ليست معرفتي بالفيلسوف دانييل دينيت Daniel Dennett بعيدة؛ إذ لا أحسبها تزيد على العشر سنوات، والغريب أنّ هذه المعرفة لم تأت من بوّابة القراءات الفلسفية التقليدية بل عبر بوابة البحث في الخلفيات الفلسفية لموضوعة الوعي Consciousness ومتفرّعاته الكثيرة التي يشكّل الذكاء الاصطناعي أهمّ مَعْلَمٍ معرفي وعملي لها. أستطيعُ القول إنّ معرفتي بالفيلسوف دينيت وثلّة من رفقاء مماثلين له في نمط التفكير الفلسفي (من أمثال تشارلز تايلور وديفيد دويتش) هي التي جعلتني أعتقد برسوخٍ أنّ الفلسفة في عصرنا الحالي لا يمكن وُلوجَها بطريقة عملية منتجة إلّا من بوّابة العلم (الذكاء الاصطناعي والفيزياء والعلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي بخاصة)، وبغير هذا سنبقى ندور في أفلاك التقليد غير المنتج.
أحب في العادة عند التفكّر في أيّ موضوع حيوي ذي أهمية راهنة (مثل الذكاء الاصطناعي) التفكير في أركان ثلاثة له: سياقه التاريخي، وخلفيته الفلسفية، والسير الذاتية لآبائه المؤسسين. فيما يخصُّ دانييل دينيت قرأت قبل بضع سنوات مادة مطوّلة لسيرة ذاتية مختصرة له نشرها بثلاثة أجزاء في مجلة Philosophy Now، وفيها ذكر جوانب من ولادته وعمل أبيه في بيروت خلال الحرب العالمية الثانية. لم تكن قراءة هذه السيرة الذاتية المختصرة عملًا يسيرًا لأنّ دينيت يميل للمداخلة بين الشخصي والعام، وبين المثابات الفكرية العالية والمعيش اليومي؛ لكنّي أيقنتُ أنّ الرجل لا بدّ من أن ينشر سيرة ذاتية مطوّلة له في يوم ما (هو يحبّ المطوّلات في كلّ أعماله ولا يكتفي بنتف موجزة)، وقد فعل الرجل ونُشِرَت هذه السيرة مؤخرًا (يوم 3 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023) تحت عنوان حياةٌ عشتها في التفكير I've Been Thinking. السيرة هذه ضخمة (464 صفحة)، ونشرتها دار نشر نورتون العالمية.
دانييل دينيت فيلسوف وكاتب وعالِم إدراكي أميركي ولِد عام 1942 في مدينة بوستن بولاية ماساتشوستس الأميركية، وتركّز أبحاثه على فلسفة العقل وفلسفة العلم والفلسفة البيولوجية بقدر ما ترتبط هذه المباحث المعرفية بالبيولوجيا التطورية والعلوم الإدراكية. يوصف دينيت في العادة بأنه واحد من جماعة (الأحصنة الأربعة) التي تضمّه مع كل من: ريتشارد هوكنز، سام هاريس، كريستوفر هيتشنز.
قضى دينيت شطرًا من طفولته في بيروت - لبنان خلال الحرب العالمية الثانية حيث كان أبوه يعمل عميلًا للاستخبارات المضادة في مكتب الخدمات الاستراتيجية تحت غطاء الملحق الثقافي في السفارة الأميركية بلبنان، وعندما بلغ دينيت الخامسة من عمره رجعت به أمه عائدة إلى الولايات المتحدة بعد أن قضى أبوه في حادثة تحطم طائرة مجهولة الأسباب، وقد كتب لاحقًا أن المرة الأولى التي تعرّف فيها على مفهوم الفلسفة حصل عندما انضمّ إلى معسكر صيفي وهو بعمر الحادية عشرة؛ إذ قال له المسؤول الأعلى عن المعسكر: "دانييل، أتعلمُ ما أنت؟ أنت فيلسوف!!".
حصل دينيت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة هارفرد عام 1963 حيث درسّه هناك دبليو. في. كواين W. V. Quine، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد تحت إشراف غلبرت رايل Gilbert Ryle. يصف دينيت نفسه بأنه شخص يميل للتعلم الذاتي autodidact؛ أو بشكل أكثر دقة يرى في نفسه المستفيد الأعظم من مئات الساعات التي قضاها في الحوارات والدراسات غير الشكلية التي انكبّ عليها في مختلف الفروع المعرفية وعلى يد أمهر العلماء وألمعهم، الأمر الذي راق له كثيرًا وأفعم روحه بالبهجة والمتعة معًا.
