى إقامة الوطن القومي لليهود الذي كانت تنادي به الصهيونية. لقد بدأت معاداة الصهيونية منذ اللحظة الأولى لنشأتها كحركة سياسية في 1887، فكانت الأغلبية الطاغية لليهود الأرثوذكس غير مستعدة لقبول فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين؛ تأتي عبر أي طريق غير التدخل الإلهي، ومن ثم نظرت هذه الغالبية للحركة الصهيونية بوصفها حركة مسيحانية (خلاص أخروي) زائفة.
بل إننا لا نبالغ حين نقول إن رفض فكرة القومية اليهودية، وهي الفكرة الأساسية التي قامت عليها الصهيونية، كان سابقًا حتى على نشأة الصهيونية. وقد عبر أبراهام جايجر (1810 ـ 1874)، أحد أبرز مفكري اليهود في العصر الحديث، وأحد المؤسسين الأوائل لليهودية الإصلاحية، عن أن اليهود طائفة دينية فحسب، قدرها أن تبقى "سراجًا للأمم"، وأن الشتات الذي حدث لهم لم يكن عقابًا على خطاياهم، بل جزءًا من خطة الرب لنشر الرسالة الأخلاقية للعالم، وبالتالي كان عليهم التخلي عن هويتهم العرقية والقومية، ولذلك استبعد جايجر كل الصلوات التي تتحدث عن العودة لصهيون من المعبد الذي كان يديره كحاخام. ولاحقًا، في عام 1885، رفض مجلس اليهودية الإصلاحية في بيتسبرج التعريف القومي للديانة، ثم رفضوا في عام 1896 دعوة هرتسل للدولة اليهودية[4].
لقد كان العداء بين كل من اليهودية الأرثوذكسية والإصلاحية كبيرًا للغاية نتيجة ظروف نشأة كل منهما، لكن عداء قادة الاتجاهين ومفكريهما للصهيونية كان أكبر، وظل يحتل المرتبة الأولى حتى نهاية العقد الأول للقرن العشرين، لدرجة أن الإصلاحيين والأرثوذكس كانوا يتناسون خلافاتهم أمام هذا الخطر الأكبر[5]. وكان كثير من قادة الاتجاهين يرون أن الأيديولوجيا الصهيونية تدعو لدولة يهودية، ليس لضرورة وجود هذه الدولة، بل لأنها اعتقدت أن هذه هي الطريقة العملية لتحقق هدفها المتمثل في نكث العهد الذي قطعه الرب معهم على جبل سيناء، وهو هدف كان من شأنه تحويل اليهود من "أمة مقدسة" إلى "شعب أرضي فانٍ"، وهكذا كانت هذه الأيديولوجيا بالنسبة إليهم تمثل الشر المطلق ضد الشعب اليهودي، وتدمير الديانة اليهودية[6]. في سياق هذا الرفض نفسه، نظر بعضهم إلى الصهيونية على أنها حركة علمانية، وحديثة، وبالتالي فهي مدمرة لكافة القيم اليهودية التقليدية. كذلك فقد نظرت بعض القوى الدينية اليهودية لها ولجهودها لاستعادة الأمة اليهودية على أنه احتقار للأمر الإلهي بالانتظار بصبر للمسيح المخلص، والأخطر من ذلك بالنسبة لهؤلاء المتدينين أنهم فهموا أن تعريف اليهودية على أنها أمة حديثة سيعني فورًا أن يقبل المتدينون أن يتساووا بغير المؤمنين، وهذا ينذر بنهاية تفوق الإيمان الأرثوذكسي داخل اليهودية.
ومع مطلع القرن العشرين رفض مفكر يهودي آخر هو إميل ج. هيرش الصهيونية، ورأى أن بريق فكرة القومية هو بريق كاذب يقود اليهود إلى الضلال، وأن اليهود ليسوا في حاجة إلى هذه الحركة، لأنها ظاهرة سلبية، تعكس الإحساس باليأس، وخيبة الأمل، عند أولئك الذين فقدوا الأمل في الإنسانية[7]. وهكذا لم يكن رفض هؤلاء المفكرين، وكثيرين غيرهم، معبرًا عن شخوصهم فحسب، فقد كانوا يمثلون تيارات واسعة كانت تسير على نهجهم بحكم قيادتهم للفكر اليهودي الأرثوذكسي التقليدي، أو الإصلاحي؛ بمعنى أنه كان هناك تيار عام كاسح يتخوف من التأثيرات السلبية التي قد تتعرض لها الديانة اليهودية نفسها نتيجة الدعوة السياسية للوطن القومي.
الخوف من إثارة الشعوب ضد اليهود
ولم يكن الرفض من أجل المصلحة والخوف على تعرض اليهود للإيذاء بسبب الدعوة لإنشاء وطن قومي، أو تهديد اندماجهم في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، أقل في قوته من الرفض لأسباب دينية فكرية، لكن أهم ما ميز هذا الرفض أنه كان يتراجع كلما تقدمت الصهيونية نحو إنجاز مشروعها، وأن الرافضين من أجل هذا السبب كانوا الأسرع في الهزيمة أمامها بمجرد أن حققت حلمها بإقامة وطن قومي، أما الرافضين فكريًا فكانت هزيمتهم أبطأ كثيرًا، حتى أن من ظلوا محافظين على الرفض إلى يومنا هذا هم من بقايا هذا الاتجاه.
