يكشف هذا الحوار الثري مع الكاتبة اللبنانية المرموقة عن مدى ثراء عالمها، وتغلغل الوعي المعرفي الفني فيه، وبالرغم من أن الحوار جعل روايتها الأخيرة «أغنيات للعتمة»، والتي ننشر هذا العدد مراجعة لها، مدار اهتمامه، فإنه استطاع أن يكشف للقارئ عن منهجها الفني وعمق رؤيتها للفن الروائي والواقع اللبناني معا.

إيمان حميدان: أؤمن أن ما نكتبه سيؤدي إلى تغيير

دارين حوماني

 

في مقالة لها بتاريخ 6-9-2013 في جريدة "السفير" بعنوان "شركاء الحلم": تكتب الروائية إيمان حميدان: "غريب كيف تعيد الذاكرة مزج الصور والأحداث والكلمات والأفكار بطريقة مبتكرة ... صرت أرى كل تلك الصور مجتمعة في ذاكرة واحدة ... ما عدت أرى لها سوى معنى واحد ألا وهو العداء للفرد، لحريته كإنسان، وتحديدًا لحرية المرأة"، ومن هذا الخلط الصوري العميق للذاكرة وهذا الموقف الإنساني من القمع وانعدام الحرية في شرقنا الحزين، وتحديدًا المرأة، تبتكر إيمان حميدان روايتها الجديدة "أغنيات للعتمة" (دار الساقي، 2023) التي يمكن عدّها صدىً تاريخيًا وحيًا للبنان ولسيرة المرأة على حدّ سواء منذ مطلع القرن العشرين وحتى عام 1982 بأسلوب نقدي وشاعري وسيكولوجي في آن واحد. وفي تماسّ حادّ معنا. ثمة إعادة تأليف لذاكرتنا وللتداعيات التي تشكَّلَ حاضرنا من خلالها. فحكايات حميدان عن بيروت وعنا ما تزال عن عالم مفكّك ومؤلم ومواجهة وقت موحش يُفرض ولا ننتمي إليه. ربما ثمة أشكال أخرى من الفقد والحنين والخيبات، جرعات أخرى من الموت الجوّاني تتغيّر عبر الزمن، لكن المؤكد أن الزمن عبَرَ ولم يتغيّر الكثير من انعدام حرية المرأة في عبوره، لا بل ربما أضيفت إليه انعدامات أخرى للحرية متأتية من ارتفاع منسوب الأصولية الدينية، والتشدّد بالطائفية والمذهبية منذ الربع الأخير من القرن العشرين.

«التوتر سببه إسرائيل وما تلهونا بصراعات ثانية ... من وقت ما خلقت إسرائيل والخراب عم ينام ويوعى معنا ... أنظمة متواطئة ومعدومة الخيال» ... «مع الوقت كبرت المسافة بينها وبين أحلامها ... اعتقدت أن الأمومة قد تملأ ما نقص لكن كل ما أتتها به أمومتها هو تعميق تلك الهوة ... تجري حيواتنا وتأخذ طرقات لم نتوقعها، نفتش عن الأمل ولا نجده.» هي أشياء حميدان وأشياؤنا التي ضاعت فينا ولكن لم تغادرنا، وجدتها فينا صاحبة "خمسون غرامًا من الجنة" لنشعر أننا جزءٌ لا يتجزأ من تلك الحكايا التي يربطها ّ«خيط لامرئي لا يقطعه سوى الموت»، كما تقول حميدان، الشاهدة الإضافية على حزن بيروت من حيث إقامتها في باريس "حيث مصباح كافكا بقي مشتعلًا" كما يقول الروائي التركي نديم غورسيل.

