ضمن المحور الذي يهتم بموقف المفكرين والكتاب من قضية فلسطين، وتتبع تواريخ عدد منهم، يعود بنا الباحث اللبناني إلى جذور المسألة اليهودية، منذ تناول الكثير من المفكرين لها في القرن التاسع عشر، متناولا عددا من الاستقصاءات الفكرية والسياسية المهمة في هذا المجال، وخاصة التي حاولت تناولها من منظور علمي.

«المسألة اليهودية» من بعض منظورات علميّة

سـعيـد نـجـدي

 

واضحٌ من خلال كتابات لعلماء كبار أثّروا في البنى العلمية والفكرية، أمثال كارل ماركس، كم كانت المسألة اليهودية تعد مشكلة كبيرة في السيرورة التاريخية لأوروبا، بحيث أنها شكلت عقبة مجتمعية لناحية الصراع الهوياتي، نستعيدها في هذه اللحظة من الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني، والتي تستبطن عملية من عمليات الكبت والنفي السابق يتم إسقاطه بشكل لاحق من نسق على آخر، علّنا نضع بعض المؤشرات لنشأة هذه المسألة في سياقها، والنقاش الذي كان يدور حولها، التي ربما تفيد في عملية الفهم لِما كانت عليه قبل تأسيس الكيان الصهيوني حتى نقف على عتبة تلك المرحلة التي أعقبت لاحقًا تأسيس دولة الحرب القومية ـ الدينية. والنتيجة كانت، كما يشير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي كان داعمًا للثورة الفلسطينية، تدفيع ذنب المسألة اليهودية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية للشعب الفلسطيني: "كان على الولايات المتحدة وأوروبا التعويض لليهود. وهذا التعويض، دفعاه ثمنًا من خلال شعب أقلّ ما يقال عنه إنّ لا ذنب له في ما جرى، خاصةً أنّه بريء من كلّ إبادة، بل حتى لم يسمع بها".

المسألة اليهودية بين كارل ماركس وبرونو باور
نرى من خلال النقاش الذي كان يدور بين مختلف المفكرين أن وضع اليهود في أوروبا كان يشكل نوعًا من أنواع الصدام المجتمعي بين مكونات عدة، دينية، وقومية... إلخ، ونستشف من هذه النقاشات مسألة الامتيازات لفئة على حساب أخرى، إلا أن اليهود ظلوا متمسكين بهويتهم الدينية، ويبرز من خلال كلام لبرونو باور، على سبيل المثال، أنه كان المطلوب من اليهود التخلي عن هويتهم.
في المقابل، يأتي الرد الذي أدلى به كارل ماركس في كتاب حول المسألة اليهودية، الذي كان يوجّهه إلى المفكر برونو باور، وهذه المسألة عمرها قرون في أوروبا، وهي تبرز عدم الاندماج من خلال النقاشات، ولكن في القرن التاسع عشر وضعت على بساط الكلام الحامي، خصوصًا أن هذا القرن عرف تحولات في البنى المجتمعية نتيجة العوامل السياسية والاقتصادية، وتشكّل طبقة مجتمعية كان لها الأثر الأكبر في تعميق الأزمة من خلال البعد الاقتصادي حسب تحليل ماركس.

يبدأ باور كلامه في السياق الدائر حول الأزمة السياسية من أن اليهود يريدون التحرر السياسي، وبأننا نحن أنفسنا لسنا أحرارًا (والنحن هنا إشارة مهمة)، ويورد أيضًا أن اليهود أنانيون، حين يطلبون لأنفسهم كيهود بانعتاق خاص، وبأنه يجب عليهم أن يعملوا كألمان من أجل انعتاق ألمانيا السياسي (وهذا ما أدى لاحقًا كما يشير كارل ياسبرز إلى "الشعور بالذنب الألماني" خصوصًا ما بعد الهولوكوست)، وألا يشعروا أن النوع الخاص لاضطهادهم استثناء، وهذا الكلام يأخذنا إلى مشكلة عدم الاندماج في المجتمعات الأوروبية آنذاك بين اليهود الذين عملوا على بناء أدلجة ذات بعد قومي مركب من روافد عدة، منها الديني والتاريخي أمام المكونات الأخرى.

