يوشك هذا النص للكاتبة العمانية أن يكون درسا في أصول الترجمة، وطبيعة ما تستأديه ممن يقوم بها من جهد وتفكير. حيث تأخذنا الكاتبة في رحلة مع النص ومع كاتبه كانت بالنسبة لها ضرورية لترجمة نصه، وكيف استطاعت الترجمة أن تخلق نصها الموازي والذي يعي مضمرات اللغة وجمالياتها وقلقها في البوح والإفصاح.

عن «شهرٌ في سيينَّا»

زويـنة آل تـويّه

 

في ظهيرة يومٍ شديد الحرّ من أيام صيف عام ٢٠٢٠، طال الطريق إلى القرية الرابضة في سفوح جبل "مراحين". قلَّبتُ كتاباً بين يديَّ نسيتُ الآن عنوانه واسم كاتبه ولِمَ اخترته رفيق الدرب المتعرِّج بين الجبال المتآخية. تلك الجبال لا تني تذكِّرني بقصة همنغواي "تلالٌ كأفيالٍ بيضاء"، ولا أكفُّ عن العبث بعنوان القصة كلما رأيت الجبال فأُغيِّرُه وأسمِّيه "جبالٌ كجِمَالٍ سمراء". شتَّان بين تلال همنغواي وجبال بلادي، لكنني على كل حال أحببتُ جَرْسَ الكلمات ووَقْعَها وتناقضَها وما انطوت عليه من ألوان.

في تلك الظهيرة، في الطريق، وصلتْ بريدي الإلكتروني رسالةٌ. المُرسِل، الكاتب والمترجم إبراهيم الشريف، عرَّفني إلى نفسه وكتب أنه وطائفة من المهتمين يساعدون الكاتب هشام مطر على إيجاد مترجمٍ لكتبه إلى العربية. عرَّفني كذلك إلى الكاتب مرفقًا نبذةً عنه، مؤكِّدًا أنه حريصٌ على اختيار مترجمه بنفسه. قال إبراهيم أيضًا إنهم بعد بحثٍ وتقصٍّ أعدُّوا قائمة قصيرة جدًا بأسماء مترجمين محتملين وكان اسمي أبرزها. كذلك أعلمني أنه والكاتب قرآ ترجمتي "بارتلبي النساخ" لهرمن ملفل و"عمدة كاستربردج" لتوماس هاردي وأنها راقتهما كثيرًا وكذلك المقدمة التي كتبتُها لرواية "بارتلبي النساخ". ثم سألني إن أردت ترجمة كتابٍ جديدٍ للكاتب بعنوان "شهرٌ في سيينَّا".

أفرحتني الرسالة كثيرًا وقَصُر الطريق إلى القرية. انثالت عليَّ الأسئلة تترى، كان أولها بَداهةً: مَن الكاتب هشام مطر؟ أوجزت الرسالة سيرته وذكرت عناوين كتبه المترجمة إلى أكثر من ثلاثين لغة وما ناله من جوائز رفيعة. تُرجِمَت روايتاه "في بلد الرجال" و"اختفاء" إلى العربية. كانت الأولى قد وصلت إلى قائمة جائزة مان بوكر الدولية القصيرة في عام ٢٠٠٦. أمَّا سيرة "العودة" فقد فازت بجائزة بوليتزر عام ٢٠١٧ واختارتها صحيفة نيويورك تايمز ضمن أفضل ١٠٠ كتاب في القرن الحادي والعشرين. في مطلع عام ٢٠٢٤ صدرت روايته "أصدقائي" ووصلت إلى قائمة جائزة مان بوكر الدولية الطويلة، وفازت بجائزة جورج أورويل للكتابة السياسية، وحازت مؤخرًا جائزة دائرة نقَُّاد الكتب الوطنية الأمريكية.