الآتي حوار مطوّلٌ مع دانييل دينيت أجراه هارفي بلوم Harvey Blume ونُشِر في موقع (The Atlantic Online) في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1998 (*). (المترجمة)
(*) يبدو أن الحواسيب تساعد في تحقيق واحد من أهم أهداف الفلسفة التحليلية(1)، ولنصرّح به: إنتاج عبارات بعيدة عن الغموض، ولكن في نهاية الأمر لا تستطيع أن تتخلص من عبء الغموض المصاحب للغة الطبيعية؛ لكن تستطيع أن تفعل ذلك - وينبغي لك أن تفعله - مع الخوارزميات الخاصة بتدوين شفرات اللغة الحاسوبية؟
تعمل الحواسيب على امتلاكنا لنزاهة طالما تاق لها الفلاسفة وهاموا بها شوقًا منذ أزمان بعيدة: ليس ثمة مجال لمماحكات لغوية أو مخاتلات بيانية، كما ليس ثمة مجال لأية نزعة انطباعية عند تخليق أي نموذج لخوارزمية حاسوبية؛ ولكن في الوقت ذاته ثمة الكثير من الفسحة المتاحة للاجتهادات الشخصية والتفسيرات الممكنة عندما يأتي دور توظيف ذلك النموذج والاستفادة منه. تدفعنا الحواسيب دفعًا لأن نكون في غاية الوضوح حول الأشياء التي ينبغي دومًا أن نكون واضحين بشأنها، وبهذا يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي AI (مختصر عبارة Artificial Intelligence المتداولة عالميًا، المترجمة) هو وسيلة مستحدثة وممتازة حقًا في التعامل مع أنواع محددة من الفلسفة.
(*) متى بدأت برؤية الفعاليات السيبرنتيكية(2) Cybernetic مشابهة للفعاليات التطورية؟
منذ بداية عملي جادلت بأن التعلّم ما هو إلا تطور حاصل في البنية الدماغية وجعلت هذه الموضوعة تقع في قلب أطروحتي المعرفية، وأضفت لذلك وجوب وجود خوارزميات للتعلم في الدماغ. إن ما حصل معي هو أنني مع السنوات لم أقدّر حجم الروح العدائية التي شاعت تجاه التطور وبالغت في التحجيم من زخمها المضاد، وكل ما كنت أبتغي توضيحه للعامة هو: إن الأمر مع التطور واضح وبسيط للغاية ويتعامل معه الجميع يوميًا، وهو مثل حال الجاذبية أو الفولكلوريات الشعبية، فما بالكم؟ ما الذي يحصل معكم؟ لِم هذا العداء؟. ساهمت قراءتي لأعمال ريتشارد دوكينز في تعميق معرفتي بالتطور على نحو عظيم كما ملأتني بالدهشة، وبخاصة بعد قراءتي كتابه الموسوم (الجينة الأنانية The Selfish Gene)؛ إذ أصبحت حينها أكثر من مهتم طارئ بما يحصل في حقل البيولوجيا التطورية.
(*) لطالما تأثرت الفلسفة التحليلية بالتطورات الحاصلة في الحقول العلمية. هل يمكننا تأكيد الأمر ذاته مع أفكارك الفلسفية؟
تتطلع الفلسفة التحليلية بالتأكيد نحو تحقيق الموضوعية وتثبيت الحالات التي يمكن معها تأكيد الأفكار الفلسفية أو دحضها وعلى النحو الذي يفعله العلم مع النظريات المستحدثة، ومن المؤكد أن واحدًا من المآخذ التي حملتها الفلسفة التحليلية دومًا تجاه المدارس الفلسفية (الأوروبية بخاصة) هو أن تلك المدارس بدت وكأنها تجعل من ممارساتها الفلسفية عروضًا لباليهات لفظية! إن نظرتي للعلم هي نظرة تنويرية إلى حد بعيد، وإذا ما تغاضينا عن بعض الفروقات الثانوية الطفيفة فإن نظرتي هذه قريبة من نظرة إي. أو. ويلسون(3) E. O. Wilson، وليس هذا بالأمر المستغرب؛ فقد قضينا أوقاتًا طويلة ونحن نتناقش في هذا الموضوع.
إن معظم ما يُقال حول العلم بشأن كونه يمثل نزوعًا موضوعيًا تطوريًا يسعى لتخليق أفضل التقنيات هو قول أراه صحيحًا لأبعد مدًى، وأظن أن من يرى العلم بعكس ذلك مخطئ خطأ جوهريًا عميقًا. أرى أيضًا أن الطريقة التي يحصل بها التطور في العلم قد نالت تحريضًا عظيمًا على الفعل بسبب الإعاقة المعاصرة للخيال ودفعه نحو الكبت والانكفاء: لطالما قسرت المدارس العلمية نفسها على وسائل وطرق ثبت خطلها لاحقًا، ولكن ذلك القسر عمل على تأجيج شعلة الخيال ودفعه لمراقي أبعد.
