ما رافق الحرب على غزة من حرب إعلامية وفكرية على الفلسطينيين، والجنوبيين عامة، مناسبة لجردة نقدية لكل الفكر الغربي منذ أكذوبة ديموقراطية الآثينيين (تأسَّست أنظمة أثينا القديمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على عبودية الأكثريَّة لطغمة أرستقراطيَّة) حتَّى أوهام العالم «الحُرّ». في سياق دَعم هابرماس المُخزي للكيان الصهيوني في إبادته للغزاوّيين. نركّز هنا على استجلاء معالم التهليل للكولونياليَّة والصهيونيَّة والعنصريَّة وتبريرِها في ما في يعتبره الغربيون الثمرة الأهم في فكرهم الحديث، تحتَ مُسَمَّى التفكير النقدي متمثِّلاً في «مدرسة فرانكفورت»، التي كانَ مسيّراها الأشهَران آدورنو وهوركهايمر، يعيشان على ما توفِّره لهما صناديق الاستخبارات المركزية من أموال من أجل الترويج للنموذج الأميركي وتبرير جرائمه أحياناً.
نشير إلى أنَّ كلَّ ما تحويه هذه المادَّة من حقائق لم يكن مأخوذاً بنزوعات التعاطف الوجداني مع القضية الفلسطينيَّة أو بركوب موجة التخوين السهلة، فالمعطيات وثَّقها أكاديميون يساريون أميركيون وألمان، عبر قراءة المراسلات الشخصية والرَّسميَّة لمؤسِّسَيْ «معهد فرانكفورت» لعلم الاجتماع في أميركا، إضافةً إلى وثائق كشفت عنها الـ CIA وأتاحتها على موقعها الرسمي، وبالتَّالي فكل ما يَرِدُ هنا من تضمينات إنما هو مقتبس من هذه المراسلات.
كانت النظرية النقديّة لمدرسة فرانكفورت، إلى جانب «النظرية الفرنسية» واحدة من أهم منتجات صناعة النظريات العالمية، إذ يُشَكِّلان مصدراً مشترَكاً للعديد من أشكال النقد النظري التي ما زالت تهيمن على السوق الأكاديمية الغربية وتوابعها، بدءاً من نظرية ما بعد الاستعمار ونظرية تصفية الاستعمار وحتى نظرية الجندر. لذلك كان للتوجه السياسي الجوهري لمدرسة فرانكفورت تأثير على المثقفين الغربيين والمستلهِمين والمستنسِخين لنموذجهم الفكري.
إن أَعلام الجيل الأول في معهد البحوث الاجتماعية لفرانكفورت — وخصوصاً تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر— شخصيات بارزة في ما يسمى الماركسية الغربية أو الماركسيَّة الثقافية، مع تأكيدنا على أنَّ انحراف يورغن هابرماس، سليل الجيل الثاني بعيداً عن المادية التاريخية، التي كانت شكلياً وصوريّاً المصدَر الأهمَّ للجيل الثاني، جعلها رغم كل شيء عصراً ذهبياً حقيقياً للنظرية النقدية، حتَّى بسلبيتها وتشاؤمِها وتكريسها كأيديولوجيا ليبرالية «راديكالية»، مع اختزالها الممارسة السياسية في السياسة الأكاديمية التي لا يتجاوز فيها الصراع حدودَ الحرم الجامعيِّ، دونَ المجتمع حيث يحتدم الصراع الطبقي.
شهد الجيل الأول من «مدرسة فرانكفورت» بعض أكثر الاشتباكات احتِداداً في الصراع الطبقي العالمي في القرن العشرين. ولإعادة صياغة سياق عمل معهد البحوث الاجتماعية، فيما يتعلق بالصراع الطبقي الأممي، فإنّ إحدى أهم سماته كانت محاولته اليائسة، كذراع فكريَّة بيد الطبقات الحاكمة الرأسمالية ومديري الدولة ومنظِّريها، إعادةَ تعريف اليسار كيسار مُهَادِن، أي غير الشيوعي. وكانت أحد الجوانب المهمة لهذه المعركة استخدامُ أموال مؤسسات الـCIA ومنظَّمات في واجهتها كـ«مؤتمر الحرية الثقافية» (CCF) لتعزيز معاداة الشيوعية وتحريض اليساريين على اتخاذ مواقف ضد الأنظمة والحركات الاشتراكية القائمة. شارك هوركهايمر في رحلة واحدة على الأقل نظمها هذا المؤتمر إلى هامبورغ، ونشر أدورنو في مجلة Der Monat التي تمولها وكالة الاستخبارات، وكانت أكبر مجلة من نوعها في أوروبا.