هُويَّة الكاتب تصوغها، إن صح القول، عدة أمكنة، فهو ليبي وُلِد في نيويورك، وعاش طفولته في طرابلس والقاهرة، ثم استقرت به النَّوى في لندن، ويدرِّس في جامعة كولومبيا بنيويورك ويكتب بالإنجليزية. لا عجب أنه يدرِّس الأدب المقارَن فهو المرتحل بين هذه البلاد والثقافات. لا بد أن هذا كله طبع قلمه بطابع مختلف، وأثّر في كتابته وأثراها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فما عرفته عن حياة الكاتب بعد ذلك عمَّق فهمي لموضوعات كتابته التي يمتحها من تجربة خاصة غاصَّة بمرارة الفقد والألم والأمل، لازمته في حلِّه وترحاله، ووعيه ولا وعيه، وفرحه وترحه. اختطاف والده وإخفاؤه في غياهب السجن رَدَحًا من الدهر ثم نفاد كل أملٍ ورجاء في العثور عليه حيًّا أو ميتًا. إن ما يجعل هذه التجربة مؤلمة وداعية إلى التأمل والعِبرة، خصوصًا، أن الكاتب، عندما اختُطِف والده، كان لمَّا يزل شابًّا غضًّا في التاسعة عشرة من عمره. كان حينئذٍ يدرس في لندن، وكان عليه أن يصبر على هذا البلاء، ويتكتَّم على هذا الأمر، وألا يشاركه أحدًا خشية أن يتعرض والده المسجون لأي خطر. لكنه بعد ذلك بسنوات، تحت وطأة غياب أي أثر ممكن لوالده، وفي غمرة بحثه عن مصيره، طفق يتحدث عن محنته ويخبر بها العالم مستعينًا بوجوه كتابية شتَّى.

توالت الرسائل بيني وبين الكاتبين، ثم دار بيننا حديث هاتفي ونقاش أسفر عنه اتفاق على أن يُرسلا إليَّ بالبريد نسخة من "شهر في سيينَّا" الإنجليزية. ثم شرعت أقرأ ما تيسَّر لي من مقالات الكاتب وكتبه. في أثناء ذلك، عزمت على ترجمة بعض مقالاته على سبيل التَّدرُّب على أسلوبه. كانت المقالات لُقًى ثمينةً أيضًا، فقد تشعبت موضوعاتها وفيها بَسَطَ الكاتب آراءه بجِدٍّ وصدق. كانت بين المقالات مقالة استعار هشام مطر عنوانها من قصة غسان كنفاني "ورقة من غزة"، وقد ترجمتُها ونشرها موقع ألترا صوت. مع أن المقالة كُتِبَت في عام ٢٠٠٩ إبَّان الحرب على غزة التي دامت نحو ثلاثة أسابيع وترجمتُها في عام ٢٠٢٠، كان لسان حالي وحال غيري من القُرَّاء يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! حتى اليوم وغزة تشهد حربًا ضروسًا أشد ضراوة من سابقاتها ما زالت "ورقة من غزة" وغيرها من قصص كنفاني ورواياته ومقالاته ماثلة بقوةٍ بنبوءاتها ومصائر شخصياتها.  

وصل الكتاب بتوقيع الكاتب هشام مطر وإهدائه. مع أن هاجس غياب الأب سِمَةٌ تجمع كتبَه كلَّها، وجدت "شهر في سيينَّا" مختلفًا عن روايتيه "في بلد الرجال" و"اختفاء" وسيرة "العودة". "شهرٌ في سيينَّا" كتابٌ يشبه اليوميات والمذكرات لكنَّ له سَمْتَه الفريد في سردها وتحليلها، ولا غَرْوَ كذلك إن وضعناه في جنس أدب الرحلة، على أنه يذهب مذهبًا فلسفيًّا في البحث والتأمل وقراءة الحياة ومفارقاتها وانعكاسها في الفن. الفن باعث هذا الكتاب ومحرِّكه الأول بعد مرور أكثر من ربع قرنٍ على إخفاق الكاتب في العثور على والده. الفن كاستشفاءٍ ومصالحةٍ وأملٍ وإيمانٍ "بأنَّ ما يجمعنا أكثر مما يفرِّقنا"، كما يذهب الكاتب. يتأمَّل الكاتب كل لوحة يشاهدها كأنه يقرأ كتابًا، ويستغرق في وصفها وتحليلها ببصيرة ورويَّة مستنطقًا ما لا تقوله لأي ناظر وما يمكن أن تقوله حتى بعد مرور قرون على رسمها.

