في هذا الحوار الصريح مع جريدة ألمانية تتحدث الكاتبة الأميركية الروسية ماشا جيسين عن حيثيات تسليمها المتململ لـ "جائزة حنة آرندت" والضجة التي رافقتها بسبب موقفها من العدوان الإسرائيلي وتشبيهها لغزة المُحاصرة بالغيتو اليهودي إبان فترة الحكم النازي، مُنتقدة في هذا الحوار ثقافة الإلغاء السائدة في ألمانيا اليوم حتى في الحقل الثقافي الألماني، الذي يبدو برأيها أنه أصبح لا يرى إلا بعين واحدة، شأنه في ذلك شأن ميداني السياسة والإعلام في هذا البلد الأوروبي المتحرج من ماضيه.
هنا نص الحوار (*):
(*) مساء الخير السيدة ماشا جيسين، كيف هو شعورك الآن؟
أشعر نوعًا ما بالدهشة، لكن، على العموم، كل شيء على ما يرام.
(*) في نهاية هذا الأسبوع كان سيجري منحك "جائزة حنه أرندت"، لكن فرع الجمعية الألمانية الإسرائيلية في بريمن طالب بعدم تسليم الجائزة، كما أعلنت مؤسسة هاينريش بول انسحابها من حفل توزيع الجائزة. هل يمكنك وصف وجهة نظرك بهذا الخصوص؟
كان من المفترض أن أسافر بالطائرة من نيويورك إلى بريمن بعد عصر يوم الأربعاء. وعندما استيقظت، وصلتني رسالة من أحد منظمي الجائزة يبلغني فيها بأن مؤسسة هاينريش بول قد سحبت تعهدها، وأن الجائزة قد فقدت مكان احتضانها، بلدية بريمن. ولكنهم قالوا أيضًا إنهم سيقفون بجانبي وسيواصلون إجراءات الجائزة. أظن أنه ليس من الواضح في الوقت الحالي ما إذا كانت قيمتها المالية لا تزال مرتبطة بالجائزة. وقد فكرت لفترة وجيزة فيما إذا كان ينبغي عليّ القدوم إلى بريمن. لكنني قلت لنفسي: إذا كانوا يدعمونني، فيتعيّن أن آتي أيضًا.
(*) سيُقام الحفل إذًا كما خُطّط له؟
سيكون هناك عشاء خاص. وفي صباح يوم السبت، ستكون هناك فعالية شبه عامة، يشارك فيها أيضًا عالم السياسة البلغاري، إيفان كراستيف. سأقدم محاضرة وأتوقع أنه ستكون هناك مناقشة. في الأصل كان من المفترض أن يكون هناك حفل توزيع الجائزة ومناقشة في الجامعة، لكن هذا أُلغي الآن. يبدو أن جامعة بريمن توصلت إلى نتيجة مفادها أن مثل هذا النشاط من شأنه أن ينتهك توصية البرلمان الألماني ضد حركة مقاطعة إسرائيل، رغم أن التوصية غير ملزمة قانونًا! لكن لأكون صادقة، لست متأكدة حتى ممّا يفترض أن ينتهكه هذا النشاط.
(*) بما أنك ذكرت ذلك، ما هو موقفك من حركة مقاطعة إسرائيل؟
بهذا الخصوص لدي مشاعر مختلطة. أتمنى أن تتّخذ الحركة موقفًا واضحًا يقرّ بأهمية الحاجة إلى مستقبل فلسطيني يهودي مشترك في البلد، لكنني أتفهّم أيضًا سبب عدم اتخاذها مثل هذا الموقف. وبغض النظر عن مراوغاتي الشخصية، فهي حركة سلمية. إن مساواة دعوات سلمية للمقاطعة الاقتصادية بالعنف أو بخطاب الكراهية يُعد إهانةً لحرية التعبير. ما يتعيّن علينا فعله، بدلًا من نزع الشرعية عن حركة المقاطعة وأنصارها، هو مناقشة الاعتراضات أو التحفظات التي قد تكون لدى الناس، وأنا منهم، تجاه هذه الحركة.
(*) في مقالك تصفين كيف أن رؤيتك للنصب التذكاري للمحرقة في المتحف اليهودي في برلين، جعلتك تفكرين في الآلاف من سكان غزة الذين قُتلوا بفعل الرد الانتقامي على "مجزرة" حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وكتبتِ: "أظن إذا قلت ذلك علنًا في ألمانيا، فقد أقع في مشكلة". هل كان بعض ما حدث الآن متوقعًا سلفًا؟
هذا يشبه إلى حد ما تجربة خاضعة للمراقبة. عندما كنت في برلين لتغطية هذا المقال الذي نشرته مجلة نيويوركر، تمازحت مع صديقتي، كلتانا كانت تقول إنه قد تُسحب جائزة أرندت. لكن أناسًا من الوسط الثقافي، الذين تفاعلنا معهم في برلين، قالوا: لن يحصل هذا، لا في حالتك، ولا في جائزة أرندت. في المقام الأول أجد الأمر برمته مثيرًا للسخرية. وفي نهاية المطاف، يبدو أيضًا كما لو أن الجائزة بسبب مقالتي في نيويوركر قد حظيت الآن باهتمام أكبر بكثير في ألمانيا مما كانت ستحصل عليه لولا ذلك.
