عرّت حرب الإبادة الوحشية التي شنتها دولة الاستيطان الصهيوني سردية طالما عززتها قوى الاستعمار القديم منه والحديث، وأنفقت عليها دولة الاستيطان الملايين. وها هي قوى الشعوب تستيقظ على الواقع البشع، وتتعرف على فساد تلك السردية وأضرارها على الضمير الإنساني وقيم الحق والعدل الدولية.

الإعلام بعد حرب الإبادة على غزَّة

مأزق السّردية الصهيونية في الوجدان الغربي

مروان ياسين الدليمي

 

الناشطون الأجانب المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي مثل أندرو تيت، كان ظهورهم الإعلامي على المنصات والقنوات الفضائية الغربية، منذ أن بدأت الهجمة الوحشية على الفلسطينيين في غزة، أكثر وعيا وذكاء ومعرفة وتأثيرا، من المؤسسات الإعلامية العربية، في إيصال الحقائق عن قضية الشعب الفلسطيني، وحقه بالدفاع عن نفسه وأرضه. والسؤال الذي يطرح نفسه هذه الأيام على وقع الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي: كيف لنا أن نُجري مقارنة، بين جرأة الموقف ووضوحه، لدى عديد المؤثرين الأجانب على الميديا، وبين الحالة الرمادية التي بدا عليها موقف المؤثرين والإعلاميين العرب؟ والانصاف يقتضي منّا في الوقت نفسه، أن نشير إلى شجاعة وذكاء قلة من الإعلاميين، لا يعدّون على أصابع اليد الواحدة، مثل المصريِيِن باسم يوسف والدحيح. أيضا ينبغي أن نحتفظ بذاكرتنا ما تعرض له عدد من الصحافيين الأجانب من تهديد بالقتل والطرد من وظائفهم، لأنهم دعوا إلى وقف المذبحة التي ترتكب بحق أهل غزة.

وقد أشار موقع مسبار الإلكتروني في صفحته على فيسبوك إلى حالة طرد تعرض لها في نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ديفيد فيلاسكو من منصبه في رئاسة تحرير مجلة «آرت فورم» بعد أن قضى فيها 18 عاما، كذلك الصحافي ورسام الكاريكاتير البرتغالي فاسكو جارجالو الذي سحبت منه جائزة دولية سبق أن نالها عام 2019. وهناك الملايين من الدولارات التي تُهدر على من يُحسبون إعلاميين في القنوات الفضائية العربية، لكنهم في حقيقتهم مجرد أبواق، يعيدون على المشاهدين ما تلقنهم إياه أجندة أنظمتهم الفاسدة القمعية. والأسوأ منهم من يُطلق عليهم بالمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، فهؤلاء ليسوا إلاَّ حفنة نساء ورجال يروجون للتفاهة، لأجل تحقيق الشهرة والمال.

وما يثير الاستهجان أن هؤلاء باتت تتهافت عليهم العروض من القنوات الفضائية لتقديم البرامج عبر شاشاتها، وأخذت شركات الإنتاج الدرامي والسينمائي تستقطبهم للعمل كممثلين، باعتبارهم نجوما لامعين، تضمن من خلالهم تحقيق نسب عالية من المشاهدين والأرباح، دون اهتمام لسطحية ما يقدمونه من محتوى على منصات التواصل الاجتماعي. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد من الاستثمار، بل بات مألوفا أن تقام مهرجانات يحضرها فنانون وإعلاميون وصحافيون ومسؤولون حكوميون لتكريم هؤلاء (المؤثرين). وبمثل هذا النهج، تمارس وسائط الإعلام والفنون من الأساليب ما تسفِّهُ وعي المتلقي، وهذه الظاهرة لم يكن لها أن تشيع، دون أن يكون للبيئة السياسية الفاسدة دور فيها. وهذا ما يشير إلى أن هناك فجوة عميقة وواسعة ما بين الإرادة الشعبية، التي يتم التعبير عنها بالتظاهرات واستطلاعات الرأي، وبين الخطاب الذي يدعمه الإعلامي الرسمي.