ظهرت مقالاته أيضاً في مجلتين لوكالة الاستخبارات المركزية: Encounter وTempo Presente. كما استضاف وتَرَاسَلَ وتعاون مع عميل وكالة الاستخبارات المركزية ملفين لَاسْكِي، الذي كان الشخصية الأهم في مجلة Kulturkampf الألمانية المناهضة للشيوعية ومؤسِّس ورئيس تحرير مجلة Der Monat وعضو اللجنة التوجيهية الأولى لـCCF التابع لوكالة الاستخبارات. أخبر لاسكي أدورنو أنه منفتح على التعاون مع معهد البحوث الاجتماعية، بما في ذلك نشر أبحاثهم وإعلاناتهم على صفحات مجَلَّته، فما كان من أدورنو إلَّا أن قَبِلَ عرضه وأرسل له أربع مخطوطات غير منشورة، بما في ذلك كتابَ هوركهايمر «كسوف العقل» عام 1949.
لذلك، كان تعاوُن هوركهايمر طوال حياته مرتبطاً بشكل وثيق بشبكات CCF في ألمانيا الغربية، ويظهر اسمه في وثيقة، ربما يعود تاريخها إلى 1958/59، تحدد خططاً للجنة CCF الألمانية بالكامل. وحتَّى بعد الكشف في عام 1966 عن أن هذه المنظمة الدعائية الدولية كانت واجهة لوكالة الاستخبارات المركزية، استمر إدراجُ أدورنو في خطط توسيع فرع CCF في باريس، إذ وصفه تقريرٌ لـCIA كـ«بِزْنِسْ مُعْتَادٍ» في الجزء الغربي من ألمانيا الذي تشرف عليه الولايات المتحدة. وبالتالي، ليس مستغرَباً أن يحقق أدورنو وهوركهايمر شهرة عالمية داخل شبكات النخبة في «اليسار» المناهض للشيوعية.
يقوم نقدنا لهذين المؤسِّسَيْن البارزين للنظرية النقدية على وضع نتاجِهما الفكري وسلوكهما «السياسي» ضمن السياق الأشمل للصراع الطبقي على مستواهُ الأممي. ونحن نشهدُ الآن حرباً تخوضها غالبيَّة القوى الإمبرياليَّة المتحكِّمة في العالم ضدَّ سجنٍ مفتوحٍ من 360 كلم2 يكتظُّ فيه مليونَان ومئتا ألف محاصَرٍ من كلِّ الجهات. نحن أمام خط فاصل اعتباطي يحاول العديد من الأكاديميين البرجوازيين الصغار يائسين إقامته بين الإنتاج الفكري والعالم الاجتماعي والاقتصادي الأوسع، كما لو أن فكر المرء يمكن، بل ينبغي، فصلُه عن حياته وممارسته اليوميّة، عن النظام المادي للإنتاج والتداول والاستقبال النظري الذي تسميه الأدبيَّات الماركسيَة جهازاً فكريّاً.
نحن هنا أمام تسليع fétichisme فكري، أي استغلال لمنتَجات الصناعة النظرية في مضمار الصراع الطبقي وضد الطبقة التي يدَّعي هذا الفكر الانتماءَ إليها، والدفاع عن مصالحها، والاشتباكَ مع عدوِّها من أجل تحقيق برنامجها السياسي. صحيحٌ أنّ أدورنو وهوركهايمر وجّها بالفعل انتقادات معيَّنة ومحدودة للرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي ولصناعة الثقافة الاستهلاكية، ولكن، كي نضع هذه الانتقادات في سياق اجتماعي وموضوعي شامل، يتوجَّب طرح سؤال بسيط وعملي نادراً ما يُثار في الأوساط الأكاديمية: إذا أدركنا أنّ للرأسمالية آثاراً سلبية، فماذا يجب أن نفعل؟ رغم انتقادهما للرأسمالية في بعض الأحيان، فإنهما يؤكدان بانتظام أنّ لا بديل. إن انتقاداتهما للرأسمالية تتضاءل مقارنة بإدانتهما الصارمة للاشتراكية. وتؤدي نظريتهما النقدية في النهاية إلى قبول النظام الرأسمالي، حيث يُنظر إلى الاشتراكية على أنها أسوأ بكثير. ومثل معظم الخطابات الأخرى الشائعة في المجال الرأسمالي، يقترحان نظرية نقدية يمكن أن نطلق عليها نظرية ABS: Anything But Socialism، أي «أي شيء إلا الاشتراكية».