(*) في بيان صحافي برّرت مؤسسة هـ. بول انسحابها من حفل توزيع الجوائز، بسبب وصفك لغزة بأنها "غيتو" يجري تصفيته من وجهة نظرك على يد إسرائيل. هل كان هذا جدلًا مستهدفًا من طرفك؟ وهل تؤيدين هذا التوصيف؟
كما ترون، فإن تفرد المحرقة النازية، والذي هو الحجة الرئيسية لمقالتي، عادة ما يُفهم على أن المقصود منه أنه لا يمكن مقارنة المحرقة بأحداث أخرى. أما أنا فأرى من جهتي، أن خصوصية المحرقة تعني أنه ينبغي دائمًا مقارنتها بأحداث أخرى ... وهذا حرفيًا هو جوهر العبارة: "لن يحدث ذلك أبدًا مرة أخرى" (**). نحن، الأفراد الذين يعيشون في سنة 2023، لسنا، بطريقة أو بأخرى، أكثر ذكاءً أو أخلاقية ممن كانوا قبلنا، أي قبل 80 أو 90 سنة. الفرق الوحيد بيننا وبينهم هو أن المحرقة تقع، بالنسبة لنا، في حيّز ماضينا. إن مقارنة الأشياء التي حدثت أثناء الهولوكوست أو قبلها بالأشياء التي تحدث اليوم هي أفضل فرصة نمتلكها لمنع حدوث الهولوكوست مرة أخرى. وهذا هو موقفي الأساسي. وهذا ليس استفزازًا. أعتقد أن لدينا التزامًا أخلاقيًا بعقد المقارنات.
(*) ومع ذلك، هل يمكنك الحديث عن هذا المصطلح المحدد؟ أنت تقارنين غزة بالغيتو اليهودي خلال الحقبة النازية.
جميع المقارنات تبقى غير كاملة. والسبب وراء قيامنا بعقد المقارنات ومحاولة التعلم منها هو كونها تسمح لنا برؤية ما هو مشابه وما هو مختلف. وفي حالة قطاع غزة المُحاصر – أقصد هنا على وجه التحديد فترة ما قبل السابع من أكتوبر - فإن عبارة "سجن في الهواء الطلق" التي كثيرًا ما تستخدمها مُنظمات حقوق الإنسان، غير مُوفقة تمامًا. فغزة ليست مكونة من زنازين، وليس عليها حُراس سجون. إن الغيتو في دول أوروبا الشرقية التي كان يحتلها النازيون هو أقرب إلى الدقة. وحينما يطلق المرء على مكان ما اسم "الغيتو"، فإن السؤال الذي يعقب ذلك، هو: "ماذا سيقع بعد ذلك؟". إن ما نعاينه الآن من هجوم عسكري إسرائيلي على غزة وحقيقة أن السكان لا يستطيعون مغادرة تلك المساحة المحاصرة، يشبه في الواقع تصفية الغيتو. وقد ردّ البعض قائلًا: "هذا خطأ. بعد تصفية الأحياء اليهودية، وُضِعَ اليهود في معسكرات الإبادة". هذه حجة مشروعة، لكن العديد من اليهود ماتوا أثناء التصفية أو في الطريق إلى معسكرات الإبادة. وهذه تحديدًا هي النقطة التي يجب أن نطرح فيها مسألة "لن يحدث هذا مرة أخرى أبدًا". إن الحدود المصرية مغلقة، والسياج المحيط بغزة لا يزال قائمًا، والجيش الإسرائيلي يقصفها. ماذا بوسع العالم فعله لمنع المزيد من القتل؟
(*) إذا وضعت نفسك في موضع الألمان غير اليهود، مثل ممثلي مؤسسة هاينريش بول أو في موضعي أنا: هل يمكنكِ أن تتفهمي الانزعاج الناجم عن هكذا مقارنة بين الغيتو الذي احتله النازيون وغزة التي تحتلها إسرائيل عسكريًا؟ ففي نهاية المطاف هناك علاقة مباشرة بين وجود إسرائيل وتاريخ ألمانيا الحافل بالعنف المعادي للسامية.