عند قراءتي الكتاب وتأملي اللوحات مع الكاتب، كان أكثر ما أدهشني وقوفُه ساعةً أمام لوحة واحدة وعودته إليها مرات أخرى. هذه عادة جديرة بالتأمل ورباط حميم بين الكاتب واللوحة يستوقف النفوس المرهفة حتى ليعجب القارئ: كيف لا يعيل صبر الكاتب ولا تنفد قوة تحمُّله؟ لأنني حتى لحظة قراءة الكتاب لم أزر متحفًا إلَّا ومررت بلوحاته مرور المسافر المتعجِّل المشغول بمشاهدة أكثر عدد من اللوحات ليتدارك الوقت ويقصد مزارًا آخر. وإن شغلتني لوحة من اللوحات فلم أكن لأتأملها أكثر من خمس دقائق، إن أطلت، وقد حدث هذا في أثناء مشاهدتي لوحات شعرت على نحوٍ ما أنها تخاطبني وتدعوني إلى إطالة تأملها ومحاورتها، لكني كنت أجد نفسي أترك اللوحة بحسرة لألحق برفاق السفر إلى مكان آخر.

التَّأمُّل سمةٌ تلازم هشام مطر، لا في أدبه فحسب، بل حتى في حديثه. إنها سمة واضحة في جُلِّ ما كَتَب وفي أغلب ما تسنى لي قراءته ومشاهدته من حوارات أُجريت معه بالعربية والإنجليزية (منشورة على الإنترنت). ثم تأكَّد لي هذا من حديثي إليه ونقاشنا في ترجمة هذا الكتاب. إنه، برحابة صدر، يمنح محدِّثه فرصة تأمل النص واستكشافه معه. على سبيل المثال، فإن إسهابنا في مناقشة دلالات كلمة واحدة أو صياغة وردت في الكتاب، كان يُولِّد أبعادًا واحتمالات جديدة لها. كان يصغي إلى رؤيتي باهتمام حتى إن اختلفت كل الاختلاف عن رؤيته. هذا كلُّه سهَّل عليَّ الترجمة، على ما بها من مصاعب جمَّة، وجعل محاورة الكاتب معززًا للترجمة، وهو ما كان مستحيلًا في ترجمتي أعمالًا كلاسيكية مثل "بارتلبي النَّسَّاخ" و"عمدة كاستربردج"، حيث تحتَّم عليَّ أن أتخيَّل حوارًا بيني وبين ملفل وهاردي في القرن التاسع عشر مستعينة فقط بكتبهما وبما كُتِب عنهما. وكذلك الأمر مع كُتَّاب أحياء لم أقابلهم ولم أحاورهم فيما ترجمته من أعمالهم.

الأمر يشبه من يجوس ليلًا بين بيوت مجهولة، إلا أنه لا يخلو أيضًا من تحدٍّ وحثٍّ على البحث واكتناه الاحتمالات، لأن اللغة الأخرى ذات حمولات معرفية واجتماعية وثقافية وسياقات دلالية مختلفة، ونقلها يوجب عدم التسرع والاستسهال. وهنا يحضر التأمل بقوة أكبر ويشحذ المترجم ذهنه وحسه اللغوي سعيًا إلى ترجمة لا تبخس الكتاب حقه أو تنتقص من مكانته في لغته الأصل. في حديث أُجري معه، يستذكر هشام مطر أول يوم له في الجامعة التي درس فيها العمارة، وكيف طلب المحاضر إلى الطلاب أن يخرجوا إلى الحديقة ليرسم كلٌّ منهم شجرة طيلة ثلاث ساعات. يقول إنه لم يجلس في حياته، حينئذٍ، أمام شيء ثلاث ساعات متصلة. لكنها أصبحت تجربة فريدة من نوعها علَّمته التأمل ودرَّبته عليه.