خصّصنا هذا الحوار لهذه الرواية، تخبرنا حميدان أنه سيتبعها جزء آخر سيرتّب حكايات لبنان وصور نسائه من عام 1982 حتى الآن. ولو أن هذه الرواية لا تفترق كثيرًا في بُعدها التأريخي والإنساني والمجتمعي والنفسي عن روايات حميدان السابقة، فيما يخص المرأة، الشيء الثابت في أعمالها، "باء مثل بيت مثل بيروت" (1997)، "توت بري" (2001)، "حيوات أخرى" (2010)، و"خمسون غرامًا من الجنة" (2016) التي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية عام 2016. وإيمان حميدان مارست تعليم الكتابة الإبداعية في البرنامج العالمي للكتابة الإبداعية، جامعة أيوا في الولايات المتحدة، وحاليًا في جامعة باريس 8 في فرنسا، وهو الصف الأول من نوعه باللغة العربية في الجامعة. وكانت حميدان عضوًا في جائزة بوكر العربية لعام 2022. وهي عضو هيئة إدارية في نادي القلم العالمي PEN وقد شاركت في تأسيس نادي القلم العالمي- فرع لبنان. كما تُرجمت أعمالها لعدد من اللغات، الفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية. هنا الحوار معها:

(*) "أغنيات للعتمة" روايتك الخامسة بعد أربع روايات تبحثين فيهن عن المرأة المخبأة فينا التي لم تنجح في قول كل ما تريد قوله وسط عالم ذكوري لديه كل الأسباب الدينية والمجتمعية الكافية ليبقى ذكوريًا ولينجح في إسكاتنا، هل روايتك هذه فصل جديد من محاولات إخراج حكاياتنا المقيمة في العتمة إلى الضوء لقول كل ما يجب علينا قوله، خصوصًا أن المرأة تبدو كشيء ثابت في رواياتك؟

بل أفضّل القول إن المرأة هي الرواية، ومن البديهي أن تكون الأمر الثابت فيما أكتب. وحين نروي المرأة نروي وجودها ومعاناتها بكل المعاني الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والثقافية. أشبّه بطلاتي بالطائر الذي يصفق جناحيه ويرى في الوقت عينه أن النوافذ مغلقة أمامه لكنه لا يتوانى عن التفتيش، فيما يستمر في حلمه بالطيران. أُلبست المرأة أثقالًا وبات جسدها شرطًا، بل رهينة للقيم والتقاليد. شخصيات عليها أن تتعلم كيفية الحرية دون أن تُقتل باسم الشرف أو أن تُدفع إلى المجهول. هذه حرفة بحد ذاتها على المرأة تعلمها كمن تمشي على حبل رفيع، وهي معرضة عليه للسقوط.  لذا تبدو أحيانًا متناقضة في مواقف عديدة، تريد أن تلعب المتوقع منها، ولكن في الوقت عينه تعلم أنها تريد أن تذهب إلى مكان آخر. هي ذات وجود جدلي وعته منذ صغرها، تريد الحرية لكن لا تريد الموت. هي الصمت وكسره في آن معًا، التابو والوقوف في وجهه، هي الذاكرة والحنين والحلم والايمان بالعدالة الإنسانية.

لا أعلم كيف كنت سأكتب رواية لولا الشخصيات النسائية في الرواية، أجبرتها التقاليد الذكورية على تعطيل حياتها الحميمة ورغباتها الأنثوية ودفنها. هكذا تتحول هي بحدّ ذاتها إلى المسكوت عنه كفعل وجود وكتعبير. لكن كل ما قلته لا يكفي، إذ من السهولة أن يقع الكاتب أو تقع الكاتبة في مطب الكليشيهات والنمطية لإسقاط صفات جاهزة على المرأة في وصفها وفي عملية بناء الشخصية. هذا مهم التفكير به حين نكتب. "شهيرة"، الأم والجدة في "أغنيات للعتمة"، لعبت دورها على أكمل وجه؛ ولكنها لم تفقد نفسها ولا قدرتها على قيادة حياتها ولو بالقدر الضئيل. صنعت مستقبلًا وحياة لصغارها وتركت هامش التحرك لزوجها. لعبت على القدر لكنها في أوقات معينة غلبها القدر وأراها حدود لعبتها وهذا شأن إنساني. رغم ذلك حافظت تلك المرأة على دواخلها ونظرتها الخاصة للحياة والمستقبل. هي امرأة المستقبل التي ترى البعيد الآتي، لها بصيرة ثاقبة، أحيانًا تخطئ في التقدير، ولكن غالبًا تنتصر للإنسان فيها وللحرية في داخلها.