(*) هل يمكنك أن تتوسّع قليلًا في توضيح الدور الذي تلعبه الخوارزميات في منظومتك الفكرية؟ سألتك هذا السؤال لأن الخوارزميات تبدو فكرة موحّدة لجميع أفكارك.
الخوارزميات واحدة من أفكاري الجوهرية، ولتوضيحها دعني أسوق التفاصيل التالية: سبق لِـ (ديفيد هيوم) أن كتب بشأن الأفكار والانطباعات المعقدة، وما أراده هيوم حقًا هو توضيح ما عناه بعبارة "تداعي الأفكار" - كيف تكون فكرةٌ ما مدعاة لاستحضار فكرة أخرى بما يشكّل (قطارًا) من الأفكار، وقد أراد هيوم الكشف عن النظام الحاكم لتطور الأفكار بما يشبه مسيرة احتفالية لا نحتاج فيها مديرًا مفترضًا يكون مسؤولًا عن إدارة العرض.
كنت مرة أحاول توضيح هذه الفكرة فانبرى طالب لي قائلًا: "أراد هيوم جعل الأفكار تفكر لذاتها"، وهنا عقّبت: "تفكر لذاتها!! إذن أنت تريد إخراج الفيلسوف من المشهد كله". هكذا هو الأمر إذن: إذا كنت تريد الإبقاء على صورة المفكر في المشهد ولم تخرجه خارجًا فأنت لم تبدأ بعدُ في التعامل مع العقل لوحده فحسب.
ولكن كيف السبيل إلى كسر الرغبة في التعامل خارج حدود العقل؟ حاول هيوم ذلك مثلما حاول (سكنر Skinner) بعده، لكن تورنغ Turing هو من أصاب نجاحًا مذهلًا: تورنغ هو من نجح في تشخيص الكيفية التي يمكن معها جعل الأفكار تفكر لذاتها. يمكنك مثلًا أن تكتب وصفة بشأن فعالية فكرية ما، ثم تعطي تلك الوصفة لرياضياتي سيتبع تلك الوصفة تمامًا وسيحصل على نفس الفعالية الفكرية التي قمتَ بها أصلًا. هنا يصيح تورنغ بأعلى صوته: "أوووووه، لكنك تستطيع تجاوز الرياضياتي وجعله خارج المشهد تمامًا. تستطيع أن تعطي وصفتك لآلة وستنفذها بدقة؛ وحينها يمكن إزالة الطرف الوسطي في العملية كلها".
أبان تورنغ (في عمله الثوري) أن الحاسوب إذا ما استطاع إتمام عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة، وإذا ما استطاع إخبارنا عن الفرق بين الصفر والواحد فيمكن له حينئذ أن يفعل أي شيء آخر، بعبارة أخرى يمكن للحاسوب أن يكون عقلًا كاملًا؛ وحينئذ تكون قد وجدت حلًا لمعضلة هيوم الإشكالية في كيفية جعل الأفكار تفكر بذاتها ولذاتها. تلك هي فكرة الخوارزمية.
ولكن ماذا يقول داروين؟ ما الذي يعنيه امتلاك خوارزميات تطورية؟ ننظر حولنا فنرى كل هذا الجمال وكل هذا التصميم المبهر الذي يخلب العقول، ومأثرة داروين الفضلى هي كشفه أن ذلك التصميم الجميل للطبيعة هو نتاج عملية هي في نهاية الأمر عملية غير محكومة بعقل ضابط خارج عنها، وفاقدة للدافعية الذاتية، وآلية، وقد تكون على شيء من الخبث ولكن ليس بالضرورة!!
(*) يمكنني الاستنتاج بعد قراءة أعمالك أنك ترى في الفلسفة وسيلة للكشف عن حقيقة التماثلاث بين كل الحقول المعرفية - تلك التماثلات التي قد تستعصي رؤيتها بوضوح كافٍ على المشتغلين في كل حقل معرفي على حدة. هل تعتقد حقًا أن هذا هو الدور الذي ينبغي أن تنهض به الفلسفة؟
ذلك واحد فحسب من بين أدوارها الكثيرة. الحياة قصيرة ومعقدة للغاية وليس بإمكان الناس فعل كل ما يشتهون، وأحد أهم الأشياء التي يعانون في الوفاء بها هو رؤية الكيفية التي يتناغم فيها حقل اختصاصهم مع الصورة المعرفية الشاملة؛ ثمة دومًا إشكاليات في السطح البيني بين الاختصاص الضيق والصورة الشاملة. إن واحدًا من أنبل أهداف الفلاسفة هو إنجاز هذا الأمر بطريقة أكفأ وأفضل مما يفعله الآخرون، وهذا ليس بالدور الأوحد للفلاسفة؛ غير أنه الدور الذي أتعامل معه بأكبر قدر ممكن من الجدية والتكريس الواجب.
