نودع عامًا انتهى بسقطةٍ قصَّر الحبر فيها عن مجاراةِ الدم، ليلحُّ علينا السؤال الذي خلّفه تواطؤ معلن وصريح حول غزة، وهو سؤال متشعّب متعدّد المداخل خادشٌ للوعي، لا يرتجي قيم الحضارة التي أصبحت موضع شكٍ، ولا ينفكُّ عنها. إنه يخصّ جيلنا الذي نشأ على أفكار اكتشفنا أنها لم ولن تمسُّنا لا من بعيد ولا من قريب، لا لكوننا الأقلّ في معادلة التواصل الزائف بين سياقين ثقافيين، بل باعتبارنا، وهذا الأدق: غير مرئيين في نسق الحضارة المعولمة والحداثة الزائفة. فإذا كان الموقف المتناقض والانتهازيّ لرجل السياسة مفهومًا، فإنّ تحيزّ رجل الفكر يبلبل الفهم السليم، ويبذرُ الأسى في روح العصر. ومع أنّها ليست المرة الأولى في التاريخ التي يميل بها فيلسوف لمسيرة الظلم، أو التي ينتصر فيها مفكر للجهة العرجاء في الوجود؛ لكن ربما هي الوحيدة التي يعثر فيها كل تفكير مصلحي، أو لقيط، على من يجهد لمنحه وجودًا شرعيًّا. وبهذا أيقظ بيان يورغن هابرماس، وهو أحد أهم فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت، والداعي الرسمي لقيم التواصل، مواقف الفلاسفة من مراقدها.
فقراءته الانتقائيّة، وتلاعبه بمصطلح الإبادة والمبادئ الكونية، وغيرها من العبارات التي زخر بها بيانه المقتضب، أعادتنا إلى جان بول سارتر، وبطله روكانتان(*) الذي اكتشف كيف يتم تزييف التاريخ، وقبل هذا وذاك إلى مقاعد الجامعة، حيث تعرفنا إلى أوروبا وهي تقدم لنا خُلاصة تجربتها، وتُعفينا من الأسئلة والمكابدات، وإلى مفكريها فوق الرفوف بانتظار أصابعنا الغضّة كي نقلّب الكتب: "لقد عبّدوا الطريق لنسير فوقه، حفروا المناجم وما علينا سوى استخراج الذهب". فتنتنا تواصليّة هابرماس، وأحببنا الحقيقةَ مفتّتةً في الفضاء العموميّ، وأضاء المشروع التنويريّ مدرّجاتنا المظلمة، ذُهِلنا عن أنفسنا بإغراء الحريّة كما تبدت في "الوجود والعدم"، ورددنا في أروقة الجامعة عبارات من "تعالي الأنا موجود"، ولم نكن ندرك مدى التطابق بين سارتر الفيلسوف ورجل التاريخ الزائف دورلبون، الشخصية الفرعية في رواية "الغثيان"، والذي كشفت سيرته عن تناقض رهيب بين الأقوال والأفعال، بين الكلمات وبين الحياة.
وسارتر الذي قرأناه لم يكن ذاته الذي وظف فلسفته ليس للبحث في مشروعيّة المسألة اليهودية؛ بل لدعمها، وهو وقد استطاع تفهم القلق الميتافيزيقيّ لليهودي، وبحثه عن الاطمئنان، لم يستطع فهم قلق أصحاب الأرض، لذلك كان طبيعيًا أن يفاجأ حين وصفته الصحف العربية في 1967 بضمير العصر، فيسأل: أنا ضمير العصر كله! أنا لست حتى ضمير نفسي. كان سارتر صادقًا في ذلك، فالرجل الذي حكم في "الوجودية مذهب إنساني" "أن الإنسان حرٌّ ومسؤول عن كل ما يفعل" لا يمكنه أن يُخلي مسؤوليته عما أورده في تأملاته حول المسألة اليهودية عام 1944.