مأزق رموز الإعلام الغربي:
المفارقة المهمة في الحرب الهمجية الدائرة على الفلسطينيين في غزة أن ينحشر الإعلام الغربي في مأزق لم يكن يخطر في حساباته، رغم سياسة التزييف والتجهيل الإعلامي، بعناوينها العنصرية التي سوَّقها، مثل مصطلح «الإسلاموفوبيا» منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 بدت المفارقة واضحة في يقظة أعداد كبيرة من الشعوب في أمريكا والبلدان الغربية على وجه خاص إزاء قضايا العالم العربي والإسلامي، عندما أخذت تعيد قراءة الأحداث وسرديات التاريخ بعيدا عن أجندة المؤسسات التي تهيمن على الفضاء الإعلامي، فما أن تفتح جهاز الموبايل وتضغط على برامج الانستغرام على سبيل المثال فإذا بك تتفاجأ بمقاطع فيدوية لأشخاص من جنسيات أجنبية مختلفة، أمريكان وأوربيون وآسيويون، يعبرون فيها عن حجم الخديعة التي مورست ضدهم من قبل الإعلام الغربي، إزاء قضايا مثل فلسطين والعرب والإسلام، في مقابل الترويج الممنهج لسردية اللوبي الصهيوني. إذن من الصعب تجاهل حجم المأزق الذي أصبح عليه أبرز رموز الإعلام الغربي، مثل بيرس مورغان عندما يحاورون بعض ضيوفهم حول القضية الفلسطينية، وهذا ما بدا في اللقاء الذي تم مع باسم يوسف واندرو تيت وآخرين.

لا جدال في إن الثمن الذي دفعه أهل غزة من الأرواح، بفعل القصف الإسرائيلي العنيف، يدخل في عداد الإبادة الجماعية، لكنه من زاوية أخرى فتح الباب واسعا لطرح أسئلة غيبها الإعلام الغربي منذ قرار تقسيم فلسطين عام 1948 وكشف عجز الثقافة والفنون العربية في أن تفتح نقاشا ثقافيا، جادا ومثمرا وذكيا، مع الشعوب غير العربية وفي مقدمتها الغربية والأمريكية، بمعنى هزيمة لكل أشكال وأساليب التعبير الفنية والثقافية الجماهيرية التي أنتجتها الثقافة العربية، على مدى سبعين عاما، وعلى وجه خاص السينما والمسرح والكتابة الصحافية والإعلام.

هل هي هزيمة للأساليب التقليدية؟
يمكننا أن نجزم بأن العالم بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ليس كما بعده وأن هذا التاريخ قد أفرغ الخطاب العنصري للإعلام الغربي من حزمة الأساطير الصهيونية التي يروجها، من بعد أن أُغدِقَ عليها مليارات الدولارات لتسويقها، وجُندت لترويجها وحشوها في ذاكرة الشعوب، مؤسسات ومنظمات ودول وزعامات واتفاقيات. فأي معجزة عظيمة حققتها دماء الفلسطينيين من أهل غزة، ليس للعرب والمسلمين فقط، إنما للإنسانية أجمع. فلاشيء يساوي ما أنجزه دم الغزاوي الطاهر سوى تلك الإرادة الفذة التي كان عليها الفيتناميون عندما سحقوا الآلة العسكرية الأمريكية وعجرفة ساستهم.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب تحرير الكويت عام 1991 سكن العالم خوف شديد بعد هيمنة واستفراد الولايات المتحدة الأمريكية، وبات الغرب والشرق أشبه بقطيع تابع لها، واستثمرت هذا الخوف بعد تفجير مبنى التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001 لتزداد غطرسة وتوحشا، فاحتلت أفغانستان والعراق وتمددت في سوريا، تحت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي، ثم دفعت أوروبا إلى مستنقع الحرب الأوكرانية الروسية، حتى بدت دول العالم وهي تسير على إيقاع المخاوف الأمنية بعناوينها البارزة التي أخذت تمليها ماكنة الإعلام الأمريكي، خاضعة لحالة من التقديس المفروضة عليها، كما لو أن العالم توقف عن التفكير والحركة، وعاد إلى عهود ما قبل الحضارة، فاكتفى بالدوران حول الإله الأمريكي وقدَّم له فروض الطاعة والتقديس.