ويضيف برونو باور أن اليهود يطالبون بالمساواة مع أبناء الرعية المسيحيين، وبهذا فإنهم يعترفون بشرعية الدولة المسيحية، وعلى ذلك لماذا ينبغي للألماني أن يهتم بتحرير اليهود إذا كان اليهودي لا يهتم بتحرير الألماني؟ لا تعرف الدولة المسيحية إلا الامتيازات، واليهودي يملك فيها امتيازًا كونه يهوديًا، وله كيهودي حقوق ليست للمسيحيين، فلماذا يطالب بحقوق ليست له يتمتع بها المسيحيون. واليهودي حين يريد التحرر من الدولة المسيحية، ويطالب أن تتخلى عن حكمها، فهل يتخلى اليهودي عن حكمه الديني المسبق؟ أفيكون من حقه أن يطلب من غيره أن يتخلى عن الدين؟ ولكن اليهودي أيضًا لا يستطيع أن يقف من الدولة إلا موقفًا يهوديًا، أي أنه يقف من الدولة موقف الغريب، والدولة المسيحية تبعًا لجوهرها لا تستطيع أن تعتق اليهودي، وهو من حيث جوهره لا يستطيع أن ينعتق، وما زال الكلام لباور، فباسم أي شيء تطالبون أيها اليهود بالانعتاق؟ أمن أجل دينكم؟ إنه الدين الأكثر عداء لدين الدولة.

يتفق كارل ماركس مع برونو باور بأن قومية اليهودي الوهمية التي يجب أن يضعها مقابل القومية الحقيقية يجب أن تكون على صعيد الدولة وشكلها ككل، ويضع قانونه المتوهم بأن يظن أن من حقه أن يتمايز عن البشرية، ولا يشارك في الحركة التاريخية، ولكن نرى من خلال النقاش الذي سيأتي أن هذا له أسباب أعمق في رأي ماركس، وله علاقة بالمرحلة التاريخية التي شكّلت أنماطًا جديدة، وليس كما فهمها باور بشكلٍ مقلوب. ويناقش ماركس مشكلة التناقض بين المسيحي واليهودي، من خلال ردّه على باور. وهذا الأخير، بزعم ماركس، يطالب بأن يتخلى اليهودي عن يهوديته. وهنا يحاكي الفرق بين الإلغاء السياسي للدين، وبين أن يتخلى الإنسان عن الدين.

لذلك، فإن باور يظهر الجانب الأحادي للمسألة التي طرحها. وفي رأي ماركس، فإن باور يضع شروطًا لا تنتمي إلى طبيعة التحرر السياسي، وخطأه أنه قام بنقد الدولة من منظورها الديني، ولم يقم بعملية نقد للدولة بوجه عام بوصفها جهازًا للسلطة الفاعلة التي تملك وسائل الإنتاج التي تؤدي إلى نوع من أنواع الاغتراب من خلال الأيديولوجيا والبنية الفوقية. وهنا يُدخل ماركس في منهجه، الذي يحاول فيه أن يقوم بعملية نقد للبرجوازية في تلك المرحلة. ففي رأيه، المشكلة سياسية أولًا، لناحية شكل الدولة ووظيفتها التي تخدم طبقة معينة. والفرق بينه وبين برونو أن الأخير يحلل انطلاقًا من البنى الفوقية، لكن ماركس ينطلق بالتحليل من البنية التحتية.

وفي هذا السياق، يحلل ماركس وضع اليهود المختلف في ألمانيا مثلًا، التي لم تكن توجد فيها دولة سياسية بعد (وهنا نتحدث في أربعينيات القرن التاسع عشر)، هنا يكون النقاش نقاشًا لاهوتيًا بين المسيحية واليهودية في ألمانيا. أما في فرنسا مع وجود الدولة الدستورية يكون نقاش المسألة اليهودية مسألة دستورية، فيكون الوضع نصف تحرّر، ومظهر الدولة الدينية باقٍ انطلاقًا من الامتيازات، وإن كان في صيغة متناقضة، لذلك فاليهودية تتخذ مظهرَ تناقضٍ ديني/ لاهوتي. أما في أميركا الشمالية فإن المسألة اليهودية تفقد معناها اللاهوتي، وتصبح علاقة الدين بالدولة طبيعية، ومع ذلك فإن شمال أميركا هو بلد التديّن، كما يؤكد كل من بومون وتوكفيل، والإنكليزي هاملتون. ولكن بسبب أن الدولة هناك توجد في معناها وبنائها الكامل لا تعود هنالك مشكلة. ولهذا، فتحليل وضع الجماعات يكون انطلاقًا من بنية الدولة التي ترعى هذه المكونات والطبقات.