وكنا انجرفنا، كجيل، بتواطؤ مدفوع الثمن، بيننا وبين أساتذتنا في الجامعات وبنى ثقافية وسياسية؛ نحو ما لا ينتمي إلينا، ولا ننتمي إليه. فنحن في نظر الآخر لسنا سوى كائنات متوحّشة يصعبُ تمدينها؛ لكن الرجل – أي هابرماس – نبّهنا في كلماته المقتضبة التي حكم من خلالها بأن ما تفعله إسرائيل ليس بحرب إبادة، بل حذر من يقول غير ذلك بأن: معاييره زائغة. نبّهنا ليس فقط إلى ولعِ الغرب الذي بدا ساسته ولا سيما بعد سبتمبر 2011 كالطفل الذي تعلم الحكي وصار مفتونًا بتسمية الأشياء؛ بل إلى أنّ تعريف الحضارة كان على مقاسهم، بينما تعريف الهمجيّة من نصيبنا، وعلى قياسنا. وبدت قيم الحرية والعدالة والإنسانيّة التي كان الضحايا يسألون عنها، ومفاهيم التعصب والانغلاق التي يعرّفها الآخر قد صممّت لأن نتلقاها كي نقيس حجم المسافة بين ذواتنا العطشى للفهم والنمو، وبين العالم الذي نرغب بأن ننتمي إليه؛ عبر تقليد مشيته واختبار نكهة مكوناته الثقافية مجتمعة وممتزجة وهلاميّة من دون طعم.
ولم يمضِ وقت طويل حتى سقطت الحداثة فوق رؤوسنا كسلحفاةِ أسخيلوس، فلم يُلقِها نسرٌ بالخطأ، ولم يكن في الأمر مصادفة؛ فالعلاقة بيننا وبين الثقافة الغربية بدت كحبٍّ من طرف واحد، أو عبودية أنيقة تظهرها حتى الآن حساباتنا في مواقع التواصل، كنا طلاّبًا أشدّ إخلاصًا من تلاميذ سقراط الذين تركوه يتجرع الشوكران بمفرده. ثم أتت غزة لتعرية القيم التي صيغت على قياسهم، وبين الصمت ولوم الضحية على أنينها؛ تعرَّضتْ للمحو والتجاهل المادي والمعنوي ولم تسلم حتى من كَيد الخوارزميات البكماء التي حلت مكان البشر في عَسفِها، لتحجب وتمنع وتعيق بأناقة وموضوعيّة ولغةٍ خاليــــةٍ من الحياة من قبيل: "هذا الرابط فيه إساءة ومحتوى عنيف". والسؤال إساءة لمن؟ للحقيقة! أم للقيم التي انكشف أنها مجرد تحيزات قائمة على الولاءات وذرائع المصلحة.
غزة التي كانت أشبه بالحتِّ والتّعرية في الطبيعة، أتت تصحيحًا لقناعـــةٍ تسبّب بها سوء فهم تاريخي! وهو يتعلق بطبيعة الحوار المعرفي بيننا وبين حضارة بدا فلاسفتها كَفرقِ كشّافة تسبقُ الساسةَ وتمهّد لهم الأرض؛ أثبتت بأن التاريخ كان يتحرك للأمام في رؤوسنا فقط، وأن ابن خلدون فهم راهنيّة حاضرنا أكثر مما فهمنا أنفسنا كشعوب مغلوبة تتلقى دون وعي، طرحت السؤال ودفعتنا لتفحص جوهرنا العاطفي؛ ووضع المشروع المعرفي وقيم التواصلية والحوار والاعتراف التي صدّرها لنا الغرب موضع سؤال. فنحن الآن وبعد مرور حوالى 90 يومًا على حرب الإبادة، لا يمكننا القراءة سوى من خلال الهدم والبناء، لهذا الوعي الملتبس الذي تشكل في رحاب ثقافة تزدرينا وقد أدخلتنا في مساراتٍ معقدة على كل المستويات. لقد رضّت غزة وعينا، أكثر بأشواط مما فعلت فينومينولوجيا هيغل التي يتدرج فيها الوعي لتحقيق نفسه وتملّك ذاته. وعبر صدمة هذا الوعي أظهر لنا فقداننا الكلمات التي حفظناها عن فلاسفة الاختلاف والغياب والحضور والحرية، حجم الدمار الذي طاول أي جسر للعبور بيننا، وبين الآخر الذي لا يريد لنا أن نعبر الجسر، بل أن نُرمى أسفله، أو يهدم فوقنا إن أمكن.
