تكشف كاتبة هذا المقال، وهي الأسيرة الفلسطينية السابقة التي عانت من دولة الاستيطان الصهيوني في بلدها عن جانب مهم لمعارك غزّة العزّة، وهي أنها لا تمثل نقطة تحوّل في تاريخ هذا الكيان الاستيطاني الإرهابي فحسب، بل في تاريخ الحرب الحديثة التي تعتمد على الواقع المفرط، وقلبتها المقاومة إلى الحقيقة الصلبة.

المقاومة تُعيدنا إلى الحقيقة

في زمن «الواقع المفرط»

تهاني نصّار

 

منذ بدء العدوان الهمجي غير المسبوق على قطاع غزة، وربما الأكثر عنفاً منذ حرب النكبة واحتلال فلسطين عام 1948، وجيش الاحتلال يغرق أكثر في دوامة فشله العسكري والإعلامي. في الشهر الثالث لمعركة «طوفان الأقصى»، لم يستطع العدو الصهيوني تحقيق أيّ هدفٍ حقيقي وفقاً للرأي العام الإسرائيلي والصحف العبرية، سوى ارتكاب جرائم حرب من حيث نوع الأسلحة وطبيعة الأماكن المستهدفة والإبادة المتعمّدة للغزّيين في شمال القطاع. ومع أنّه استنفدَ كل جهوده في محاولاته المتكرّرة لتضليل الجماهير حول العالم عبر تصدير الصور والأخبار المفبركة، إلّا أنّ الإعلام البديل فضح تلك الادّعاءات وكشف زيفها عبر رد الصور إلى أصلها بعد نزع التعديلات عنها، ونشر مقاطع حقيقية مصوّرة لأرض المعركة.

في هذه المقالة محاولة لقراءة الحرب عبر الصور المنتجة ونظرية الواقع المفرط أو «ما فوق الواقع» (Hyperreality)، أي المزج بين الواقع والخيال إلى درجة عدم التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع وفقاً للفيلسوف الفرنسي جان بودريار (1929-2007). كما تقترح المقالة تصنيف أو إدراج ما ينشره الإعلام الصهيوني (الإسرائيلي والغربي) تحت مصطلح «السيمولاكرا» Simulacra، أي صورة/ نسخة ومحاكاة للواقع فقدت أصلها وأي صلة حقيقية لها، فأصبحت لا تمثّل إلا نفسها وفقاً لما قدّمه بودريار، بينما يبقى الإعلام البديل يقدّم صوراً تعدّ تمثيلاً للواقع (representation)، أي نسخة مُخلِصة له وعنه. عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار بأطروحته للدكتوراه/ كتابه الأول «نظام الأشياء» (1968)، لكنه اشتهر خارج الأوساط الأكاديمية عبر كتابه Simulacra and Simulation  المصطنع والاصطناع» أو «التظاهرات والمحاكاة»، عام (1981). حسب اختلاف الترجمات العربية) الذي شاهده الملايين حول العالم في مكتبة «نيو» (قام بدوره الممثل كيانو ريفز) في فيلم «المصفوفة » The Matrix (1999)حيث كان يخبّئ في داخله ملفّات القرصنة الرقمية السرّية.

اعتبر الأخوان وَتْشاوسْكي (قبل أن يتحوّلا جندريّاً إلى الأختين وتشاوسكي) اللذان تأثّرا بشدة بنظريات بودريار، أنّ العالم الذي نعيش فيه ليس هو الحقيقة أو الواقع الحقيقي، إنّما هو مجرّد محاكاة خادعة يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي. بالفعل، جاءت فكرة الماتريكس من الكتاب الذي يُعد أكاديمياً «معقّداً» أو غير سهل، ويتعرّض للنقد خاصة من بابَي العدَمية و«الحتمية التكنولوجية». كان بودريار قد شاع اسمه في البلدان العربية مع كتابه «حرب الخليج لم تقع» (1991) الذي طرح نقداً فلسفياً مختلفاً للحرب، إذ اعتبر أنّ حرب الخليج لم تحصل، إنّما كانت محاكاة لحربٍ من الصور المتلفزة والبروباغندا التي لا تمثّل الواقع، وبالتأكيد لم ينكر العنف الذي حدث في أرض المعركة، لكنّه رأى أنّها لم تكن حرباً بمفهوم الحرب؛ من حيث طبيعة طرفَي الصراع والعتاد العسكري والصورة المنقولة والمتلفزة عن المعركة.