الاغتراب والدولة
توحي النقاشات أن المشكلة في أوروبا فقط هي "اليهودي"، وليست سياسية. وهي بذلك تُظهرُ بُعدًا عنصريًا، كما يلمّح ماركس. يناقش ماركس كيف يقف التحرر السياسي الكامل من الدين. في ما يخص اليهودي، يقدّم ماركس الدليل على أنه في بلدان التحرر السياسي الكامل، لا يتعارض وجود الدين مع قيام الدولة الكاملة. يقول هذا ماركس لكي يحاجج برونو باور، الذي يريد من اليهودي أن يتخلى عن يهوديته، ويقول باور أيضًا إننا نؤنسن تناقض الدولة مع دين معيّن، كاليهودية، في التناقض بين الدولة وعناصر دنيوية معينة، والتناقض بين الدولة والدين في وجه عام، أي في التناقض بين الدولة وشروطها في وجه عام. لذلك، الإشكالية في الدولة التي تقوم على البعد الطبقي من منظور الاقتصاد السياسي الذي دشّنه ماركس هي التي تخلق هذه الأزمات، والتي تؤدي إلى التعسف الثقافي الذي خلق مفهوم معاداة السامية مثلًا، وراهنًا الإسلاموفوبيا. إذًا، هذه التصنيفات تنشأ من عقلية التحكم والتمييز الذي يعمل على خلق الأزمات الثقافية.

فالإنسان بالنسبة لماركس يبقى حتى حين يعلن إلحاده بوساطة الدولة، أي حين يُعلن إلحاد الدولة، يبقى مع ذلك متحيزًا للدين، من خلال وسيط فقط، فالدين هو الاعتراف بالإنسان بطريقة غير مباشرة عبر وسيط هو الدولة. فكما أن المسيح وسيط يحمله الإنسان كل ألوهيته وتحيّزه الديني، فإن الدولة هي الوسيط الذي يضع فيه كل بشريته وكل تحيّزه البشري. ولهذا، فالإشكالية هي في العلاقة مع الدولة. ومن هنا، فإن ماركس قريب من هيغل حول نظرة العلاقة مع اختلاف المنطلقات، فهيغل في فلسفة الحق يجعل الدولة كواقع واعٍ وأخلاقي للعقل. ولذلك، لا بد للدولة أن تكون فوق الكنائس الخاصة، باعتبارها هي الشكل الشمولي للفكر من خلال المبدأ الذي تظهره للوجود، مرتفعة فوق العناصر الخاصة. وهنا يلمّح ماركس للحياة الأنانية المادية في المجتمع البرجوازي، والذي تحضر فيه المسألة اليهودية من خلال شكل الدولة، والصراع بين المصالح الخاصة والعامة، والانشطار بين الدولة والمجتمع. ففي رأي ماركس، برونو باور يترك هذه التناقضات قائمة، بينما يظهر التعبير الديني عنها فقط من دون الأسباب التي تؤجج هذه المظاهر. وعلى ذلك، تصبح الإشكالية بالنخب التي تأخذ النص الديني على وجهة تناسب مصالحها.

إن نقل الدين من الدولة إلى المجتمع البرجوازي لا يلغي التديّن الحقيقي للإنسان، كما لا يسعى إلى إلغائه، لأن الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بطريقة دنيوية، وتحرر الدولة من الدين ليس هو تحرر الإنسان الحقيقي من الدين، لذلك يشير ماركس إلى برونو، وأنه يمكننا أن نقول لليهود لا يمكنكم أن تتحرروا سياسيًا من دون أن تتحرروا جذريًا من اليهودية، لأن الحقوق المدنية لا تشترط بأي حال إلغاء الدين، ولذلك يورد ماركس مواد من إعلان حقوق الإنسان، حول امتياز العقيدة، وهنا كأن ماركس يدافع عن اليهود بعدم تخليهم عن دينهم بالتناقض مع باور، والتي تخالف في رأي ماركس حقوق الإنسان.