ليس مستغرباً في هذا الصدد، أن يحظى فكر أدورنو وهوركهايمر بالدعم والترويج على نطاق واسع في العالم الرأسمالي. ومن أجل تعزيز اليسار المهادِن، غير الشيوعي، في مواجهة التهديد الذي تفرضه الاشتراكية القائمة آنذاك، فهل مِنْ تكتيك أفضل من مناصرة الأكاديميين من أمثالهما باعتبارهما المفكرين الماركسيين الأكثر أهمية، بل الأكثر راديكالية في القرن العشرين؟ على ضوء هذه العمليَّة المضلِّلَة، يمكن بالتالي إعادة تعريف «الماركسية» على أنها نوع من النظرية النقدية المناهضة للشيوعية، التي لا ترتبط مباشرة بالصراع الطبقي مِنَ القاعدة، ولكنها تنتقد بِحُرِّيَّة كل أشكال «الهيمنة» التي تقف إلى جانب الطبقات المسيطِرة في الرأسمالية، ضد الهيمنة المزعومة لِفظائع «فاشية» الدول الاشتراكية القوية.
رغم أن شبابَ أدورنو وهوركهايمر اتَّسمَ بالأحداث التاريخية العالمية للثورة الروسية والثورة المجهَضة في ألمانيا، إلا أنهما كانا دوماً يحتاطان ويبتعدان عن كل سياسة يحضر فيها الزخم الجماهيري. ومع أن اهتمامهما بالماركسية اقترن بهذه الأحداث، إلا أنه كان اهتماماً فكريّاً محضاً. شارك هوركهايمر بشكل هامشي في الأنشطة المتعلّقة بجمهورية مجلس ميونيخ بعد الحرب العالمية الأولى؛ واستمر أدورنو في الابتعاد عن الأحداث السياسية المتفجرة، مكرِّساً نفسه لاهتماماته الشخصية.
كوضعٍ طبقي، كان كِلا مُنَظِّرَي «مدرسة فرانكفورت» من عائلتين ثريتَيْن. كان والد أدورنو تاجرَ خمور ثريّاً، وكان والد هوركهايمر مالِكَ مصانع نسيجٍ. ولم تكن لأدورنو أي علاقة شخصية بالحياة السياسية الاشتراكية، وحافظ طوال حياته على نفور عميق من العضوية الرسمية في أية منظمة حزبية. وبالمِثْل، لم يكن هوركهايمر منتسِباً لأي حزب عمالي. وعليه، سعى هوركهايمر إلى الحفاظ على الاستقلال المفترَض للنظرية، رافضاً موقف لينين ولوكاتش والبلاشفة القائل إن النظرية النقدية يجب أن تكون متجذّرة في الطبقة العاملة، أو في أحزاب الطبقة العاملة، بل شَجَّعَ المنظرين النقديين على العمل كعناصر مفكِّرَة «حرة»، بدلاً من ترسيخ أبحاثهم في البروليتاريا، وهو عمل كان يستخِفُّ به ويصفه بأنه «دعاية توتاليتارية».
عندما تولّى هوركهايمر منصب مدير معهد البحوث الاجتماعية عام 1930، اتّسمت إدارته باهتمامات تأمّلية حول الثقافة والسلطة، بدلاً من التحليلات المادية التاريخية الصارمة للرأسمالية والصراع الطبقي والإمبريالية. بدلاً من تسييس النشاط الأكاديمي، قام المعهد، عكسياً – تحت إدارة هوركهايمر – بإضفاء طابع أكاديمي تأمُّلي على السياسة، وهو ما يظهر ربما أكثر وضوحاً في «السياسة المُمعِنة» للمعهد تحت قيادة هوركهايمر في الامتناع، ليس فقط عن أي نشاط ولو كان سياسياً بشكل ملتبِس، لكن أيضاً عن أي جهد جماعي أو منظَّم لتحليل وضع ألمانيا أو لدعم المهاجرين. مع صعود النازية، حاول أدورنو الدخول في حالة سبات فكري، مفترِضاً أن النظام لن يلاحق إلا «البلاشفة والشيوعيين الأرثوذكس الموالين للسوفيات الذين لفتوا الانتباه إلى أنفسهم سياسياً». لقد امتنع عن توجيه انتقادات علنية من أي نوع للنازيين ولسياساتهم.
اشتد هذا الرفض للمشاركة بشكل علني في الممارسة السياسية التقدمية، عندما نقل مدير المعهد مقرَّه إلى الولايات المتحدة في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. تكيفت «مدرسة فرانكفورت» مع النظام البرجوازي المحلي، وفرضت رقابة على أعماله الماضية والحاضرة لاستيعاب الحساسيات الأكاديمية المحلية أو الشركات المموِّلَة له. لقد أزال هوركهايمر كلمات مثل الماركسية والثورة والشيوعية من منشوراته حتى لا يسيئ إلى رُعاته الأميركيين. بالإضافة إلى ذلك، كان أي نشاط سياسي محظوراً، كما أوضح هربرت ماركوز لاحقاً. كرّس هوركهايمر طاقته لتأمين تمويل الشركات والدولة للمعهد، حتى إنه لجأ إلى خدمات شركة علاقات عامة للترويج لعمله في الولايات المتحدة.