كان بودريار من أشهر مفكّري ما بعد الحداثة، وجاءت نظرياته متأثرة بالسيميولوجيا ودور الرموز والدلالات في تقديم معنى للواقع، لكنه عارض العلاقة الحتمية بين الدال والمدلول التي اعتمد عليها هذا العِلم ومؤسّسه الفيلسوف السويسري فيردينان دو سوسير. بالنسبة إلى بودريار، إنّ غياب العلاقة بين الدال (signifier) والمدلول (signified) أدى إلى غياب الواقع أو اختفائه، لأنّ الدلالة (أو المعنى) تفترض وجود ترابط بين الصورة وما ترمز إليه. لكن في العصر الحديث القائم على التكنولوجيا وتطوّر وسائل الاتصال الجماهيري، فقدت الصورة علاقتها بالواقع واكتفَت بذاتها حتى أضحت لا تمثل أي مرجعية لمدلولها، بل تكون هي مرجعية نفسها. يشرح بودريار أن الإعلام بفعاليته المضاعفة لا يقدّم الواقع كما هو، بل حوّل الحياة الاجتماعية بين البشر إلى صورة غير حقيقية ولّدها الإعلام عن صورٍ أخرى مولّدة منه أيضاً. يقصد الناقد الثقافي أنّ ما نشاهده عبر الشاشة المتلفزة ليس صورة عن الواقع، فالواقع بذاته لم يعد موجوداً، وأنّنا اليوم نعيش في ما يسمّيه «ما فوق الواقع» أو «الواقعية المفرطة».

هذه الـhyperreality  التي فرضتها التكنولوجيا الرقمية عبارة عن عالم مؤلّفٍ من عمليات اصطناع وصور بلا أصل محدّد في الواقع، يُشير إليها بودريار بالسيمولاكروم (مفرد لكلمة سيمولاكرا) أي نسخة مصطنعة رقمياً عبر أجهزة الكومبيوتر يولّدها الإعلام من دون وجود أصل، صور متخيّلة ووهمية لا قيمة أصلية لها، لكنّها مهيمنة وتكسب قيمتها من قدرتها على غواية الجماهير. في ضوء الحرب على غزة أي منذ السابع من تشرين الأول والعدو الصهيوني يحاول مرة تلو الأخرى تصدير سرديّته الخاصة للعدوان، وتبرير حصاره الشامل للقطاع، وقطعه كل مستلزمات الحياة الأساسية من ماء وطعام، واستهداف المستشفيات وأماكن العبادة. ويمكن القول إنّه جرّب كلّ ما يمكن فعله، ليس للقضاء على «حركة حماس» فقط، بل لإخضاع الفلسطينيين للاحتلال الاستيطاني بالترهيب والقصف والإبادة، مصدّراً مجموعة من الصور التي نشرها عبر إعلامه الكلاسيكي والرقمي.

كما خرج ممثلوه السياسيون والديبلوماسيون في الأرض المحتلة وحول العالم ينشرون هذه الصور التي يُفترض ـــ حسب قولهم ــــ أنّها مأخوذة من الواقع، تشكّل «تمثيلاً مخلِصاً» للواقع، وتنقل صورة الواقع من أرض المعركة. من أكثر تلك الصور انتشاراً وتأثيراً في بداية الحرب، تلك التي حملها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو لاستعطاف الجماهير وحشد الرأي العام تجاه الحرب على «حماس» وغزة بالكامل، ويظهر فيها جسم محروق أسود اللون غير واضح المعالم، زعم أنها صورة لـِ «طفل إسرائيلي حرقته حماس بنيرانها». لكن هناك نقاط هامة عدة يجب إيضاحها حول هذه الصورة بالتحديد: أولاً: لم تكن لطفلٍ إسرائيلي محروق، ثانياً: ليست صورة طفل محروق (أي طفل من أي جنسية أو هوية)، ثالثا: لم تكن لجسمٍ بشري محروق سواء كان طفلاً أم بالغاً، رابعاً: ليست صورة أي شيء محروق إن لم يكن بشرياً!

من ضمن الأشخاص والمؤثرين الذين فضحوا الصورة، كان الإعلامي الأميركي جاكسون هينكل الذي نشر تغريدة كشف فيها أنها صورة مركّبة وجرى توليدها بالذكاء الاصطناعي، وهي في الأصل صورة كلب في عيادة بيطرية. قام هينكل يومها برد الصورة إلى ما قبل التعديلات المتتالية التي تعرّضت لها، عبر عملية عكسية للذكاء الاصطناعي.