الدين والدولة وأسبقية التحرر
المسألة في رأي ماركس، خلافًا لباور، الذي جعل المشكلة دينية بنقدٍ مسيحيٍ فجٍ لها، على اعتبار تحرر اليهودي هو تحرر إنساني، فاليهودية هي واقع مهين، كما يقول ماركس، بالنسبة للمسيحي. ولهذا يحاول ماركس التبرير لليهودي انطلاقًا من النسق المجتمعي الذي كان يعيشه. يصوّر باور تحكّم اليهود بشكل عنصري، ففي فيينا مثلًا يتحكم من خلال سلطته المالية بمصير المملكة. وحتى في أصغر دولة في ألمانيا، يقرر فيها مصير أوروبا، وهنا يدخل ماركس إلى الأسباب التي يقول إنه لن يدخل في سر اليهودي في دينه، إنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي، ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي؟ المال، حسنًا يقول ماركس من هنا فإن التحرر من التجارة والمال، أي من اليهودية العملية الواقعية، هي تحرير عصرنا لنفسه أي من الطبقية، والدولة عندها هي التي تعمل على التحرر للفرد.

يلمح ماركس إلى انزعاج المجتمعات في أوروبا من الأقليات اليهودية، والنقمة عليهم، بسبب الغيرة والحسد، لأنهم أصحاب مال وتجارة ناجحة. ويُرجع ماركس ذلك ليس إلى اليهودي الذي يحاول الانغلاق في بوتقة قومية، إنما بسبب النسق المجتمعي الرأسمالي، الذي دخلت روحه إلى المسيحية أيضًا، أي أن المال أصبح سلطة عالمية. ففي رأيه، تحرّر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهودًا، ولقد بلغت سلطة اليهودي على العالم المسيحي، وفي أميركا الشمالية، التعبير الطبيعي. حتى التبشير بالإنجيل نفسه، ووظيفة التبشير المسيحي، أصبحا بضاعة يتاجر بها اليهودي. في رأي ماركس، فإنه يفعل ما يفعله الإنجيلي الذي أصبح ثريًا، من خلال أنماط الفعل.

على ذلك، يقع التناقض بين السياسة وسلطة المال، فالروح العملية لليهودية بقيت في المجتمع المسيحي، وحصلت على أعلى نمو لها. فالإشكالية هي إشكالية المجتمع البرجوازي في رأي ماركس. وإذا استعرنا أدوات ماكس فيبر الذي يعطي للثقافة تفسيرًا متقدمًا على فهمه للرأسمالية، فإننا نكون أمام أنماط من التدين قد تحولت في المجتمع المسيحي، كأنماط الشغل والعقلنة، والذي طبع الفعل الفردي في المجال الاجتماعي، وإن أعمال الخلاص لا تؤتى بأعمال البر والصلاح، ولا بفضل وساطة، بل هي حكر على نخبة مصطفاة منذ الأزل اصطفاها الإله، وهو بهذا يقف على عتبة تقوم على فكرة جبرية نقلت المجتمع الأوروبي إلى السعي نحو الرزق، أي الادخار بشكل متواصل، خلافًا "للكاثوليكي الكسول"، وهذه العقلية عند بعض الطوائف البروتستانتية أدت إلى ولادة الصهيونية المسيحية، التي تقوم على أسطورة إرجاع اليهود إلى فلسطين من أجل عودة المسيح.

في هذا السياق، يحمل ماركس مسؤولية ذلك ليس لليهودي، إنما للمجتمع البرجوازي الذي عزّز البعد الأناني لليهودي. وهذا البرجوازي الرأسمالي صاحب وسائل الإنتاج عمل على تحويل فكرة الخلاص المسيحي بالاستنكاف عن الدنيا، والتعويض عنها بالادخار، كما شرح ماكس فيبر، وهي التي أدت إلى ولادة أنماط جديدة من الفعل. وبالعودة إلى ماركس، فإن اليهودي في الأساس لديه استعداد لذلك انطلاقًا من الأساس الذي عاشه في الأوساط الأوروبية التي عززت لديه أيضًا أفكار الربى والادخار، ليتطابق بذلك مع الحاجة الأنانية للمجتمع البرجوازي الذي خلق الدولة السياسية التي تقوم على الفروقات.