لذلك، لم يكن مهاجر آخر من ألمانيا، هو برتولت بريخت، مخطئاً عندما وصف بِلهجة حادَّة باحثي «مدرسة فرانكفورت» بالـ «عاهرات في سعيهن للحصول على الدعم في منفاهم في أميركا، يبيعون مهاراتهم وآراءهم كسِلَع من أجل الحصول على الدعم المالي، لدعم الأيديولوجية السائدة في المجتمع الأميركي القمعي». لقد كانوا في الواقع وكلاء فكريين «أحراراً»، غير مرتبطين بمنظمات الطبقة العاملة، في سعيهم للحصول على رعاية الشركات والدولة لنظريتهم النقدية المتكيِّفة مع السوق. كان صديق بريخت المقرَّب، فالتر بنيامين أحد أهم المحاوِرين الماركسيين لباحثي «مدرسة فرانكفورت» في ذلك الوقت. ولم يتمكن من الانضمام إليهم في الولايات المتحدة لأنه انتحر بشكل مأساوي عام 1940 على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، في الليلة التي سبقت تسليمَه شبه المؤكَّد مِنْ شرطة فرانكو لِلنازيِّين.
وبحسب أدورنو، فقد «انتحر بعد إنقاذه»، لأنه «أصبح عضواً دائماً في المعهد، وكان يعلم ذلك». هذه السرديَّة من القصة، التي تُقَدِّمُ انتحار بنيامين كقرار شخصي غير مفهوم، كانت بمثابة ادِّعاءات كاذبة باسم التبرئة الشخصية والمؤسساتية، إذ تبيَّنَ أن الشخصيات البارزة في «مدرسة فرانكفورت» لم تكن فقط غير راغبة في مساعدة بنيامين ماليّاً في هروبه من النازيين، بل شنت أيضاً حملة تَسَتُّر واسعة لتصوير نفسها زوراً على أنها من المحسنين له. قبل انتحاره، كان بنيامين يعتمد ماليّاً على المعهد الذي كان يدفع له بدلاً شهرياً. مع ذلك، لم يكن الأكاديميون في «معهد فرانكفورت» ينظرون بعين الرضا إلى تأثير بريخت والماركسية الثورية على أعماله.
لم يكن لدى أدورنو أي تردد في وصف بريخت بلقب «الهمجيّ»، وأوضَح لهوركهايمر أن بنيامين يجب أن يتحرر «نهائيّاً» من تأثيره عليه. ولم يكن مستغرباً أن يخشى بنيامين فقدان بدله الشهري، ويرجع ذلك جزئياً إلى انتقادات أدورنو لأعماله بسبب طابعها الماركسي الراديكالي، ورفضه نشر جزء من دراسته عن بودلير عام 1938، في نشرة المعهد، بعدما أبدى عليها ملاحظات رقابيّة بغية تخليصها من راديكاليتها السياسيَّة. وأخبر هوركهايمر بنيامين صراحة بينما كانت القوى الفاشية تضيِّقُ الخناق عليه، أنَّ عليه أن يستعد لوقف مصدر دخله الوحيد (منذ 1934)، كما ادعى أن يديه كانتا «مقيَّدتين للأسف» عندما رفض تمويل رحلة بنيامين إلى بر الأمان، عبر دفع ثمن تذكرة باخرة إلى الولايات المتحدة، كانت ستكلف ميزانيَّة المعهد أقل من 200 دولار.
رفض هوركهايمر إنقاذ حياة بنيامين بعد شهرٍ من تحويله 50 ألف دولار إلى حساب تحت تصرفه حصرياً، وبعد حصوله للمرة الثانية في ثمانية أشهر على مبلغ إضافي قدره 50 ألف دولار. في تموز (يوليو) 1939. حصل أيضاً على مبلغ قدره 130 ألف دولار للمعهد من فيليكس فايل، الابن الثري لمليونير رأسمالي كانت أرباحه مستمَدَّة من تجارة الحبوب في الأرجنتين والمضاربات العقارية وتجارة اللحوم، لتمويل «مدرسة فرانكفورت».
ما كان ينقصُ في الحقيقة هو الإرادة السياسية، لا المال. كان قرار هوركهايمر القاسي بالتخلي عن بنيامين جزءاً من سلوكٍ أكبر، يضع فيه المتنفِّذَان في المعهد تحقيق أهداف حياتهما الخاصة فوق مصالح الآخرين، بينما كانا يروجان للمظهر الزائف لفكرة التزامهما الاستثنائي تجاه الأشخاص الذين اضطهدهم النظام النازي. لاحقاً، وفي ما يشبه دقّاً للمسمار الأخير في نعش بنيامين، تم تطهير تراثه الأدبي من المكوِّنات الماركسية الأكثر وضوحاً وفقاً لهِيلْمُوتْ هَايْسِنْبُوتِّل: «في كل ما فعله أدورنو لأعمال بنيامين، ظل الجانب الماركسي-المادي مَمْحُوّاً […] تظهر هذه الأعمال خاضعةً لإعادة تفسير فرضَ فيه صاحبُنا المثير للجدل وجهة نظره».