تحدّث بودريار صاحب كتاب «روح الإرهاب» (2003) عن ضياع الواقع في متاهة الصور المصطنعة اللامتناهية، أي المتخيّلة والوهمية التي تروّج لها الميديا وتتناقلها باعتبارها تمثيلاً للواقع، وما هي إلا صور مهيمنة لا قيمة أصلية لها، بل تكتسب قيمتها من قدرتها التأثيرية على إدراك الناس وفهمهم للواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعيشونه. هذه الـ«سيمولاكرا» التي تبثّها الميديا تحاول إقناع الناس بأنّ «الحرب هي السلم» (بتعبير الكاتب جورج أورويل صاحب رواية «1984»)، وما يردّده المسؤولون الصهاينة والغرب من تبرير للمجازر المستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور، وتجاوز عدد الشهداء في غزة عشرين ألفاً، نصفهم من الأطفال الصغار، يُسهم في تعزيز الفكرة المروّجة نفسها.

قد يسأل القارئ عن الغرض من فبركة الصور ومحاولة اصطناع مشاهد مزيّفة يعلم الصهيوني، ذو التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، أنّها ستنكشف بعد وقتٍ قصير. هنا تجدر الإشارة إلى أهمية عمليات التضليل والخداع التي يستمر الاحتلال بالقيام بها، فإن كنا نستطيع فضحها بسهولة، يفرض السؤال نفسه: لماذا يستكمل العدو الفعل ذاته بعد الفضائح الإعلامية المتتالية؟ ببساطة، يمكن القول إنّ مسألة «الفضيحة» تشكّل فارقاً عند من هو أخلاقي بطبعه، فالفضيحة في اللغة تعني «كل ما ينكشف من انحرافٍ للقيم الأخلاقية» و«الشهرة بما يُعاب وما يجلب العار». هل يخاف الاحتلال الاستعماري والاستيطاني على سمعته من الفضيحة؟ هل كشف الكذب والبروباغاندا يخيف العدو الصهيوني بشيء؟ كيان احتلالٍ قام وجوده على نهب الأراضي وتهجير السكان الأصليين قسراً إلى خارج مدنهم وقراهم، وارتكاب المجازر وتهويد البلد، هل من الممكن أن تهزّه فضيحة صور مفبركة يمكن تبريرها بكونها جزءاً من المعركة والحرب الإعلامية؟

السبب الثاني والأهم الذي يجعل العدو يستمر في اصطناع الصور التي لا أصل لها، هو تكثيف المعلومات التي ستتراكم لدى الجماهير بفعل تأثير الميديا عليهم وبذلك يكون قد نجح في أمرين: تحصيل المزيد من الوقت في الحرب، فكلّما زيّف شيئاً جديداً ربح أياماً لاحقة في استمرار الحرب، كما أنّ الجماهير ستتناقل الصور والأخبار الأولى، أي التي نشرها للمرة الأولى مسؤولون كبار. في معظم الأحيان، يعتمد كثيرون من الجماهير على الخبر الذي سمعوه أولاً، والصورة التي شاهدوها للمرة الأولى، فتصبح بالنسبة إليهم هي الأصدق، وإن جاء فضحها بعد وقت لاحق. يوضح بودريار أنّ شاشات التلفزة ومحطات الراديو ووسائل الإعلام كافة من بينها الإنترنت، تروّج للصور والرسائل والقيم تبعاً للرغبات المتفاوتة، بحيث يتبنى المشاهد الصور في جهازه النفسي والسلوكي ويحدد عبرها علاقته مع الناس والحياة. وقد برهن بودريار في أكثر من مكان في كتبه على ارتباط المصطنع بالاستعمار والهيمنة والتطور التكنولوجي

بالعودة إلى العالم الـhyperreal  حسب بودريار، فإنّ عملية إنتاج الصورة تطوّرت مع الزمن، وتغيّرت الصورة المنتجة وفقاً للتكنولوجيا الحديثة، فالصور ما قبل الثورة الصناعية تختلف عن تلك التي جاءت بعدها بسبب وجود المكننة، كما تختلف الأخيرة عن الصور التي تُنتج باستخدام التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. يرى بودريار أنّ النموذج الأول للصورة هو تمثيل للواقع representation، لا يهدّد الواقع بالحلول مكانه ولا يشوّه حقيقته أو أصله، بينما أنواع السيمولاكرا اللاحقة التي تنتج في العصر الحديث هي التي تقوم بالتلاعب بالأصل وتشويه طبيعته.