لم تساعدنا فلسفة سارتر لاتخاذ قرارات بشأن أنفسنا والعالم، ولم يشرح لنا هايدغر كيف يحاول الدازاين التفاعل مع الآخرين من دون انفصال، أو البحث عن المفقود في الذات من دون عزلة. بل تعلمنا من غزة ـ وعلى المستوى الثقافي ـ أن من يفقد ذاته في الآخر لن يستردها. ربما يصعب الحكم بأثر رجعي على واقع تشكل منذ الستينيات، لأننا نؤمن مع ستيفان تسفايج أنّ "إعادة تركيب مرحلة، أسهل ألف مرّة من تركيب جوهرها الروحي". لكن يمكننا على الأقل تلمّس ملامح الجنين الثقافي الذي سيتشكل بعد هذه الإبادة الإنسانية والذهنيّة والأخلاقيّة التي قرر بموجبها هؤلاء ألاّ ينصفوا أصحاب الحق. والمفارقة أن الأخيرين يدركون بأنهم لن يستطيعوا أن يحكوا قصتهم إلاّ بلغة الآخر، وعلى غرار باسم يوسف سوف نرويها بأكثر الأساليب إقناعًا، فنستعير أسلوبه الهزليّ لا ليصدق الآخر حكايتنا، أو ليصادق عليها؛ بل ليبدي تأثره ويهزّ برأسه على غرار بيرس مورغان، ثم ينتهي بسؤال يبدد قصتنا، ولا يستوعبها، وكأنه حوار طرشان، أو بعبارة: "نتفهم ما يحدث لكم!"، "لا يمكننا تخيل لقطة أفضل من هذه لعالمنا".
وبينما يبدو انفعالنا ووجودنا كله غير مبرر في نظرهم، يمكن تفهم الإبادة التي نتعرض لها كدفاع مشروع عن الكونية، والتواصل والحرية والعدالة والمسؤولية، وهي المفاهيم الأحبّ إلى قلب فلاسفة الغرب. وبهذا طرحت علينا غزة أسئلة الحداثة وما بعدها، أسئلة الماضي والراهن، ونبهتنا إلى ما غفل عنه مؤسسو ومترجمو وناقلو قيم الحضارة الغربية. لكن طرح الأسئلة لا يفضي ضرورةً إلى طريق. لأننا صغناها بأسلوبهم، وعلى طريقتهم، وعبر أفكارهم التي تنكص أمام أول تجربة، وكما لم يستطع الهنود أن يفهموا "لماذا يعلن الأوروبي شيئًا ولا يتقيد به، ولماذا يقول قولًا ولا يفعله، ولماذا يوقع اتفاقية ثم يخرِقُها في أقرب فرصة ممكنة"(**) لم نفهم لماذا وكيف يتبنّى فيلسوف أو مفكر رؤية القاتل ويدين الضحية. أما الحروب، ورغم أنها باهظة التكلفة، من حيث الأرواح التي تدفن تحت الأنقاض، إلا أنها تحُدِث تحولاّت عميقة في الثقافة؛ فالأخيرة حالها حال الإنسان كائن حي، والكوارث تغيرها.
لقد أدركنا أن الحريّة شأن عاطفيّ تمامًا كأذواقنا في الطعام، وأننا خارج حسابات التنوير والعدالة، ونعي الآن: أنّ ما بعد غزة لن يكون كما قبلها، وعلى المستوى الثقافي فقد تلاشى المكتوب أمام سيل الدم، وربض الفكر الغربي بأكمله تحت الأنقاض جنبًا إلى جنب مع الأرواح التي تخلى عنها عالم يدعي الانتصار للكرامة والفردية وحق الاختيار، وتقرير المصير، وتحطيم الأسرة، ومساندة حقوق المثليين؛ ولا يحركه مشهد طفل تحت الأنقاض. ربما كان إيهاب حسن على صواب حين أكد "على كون ما يحكم المواقف ليس المصلحة فحسب؛ بل تمييز شخصي واحتياج عميق"، وبذا فالضحية خارج الاحتياجات العميقة للآخر، والتمييز الشخصي يمكنه أن يميل بفعل المصلحة لا المسؤولية. وربما تتكون رؤية وراهن ثقافي جديد لجيل يتعلم القراءة بروحٍ متحررة من القراءة الساذجة التي خضناها بنوايا طيبة، وغزة وقد سال دمها، قد كشفت لنا عن أميّة تاريخيّة، وجهلٍ حضاريّ المُلام الوحيد فيه نحن ومدرّسونا الذين كانوا مجرّد أساتذة أفكار لا تفكير.
إحالات:
(*) بطل رواية "الغثيان".
(**) منير العكش، حق التضحية بالآخر، أميركا والإبادات الجماعية، دار الريس، 2002.
* كاتبة سورية.
عن (ضفة ثالثة)