بالتأكيد. أنا أدرك سبب ذلك. لقد صنع الألمان لأنفسهم مُعضلة غريبة، تتلخص في محاولتهم، من ناحية، أن يكونوا على وعي تام بالهولوكوست، ولكن من ناحية أخرى، يتعين عليهم الحرص على عدم تكييف هذه الذكرى أو إضفاء طابع نسبي عليها، وذلك من خلال جعلها كونية.
(*) هل تواصلت معك مؤسسة هاينريش بول فعليًا بعد هذه الضجة؟
قبل حوالي نصف ساعة تلقيت رسالة إلكترونية من إيمي شولتس، إحدى مديرات مؤسسة هاينريش بول، اعتذرت فيها عن الدينامية السلبية التي أثارتها هذه الواقعة. وقد جاء فيها: "يرجى التيقن أننا لا نشكك في أهليتك للجائزة. على العكس من ذلك، نحن نقاسمك الثناء والاحترام لعملك (...) ولكن، كما توقعتِ بالفعل في مقالتك في مجلة نيويوركر، سرعان ما تحول النقاش العام حول هذا الموضوع في ألمانيا إلى الجانب السلبي. استشعر فرع مؤسسة بول في بريمن بالضغط من أجل الانسحاب من الحفل المُقرّر عقده مساء الغد. ولقد وافقنا على هذا القرار لأنهم شركاؤنا، ونقبل الانتقادات الشديدة التي تلقيناها في ألمانيا وعلى المستوى الدولي بشأن هذا القرار". هذا النمط من اللغة مألوف بالنسبة لي للغاية.
(*) من أين؟
من روسيا، ومن الاتحاد السوفياتي. المعذرة، الآن أفعل ذلك مرة أخرى! إنني أقارن. هذه المرة أقارن ألمانيا اليوم مع ألمانيا الشمولية. لا أريد أن أدّعي أن ألمانيا اليوم دولة شمولية. لكن بعض العادات لديها طريقة للبقاء في حالة سُبات ثم تُعاود الظهور فجأة. لقد ألّفت كتابًا بأكمله عن العادات الشمولية في روسيا وكيف أنها لا تزال مستمرة حتى اليوم. هناك ديناميكية محددة لا تزال تشتغل. والحكومات الشمولية ماهرة للغاية في صُنعها؛ فهي، إلى حد ما، إكسير وجودها. ويتعلق الأمر هنا بجعل الناس يشعرون بأن عليهم القيام بشيء غير أخلاقي في ظل هذه الظروف من أجل أن يظلوا أشخاصًا نُزهاء.
(*) هل واجهت بنفسك شيئًا كهذا في روسيا؟
بالتأكيد. في سنة 2004 تقريبًا، كان بوتين بصدد تدمير جميع الآليات الديمقراطية، لكن لم تكن هناك رقابة بعد. كتبت مقالًا عن الحرب في الشيشان في ذلك الوقت، فجاءني رئيس دار النشر، الذي كان أيضًا مسؤولًا عن جرائد عدة، قائلًا: "أتفق معك تمامًا. لكن لا يمكنك استخدام هذا العنوان على الإطلاق. إذا قمت بذلك، فإن 320 شخصًا سيفقدون وظائفهم". لقد حاول أن يجعلني أشعر بالذنب. لقد جرى استبدال حقيقة قيامي بعملي كصحافية بنوع من الولاء - في هذه الحالة من خلال الحفاظ على الوظائف. أشعر أيضًا بلمسة من هذا الموقف في الرسالة الإلكترونية القادمة من مؤسسة بول. إن مفادها ولو ليس حرفيًا: "نحن ندعمك، لكن المزاج العام في البلد صعب للغاية. وبشكل عام علينا حماية الطرف الأضعف. بمعنى آخر، نحن عاجزون عن القيام بما تأسّسنا من أجله: دعم القيم الليبرالية". هذا المنطق أعايشه طوال حياتي.
(*) ماذا وراء ذلك؟
أعتقد أن سبب ذلك هو افتقار الإرادة إلى القوة السياسية الحالية واستخدامها. وإذا لم نمارس هذه السلطة، فلن نتمكن من الحفاظ على ديمقراطياتنا.
(*) تصفين في مقالتك كيف يجري استغلال ذكرى المحرقة في ألمانيا، ولكن أيضًا في دول أخرى، وخاصة دول أوروبا الشرقية، ولا سيما في أعقاب التحول نحو اليمين. ما الذي يميّز الوضع الألماني في نظرك؟
هناك اختلافات كبيرة بين ألمانيا وبولندا على سبيل المثال. لقد جعلت ألمانيا من الاعتراف بذنبها والتشديد عليه جزءًا أساسيًّا من هويتها الوطنية. ولقد ميّزت حنة أرندت منذ فترة طويلة بين الذنب والمسؤولية. أعتقد أنه يمكن القول بأن ما تدعيه ألمانيا ليس المسؤولية بالمعنى الذي أرادته أرندت، بل هو الشعور بالذنب. أما في بولندا فالعكس هو الحال. فالبلد يرفض المسؤولية والذنب على حد السواء. ويؤكد بشكل مضاد للحقائق على براءته التاريخية.