بعد تخرُّجه عمل في نحت الحجارة، فكان يطرق الحائط بإزميله وينصت ليتبيَّن ما إذا كان به شرخ أم لا. ضرب مثلًا على هذا بتمثال "ديفِِد" لميكل آنجلو، التحفة الخالدة التي قال عنها المؤرخون إن الفنان نحتها من حائط به شرخ. من الشرخ أبدع آنجلو وقفة ديفد المائلة. نَحْتُ الحجارة هذا شكَّل رؤية مطر في معمار أول رواية كتبها وهي "في بلد الرجال"، لمَّا أحس بشرخ في مسودتها الأولى لم يتفطَّن له في البداية، ثم أصغى إليه مثلما يصغي إلى صوت الشرخ في الحائط، فعرفه وأعاد الكتابة. في الحوار نفسه نعرف أن الكاتب حين يستغرق في القراءة ويتأملها يجد نفسه في الآخرين، فيمكنه أن يكون يابانيًّا مثلًا، أو امرأة، أو رجلًا، أو طفلًا، ولكم يدهشه هذا الجمال الذي يتيحه الأدب ويجعل تجربة الإنسان ثرية بلقائه آخرين مختلفين عنه. في "شهر في سيينَّا"، يلاحظ القارئ أن تجربة الكاتب كلها تجربة تأمُّل وتفكُّر ونظر في المدينة وفنِّها وناسها وتاريخها ومعمارها. نراه يقتفي آثار الناس ويمشي وراءهم دونما هدف واضح إلَّا أن يعيش في أثرهم وأن يشحذ نفسه "على لوح المدينة". ينصت إلى حوار بالعربية بين أب وطفليه. يجد نفسه في مقبرة فيتأمل قبورها وشواهدها وصور موتاها. يلوذ بمقعد سِرِّيّ ليحزن وحده. التأمل يحدث بين الكاتب وبين نفسه، بيد أننا، نحن القُرَّاء، نتأمل أيضًا ونطوف برفقته دروب المدينة وأروقة معارفها.

نُشِر الكتاب بالإنجليزية عام ٢٠١٩ قُبيل تفشِّي داء كوفيد. شرعتُ في ترجمته إبَّان الإغلاق العامّ الذي شهده العالم بأسره. فصل "مشكلة الإيمان" بالغ الأهمية في هذا السياق، كأنه جاء في حينه فقد "عمَّ الأرضَ بأسرها عزلةٌ مُروِّعة وكونية". فيه يسهب الكاتب ويتوسّع في الكتابة عن آثار الموت الأسود أو الطاعون الذي اكتسح عالم القرون الوسطى حتى ظن الناس أنها كانت نهاية الزمان، وتغيّر وجه العالم عقب ذلك، بل حتى إيمان الإنسان وخياله وفنّه. لعل مِنْ أبدع ما يستعين به الكاتب في كتابته عن الوباء رجوعُه إلى "تحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لابن بطوطة ومقدمة ابن خلدون العظيمة، لكي يفهم هذا الأمر الجلل الذي "نزل بالعمران شرقًا وغربًا" كما يذهب ابن بطوطة، و"جاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها" بحسب ابن خلدون، وهو رأي يراه الكاتب "داروينيًّا قبل الداروينية"، في معرض مقارنته هذا الرأي البصير باعتقاد الأوربيين المسيحيين بأن الطاعون كان غضبًا من الرَّبّ. وأنا أقرأ هذا الفصل وأترجمه ما فتئتُ أتأمل قول ابن خلدون: "تحوَّل العالم بأسره كأنه خلقٌ جديد، ونشأة مستأنفة، وعالمٌ مُحدَث"، وأفكِّر ونحن في قبضة وباء جديد: كيف سيكون عالمنا بعد هذا الوباء؟ وأي خلق جديد سنكون؟ وأية نشأة سنستأنف؟ إلَّا أن هذه الأسئلة وغيرها ما لبثت أن تعاظمت واشتدت وطأتها لمَّا حمي وطيس الحرب على غزة، ومن ثم على لبنان وسوريا، وما زالت رحى حرب الإبادة هذه تدور على مرأى ومسمع العالم.