وقع تحوُّل ملموس في التوجّه السياسي العام لـ«مدرسة فرانكفورت» عام 1940، حين أدارت ظهرها بشكل متزايد للتحليل الطبقي، لمصلحة التركيز على العِرْق والثقافة والهوية. كتب أدورنو إلى هوركهايمر سَنَتَذاكَ: «يبدو لي، في أحايينَ كثيرةٍ، أنَّ كل ما اعتدنا رؤيته من وجهة نظر البروليتاريا، يتركَّز اليوم بقوة مخيفة على اليهود». فتح هوركهايمر وأدورنو تحاليلهما، انطلاقاً من ماركسية مدجَّنة، على إمكانية رؤية الطبقة كمسألة تتعلق بالسلطة والهيمنة لا بالاقتصاد. (لم يكن اليهود فئةً محدّدة بالاستغلال الاقتصادي). وبمجرد طرح هذه الإمكانيَّة، أصبحت النمط السائد لتحليل اليسار بشكل عام. بعبارة أخرى، ساعد منظرو «فرانكفورت» في تمهيد الطريق لتحول أكثر عمومية في التحليل المادي التاريخي القائم على الاقتصاد السياسي ،نحو النزعة الثقافويَّة والسياسات الهوياتيَّة، التي ستتعزز في العصر النيوليبرالي.
استناداً إلى نظرة عامة مفصلة عن تاريخ وأنشطة المعهد، في 21 كانون الثاني (يناير) 1944، حشد «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (FBI) العديد من عملائه الذين يطلِق عليهم تعبير «الحمام الزاجل» للتجسّس على الباحثين لمدة عقد، لأنه كان يخشى أن يكون المعهد بمثابة غطاء لمنظمة شيوعية. مع ذلك، لم يجد المكتب سوى أدلة قليلة أو معدومة على وجود سلوك مشبوه، ويبدو أن عملاءه قد اطمأنوا عندما أوضح لهم بعض مخبريهم، الذين كانوا شخصياً قريبين من باحثي فرانكفورت، أن الْمُنَظِّرَيْنَ النَّقْدِيَّيْنِ «يعتقدان أن لا فرق بين هتلر وستالين في ما يتعلق بالأهداف والتكتيكات». وبالفعل، أكدا ذلك في بعض كتاباتهما، بما في ذلك تلك التي دبَّجاها عندما استقرا في ألمانيا الغربية ولم يعودا تحت التهديد المباشر للمراقبة من قِبَلِ مكتب التحقيقات الفيدرالي واحتمال الاحتجاز أو الطرد.
وفي المدة بين عامَي 1949 و 1950، أعاد المثقفان الدُّميتَان في «مدرسة فرانكفورت» مقرَّ المعهد إلى ألمانيا الغربية، أحد مراكز الحرب الفكرية العالمية ضد الشيوعية. كتب پيري أندرسون: «في هذه البيئة، حيث كان لا بد من حظر الحزب الشيوعي الألماني، وحيث تخلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني رسمياً عن جميع روابطه مع الماركسية، تم الانتهاء من عملية نزع كُلِّ تسييس عن أنشطة المعهد والكتابات التي تصدر عنه». ساعتئذٍ، اتهم يورغن هابرماس ـــ الذي كان يبزّ أحياناً أدورنو وهوركهايمر بالتطرُّف يساراً في السنوات الأولى — الأخيرَ بـ«الامتثال الانتهازي الذي يتعارض مع التقليد النقدي». واصل هوركهايمر رقابته على عمل المعهد، ورفض نشر مقالتين لهابرماس انتقدتا الديموقراطية الليبرالية وتحدثتا عن الثورة، وجَرَأَ فيهما على اقتراح إمكانية التحرر من قيود المجتمع البرجوازي.