(*) أعلنت جوديث بتلر أنها لم تعد ترغب في القدوم إلى ألمانيا. وقد أدلى العديد من المشتغلين في الحقل الثقافي بتصريحات مماثلة في الأسابيع الأخيرة. كيف سيؤثر هذا الحدث على علاقتك مع ألمانيا؟
بدوري أسأل نفسي هذا السؤال. في الواقع أنا لا أحب مصطلح ثقافة الإلغاء، لكنه في الواقع يبدو مناسبًا هنا. ستنظم صديقتي، تانيا بروغيرا، مديرة مركز حنة أرندت في هافانا، قريبًا نشاطا فنيًّا في متحف كاسل بعنوان "حينما تتحول أفكارك إلى أعمال مدنية (100 ساعة من قراءة كتاب أصول الشمولية)"، وطلبت مني أن أقرأ. أنا الآن في انتظار معرفة ما إذا كان سيجري إلغاء دعوتي. بالنسبة لي، ألمانيا مكان مهم لكتبي ولصداها. لقد اعتبرت دائمًا وحتى الآن أنه من المفيد المجيء إلى ألمانيا. فهنا تُناقش الكتب بطريقة غير عادية مقارنة بالولايات المتحدة. ومن الناحية الفكرية، ستكون بالتأكيد خسارة بالنسبة لي ألا أتمكن من القدوم إلى ألمانيا بعد الآن.
(*) إن النقاشات الأخيرة حول معاداة السامية في جامعات الولايات المتحدة تبدو وكأنها صورة طبق الأصل لتلك الدائرة في ألمانيا ـ بصرف النظر عن حقيقة مفادها أن هناك عجزًا حقيقيا وواضحًا في التعامل مع "فظائع" السابع من أكتوبر. هل هنالك صلة؟
الديناميكيات متشابهة جدًا، حتى من الناحية القانونية. في الولايات المتحدة الأميركية، تبدو هذه القضية أقل بروزًا. لكن ذلك قد يكون مجرد مسألة وقت. لقد أصدرت خمس وثلاثون ولاية أميركية تشريعات لمحاربة حركة مقاطعة إسرائيل، تشريعات غير ملزمة قانونًا. ومنذ عام 2019، يوجد هنالك مرسوم وقّعه دونالد ترامب يقضي بسحب التمويل الفيدرالي من الجامعات والبرامج الأخرى، التي يُزعم أنها لا تحمي الطلاب من معاداة السامية. وأعتقد أن السبب وراء عدم تأثير هذا التشريع بشكل أكبر في الولايات المتحدة يرجع إلى قلة التمويل الحكومي هناك. لا أريد أن أقول إنه لا توجد معاداة للسامية في الولايات المتحدة. لكن جلسات الاستماع حول ما يُسمّى بمعاداة السامية في الجامعات هي هجوم على التعليم العالي.
(*) بعد الإعلان عن نأي مؤسسة هـ. بول بنفسها عن الجائزة، قال البعض إن حنة أرندت ذاتها ستُعتبر غير مستحقة لجائزة حنة أرندت في ظل هذا المناخ السائد بألمانيا.
في ثلاثينيات القرن الماضي كانت حنة أرندت صهيونية عن اقتناع. لكنها في وقت لاحق انتقدت مشروع دولة إسرائيل القومية الاستعمارية- الاستيطانية. ربما هي لم تستخدم عبارة "الاستعمار- الاستيطاني"، بل كانت تتحدث عن "الدولة القومية"، لكنها شعرت بالذعر ممّا لاحظته منذ الأيام الأولى لإسرائيل. وأصرت على عقد مقارنات بين النازيين وحزب يهودي إسرائيلي. كانت دارِسة للشمولية، التي اعتبرتها شكلًا جديدًا من أشكال الحكم. وكان من المهم جدًا بالنسبة لها البحث عن العلامات المبكرة لذلك في بلدان أخرى. في هذا الصدد، نعم: ربما لن تحصل حنة أرندت على جائزة "حنة أرندت" في ألمانيا اليوم.
هوامش:
(*) نُشر نص الحوار الأصلي على موقع جريدة فرانكفورتر روندشاو الألمانية بتاريخ 15.12.2023. أجرى الحوار هانو هاونشتاين. رابط الحوار:
(**) عبارة تبنتها السياسة والإعلام الألمانيان بعد هجوم السابع من أكتوبر في مساندتهما الأحادية لإسرائيل في عدوانها على قطاع غزة.
عن (ضفة ثالثة)