(*) تتسلسل الرواية من حكاية لحكاية بشكل دائري، "شهيرة" وتزويجها بالقوة ثم ابنتها "ياسمين" مع حكاية تزويج أخرى دون حب. فابنتها "ليلى" التي لم تتمكن من تنفيذ تمرّدها الشخصي فتحوّل إلى حالة هرب، ثم ابنتها "أسمهان" التي حُرمت من ابنها "كريم" عند الطلاق في ظل "ذكورة يدعمها الشرع وتحرسها القوانين"، هي قضية مؤلمة في مجتمعنا ولم تفلح كل أصوات النساء المظلومات في تعديل هذه القوانين المذهبية التي تظلم المرأة والطفل معًا، إننا أمام بازل روائي يحاول تصحيح المجتمع في علاقته مع المرأة، أهي تصفية حساب خاصة مع المجتمع؟ أم اتجاه للنقد المجتمعي والديني المطلوب تحقيقه في النظر إلى حكايات هؤلاء النسوة وأخريات غلبهن الصمت؟

أميل أكثر إلى القول إنها صرخة مدوية في عالم يسوده غياب العدالة ويغلب عليه الظلم. مع الصرخة لا بد من أن يصل صوتنا ولو بعد وقت. تصفية الحساب هنا لا تنفع ذلك أنني أؤمن أن المجتمع لا يقوم إلا بالتعاون بين رجل وامرأة. تصفية الحساب لا تؤدي إلا إلى مزيد من الشقاق وانعدام الثقة. أحلم أن يقوم مشرّعو القوانين بمبادرة مهمة تكون خطوة مصيرية نحو تغيير القوانين وإلحاق شؤون الأسرة من زواج وطلاق وموت وولادة بالقانون المدني، وليس بالمحاكم الروحية التابعة للأديان. هو حلم ومن الصعب تحقيقه حاليًا في ظل شريعة غاب انهارت فيها مؤسسات الدولة وغاب الحد الأدنى من وجودها.

(*) نرى شهيرة تحب الأدب ثم تستسلم للزواج في عمر الـ14، مثلها ياسمين تزوجت وماتت. ليلى أيضًا استسلمت بعد خيبتها من حبيبها ما تسبّب لها بفقدان توازنها في العلاقة مع المجتمع، وأسمهان لم تتمكن من محاربة "عنف الشرع والقانون"، نساء غلبهن المجتمع، هل تنتظرين من المرأة دورًا للتغيير من خلال أعمالك الروائية والتغلب على المجتمع؟

لم تتوان نساء "أغنيات للعتمة" عن محاولة تحقيق حلمهن، كلّ منهن على حدة، وفي زمن وظرف مختلف. هي أحلام حقيقية ولو ابتسرت، أو أجهضت. أؤمن أن ما نكتب لا بد أن يؤدي إلى تغيير ولو بعد وقت. نكتب ويبدو ما نقوم به كنقاط ماء تحفر في الصخر ولا بد لهذا الحفر أن يصل إلى عمق ما نبتغي. أؤمن بالتغيير، لن أفقد الأمل برغم كل شيء. لا أريد للمرأة أن تفقد الأمل. ما علينا سوى الاستمرار في رفع صوت كل منا بالوسيلة التي تتقن القيام بها.

تاريخ لبنان على لسان امرأة
(*) زمن الرواية يمتد بين عام 1908 وعام 1982، حتى لنكاد نشعر أن الرواية هي توثيق لحكاية لبنان، سنقرأ عن الحرب العالمية الأولى، عن العثمانيين وسفربرلك وحصار الحلفاء البحري، عن الحرب العالمية الثانية والتظاهرات لاستقلال لبنان، تجريد داهش من جنسيته وإعدام أنطون سعادة، إفلاس بنك إنترا، أحداث عام 1958، الحركات الفلسطينية المسلحة التي صار لها شرعيتها في لبنان بعد اتفاق القاهرة، وفاة عبد الناصر، وصولًا إلى الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وغيرها من المحطات المفصلية والتفاصيل من تاريخ لبنان، أهي إحالة إلى الترابط بين التاريخي والشخصي في الرواية، وأن ثمة رغبة في توثيق حكاية لبنان، بالتزامن مع حكاية النساء في ذلك الزمن، الذي لم ينته بعد، كما أظن؟