وفي مراسلاته الخاصة، يُسَلِّم هوركهايمر بصراحة مثيرة لأدورنو أنه «من غير الممكن وجود اعترافات من هذا النوع في تقريرٍ بَحْثيّ لمعهد موجود بفضل الأموال العامة لهذه الشركة التي تَحولُ دونَ أيّ تحرّر». وهذا ما يبدو اعترافاً مباشراً بأن الأساس الاقتصادي لـ «مدرسة فرانكفورت» كان القوة الدافعة لأيديولوجيتها، أو على الأقل لخطابها العام: الرأسمال. من المهم التذكير، في هذا الصدد، أن خمسة من الأعضاء الثمانية في دائرة هوركهايمر عملوا كمحلِّلين ودعائيِّين للحكومة الأميركية ووكالة الأمن القومي، التي كانت لها كل المصلحة في الحفاظ على ولاء «مدرسة فرانكفورت»، لأن عدداً من أعضائها عملوا في مشاريع بحثية حكومية حساسة.
ولم يكن هوركهايمر وأدورنو من بينهم طبعاً، إذ تلقيا المزيد من الدعم من المعهد، لكن أدورنو هاجر إلى الولايات المتحدة للعمل في إذاعة بول لازارسفيلد، أحد الأذرع الفعلية لبرامج الحرب النفسية الحكومي. تلقى هذا المركز لدراسات الاتصالات، منحةً كبيرة قدرها 67 ألف دولار من مؤسسة روكفلر وعمل بشكل وثيق مع وكالة الأمن القومي الأميركي. قامت مؤسسة روكفلر أيضاً بتمويل عودة هوركهايمر الأولى إلى ألمانيا، في 1948، عندما أصبح أستاذاً زائراً في جامعة «فرانكفورت.» دعونا لا ننسى أن عائلة روكفلر هي إحدى أكبر عائلات العصابات في تاريخ الرأسمالية الأميركية، يستخدم أفرادها مؤسساتهم كملاذ ضريبي يسمح لهم بتدوير بعض ثرواتهم المسروقة في إفساد النشاط الفكري والثقافي. كما كانوا متورطين بشكل مباشر مع وكالة الأمن القومي في فترة رعاية «مدرسة فرانكفورت». بعدما شَغَلَ منصب مدير مكتب منسق الشؤون الأميركية (OCIAA)، وهي وكالة دعاية فدرالية يشبه عملها عمل مكتب الخدمات الإستراتيجية ووكالة الاستخبارات المركزية، أصبح نيلسون روكفلر، عام 1954، المنسّق العامَّ للعمليات الاستخباراتية السرية، بصفة المساعد الخاص للرئيس في استراتيجية الحرب الباردة. سمح هذا التداخل في المهام باستخدام صندوق روكفلر كقناة لأموال وكالة الاستخبارات المركزية.
مع كل هذه الروابط بين أنشطة «فرانكفورت» والطبقة الحاكمة الرأسمالية والإمبراطورية الأميركية، لم يكن مستغرَباً أن تدعم حكومة الولايات المتحدة عودة المعهد إلى ألمانيا الغربية بمنحة كبيرة جداً في عام 1950، قدرُها من 435000 مارك ألماني (103695 دولاراً، أي ما يعادل 1195926 دولاراً بالقيمة النقدية لعام 2022).
وفي تلبية لمتطلَّبات عمالته الأيديولوجية، أعرب هوركهايمر علناً عن دعمه غير المشروط للحكومة العميلة لأميركا المناهضة للشيوعية في ألمانيا الغربية، التي كانت أجهزتها الاستخباراتية مكتظَّة بالنازيين السابقين، فضلاً عن دعمه لمشروعهما الإمبريالي في فيتنام (اعتبَرَه ضرورياً لوقف الصينيين). وفي محاضرة له في إحدى الصالات الأميركية في ألمانيا، كانت بمثابة مواقع دعاية في الحرب الثقافية المناهضة للشيوعية، أعلن بوقاحة في أيار (مايو) 1967: «في أميركا، عندما يكون من الضروري شن حرب، وأرجوكم أن تصغوا إلي الآن […] فإن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن الوطن، بل يتعلق الأمر في الأساس بالدفاع عن الدستور، والدفاع عن حقوق الإنسان». يتحدَّثُ كبير كهنة النظرية النقدية هنا عن بلد تأسّس كمستعمَرة استيطانية، اجتمعت فيها عمليات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين ضِمْنَ مشروع توسعي إمبريالي ترك، وما زال، البصمة الأكثر دموية في تاريخ العالم الحديث (بما في ذلك حوالى 37 تدخلاً عسكرياً ومخابراتياً بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1967، عندما أذاعَ هوركهايمر هذا الادعاء المخزي عبر منصة دعاية أميركية).