بذلك تكون السياسة الأمريكية قد أحكمت قبضتها على الدول والشعوب، عبر إشاعة الخوف في رسائل مكثفة أخذت تبثها في منظومة وسائلها الإعلامية، في الصحافة والإعلام والميديا والسينما والمسرح وبقية الفنون الجماهيرية، دون حاجة إلى أن تقدم على غزوها عسكريا. وبعودة سريعة إلى الوراء سنجد أن هذا الغزو الثقافي بأجندته المضللة كانت قد بدأته في بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديدا في تموز (يوليو) عام 1947 عندما تأسس جهاز المخابرات الأمريكية CIA لهذه المهمة في إطار الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي في بلدان أوروبا الشرقية وعدد من دول العالم الأخرى المنضوية تحت المنهج الاشتراكي، وهذا ما يتحدث عنه بتفصيل كتاب «الحرب الباردة الثقافية» للباحث فرانسيس ستونر سونديرز فتقول «أسرع الأمريكان بافتتاح مراكز ثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية، من خلال عروض السينما وحفلات الموسيقى والمعارض الفنية والمحاضرات العامة وإرسال فرق موسيقية من زنوج أمريكا لتغيير المفهوم الشائع عن العنصرية الأمريكية، وأعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات مالية وإدارية وتنفيذية مطلقة ليفعل ما يشاء لحماية الصورة الأمريكية التي ترسمها وسائل الدعاية والإعلام في خيال الآخرين».

وبالتوازي مع النشاط الثقافي يشير سونديرز إلى أنه في 19 كانون الأول/ديسمبر 1947 «تقرر أن يستخدم جهاز المخابرات أنشطة نفسية سرية لدعم السياسة الأمريكية، بما في ذلك التخريب والتدمير بالانقلاب والاغتيالات ومساعدة حركات المعارضة المسلحة والمعارضة السياسية في الدول المعادية للولايات المتحدة، بشكل لا تظهر معه أي مسؤولية أو تورط للحكومة الأمريكية، ثم حصل الجهاز عام 1949 على حق إنفاق الأموال اللازمة لتمويل نشاطه دون تقديم بيانات عن أوجه الصرف حتى لا يترك مستند يدل على دور للحكومة فيه».

فاشية ثقافية جديدة تتهاوى:
الخوف من العرب والمسلمين الذي اختلقته السياسة الإعلامية الأمريكية /الصهيونية، أفرز فاشية جديدة، كان من نتائجها تغييب للعدالة في ذاكرة الشعوب الغربية لأكثر من سبعين عاما مضت، وإذا ما ذُكر الشعب الفلسطيني في سياق الحديث عن إسرائيل والصراع في الشرق الأوسط، فتُختزل عندها مفاهيم الحقيقة والحق والعدالة لتقتصر على شرعية دولة إسرائيل فوق أرض الفلسطينيين، حتى بدا ذلك أمرا بديهيا لا يحتمل النقاش، بفعل حرب باردة ثقافية مورست فيها عملية غسل للأدمغة، كانت بالأمس موجهة ضد الشيوعيين حتى انهيار قلعتهم السوفييتية مع سقوط جدار برلين، ثم أصبح العرب والمسلمون هدف هذه الحرب منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. وللمرة الأولى بعد عملية طوفان الأقصى تتصدع الأسس الثقافية لهذه الحرب، وتتصاعد الأصوات الغربية التي تشكك في مصداقية السردية التي نسجتها ماكنة مؤسساتهم الإعلامية حول العرب وفلسطين والمسلمين.

 

 عن (القدس العربي)