تمامًا كما قلتِ، هو تداخل التاريخ العام بالتاريخ الشخصي للمرأة، أي امرأة. ما قمت به هو ليس برواية تاريخية، بل محاولة للقول: ماذا لو التاريخ روي على لسان امرأة؟ ماذا لو كانت المرأة جزءًا مرئيًا في صفحاته؟ هكذا أمنح للمرأة مكانًا وصوتًا لتصبح جزءًا من هذا التاريخ بعد تغييبها لقرون. في "أغنيات للعتمة" المرأة شهدت وعاشت وروت وكتبت. المرأة رصدت التغيرات واستشفت أهمية التغير الاجتماعي والسياسي وأهمية العلم والدراسة في هذا التغير. ليلى عانت من الفقدان والتخلي إلا أنها أيضًا اتصلت بالعالم الكبير عبر القراءة وعبر شغفها الأدبي. تاريخ لبنان على لسان امرأة. أمر لم نعهده من قبل بسبب تغييب المرأة وإبقائها في الحيّز الخاص المنقطع عن العام.

(*) "ماتت شهيرة وهي تسأل عن الحرب"... " تعبت من الماضي وخيباته، تعبت من التكرار، تكرار العنف، ثم الأمل، ثم الحرب، ثم العنف ثانية، كأننا في حلقة مفرغة من المستحيل الخروج منها"... "الحرب صارت جزءًا من الحياة، هل يمكن تخيّل حياتنا في لبنان دون عنف واختفاء وفقدان؟"، قد تكون هذه العبارات اختصارًا لحكاية لبنان وخيباته التي لم تهدأ طوال مئة عام من قيامه، ما الذي تغيّر في شكل الحرب في بيروت بين تلك الأعوام وحاليًا؟

الحروب أخذت أشكالًا متعددة في لبنان. كان الأمل مقيمًا معنا إلى جانب الخوف ورغبة البقاء. لكن ما نشهده اليوم هو مرحلة ما بعد الموت السريري للأمل وللمدينة. لن أقول أكثر من ذلك الان، إذ هذا ما سيرويه لك الجزء الثاني الذي سيتبع "أغنيات للعتمة" والذي سيغطي السنوات بين 1982 وحتى يومنا هذا. السرد سيأتي على لسان شابة هاجرت صغيرة هربًا من الحرب، ثم عادت إلى بيروت لتشهد الربيع العربي ومن ثم تشارك في ثورة تشرين في لبنان.

(*) تقولين "بت أشعر بالغربة والحنين في بيروت، أخاف مغادرة بيروت ولا أعرف كيف أعيش في مدينة أخرى، لكني أعلم أن لا حماية لي هناك ... لا يكفي أن ننتقل من مكان إلى آخر كي نرحل، الرحيل داخل القلب والرأس، هنا في جسدي"، هذا التناقض يرافقنا في إقامتنا في بيروت وفي هجرتنا عن بيروت، كيف يمكن تحديد علاقتك أنت مع بيروت، وأنت المقيمة في فرنسا؟ وما الذي يختلف في معنى الغربة في الوطن عن الغربة خارجه؟

هي مدينتي وما تزال. نحن الاثنتان مصابتان بجروح الفقدان والخسارة. أمرّ بحالات متناقضة في العلاقة مع بيروت مثل الكثير من الأصدقاء. ليست الإقامة في فرنسا من تغيّر نظرتي نحو بيروت، بل تغيُّر المدينة نفسها. ما زلت أكتب عن بيروت رغم إقامتي في باريس. قد يمر وقت قبل أن أشرع بالكتابة عن شخصية نسائية مقيمة في باريس. ربما في روايتي القادمة ستكون الشخصية في أميركا وتكتب عن بيروت. لا أعلم بعد. أعتقد أن كلمة الغربة ما عادت تحمل نفس المعنى، خاصة مع بروز وسائل التواصل الاجتماعية. ربما علينا إعادة تعريف الكلمة، كذلك بالنسبة للحنين. أنا أقيم في باريس صحيح، لكن لم أنقطع أبدًا عن بيروت. أحبها وأشتاق إليها في كل حالاتها. أحزن حين أزورها، أغضب أحيانًا، لكن الحب لا يتغير.