ورغم أن أدورنو كان ينغمس في سياسات البرجوازية الصغيرة التي تتسم بالسلبية المتواطئة، ويتجنب التحدث علناً عن الأحداث السياسية الكبرى، إلا أن التصريحات القليلة التي أدلى بها كانت رجعية إلى حد مدهش. في عام 1956 مثلاً، شارك في تأليف مقال مع هوركهايمر يدافع فيه عن العدوان الثلاثي على مصر من قبل «إسرائيل» وبريطانيا وفرنسا، الذي كان يهدف إلى الاستيلاء على قناة السويس والإطاحة بعبد الناصر، مع إشارة إلى عبد النّاصر، أحد القادة التَاريخيِّين المناهضين للاستعمار في حركة عدم الانحياز، باعتباره «زعيماً فاشياً [...] يتآمر مع موسكو». يواصل بيانهما: «لا أحد يجرؤ حتى على الإشارة إلى أن دول هؤلاء العرب اللصوص كانت تتحيَّنُ منذ سنوات الفرصة للانقضاض على إسرائيل وذبح اليهود الذين وجدوا ملجأ هناك». وفقاً لهذا التلاعب البهلواني بالدياليكتيك، فإن الدول العربية هي اللصوص، لا مستعمَرة المستوطِنين، التي تعمل مع الدول الإمبريالية الرئيسية لتقويض حق العرب في تقرير مصيرهم.
نشر رجال «مدرسة فرانكفورت» أحد أكثر نصوصهم السياسية صراحةً في العام نفسه. بدلاً من دعم حركة التحرر العالمية المناهضة للاستعمار والإسهام في بناء عالم اشتراكي، انضموا إلى جوقة المتغنِّينَ بتفوق الغرب، عبر تشويه سمعة الاتحاد السوفياتي والصين، واستحضار الأوصاف العنصرية لـ«برابرة» الشرق، مستخدِمَيْنِ مفردات «الحيوانات» و«القُطعان» التي تحط من قدر الإنسانية بشكل صارخ (كما استعمل الصهاينة هذه الأيام العبارات نفسها لوصف الفلسطينيِّين)، معلنَيْنِ بصراحة أن الرُّوس «فاشيون» اختاروا «العبودية». ووصل الحدُّ بِأدورنو أن انتقد الألمان الذين يعتقدون خطأً أن «الروس يمثلون الاشتراكية»، مذكِّراً إياهم بأن الروس في الواقع «فاشيون»، مضيفاً أنّ «الصناعيين والمصرفيين» — الذين يتماهى معهم هنا — يدركون ذلك حقاً (ما أشبهَ هذا القاموس بموجة الروسوفوبيا التي وظَّفها الغرب لشيطنة روسيا مع أول صراعاتها العسكرية المتواصلة مع أوكرانيا).
«كل ما يكتبه الروس ينزلق نحو الأيديولوجية، نحو هُراءٍ فظٍّ وغبيٍّ»، يؤكد أدورنو في هذا النص بوقاحة، كأنه قرأ كل ما كتبوه، في حين أنه، كعادته، لا يستشهد بمصدر واحد. ويؤكد أن ثمَّةَ في تفكيرهم «عنصراً من استعادة البربرية»، وهو ما نجده أيضاً في ماركس وإنغلز وفقاً له. ويزداد أدورنو وقاحةً بادعائه أنّ هذا المشروع الذي كتبه بالاشتراك مع هوركهايمر «بيانٌ لينينيٌّ خالصٌ» في مناقشة يؤكدان فيها أنهما لا «يدعوان أحَداً إلى العمل السياسي»، وحيث يرفع أدورنو بوضوح الفكر البرجوازي إلى مصافِ ما يسميه «الثقافة الأكثر تقدماً» المتفوِّقة على الهمجية المفترَضة للفكر الاشتراكي. وفي هذا السياق، يزايدُ عليه هوركهايمر بشوفينيتِه الأورومركزية عبر التأكيد، في استنتاج لم يُثِرْ أيَّ اعتراض من زميله «اللِّينينيَّ»: «أعتقد أن أوروبا وأميركا ربما تكونان أفضل الحضارات التي أنتجها التاريخ حتى الآن من حيث الرخاء والعدالة. الأمر الرئيسي الآن هو الحفاظ على هذه المكاسب».
وفي 1956، كان ملوَّنو الولايات المتحدة إلى حد كبير ضحية للفصل العنصري، وكانت أميركا متورِّطة في حملات مطاردة الساحرات المناهضة للشيوعية وحملات زعزعة الاستقرار في جميع أنحاء العالم، مُحْكِمَةً قبضتَها الإمبراطورية عبر الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديموقراطياً في إيران (1953) وغواتيمالا (1954)، بينما شنت القوى الأوروبية حروباً عنيفة للاحتفاظ بمستعمَراتها القديمة أو لتحويلها إلى مستعمَرات جديدة.