إن أسلوب الكاتب، سواءٌ أفي المقالة أم في الرواية أم في السيرة والمذكرات، يدعو إلى التَّأمُّل، فمع أن السياسة تغلب على مجمل حياة والده الذي تمرَّد على نظام القذافي القمعي، وما أعقب ذلك من واقعة الاختطاف، ومع أنه يهتم بموضوعات المنفى والظلم، يتسم سرده بالسلاسة والحس المرهف ودقة العبارة وأناتها في التأمل والتحليل، وينهل من شغفه بالفن والموسيقى والمعمار في سبك أفكاره وآرائه ومشاهداته. إنه يكتب عن الإنسان وللإنسان دون الوقوع في فخِّ مسلَّمات السياسة وعنفها طلبًا لثأر أو تشفِّيًا من عدو، فهو يرى في الثأر والانتقام "الفوز الأكمل للطاغية"، كما قال في حوار من الحوارات. وهذا لا يعني أنه لا يبحث عن العدالة والإنصاف في قضيته أو قضية أي مظلوم، فقد ناضل بالكلمة وبالنظر في عين عدوِّه حين لقيه ورفض الرضوخ لإغراء المال والسُّلطة ثمنًا لسكوته، مدركًا أن القصاص لن يورِّث طالب الثأر إلا همًّا وأسًى لا ينتهيان ولا يشفيان الغليل.

يقرأ هذه الحقيقة في عيني داوود في لوحة "داوود وجالوت"؛ وهي: "أن الثأر منح جالوت أفضلية، أنه في اللحظة التي تعدم فيها عدوَّك، يهرب وينسلُّ إلى بُعْد آخر حيث يمكنه أن يرى أكثر مما ترى. "مؤمنًا بأن قضيته قضية أناس كُثْر في وطنه وفي سائر بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، يرى هشام مطر أن التعليم والثقافة هما حجر الأساس في خلق أجيال تقدِّر الحوار وتعظِّم الوعي وأثره في احترام اختلاف وجهات النظر لأن غياب الحوار والوعي كما نشهد اليوم لم يفضِ إلَّا إلى اقتتال أبناء الوطن الواحد وإذكاء نار الفتنة والفرقة بينهم حتى بعد زوال الطاغية.

عودةً إلى الهُويَّة والانتماء الثقافي المتعدِّد اللذين يَسِمَان حياة كاتبنا، قد يجد المرء تجارب أناس كُثْر تتقاطع في هذا السياق. لا يعني هذا أن هؤلاء كلهم كُتَّاب، فالأسباب تتعدَّد في انتهاء الحال بهم، طوعًا أو كرهًا، إلى الهجرة والمنافي والشَّتات، والإقامة في بلدان يتشرَّبون ثقافتها ولغتها ويعيشون كما يعيش أهلها. رؤية الكُتَّاب لهذه المسألة أرحب لأن كتابتهم تتأنى وتتأملها بعمق. يناقش الكاتب في مقالته "الضيفان" مشقة التعريف بنفسه بإيجاز مقارنًا انقسام هويته ولسانه بحال كاتبين مفكِّرَين عظيمين أثَّرا في حياته وإبداعه كثيرًا وما فتئ يعود إلى قراءتهما ودراستهما؛ وهما إدورد سعيد وجوزف كونراد. فسعيد الفلسطيني النازح من القدس منذ الصغر عاش ككاتبنا في القاهرة ودرس في مدرسة "أرادت أن تصيِّره إنجليزيًّا" مثلما أرادت مدرسة مطر أن "تصيِّره أمريكيًّا".

ثم هاجر إلى أمريكا وحطَّ الرحال بها ودرَّس الأدب المقارن في جامعة كولومبيا التي يدرِّس فيها مطر اليوم الأدب المقارن كذلك، ويشغله جوزف كونراد مثلما شُغِل به سعيد قبله، وكلاهما مشغوفان بالموسيقى والفن والتاريخ ويشتركان في اهتمامات معرفية واسعة. في سيرته "خارج المكان"، يقول سعيد عن نفسه إنه "عربي أدَّت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية". كونراد البولندي المهاجر إلى إنجلترا كتب رواياته وقصصه بالإنجليزية وأتقن لسانه الفرنسية أيضًا. يشترك ثلاثتهم -كونراد وسعيد ومطر- في النزوح عن الوطن، والاغتراب عن اللسان، وقلق اللغة وأسئلتها، ثم ازدهار إبداعهم في البلاد التي استضافتهم. لمَّا كان هشام مطر في السابعة من عمره، وكان حينئذٍ يعيش في طرابلس، بزَّ أترابه في اللغة العربية. فاقهم في تفكيك قواعدها، وبيُسْرٍ كان يحفظ صفحات من كتاب ويلعب بالكلمات.