(*) ثمة مكان أيضًا لفلسطين وتاريخها في الرواية، هناك ربط متعدّد في الرواية بين أحداث في فلسطين وبين شخوص الرواية وأحداثها، أبرزها المجموعات الإرهابية الصهيونية ومنها الإرغون والهاغاناه التي وجهّت ضرباتها ضد الإنكليز الذين يملكون سكة الحديد حيث كان يعمل "غسان" زوج "ياسمين" مما اضطره للعودة إلى لبنان. ثم أن "أُعلنت ‘دولة‘ إسرائيل التي احتلت أراضي فلسطينية شاسعة وطردت ساكنيها من الفلسطينيين". بحكم إقامتك في باريس، هل تعتقدين أن توثيق روايتك لهذه الأحداث هو صوت قد يصل ذات يوم لقرّاء من الغرب لم يفهموا التاريخ الحقيقي لفلسطين وإسرائيل كدولة احتلال؟

ما أكتبه هو جزء من تاريخ بُتر عمدًا وإمعانًا في تشرذمنا. لا مفر لنا سوى بالكتابة وإعادة الكتابة، هي الصوت الوحيد، الأغنية الوحيدة التي نجيد غناءها. أكثر الأمور مقتلة لنا هو أن نصمت. أن نتفرج ونصمت. أنظري ماذا يجري الآن في فلسطين، لولا الصوت والصورة، لولا أصوات الحقيقة والتي تصر على سرد الحكاية منذ بدايتها، لبقي العالم الذي يدّعي الحرية والديمقراطية ممعنًا في الدفاع عن الجلاد ضد الضحية.

(*) تقول آني إرنو "أصبحت لدينا ذاكرة موسعة ومشوشة عن العالم. لم نعد نحتفظ من كل شيء تقريبًا، سوى بكلمات، بتفاصيل، بأسماء"، هل تعتقدين أنه تقع المسؤولية على الكاتب أن يوثّق ما يمكن أن يناله المحو، وما يجب أن يبقى في الذاكرة؟ 

أصبحت الكتابة بالنسبة لنا كفعل وجود. نكتب لنعلن وجودنا أيضًا، لنظهر رأينا ونظرتنا إلى العالم. الكتابة تغدو بمثابة رفع الصوت ومحاولة العودة إلى الحقيقة التي يمعن العالم في طمسها وفي رسم وجه مختلف وماض مختلف وهوية كاذبة. الصمت يعني الموت، يعني أنك تعطين لمن يقوم بتشويه صورتك وثقافتك وماضيك فرصة الانتصار.

(*) تمررين رسائل سياسية في روايتك "ما رح يتغيّر شي، بيفلوا الفرنساوية بيحكموا من بعيد، وإذا ما حكموا، غيرن بيحكم من بعيد كمان" ... "هيدي جمهورية استقلال؟! هيدي جمهورية تبعية" ... جمهورية بدأت عهدها بتجريد مواطن من جنسيته وإعدام مفكر سياسي!"، "الإمبريالية ما بدها نصير أقوياء" ... "السياسيون لو كان فيهم خير ما وصلوا لفوق"، وغيرها من الرسائل السياسية؟ هل هي مسؤولية أخرى لنقد سياسي واجب على الكتّاب؟

أعتقد أن همي حين أكتب ليس تمرير نقد سياسي أو ما شابه، بقدر إعطاء الكلام المناسب لكل شخصية وفق تركيبتها النفسية والثقافية. النقد السياسي يأتي كجزء من تقديم هوية الشخصيات الروائية. هي شخصيات تعلمت ودرست وعملت إلى حد ما في الحيّز العام. بالطبع لها رأيها في السياسة في وقت حروب عالمية ومشاريع استقلال ومشروع زرع دولة جديدة في فلسطين. المهم ألّا يأتي النقد مسقطًا أو افتعاليًا. أعتقد أن كل ما بدر عن الشخصيات، إن في الحوار أو في السلوك، هو ملائم بشكل كبير لها، وأرى أنه كان من الطبيعي أن تقول ما تقوله. ثم لا تنسي أن زمن الرواية هو زمن ولادة استقلال لبنان وما نتج عنه من سياسات حكومية خاطئة. على أحدنا أن يقول ذلك، أن يسأل: لماذا منذ ولادة بلدنا التعيس تقوم الثورات الداخلية والهزات والحروب كل عقد أو عقدين، حتى صرنا نعيش في مرحلة حرب متقطعة؟