(*) هل يمكن أن تكشف لنا دورًا آخر يمكن للفلسفة أن تنهض به؟
في البدء كان كل شيء فلسفة. أرسطو، وسواء كتب في الفلك أو الفسيولوجيا أو السايكولوجيا أو الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات - كلها كانت الشيء ذاته: كانت فلسفة، ثم مع تعاقب القرون حصلت ثمة عملية تشذيب وتنقية للتساؤلات التي كانت في بادئ الأمر إشكالية ومكتنفة بضباب مظلم ثم غدت مع الوقت أكثر وضوحًا، ثم حصل أن انسلخت تلك التساؤلات من جسد الفلسفة وباتت هي ما يشكّل العلم الحديث: الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء - كلها خرجت من معطف الفلسفة، ثم عندما غدت أكثر وضوحًا من بداياتها المتسربلة بالتشويش غادرت عش الفلسفة واختطت طريقًا مستقلًا لها.
الفلسفة إذن هي الأم، والعلوم كلها هي بعض سلالتها اللاحقة، وليس علينا الغوص في مجاهل التأريخ السحيق لتتبع آثار هذه العلاقة السلالية؛ إذ حتى القرن الثامن عشر لم يكن التمييز الصارم بين الفلسفة والفيزياء يؤخذ على محمل الجدية. السايكولوجيا واحدة من أحدث الولادات التي نشأت عن الفلسفة، ويمكن لنا أن نعود إلى خواتيم القرن التاسع عشر للتحقق من هذا الأمر.
رؤيتي الخاصة في هذا الميدان هي أن نطاق الفلسفة ينبغي أن يعمل على الأسئلة الأساسية الجوهرية للغاية والتي لم تنضم بعد إلى حقل معرفي محدد؛ إذ أنك في اللحظة التي تمتلك فيها رؤية واضحة بشأن تلك الأسئلة الجوهرية وعن قيمة ما قد يرقى ليكون جوابًا مناسبًا لها تكون حينئذ ولجتَ مملكة العلم العتيدة.
(*) كانت نقطة الشروع لديك مع الفلسفة التحليلية، ثم انتهى بك الأمر مع مركّب معرفي واسع المديات. أليس الأمر كذلك؟
نعم هو مركب معرفي ضخم، ولكن كان لدي في نقطة الشروع نوع من أقلّ المتطلبات اللازمة للانطلاق في عملي الفلسفي، وتمثلت نقطة الشروع تلك في إدراك أهمية تجاوز الضرورة الحتمية في البدء من التقسيم الديكارتي والكوغيتو الخاصة به، وكذلك عدم ضرورة البدء من تلك المواضعة الانشطارية الثنائية التي تفصل بين (الذاتي) و(الموضوعي).
يتحدث ديكارت عن قاعدة تحكم العقل وأخرى تحكم المادة، وقد كان لهذه القطبية التقسيمية الثنائية تمظهرات عدة؛ فقد شاع في الفكر الأوروبي الحديث الكلام عن علوم العقل في مقابل العلوم الأخرى، وانتهينا مع حالة بات فيها كل فرد مقتنعًا بهذه الثنائية التقسيمية وراضيًا بها، وغدا في عداد نافل القول والمقطوع بصحته الجازمة أنّ علومًا مثل البيولوجيا أو الفيزياء أو الكيمياء ليس في وسعها أن تعلمنا شيئًا بشأن الأدب أو الأخلاقيات أو الدين أو حتى السايكولوجيا، بل قد نجد حتى من يضع كل هذه الحقول المعرفية تحت عنوان واحد ذي صلة مباشرة مع العالم المادي الذي نعيش فيه؛ فقد كان دومًا ثمة أناسٌ رغبوا في أن يكونوا تلاميذ خلّصًا للمادية الخشنة!
إن الشيء الوحيد الذي أراه مستوجبًا للنظر والتفكير بشأن طريقتي الخاصة في تناول الموضوعات الفلسفية هو رغبتي في إظهار كم هي عزيزة وثمينة تلك الكينونات التي تقع في الجانب المقابل لطيف المادية الخشنة (وأعني بتلك الكينونات أشياء مثل: العقول، الذوات، الرغبات ... إلخ) وكم أن مكانة تلك الكينونات لم تخفت في العالم المادي.