يكتب هذا في مقالته المعنونة "لا أتذكَّر زمنًا لم تكن فيه الكلمات خطرة". ثم لجأ أهله إلى القاهرة هربًا من جور النظام وقمعه، ووقتئذٍ شهد التعليم انحطاطًا شديدًا فألحقه أهله بمدرسة أجنبية، وهناك انكبَّ على تعلُّم الإنجليزية لينتقل بعد ذلك إلى إنجلترا. شيئًا فشيئًا غلب اللسان الجديد لسانه الأول فأصبح به يفكِّر ويكتب وبه يتذكَّر حتى ماضيه. هذا يذكِّر بقول الجاحظ: "اللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها. "لكن المرء، مع هذا، يبقى صاحب "لسانٍ مفلوق"، وفق عبد الفتاح كيليطو في تحليله الازدواجية اللغوية في كتابه "أتكلَّم جميع اللغات، لكن بالعربية". في السياق نفسه، نجد كُتَّابًا آخرين سائحين بين لغات عدَّة يشيرون إلى هذه المفارقة بين اللغة الأم واللغات الأخرى. في كتابه "غَيْرَة اللغات"، بترجمة المترجم السوري أمارجي، يناقش الكاتب الأرجنتيني أدريان ن. برافي تجربته اللغوية في التحوُّل من لغته الأم الإسبانية إلى اللغة الإيطالية وكيف يتعذَّر على المرء الانفصال انفصالًا تامًّا عن لغته الأم.

يورد أمثلة كثيرة على ذلك، منها ما جاء في كتاب "أبجدية النار: دراسات صغيرة حول اللغة" للكاتبة الأرجنتينية سيلفيا بارون سوبرفيل التي تقول: "كلما فكرتُ أكثر، ازددتُ إحساسًا بأن اللغة الأولى لا تموت أبدًا: إنها تقبع صامتة، ولكن حيَّة، في أعماق الروح". في مدينة سيينَّا يلتحق هشام مطر بدورة لتعلُّم الإيطالية وحين يخبُر مشقَّة الأمر يقول: "لعلَّ تعلُّمَ لغة جديدة تذكيرٌ لنا بعجزنا ذات مرة عن قول أي شيء أبدًا، بانعدام الوسيلة التي تعيننا على نقل شعورنا بالجوع أو البرد أو الحيرة فحسب، وبعض ذلك الكَدَر يبقى فتُحييه مناسبات العجز عن التعبير. "أجد صدى هذا الرأي يتردَّد في "غَيْرَة اللغات" حين يتحدث برافي عن اللغة الأم التي "تنشأ فوق بذور لغة أصلية وما قبل أمومية، متلعثمة ... نحملها في داخلنا، وفقدناها على نحوٍ لا يمكن رأبه." أتراها، تلك اللغة المتلعثمة، تلك الأصوات الطفولية، البابلية، أتراها هي ما نسيناه -بسبب لغتنا الأم- ولا تلبث تطل برأسها كلما عجزنا عن الكلام؟ من جهة أخرى، يبتهج كاتبنا لسماع معلِّمته الإيطالية تقول كلمات مألوفة له حَسِبَها ليبية حتى ذلك الحين، ولم تكن إلَّا مفردات إيطالية دخلت اللهجة الليبية زمنَ الاستعمار الإيطالي واستقرَّت حتى تشرَّبها اللسان وأَلِفَهَا فما عاد قائلها يميزها إن كانت إيطالية أم ليبية.