وقد كان الرفض في البداية، انطلاقًا من المصلحة، في ذروته، حتى أن المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في بازل السويسرية 1897، كان من المفترض أن يعقد أصلًا في مدينة ميونيخ، لكن أغلب الحاخامات في ألمانيا، وليس في ميونيخ وحدها، رفضوا ذلك، وأصدروا إعلانًا عامًا ضد الحركة بدعوى أنها ستطرح قضية الانتماء اليهودي للمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، ومدى اندماجهم في هذه الأمم للنقاش[8]. وفي ذلك الوقت، أدان الحاخامات الحركة الصهيونية، ورأوا أنها اتجاه متطرف يتعارض مع تعاليم العهد القديم. وبعد نحو عشرين عامًا من هذا التاريخ، وأثناء النقاشات التي سبقت إعلان وعد بلفور، تحدث إدوين مونتاجو، وهو اليهودي الوحيد في مجلس الوزراء الإنكليزي، عن التخوف نفسه، وقال إن الاعتراف باليهود كقومية، وربطها بفلسطين، سيثير الشك في هويتهم السياسية كمواطنين بريطانيين[9].
ولذلك وجدنا، في الفترة نفسها، كثيرًا من اليهود البريطانيين البارزين، مثل: لوسيان وولف، وكلود مونتفيوري، ولوري ماجنوس، يرون أن الحركة تقوض أمن اليهود في أنحاء العالم. وعبرت الهيئة المعترف بتمثيلها لليهود البريطانيين عن نظرتها لليهود في إنكلترا بوصفهم طائفة دينية فحسب، من دون أي تطلعات قومية انفصالية، وذهب بعضهم أبعد من ذلك بقوله إن الصهيونية "عقيدة فاسدة"[10]. وفي أربعينيات القرن الماضي، كان للمجلس الأميركي لليهودية موقف حاد معاد للصهيونية، حيث أكد على أن أعضاءه يهود بفعل الدين وحده، وهذا كان يعني استبعاد فكرة القومية السياسية تمامًا، ولم يكتف المجلس بذلك، بل ذهب إلى أن ديانة هؤلاء الأعضاء تجعل من الواجب عليهم أن يأخذوا موقفًا عالميًا، وهو موقف كان يعني مناصرة العرب، ومعاداة الرؤية القومية اليهودية، والأكثر من ذلك أن فكرة الولاء المزدوج كانت مصدر قلق كبير لدوائر يهودية كثيرة، خاصة في الدول الغربية، خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي[11].
ولا بد هنا من أن نؤكد على أن الموقف الرافض للصهيونية تعرض لضربتين حاسمتين كانتا علامة على الهزيمة الكاملة؛ أولاهما في عام 1948، مع قيام دولة الاحتلال، والأخرى، وهي الأقوى، في عام 1967 بعد الهزيمة المدوية للدول العربية، والتي أدت إلى انضواء أغلب الإصلاحيين اليهود تحت راية الصهيونية. ويبقى هنا السؤال المهم؛ إذا كنا قد رأينا هذا الرفض موجودًا لدى غالبية اليهود أنفسهم حينما نشأت الصهيونية خوفًا من إفساد الديانة اليهودية، أو من تبعات فكرة القومية، ومخاطر ما قد يتعرض له اليهود نتيجة بحثهم عن دولة يهودية، فلماذا تحرص أغلب النظم العربية الآن على التطبيع مع الصهيونية بعدما تعرضت كل البلاد العربية من دون استثناء إلى أضرار تتفاوت من بلد لآخر بسبب وجود منتجها الأهم المتمثل في الكيان الصهيوني؟ ألم يكن من الطبيعي أن يكون العرب، شعوبًا وحكومات، أكثر رفضًا للصهيونية، وأن يكونوا أكثر إصرارًا على دعم كل من يحارب هذه الفكرة السامة وكل منتجاتها، والتي لا تمثل خطرًا على العرب وحدهم، بل على الإنسانية جمعاء؟
هوامش:[1] - A. Hertzberg: Zionism, in Encyclopedia Judaica. Vol. 21, 2nd ed. Thomson Gale 2007. p. 547.
[2] - Thomas A. Kolasky: Jews Against Zionism. Temple University Press. Philadelphia 1990. P. 1.
[3] - Yakov M. Rabkin: A Threat from within, A Century of Jewish Opposition to Zionism. Zed Books, New York 2006. p. 143.
[4] - Yaakov Shapiro: The Empty Wagon. Primedia, New York, 2018. p. 217 – 219.
[5] - Rabkin: p. 144.
[6] - ibid: p. 145.
[7] - Kolasky: P. 29 - 30.
[8] - A. Zwergbaum: Zionism, in Encyclopedia Judaica. Vol. 21, 2nd ed. Thomson Gale 2007. p. 547.
[9] - Ibid: p. 547.
[10] - Kolasky: P. 17.
[11] - Zwergbaum: p. 547.
أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة
عن (ضفة ثالثة)