(*) الغناء شخصية من شخصيات الرواية، من العنوان "أغنيات للعتمة" إلى تصدير الرواية مع قول بريخت "في الأوقات الحالكة، هل سيكون ثمة غناء؟ نعم! سيكون ثمة من يغني عن تلك الأوقات الحالكة"، إلى شهيرة وذاكرتها الغنائية، والأهم فكرة حضور المغنية الخالدة أسمهان في اسم الشخصية الرئيسية، كما أرادت "ليلى" تسمية ابنتها، وأنت التي اشتغلت على فيلم توثيقي عن أسمهان في عام 2013 مع المخرج الإيطالي سيلفانو كاستانو، لماذا أحببت وجود "أسمهان" في الرواية؟ ماذا تمثل لك هذه المغنية، هل تريدين التأكيد أن شخصيتها الإشكالية تمثّل جانبًا من جوانب شخصيات روايتك؟

منذ صغري تعلقت بأسمهان. كنت أسمعها في البيت، نساء البيت والعائلة أحببن صوتها، لكن كانت حياتها بمثابة تابو لا يُذكر أبدًا. كأنه كان هناك جدار بين الصوت وبين حياة صاحبته. تعلقت بصوتها وقد يكون هذا التعلق، إضافة إلى صوتها الرائع، حياتها التي تحاشى الجميع ذكرها. أحببت التابو وأردت اكتشافه. وكانت فرصة جميلة لي أن أعمل مع مخرج إيطالي لإنجاز فيلم تسجيلي عنها.

(*) تذكّرني روايتك انطلاقًا من عنوانها "أغنيات للعتمة" إلى حكاياتها، بقول لفيكتور هوغو: "تفصح الموسيقى عن تلك الأشياء التي لا نستطيع الحديث عنها، ولا نقدر على السكوت عليها"، هل ثمة خيط رفيع سائل بين الموسيقى والأدب؟

جميل هذا الوصف. ربما نستطيع القول أيضًا أن الأغنيات هي حكاية ما لا نستطيع قوله. لكن أيضًا، وهذه مفارقة أن الأغنيات هي جزء من السرد يعكس واقع الشخصيات النسائية خاصة شهيرة. أعطاها الغناء بعدًا إنسانيًا وقوة داخلية تشبه السحر ساعدتها في الوقوف بوجه واقع قاس عليها وعلى نساء العائلة.

غنت شهيرة وعملت بكد وقاومت عبر دندناتها شبه اليومية الفقدان وعزلة الحياة، وهي الصغيرة التي سلخت من حبها ومجتمعها البعيد لتزوّج إلى صهرها بعد موت شقيقتها.

(*) تعلمت ليلى مع "مس هيلين" ما معنى القراءة الحقيقية وكيف تغيّر حياة الإنسان ونظرته إلى العالم ثم "استعاضت عبر القراءة وبعض الكتابة عن الحياة"، هل يمكن أن تكون القراءة والكتابة تعويضًا عن حياة لم نعشها؟

ليس بالضرورة. ما حصل لليلى هو جزء من مفارقات الحياة والتناقض الداخلي لدى الشخصية. كان بالإمكان أن تحّول القراءة ليلى إلى امرأة مستقلة تخرج للعمل وتأخذ مكانًا أكبر في لعبة السرد والتأثير على من حولها. لكن هذا لم يحصل معها. هل هو تراوما الفقدان منذ ولادتها؟ هل هو أمر آخر. لا نعلم. ليس مهمًا، ولكن لا أرى أن الكتابة والقراءة هما تعويض عن حياة لم تُعش، بل هما جزء مهم من الحياة نفسها.

 

عن (ضفة ثالثة)