«ليس الحاضر مجرّد محطّةٍ انتقاليّة بين الماضي والمستقبل؛ بل هو وحدة الاثنين» )هيدغر، الكينونة والزمان(
إنّ الحرب حكاية جغرافيّة متحرّكة، كلّما كان الدافع السياسيّ لها توسّعيّاً، ازداد المجتمع انعزاليّةً، اقتلاعيّةً، وإقصائيّةً (فالأبارتهايد عقيدةٌ بيروقراطيّة وتقليدٌ مجتمعيّ) وإحدى الحلقات التمهيدية للوصول إلى الإبادة الجماعية.
إنّ عدم إدراكنا لمجريات الأحداث وخط الفعل المتصل للجرائم الصهيونية منذ 75 عاماً، يجعلنا في حالة صدمة مما يجري اليومK من مذبحة بحق أصحاب الأرض من قبل المستعمر وأدواته الاستيطانية الإحلالية للأرض العربية الفلسطينية.
ليست المرة الأولى الذي يتعرّض فيها الشعب الفلسطيني لهذا النوع من الوحشية من قبل المستعمر المحتل، فالتنكيل والحصار وقطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء والاعتقال والاغتيال وتدمير المنازل على رؤوس نسائها وأطفالها وقصف المستشفيات والمدارس ودور العجزة والعبادة وقتل الحوامل والعاملين في الأجهزة الطبية ... هي متلازمة الكيان الصهيوني الاستعماري الإحلالي منذ نشأته.
واحدة من أبرز الإشكاليات في الأزمات الإنسانية الكبرى، هي عندما يستخدم مناصرو الضحية مصطلحات منزوعة من سياقاتها وسرديتها، ما يضعها في إطارها العاطفي فقط كردّة فعل ناتجة عن هول المشهد فقط مجرّدة من مقاصد مضامينها وأبعادها الإدراكية والقانونية. وعلى هذه الخلفية، لا بد لنا من التوقف عند السجال العجيب الدائر بين مفكّري عالم الشمال وإمبراطوريات إعلامه حول توصيف ما يجري اليوم في قطاع غزة من إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني: «هل هو حق مشروع في الدفاع عن النفس؟ هل هو استخدام مفرط للقوة؟ وفي المقلب الآخر هل هم مجرد ضحايا حرب أم مجرد ضحايا عمليات ثأرية؟» - في محاولة واضحة وخبيثة لإلقاء اللوم على الضحية. وهو ما يجعلهم في سقوط وانكشاف أخلاقي وإنساني وقيمي مدوّ.
ذلك لأننا أمام مشهدية توضح بشكل لا لُبس فيه أننا أمام عمليات قتل جماعية وحشية ممنهجة، تتجاوز في فظاعتها كل ما وقع من مجازر في التاريخ المعاصر. مدعومة بشكل كامل من ترسانة سلاح لا تنفد، وغطاء دولي غير مسبوق. ليؤكدوا من جديد أن المسألة ليست مسألة تضامن مع دولة و«حقها المشروع في الدفاع عن نفسها بعد تعرّض مستوطناتها لهجوم»، إنما نحن أمام كيان استعماري إحلالي استيطاني يمثّل بحد ذاته إرادة العالم الرأسمالي المتوحش وسطوته على الشعوب الساعية للتحرر من نير الاستعمار وأدواته. لذلك، نرى الإجماع الرسمي الغربي، ولو بشكل موارب أو مراوغ، لاستمرار جرائم القتل الجماعي الممنهج بحق الشعب الفلسطيني، على يد ذلك الكيان الوظيفي للاستعمار، بهدف سحق إرادة التحرّر لدى هذا الشعب الذي تجرّأ وتجاوز الحدود بكل أبعادها الميدانية والسياسية والرمزية.
فالمزاعم الدولية حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بموجب القانون الدولي، تُعدُّ أكبر عملية تزوير وخداع من قبل تلك الدول «المتحضّرة»، باستخدام القانون الدولي نفسه من أجل تقديمها كضحيةً، متناسين أنّ هذا المبدأ القانوني الدولي لا ينطبق على إسرائيل كونها دولة احتلال؛ وحتى لو تأكّد أن لإسرائيل حقاً طبيعياً في الدفاع عن النفس، فإنّ المادة 51 تُقيّد هذا الحق بأن يكون متناسباً مع طبيعة «الاعتداء». فماذا لو كان الحديث عن غزة اليوم التي تخضع للحصار منذ عام 2006 وتسيطر إسرائيل على طعامها ومائها ووقودها ودوائها وبحرها وسمائها وتخضع لمراقبة إلكترونية، هذا فضلاً عن الأقمار الصناعية التي تعمل على مدار الساعة في مراقبة كل شبر من جغرافيتها؟
وإلى جانب ذلك نرى، وبشكل مواز، أن هناك انصياعاً لغوياً في عالم الشمال (عالم الشمال ليس محصوراً في جغرافية أميركا وأوروبا فحسب، بل عالم الشمال الأخطر هو ذاك المتواجد في أدمغتنا كمثقفين وباحثين) حيث يظهر جلياً في العجز والتردد من توصيف ما يجري من جرائم القتل الممنهج بحق الفلسطينيين بالإبادة الجماعية، لعلمهم بحجم العقاب الذي سيلقاه من يجرؤ على استخدام تلك المصطلحات في مقاربة الواقع الفلسطيني، هذه من ناحية. ومن ناحية أخرى، فالتقويض اللغوي واللفظي، يمثل أيضاً إحدى أدوات الهيمنة على مستوى أرشفة الأحداث والحد من تطوير لغة الخطاب المناهض للاستعمار وأدواته. كما أن الإسقاطات المفاهيمية لدى الغرب تفيد بأن ليس ثمة جمع من الناس يرتقي إلى ذاك الجمع النظري الذي كان ضحية الهلوكوست، وعليه ما من جماعة في هذا العالم تستحق أن يقال عنها أنها تواجه عمليات قتل جماعي ممنهج، كون القتل الجماعي الممنهج والوحيد الذي حصل في التاريخ هو «الهلوكوست» من وجهة نظره.
وذلك مرده لنجاح الحركة الصهيونية في التسلق والتربع على مفهوم الضحية والعقاب الجماعي التي جعلت من الهولوكوست مرجعية وحيدة ومعياراً أساسيّاً في عملية انتقاء المصطلحات لدى الباحثين والمفكّرين. علماً أن الهولوكوست، بتعريفه الاختزالي، قائم على مهاجمة مجموعة من الناس تختزل هوياتهم على أساس إثني أو عرقي، من قبل جماعة تعتبر نفسها متفوّقة عرقياً عبر دولة تعيد إنتاج قوتها من خلال عملية استغلال واستنفاذ جماعات دون إنسانية العرق المسيطر فيها، لهذا نصف هذه الدولة بفاشية أو نازية. ألا ينطبق هذا تماماً على ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية ممنهجة منذ بداية نكبته على يد دولة الكيان الصهيوني المحتل للأرض العربية الفلسطينية!
* باحث وأكاديمي فلسطيني
عن (الأخبار اللبنانية)