وهنا يأتي السؤال: هل يمكن تصنيف الصور التي تنشرها المقاومة الفلسطينية، حسب فلسفة بودريار، واقعاً حقيقياً من النوع الذي يسبق «الواقع المفرط»؟ صحيح أن الفيلسوف الفرنسي يصف العالم الذي نعيش فيه، بنمط استهلاك البشر المفرط وخروج السلع عن قيمتها الوظيفية وغيرها من الوقائع، بمجمله واقعاً مفرطاً بسبب التكنولوجيا والإنتاج الضخم والصور المنسوخة وتلك المتلفزة، إلا أنّ نوع الصور والمقاطع المصوّرة التي تنشرها المقاومة، كما الهدف المراد منها، يمكن النظر إليه باعتباره تمثيلاً صادقاً للواقع، وإن كانت فيديوات الإعلام العسكري ممنتجة لتُضيف رموزاً افتراضية إلى الصورة الأصلية. فالعديد من الفيديوات نُشرت من دون مونتاج ربما لضيق الوقت. ولدى المقارنة بينها وبين تلك التي تخضع للتعديل، نرى أنّ التعديلات والإضافات ليست بالذكاء الاصطناعي، ولا تهدف إلى تغيير الحقيقة أو تهديد الواقع بالحلول محله، بل تكون الإضافات مجرّد رموز وإشارات وأحياناً بعض المؤثرات الخفيفة مثل تخفيف سرعة ضرب دبابات العدو، التي تسهم في إيضاح الصورة المنقولة.

قد يجلب هذا الاقتراح أنّ المقاومة الفلسطينية تستعيد الواقع الحقيقي في زمن الواقع المفرط، نقداً مفاده أنّ إعلام المقاومة يستخدم الأدوات التكنولوجية والإعلامية ذاتها -أو على الأقل أدوات مشابهة- لكن هنا يجب التذكير بأنّ بودريار أشار في أطروحته إلى ارتباط المصطنع بالاستعمار والهيمنة والتطور التكنولوجي. يعني ذلك أنّ العدو الصهيوني، بوجوده الاستعماري والاستيطاني وسيطرته على الأراضي المحتلة وحصاره للأراضي التي تخضع للحكم الفلسطيني مثل غزة، واحتكاره للتكنولوجيا المتطوّرة في صناعاته الحربية وفي خدمة إعلامه العسكري، هو الذي يقوم باصطناع صور ورموز ما فوق الواقعية، لا تمت للواقع بصلة، بل تخلق محاكاة مزيّفة لا أصل لها. نجد أنّ هذا التحليل يأخذنا إلى استنتاج أنّ الوجود الصهيوني على الأراضي الفلسطينية هو واقع مختلقٌ بفعل الاستعمار والقوة التكنولوجية العسكرية، أي إنّه مع روايته التاريخية المزيّفة، ليس إلّا سيمولاكرا ومحاكاة لواقع مصطنع لا أصل له... متاهة من الصور المولّدة عن صور سابقة من دون أصل.

المقاومة الفلسطينية تُعيدنا إلى «صحراء الواقع»:

منذ عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والمقاومة الفلسطينية تحقّق أهدافاً جمّة ومتنوّعة لا يمكن حصرها فقط في الجانب العسكري من حيث التخطيط العبقري والتنفيذ المذهل، وعدد الأسرى الذين احتجزتهم، واستهداف جنود الاحتلال الذين تعمّدوا قصف بيوت المدنيين وقتل الغزّيين وقنص المسنّين والأطفال. نجحت المقاومة أيضاً في دحض السرديات الصهيونية المتعلّقة بالحرب عبر إعلامها والصور التي تنشرها يومياً من أرض المعركة، في حين كان جيش العدو يحاول تقديم واقع وهمي لا أصل له عن هذه المعركة عبر خطابات كاذبة وفبركة الصور والتضليل الإعلامي والافتراضي، فجاءت المقاومة الفلسطينية متصدّية لتضليلاته وكذبه. ونحاول هنا أن نكشف من خلال تلك الجدلية بين الواقع والمزيف، أنّ «كتائب القسام» لعبت دوراً شبيهاً بما فعله «مورفيوس» في فيلم «ماتريكس» الشهير(1999)، متتبّعة عبارة الفيلسوف الفرنسي جان بودريار:من خلال أعماله التي تناولناها هنا: «مرحباً بكم في صحراء الواقع». لتظهر للقارئ الفارق بين الواقعين: المصطنَع والحقيقي، وكيف استطاعت المقاومة إيقاظ الجميع من الوهم الذي اصطنعه الاحتلال لمجتمعه ولكل العالم.