إن هذا التَّشظِّي في هُوِيَّة هشام مطر ولسانه -إن جاز التعبير- لم يَفُتَّ في عَضُده، بل عزَّز فهمه واستيعابه للآخر مهما اختلف عنه. وهذا ما يظهر في جوهر أدبه، فهو على توزُّع هويته في الجغرافيا وفي اللغة يطمح إلى أن يجمع كل هذا الاختلاف ويضم بعضه إلى بعض في فسيفساء أعظم ما يوحدِّها ويبرزها الإنسانُ وعلاقته بأخيه الإنسان. في "شهر في سيينَّا" يلتقي الكاتب سيدة نيجيرية تقيم في إيطاليا منذ عشرين عامًا ونيِّف، وكانت ستحظى أخيرًا بجواز سفر. يسألها ما هي فاعلة بالجواز فتقول له سأزور بلادي، فيذهب به الفكر إلى أمِّه. قد تخذلهما اللغة قليلًا، لكنَّ غريزة مشاركة الإنسان همَّه إنسانًا آخر تجمعهما وإن فرقتهما اللغة أو الدين أو العرق حتى ليشعر القارئ بأنهما صديقان يتعارفان منذ عهد ليس بقريب. هذا المشهد يسرده الكاتب في سطور قليلة دون ذكر كلمة واحدة تصف شعوره أو شعور المرأة في هذا اللقاء الإنساني الخالص، لكنه مشهد يفيض عاطفةً ومحبة.

يقرأ الكاتب تنوُّع البشر هذا حتى في اللوحات التي شاهدها في المدينة. في لوحة "رمز الحكومة الصالحة" تقع عيناه على رجل غامق البشرة يختلف عن غيره من الرجال الواقفين، فلعلَّه عربي سرسني أضافه لورنزيتي إلى لوحته احتفاء بنظام الحكم المدني المتسامح الذي ساد سيينَّا في تلك الحِقْبَة. حتى ساحة إل كامبو الفريدة التي تقع في قلب المدينة يقرؤها الكاتب كمكان يجمع الغرباء وبفضل شكلها المروحي يرى الجميعُ الجميعَ ويشتركون في فنٍّ عريق من فنون الرقص فيها، "فنٍّ يرمي إلى تذكير جميع الكائنين في عزلة بأنه ليس محبَّذًا ولا ممكنًا أن يخبروا الوجود في وحدة مطلقة". لوحة "الفردوس" كذلك، تقول الكثير عن لقاء الأحبة، ولم شملهم في الآخرة، وعن إطالة النظر إلى عيون أحبابنا لننال الاعتراف اللازم، وإن الجحيم الحقيقية هي ألا يعرفنا الأقربون. يضم الكتاب بين دفَّتيه طائفة أخرى لا حصر لها من هذه الأمثلة، وهو ما يذكِّر دائمًا بأن أكثر ما يشغل هشام مطر في الكتابة هو الإنسان.

وهو بنفسه يشير في أكثر من حوار إلى افتتانه بكوننا بشرًا وبأن تجربتنا الإنسانية ظاهرة مثيرة للاهتمام كثيرًا، فيقول مثلا: "لا شيء يجعلني أكثر خجلًا ولا شيء يجعلني أكثر فخرًا ولا شيء يكسر قلبي أكثر من كوني إنسانًا." ويستفيض حتى في وصف علاقتنا بأسلافنا كبشر: "ولدينا أسلاف هم أجمل النبلاء ولدينا أسلاف مجرمون وجلادون، وكل هؤلاء كانوا إخوة وأخوات، وانطلاقًا من هذه النقطة، أحاول أن أفهم هذا الحدث المذهل وهذا الإرث الكبير." قبل شروعي في ترجمة "شهر في سيينَّا" قرأت عن مدينة سيينَّا الإيطالية الواقعة في إقليم توسكانا وعن تاريخها وموروثها وفنونها. كان ذلك تمهيدًا لاقتفاء أثر الكاتب وهو يجول في المدينة التاريخية وساحتها وأزقتها ومقبرتها. صور المدينة المتاحة على الإنترنت أعانتني، كذلك، على فهم وصف الكاتب شكل ساحتها المروحي وأبنيتها وسُورها المطل على الطبيعة الممتدة. كانت اللوحات التي حواها الكتاب مُعينًا أيضًا على مشاركة الكاتب تأملاته ومشاهداته ومن ثم نقلها وترجمتها بدقة تضاهي الأصل.