إن ما أفعله في مشاكساتي الفلسفية ليس سوى القول: "حسنًا، دعونا نتخذ سبيل التفكير الفلسفي الجاد، وحينها فإننا بدلًا من بلوغ تخوم المملكة الديكارتية التي تضمّ العقول إلى جانب الأرواح والآلهة في مملكتها السرمدية فإننا يمكن أن نعيد وضع العقل في مكانته الخليقة به في العالم الذي نعيشه، وإن مسعاي هذا ليس سوى طريقة محددة في النظر إلى كينونات مادية محددة، وأظن أن طريقة النظر هذه تمتلك فعلًا مُوحّدًا عظيم الشأن".
(*) نُشِرَ الموضوع في الموقع المذكور تحت عنوان The Digital Philosopher.
الآتي هو الرابط الإلكتروني: https://www.theatlantic.com/past/docs/unbound/digicult/dc981209.htm
هوامش المترجمة:
1. الفلسفة التحليلية (أو فلسفة التحليل اللغوي) analytic philosophy: هي المدرسة الفلسفية التي تجعل الفلسفة منصبة على اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض أو خلط أو زيف. وتعتبر المدرسة الفلسفية الأكثر شيوعًا بين فلاسفة البلدان الناطقة بالإنكليزية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. اعتمدت الفلسفة التحليلية بشكل رئيسي على أفكار مؤسسيها من جامعة كامبردج: جورج. إي مور وبرتراند راسل، لكن كليهما في النهاية كان متأثرًا بأفكار ومؤلفات الفيلسوف الألماني فريجه Frege والعديد من الفلاسفة الرواد الألمان والنمساويين (وأبرزهم فيتغنشتاين). المنطق وفلسفة اللغة يعتبران أساسيين في الفلسفة التحليلية منذ بداياتها؛ ومع أن سطوة هذين الحقلين خفتت تدريجيًا إلا أن العديد من التوجهات الفكرية اللاحقة نشأت انطلاقًا من التوجه المنطقي اللغوي للفلسفة التحليلية، ومن أبرز هذه التوجهات: الوضعية المنطقية.
2. السِبرانية Cybernetics (أو السيبرنتيكا): علم حديث ظهر في الأربعينيات من القرن العشرين ويعتبر العالم الرياضياتي نوربرت فينر من أهم ّ مؤسّسيه، وقد عرف فينر السِبرانية على أنها "علم القيادة أو التحكم (control) في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل communication في كل منهما". كانت بدايات السِبرانية الحديثة في المجال التقني ولعل ذلك أحد أسباب صعوبة إقحام هذه المادة في العلوم الإنسانية، وبما أن الشخص الذي يعتبر من مؤسسي هذا العلم كان رياضياتيا فإن هذا العلم كان في بداياته محسوبًا على الرياضيات أو الرياضيات التطبيقية وخاصة مجال نظرية النظم Systems Theory إلا أن العديد من المقاربات السِبرانية يمكن استعمالها خارج إطار الرياضيات في العلوم الإنسانية مثلًا. ولذلك نجد اليوم شق السِبرانية الذي يهتم بالنظم عامة يسمى نظرية النظم والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين آخرين: نظرية نظم عامة تهتم مثلًا بمسائل البنية التنظيمية والتحكم فيها وأنسبها للمشاكل المطروحة، وهي مقاربة نجدها مثلًا في علم الاقتصاد السِبراني أو علم الإدارة السِبراني. أما القسم الثاني فهو قسم تلعب فيه الرياضيات دورًا أكبر وهو يهتم بالنمذجة الرياضياتية للنظم خاصة التقنية والبيولوجية وبطرق تطويعها (علم الضبط). في مجال العلوم الإنسانية يطلق أحيانًا على المقاربة السِبرانية أيضا لفظة سيستامك. في الميدان الفلسفي هناك مقاربات تقدم الجدلية الهيغلية على أنها المنطق الذي يحكم السِبرانية أو النظم السِبرانية.
3. إدوارد أوسبورن ويلسون Edward Osborne Wilson: عالم أحياء أميركي ولد في الولايات المتحدة عام 1929. أشتهر بعمله في مجالات التطوّر وعلم الحشرات وعلم البيولوجيا الاجتماعية، ويعدُّ من أبرز المتخصصين في حياة النمل واستخدامه للفيرومونات كنوع من وسائل الاتصال.
عن (ضفة ثالثة)