في فيلم «ماتريكس»، حين يلتقي «مورفيوس» (لورانس فشبورن) الذي يمثّل دور قائد مجموعة المقاومة/ الأحرار خارج سيطرة نظام الماتريكس، بالبطل «نيو» (كيانو ريفز)، يجيبه على سؤاله المتعلّق بماهية الماتريكس: «إنها في كل مكان، موجودة حولنا باستمرار. بإمكانك رؤيتها من نافذة الغرفة، أو حتى عندما تشغّل التلفزيون. إنّها العالم الذي يُغطّي عينَيك لِخداعك، حتى يعميك عن الحقيقة». يسأله نيو عن أي حقيقة يتحدّث، فيجيبه: «حقيقة أنّك عبدٌ يا نيو، مثل أي شخص آخر. لقد وُلدتَ في العبودية، وُلدتَ في سجنٍ لا يمكنك شمّه، تذوقه، أو حتى لمسه، سجنٌ لعقلك». يمنح مورفيوس نيو حرية الاختيار، عارضاً عليه أن يتناول إحدى الحبّتَين: «هذه فرصتك الأخيرة، لا يمكن الرجوع بعد هذه اللحظة. إذا أخذت الحبة الزرقاء تنتهي القصة وتستيقظ في فراشك مصدقاً ما تريد تصديقه. وإن اخترت الحبة الحمراء، تبقى في ووندرلاند وسأريكَ مدى العمق الذي يمكن أن يصل إليه جحر الأرنب».

تمثّل الحبة الزرقاء اختيار البقاء في الماتريكس، الواقع الوهم والخادع، الاصطناع أو الـ Simulation  وفقاً لتعبير الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (1927-2007)، فقد كانت صانِعتا الفيلم الأختان وتشاوسكي متأثرتين بنظريات بودريار وكتابه «المصطنع والاصطناع»Simulacra and Simulation ، الذي يظهر في الفيلم أيضاً. يُمنح «نيو» فرصة البقاء في هذا الواقع الوهمي الذي خلقه الذكاء الاصطناعي للسيطرة على البشر وعقولهم، أو رؤية الحقيقة عبر تناول الحبة الحمراء التي ستجعله يرى الواقع الفعلي من دون تأثير الماتريكس. إنّ اختيار اللون الأحمر للحبة ذات التأثير الواقعي لم يأتِ عبثياً، فالأحمر في نظرية الألوان هو لون قوي ظاهر يرمز إلى القوة والثقة والاندفاع، ويوصف بأنّه physical colour، أي يحثّ على الحركة والاندفاع للقيام بفعلٍ أو تغيير. كما اعتمدته حركات ثورية كثيرة في العالم في شعاراتها؛ فالتغيير الفعلي يأتي عبر الثورات، وأحياناً كثيرة بالعنف والحرب والدم. أمّا الأزرق، فيُعدّ لوناً بارداً قد يوحي أحياناً بالهدوء والسلام، لكنه يرتبط بالحزن والكآبة ويدفع بالمتلقّي إلى الارتخاء.

«مرحباً بك في صحراء الواقع»، يقول «مورفيوس» لـِ«نيو» حين يستفيق من الواقع الافتراضي الذي بناه الماتريكس للبشر. يرى الحقيقة كما هي: جغرافيا مهجورة مزّقتها الحرب لكنها مذهلة بواقعيّتها. استعار صنّاع العمل العبارة من المنظّر الثقافي جان بودريار حين وصف بها «الواقع المفرط» الذي نعيشه اليوم بسبب تطوّر التكنولوجيا والتدفق السريع للصور والفيديوات المعالَجة والخاضعة للتعديلات والتغييرات عبر وسائل الاتصال الجماهيرية. هذه الصور والأخبار التي يُفترض أن تكون نسخة عن الواقع تقدّم «تمثيلاً مخلصاً» يشبهه إلى حدٍ كبير، نجدها بفعل المؤثّرات البصرية والرقمية والإضافات الافتراضية من رموز وذكاء اصطناعي وغيرهما، لا تهدّد الواقع الأصلي فقط، بل أيضاً تحاكي واقعاً مُختلقاً لم يعد له أي صلة بالحقيقة. كان بودريار قد كتب في الأصل: Welcome to the desert of the real، معلّقاً على قصةٍ قصيرة للكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس تتحدث عن خريطة أمرَ أحد الملوك رسمها بدقة لإمبراطوريته حتى انتهى بها المطاف أن جاءت بحجم مساحة الإمبراطورية نفسها.