في الخلاصة، لعب أدورنو وهوركهايمر دور المتلاعبين بالفكر الراديكالي، مفرغين إياه من جذوة التحرُّر ومن آليات الصراع الطبقي، معطيين نسخة ماركسيتهما المعطوبة نزعةً مؤيدةً للغرب الليبرالي ومعادية للشيوعية. ومثل غيرهم من المثقفين البرجوازيين الصغار في أوروبا والولايات المتحدة، الذين شكلوا أساس الماركسية الغربية، أعربوا علناً عن اشمئزازهم لا السياسي فقط، وإنما الاجتماعي الشوفيني أيضاً مما اعتبروه برابرة الشرق المتوحشين، الذين تجرّؤوا على حمل سلاح النظرية الماركسية على غرار لينين واستخدامها للعمل على مبدأ أنهم يستطيعون حكم أنفسهم بأنفسهم. ورغم شعورهما بالقلق إزاء عيوب المجتمع الاستهلاكي، فقد رفضا مع ذلك اتخاذ خطوات ملموسة لمعالجتها بسبب الافتراض الأساسي المتمثل في أن العلاج الاشتراكي لهذه المحنة أسوأ بكثير من المرض نفسه.
في الجولة القادمة، الأخيرة حتماً، من صراعنا مع الكيان الصهيوني، لن نترك لأحدٍ، مِنَ «السِّلميَّة» الطُّوباويَّة جوديث بتلر حتَّى التبريريّ هابرماس، كلَّ ذلكَ التَّرف في التنظير الفكري على الشُّعوبِ وحركاتها التحرُّريَّة وكيفيَّة المواجهة وأخلاقيَّة (أو عدم أخلاقيَة) استعمال العنف الثوري؛ لن نتركَ لأحد أن يقرّر للجنوبيِّين من يحكمهم أو كيف يحكمون أنفُسهم.
وهنا نص البيان الذي وقع عليه يورجين هابرماس:
البيان العار
في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، نشر هابرماس مع ثلاثة آخرين من النّخبة الأكاديميَّة الجرمانية، على الصّحافة الأوروبيّة والعالميَّة بياناً بعنوان «مبادئ التضامن، اتِخاذ موقف». هنا نصُّه: «الوضع الحالي، الذي خلقه هجوم «حماس» الوحشي الذي لا مثيل له، وردّ إسرائيل على هذا الهجوم، قد أدَّى إلى ظهور سلسلة مواقف وتظاهرات سياسية-أخلاقية. ونعتقد أنه رغم وجهات النظر المتضاربة التي تم التعبير عنها، فمن المناسب الاحتفاظ ببعض المبادئ التي لا يمكن الاعتراض عليها. إنها تُشَكِّلُ الأساس لتضامن مع إسرائيل ويهود ألمانيا. إن المذبحة التي نفذتها «حماس» بهدف معلن هو تدمير الحياة اليهودية بشكل عام، ما دفع إسرائيل إلى الرد. إن الطريقة التي يتم بها تنفيذ هذا الرد، المبرر من حيث المبدأ، هي موضوع نقاش مثير للجدل. مبادئ التناسب، ومنع وقوع إصابات في صفوف المدنيين، وشن الحرب بهدف تحقيق السلام في المستقبل، يجب أن توجِّه هذه المناقشة. ورغم كل القلق بشأن مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير التقييم تخطئ تماماً عندما نعزو نوايا الإبادة الجماعية إلى الفِعل الإسرائيلي. وعلى وجه الخصوص، فإن تصرفات إسرائيل لا تبرر ردود الفعل المعادية للسامية، وحتى أقل من ذلك في ألمانيا. من غير المحتمل أن يتعرض اليهود في ألمانيا مرة أخرى لتهديد في حياتهم وسلامتهم الجسدية، وأن يضطروا إلى الخوف من العنف الجسدي في الشوارع. إن المفهوم الديموقراطي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، الذي يركز على الالتزام باحترام الكرامة الإنسانية، يرتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وقانون وجود إسرائيل عنصرين أساسيين فيها، في ضوء الجرائم الجماعية التي ارتكبت في الحقبة النازية. ومن الأساسي أن نلتزم بهما من أجل تعايشنا السياسي. إن الحقوق الأساسية في الحرية والسلامة الجسدية والحماية من التشهير العنصري، لا يمكن فصلها وتنطبق على الجميع بالتساوي. ويجب على أولئك الذين زرعوا في بلادنا مشاعر وقناعات معادية للسامية وراء كل أنواع الذرائع، والذين يرون اليوم فرصة طيبة للتعبير عن هذه المشاعر والقناعات من دون ضبط النفس، أن يمتثلوا لها أيضاً».
- يتمثل المصدران الوحيدان لهذه المقالة في دراسة الأكاديمي الماركسي الأميركي غابرييل روكهيل «الـCIA ومناهضة مدرسة فرانكفورت للشيوعيَّة» وكتاب المؤرخ الماركسي الإنكليزي بيري أندرسن «نظرات في الماركسية الغربية» (الترجمة الفرنسية)