في أثناء الترجمة، كان لا بد من توخِّي الحذر في ترجمة تحليل الكاتب للوحات التي أنفق وقتًا طويلًا في مشاهدتها. تمثَّل ذلك في اختيار مفردات وصياغات وأساليب عربية تلائم ما ورد في الأصل ما أمكن. وما كان ذلك بالأمر الهيِّن، ولا سيَّما أن في لغة الكاتب تأملًا فلسفيًّا ووجوديًّا لا يخلو من إحالات وإشارات استدعت البحث في مصادر شتَّى. مفردات هذه اللغة ليست مباشرة الدلالات ولا بد من مفاوضتها بغية الوصول إلى تسوية ما. عبَّر الكاتب عن مأزق اللغة والترجمة هذا في مقالته آنفة الذكر "لا أتذكَّر زمنًا لم تكن فيه الكلمات خطرة" لمَّا قال إن: "اللغة ترجمة. فكل كلمة نستعملها تعني شيئًا، لكنها لا يمكن أن تكون ذلك الشيء." كذلك لا يمكن إغفال ما ذهب إليه في تلك المقالة وذلك أن الترجمة حيثما وُجِدَت وُجِدَ القلق من سوء الفهم. لعل سوء الفهم ينشأ من تلك المناطق الضبابية المختفية بين السطور، وفي ظلال الكلمات وبين تلابيب اللغة، من الكلام الذي لا يقال، من الصمت. وما أسهل أن يسيء المترجمُ الفهم وما أسهل أن يُسَاءَ فهمه!

فحين تستعصي الترجمة تصبح "كسرابٍ بِقِيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً"، كلما اقتربتَ منها ابتعدتْ عنك، ممكنة ومستحيلة في وقت واحد. ولهذا فهي قابلة للتأويل دائمًا ولإعادة النظر. المترجم يريد أن يكتب بلغته ما يكتبه الكاتب بلغته. فما الذي يضيع في تلك الأثناء بين الكتابتين؟ ما الذي يسقط في أثناء سفر الكلمات بين الضفتين؟ حرصت الترجمة أيضًا على ردِّ أقوال ابن بطوطة وابن خلدون إلى أصلها العربي بالرجوع إلى كتابيهما. في آخر الكتاب أضفتُ مسردًا لبعض الأسماء الأجنبية للقارئ الراغب في البحث عنها، خصوصًا أن كتابتها بالعربية غير متفَقٍّ عليها. اتفقت والكاتب على كتابة هذه الأسماء في النص بحروف عربية كما تُنطَق بالإنجليزية أو بالإيطالية ما أمكن.  

بعد ما أنهيت الترجمة وأرسلتها إلى هشام مطر وإبراهيم الشريف راقتهما ونالت نصيبًا وافرًا من النقاش بيننا؛ ولم نألُ جَهْدًا في تقليب وجوه تأويل كثير من العبارات، وكيف فهمها كلّ واحد منَّا. كذلك وقفنا على جملةٍ من المسائل التي صادفتُها في الترجمة وتطلَّبت دقة أكبر ثم راجعتها وإبراهيم مرارًا وأوليناها نقاشًا مستفيضًا، راجِيَين أن يكون لهذا الكتاب جميل الأثر عند القارئ العربي كما كان الشأن عند قارئه بالإنجليزية. ثم في آخر الأمر أرسلنا مخطوط الكتاب إلى دار الشروق بالقاهرة، الدار التي اختارها الكاتب ناشرةً لكتبه وعُنِيَت بالمخطوط عناية كبيرة، شكلًا ومضمونًا، حتى خرج في غلاف بديع لا يقل حُسْنًا عن نظيره الإنجليزي. لعلَّني لا أبالغ إذا وصفت هذا الكتاب بوصف الكاتب نفسه لمعمار سيينَّا وسَمْتِها وعادتها حيث "السكون الوادع في الخارج، والاعتناء والاهتمام المتأنّيان في الداخل، والوجه الحَيِيّ والهادئ الذي يخفي قلبًا مُتَّقِدًا."