يشرح بودريار أنه مع مرور الزمن وانحدار الإمبراطورية ومجيء الأجيال اللاحقة وغيرها من العوامل، لن يعود الفارق بين الخريطة والإمبراطورية واضحاً، ولن نستطيع بعدها فصل الاثنتين أو التمييز بين الأصل والرمز/ الصورة؛ وهذا ما يطلق عليه تسمية «الواقع المفرط». تأثّر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك (1949) أيضاً بعبارة بودريار واستخدمها عنواناً لكتابه «مرحباً بك في صحراء الواقع» (2002) الذي يدور حول أحداث 11 سبتمبر وعودة الأميركيين إلى الواقع. اعتبر جيجيك أن تفجير برجَي التجارة العالميين كان حدثاً صادماً أيقظ الأميركيين من سباتهم وعالمهم الافتراضي وأعادهم إلى الواقع. في العودة إلى العدوان على غزة و«معركة الطوفان»، نسأل عن الواقع المفرط الذي يقدّمه الاحتلال الصهيوني بحكومته وخطاباته وإعلامه الكلاسيكي والرقمي، وكيف جاءت ردة فعل المقاومة الفلسطينية على ذلك الواقع.

هل كانت عملية «طوفان الأقصى»، وما تبعها من إنجازات عسكرية وإعلامية، الحبة الحمراء التي أيقظت الشعوب العربية والعالمية من سبات العالم الافتراضي إلى «صحراء الواقع»؟ قبل «طوفان الأقصى»، كان الكيان الاستيطاني في فلسطين يُظهر فائض قوة، معتبراً أنّه بالدعم الغربي والعالمي لوجوده، قد اقترب من التخلص من «المشكلة الفلسطينية». كان ذلك يظهر جلياً ليس فقط في غطرسته العسكرية تجاه الفلسطينيين، بل أيضاً في معاهدات السلام والتطبيع مع بعض الدول العربية، والأهم في سياسته الداخلية التي تحكم البلاد. يشرح المؤرخ اليهودي المعادي للصهيونية إيلان بابيه في محاضرته في جامعة «يو سي بيركلي» (راجع الأخبار 4/11/2023) أنّ «الحرب الأهلية الثقافية» في الكيان بين المتديّنين والعلمانيّين كانت قد برزت في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في التظاهرات الحاشدة التي خرجت للاحتجاج على تعديل الدستور، وعلى نوع الحياة اليهودية بين ديومقراطية علمانية تعددية على النسق الأوروبي، ويهودية مسيحية ثيوقراطية.

لكن اللافت أنّ قضية الاحتلال والوجود الفلسطيني العربي لم تكن من بين القضايا المطروحة لأنّه كما أشار بابيه نقلاً عن الصحافية عميرة هاس في «هآرتس»: «طالما أنّ الإسرائيليين غير قلقين، فإن الاحتلال غير موجود، بمعنى أنه لم يعد مشكلة بعد الآن، بل جرى حلّها». كان العدو الصهيوني يصدّر باستمرار صورته إلى الغرب من تطوّر تكنولوجي وتقني وتحضّر وعلم وسياحة دينية و«ثقافية»، مخاطباً الشعوب الغربية بأنّه مثلها يتمتع بنمط حياة غربي، مثلما استضاف مسابقة ملكة جمال الكون (2021) وأخذ المتسابقات في جولات سياحية داخلية شاركنَ خلالها في تحضير أطباق البلد التقليدية (الأطباق الفلسطينية طبعاً مثل المسخّن وورق العنب) وتصوّرت كل منهن في أثواب فلسطينية مختلفة التطريزات.