من هنا، فإن المال يصبح هو إله إسرائيل الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر، والذي يحط من قيمة جميع الآلهة التي تتحول إلى سلعة، فالصيرفة هي الإله الحقيقي لليهودي في هذا المجتمع، والحط من قيمة الطبيعة بشكل وهمي في ظل الملكية الخاصة، أي كل شيء يتحول إلى سلعة. وبهذا يستعير ماركس من اللاهوتي توماس مونتسر، الذي وجد أن جميع المخلوقات قد تحولت إلى ملكية خاصة: "الأسماك في الماء، الطيور في الهواء، النباتات على الأرض ـ يجب أن تكون المخلوقات حرة أيضًا". وهكذا، فإنسان المال اليهودي يصبح أمامه كل شيءٍ محتقرًا، الفن والنظرية والتاريخ والإنسان كغاية، وحتى علاقة الرجل والمرأة تصبح موضوعًا للتجارة وبضاعة يتاجر فيها.

إن القومية الخرافية هي قومية التاجر. فبحسب ماركس، التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية، أي يقصد اليهودية العملية التي اكتملت ذروتها في المجتمع البرجوازي في العالم المسيحي، والذي أشرنا له مع البروتستانتية التي تحدّث عنها ماكس فيبر بشكل أغنى من ماركس، وحيث ذابت المسيحية اليوم، في رأي ماركس، في هذه اليهودية، وأصبح المسيحي العملي في أوروبا يهوديًا من جديد. في الظاهر، تغلبت المسيحية على اليهودية، إلا أن روح اليهودية هي التي انتصرت، والمسيحية هي الفكرة النبيلة لليهودي، واليهودية اليوم هي الاستخدام العملي للمسيحية. ويشير ماركس إلى أن اليهودي متحقق ليس في التلمود فحسب، إنما في المجتمع الراهن كعقلية سائدة في المجتمع المسيحي، ولا يعود اليهودي يملك موضوعًا خارج هذا الوعي.

المنهج الماركسي لهذه المسألة لا يخلو من البعد اللاهوتي الملتبس لماركس. ومن خلال التحليل السوسيولوجي له، بغض النظر عن سيادته كمنهج، والنقد الموجه له في اجتماعيات الثقافة والدين، إلا أنه يفيد في جزء منه، وهو فهم هذه المسألة من خلال هذا النقاش، لنعرف أننا اليوم نعيش نتيجة في غاية القبح والهستيريا، وأن التحليلات السياسية اليوم ينطلق كلٌّ منها من إطاره المرجعي الذي يقوم على عصبية بشكل متخفٍ، فكل واحدٍ يقاتل حتى يحمّل مسؤولية الوضع إلى طرف من دون آخر، والمشكلة في مكان آخر نحن ضحاياها في هذه المنطقة، ولا أحد في المقابل يحمل مشروعًا، إنما الجميع داخلٌ في باطن هذه الدائرة للسوق الذي بدأ يتشكل منذ تلك القرون، والذي بلغ اليوم المدى الأقصى من السيطرة العالمية.

السوق اليوم عمل على تذويب مختلف النماذج، حتى صار يحمل استعارة وحيدة، وهي الهيمنة المتغولة التي تأخذ منحى إجراميًا اليوم في فلسطين، والتي تستعين فيها بسرديات تعيسة أصبحت فجة ودوغمائية تسلطية، على سبيل المثال، تهمة معاداة السامية الأيديولوجية، والتي لم ينجُ منها لا إدغار موران، ولا جاك دريدا، اليهوديان، بسبب تعاطفهما مع القضية الفلسطينية، ورفضهما للدولة الصهيونية، وهذه التهم أشبه بإلقاء الحُرُم على كل معارض. إن الحرب التي شنتها إسرائيل اليوم أعادت الاصطفافات العنصرية القومية والدينية، ليس في إسرائيل وحسب، إنما في العالم الغربي أيضًا، وما تصريحات المسؤولين في أميركا، وفي بعض الدوائر في أوروبا (بوصفهم صهاينة كالرئيس الأميركي) إلا مؤشر على ذلك السياق التاريخي، الذي منشأه التحكم.

 

عن (ضفة ثالثة)