كان الاحتلال يستغل تاريخ الاضطهاد الأوروبي لليهود في الحرب العالمية الثانية (وما قبلها)، ويقدّم نفسه بدور الضحية حتى يحافظ على مكاسب متعددة من بينها المساعدات المالية التي تدفعها ألمانيا على وجه الخصوص اعتذاراً عن الهولوكوست، وتدفعها أميركا تحت مسميّات أخرى. ويمكن القول إنّه نجح كثيراً في تقديم صورة اليهودي الأوروبي المحاط ببلادٍ عربية «معادية للسامية»، و«متطرفة»، و«متخلّفة»، مثلما أظهر حركة «حماس» وكل حركات المقاومة الفلسطينية بصورة «المنظمات الإرهابية». إضافة إلى ذلك، بنى الاحتلال الاستعماري لنفسه سمعةً مهيبة ترسّخت في أذهان الشعوب العربية بالتحديد، ما صعّب عليها فكرة المقاومة المسلّحة ضد «الجيش الذي لا يُقهر»، وتكنولوجيته الاستخباراتية التي تراقب الفلسطينيين والعرب في كل مكان وتعرف عنهم «كل شيء»، وتغتال من تشاء أينما تشاء.

كان كل ذلك حتى السابع من تشرين الأول الذي شكّل ضربة أفقدت الاحتلال توازنه وجعلته يتخبّط في قراراته ويُسقط عنه قناع الإنسانية والضحية بسرعة غير مسبوقة. منذ عملية «طوفان الأقصى»، ومع موقف الحكومات الغربية الداعمة بالكامل للاحتلال الصهيوني ومجيء سياسيّي الدول الكبرى للوقوف إلى جانب رئيس وزراء العدو، حاولت قوات الاحتلال المحافظة على صورتَين: التظاهر بسيطرة الحكومة والجيش على الحرب وفبركة الإنجازات العسكرية، والاستمرار في لعب دور الضحية في وجه «الإرهاب» الفلسطيني. استخدم الاحتلال وسائل الإعلام التقليدية والرقمية من جرائد وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية إخبارية ومنصّات التواصل الاجتماعية وأدوات صناعة الصور والتأثير البصري مثل الذكاء الاصطناعي، لنشر الأخبار الكاذبة والمضلّلة.

لم يفوّت العدو أي فرصة لمشاركة الأخبار والصور الوهمية، فتناقل الرئيس الأميركي جو بادين خبر أنّه رأى صور «الأطفال الإسرائيليين الذين قطعت «حماس» رؤوسهم في مستوطنات غلاف غزة»، وهي الصور التي وصلت إليها عبر أكاذيب مفضوحة أطلقها بنيامين نتنياهو، ولم تصمد لغير أيام قليلة. والحقيقة أنّ ليس هناك من أطفال قطعت رؤوسهم سواء كانوا يهوداً أم لا، وليس هناك من صورٍ لما زعمه كلاهما. كما تناقل الإعلام العبري خبر «اغتصاب جماعي وعنف جسدي» للفتيات اللواتي كنّ في المهرجان يوم تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، وخرج نتنياهو قبل ثلاثة أسابيع في خطاب وقح يخاطب منظمات حقوق المرأة والجمعيات النسوية ويتهمها بالتقصير تجاه النساء اليهوديات اللواتي تعرضن «للتحرش الجسدي والعنف والاغتصاب على يد حماس».

حاول العدو الصهيوني التظاهر بسيطرته العسكرية ونشر فيديوات مضلّلة عن «مستشفى المعمداني» قبل تنفيذ المجزرة الوحشية، وصنع فيديو مفبرك عن «مستشفى الشفاء» قبل قصفها والاعتداء عليها والتنكيل بالموظفين فيها، نشره الصهيوني إيدي كوهين، حيث تدّعي فتاة أنها ممرضة فلسطينية وأنّ مقاتلي «حماس» يسرقون الأدوية والوقود. اتضح في ما بعد أنّها ممثلة مكسيكية تعيش في كيان الاحتلال وتدعى هانا. وأخيراً انتشرت على منصّة تيك توك فيديوات لمجنّدات صهيونيات يرقصن ببعض الإيحاءات الجنسية، وأخرى تظهر الجنود يحتفلون ويشاركون «غنائم» حصّلوها من اقتحاماتهم وسيطرتهم على بيوت الفلسطينيين في غزة.

 

عن (الأخبار اللبنانية)