يرتكز المقياس الجمالي والفني والحضاري على إنتاج المتميز والأجمل والخالد، وبصورة أدق المختلف. من هذا المنطلق يكون الإبداع الحقيقي في براعة البناء والسعي إلى مخالفة السائد، والمألوف، وبالتالي فالتمرد الأدبي القائم على رؤيا فيها نوع من الصفاء والحكمة، سيقودنا بالضرورة إلى الاختلاف، لذا كان لكل انحراف وعدول منطقه الخاص. من هذا المنطلق تصبح الكتابة عنتاً والقراءة متعة أو ما يسميه رولان بارتRoland Barth "لذة النص". ولا شك في أن ما يكتبه القاص فهد الخليوي لا يخرج عن هذا الإطار.
تنتمي النصوص السردية للمبدع فهد الخليوي إلى القصص القصيرة جداً والقصص القصيرة التي تخلق نوعاً من الحميمية بينها وبين المتلقي، فهي "مرهونة بكمية محدودة من الكلمات، بلحظة معينة من الزمن، وبشخصية معينة، قادرة في اقتصاد معين أن تنقل جواً محدداً أو فكرة ما"(1). وفهد الخليوي إضافة لمخزونه اللغوي القليل في هوامشه والثري في تدفق صوره من خلال قصصه القصيرة، نجده يرتاد بحر القصة القصيرة جداً بمهارة فائقة وتقنية فنية عالية، وسأورد لاحقاً في هذه القراءة نماذج من جنس قصته القصيرة جداً "ظلام". ويمكننا أن نميز ونحن ندخل عالم هذا القاص بينه وبين عوالم القصص الأخرى، إذ تختلف نظرته عن الآخرين، فالفرق يكمن في سرد الواقع وسرد الحقيقة. فسرد الواقع كما هو لا ينبهنا إلى شيئ لأننا جزء من تفاصيله، لأنه يمر أمامنا من خلال العين السحرية التي تطل على العالم عبر الشاشة العادية، لكن شاشة هذا القاص داخلية وخارجية تنقل اللامرئي، وتضع أمام المتلقي كل الواقع في آن واحد عبر بساط اللغة السحري بطريقة تقنية فنية، مكثفة مثل الحلم وتتم طريقة التكثيف السريعة في كيان المتلقي داخلياً وخارجياً، مما يخلق التوازن، فيكتشف هذا الأخير الحقيقة الناصعة من خلال هذا الواقع المكثف المرمّز الذي ينصهر فيه الوعي باللاوعي، والخارق بالعادي، مما يشكل فسيفساء من لوحة غريبة يشع تحت رسومها المسكوت عنه في النص. فتنكشف الحقيقة من أركيولوجيا اللغة فتستفز القارئ لمعرفة ما تكتم من معاني لائذة في الأقاصي. من خلال الجولة السريعة داخل عالم الخيلوي تستوقفك العناوين المكثفة المتراوحة بين الطول والقصر:
1- "إبادة" كتب سنة 1990.
2- "بحر وأنثى" كتب سنة 2006.
3- "مكابدة" كتب سنة 2006.
4- "ظلام" كتب سنة 2007.
5- "سطور من تراث الوأد" كتب سنة 1985.
6- "لص" كتب سنة 2006
7- "حصان وفرس" كتب سنة 2006.
8- "صحراء" كتب سنة 2006.
9- "ذكرى" كتب سنة 2007
10- "رياح" كتب سنة 2004.
11- "أجراس" كتب سنة 2000.
12- "البوابة" كتب سنة 1992.
13- "عن قرية هجرتها شاحنات القمح" دون تاريخ.
إن هذه الطريقة الجديدة في الكتابة القصصية تحدث جنساً من الإيقاع مغايرة لنمط الإيقاع المألوف ومواطئاً لضروب الإبداع الشعري الحديث في بعض الوجوه على الأقل(2).
والتجسيد المادي للغة، أو ما تمظهر فونولوجياً على سطح الورقة بما في ذلك العناوين التي تعد من قبيل بطاقة هوية النص: "يخفي تحته طبقة سميكة من العلامات التي يتحدد داخلها الإنسان بأفعاله ومعتقداته وشكوكه ويقينة، كعلامات يحيل بعضها على بعض، داخل نسق شاسع يوضح نفسه بنفسه، إن هذه التجربة بأشكالها وعمقها وعناها، هي المنطلق لمعرفة كنه العلامة"(3). فتصبح اللغة الحاملة للنصوص السردية للمبدع فهد الخليوي علامة ينبغي فك شفرتها. وإذا كانت القصة هي لعبة الانتقال من العادي إلى المختلف، فأين يكمن الاختلاف في نصوص الخليوي؟؟ هل يحمل هماً معرفياً، وهماً حضارياً؟ لماذا وقعت عدسة مخيلته على وقائع بعينها دون أخرى؟ ما الذي يبحث عنه في أعماق الأحداث والأنماط الموجودة في الواقع؟ هل يبحث ضمن هذه الهموم عن أفاق التغيير؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يتناسل بعضها من بعض، والتي سنحاول الإجابة عنها من خلال رحلة المدّ والجزر بين العنوان والمتن، علّنا نجد الإجابة كامنة في أغوار بحر اللغة.
ليست محاورة النصوص بالعملية الهيّنة، لذلك ارتأيت إن أقدم قراءة تأويليّة لبعض هذه النصوص مستعينة بالآليات الإجرائية للمنهج السيميائي لعلي أضيء به بعض ما تكتّم، وما حاولت اللغة الظاهرة أن تخفيه من معاني تعد من قبيل النص الغائر، أو المضمر. ولا شك أن التعامل مع اللغة على أنها علامة تحيل النص الحاضر إحالة غير مباشرة وعلى الانتماء الاجتماعي، وترمز إلى تردّي الأوضاع واستفحال الظلم واستحالة القول. استوقفتني في رحلة البحث بعض النصوص مرغمة، لا لأنها تستجيب لهاجسي، بل لأنها تستبطن إيحاءات تشد المتلقي وتحفر في أغواره فيظل يحاول استجلاء الحالة الإنسانية التي استحضرها فهد الخليوي، من خلال وضع عدسة متخيله على مشهد بعينه في نص مثل "سطور من تراث الوأد" ونص "ظلام" ونص"إبادة". فعلى الرغم من أن جلّ العناوين تحمل بعداً درامياً إلا أن هذه النصوص تتجسد فيها قمة البعد الدرامي لأنها تحيل على الموت الرمزي.
أ- سطور من تراث الوأد
تحيلنا الصياغة الغريبة للعنوان مباشرة على العصر الجاهلي، فيبدو النص كأنه مقتطع من التراث القديم الذي تمارس فيه عملية الوأد، فجاء الإسلام ليدينها ويبطلها، قال تعالى "وإذا الموءودة سئلت*بأي ذنب قتلت"(آية 8-9). ويعد تذكر هذا التراث التليد، أو إعادة كتابته ضرب من الجنون؛ لأن عملية الوأد يمجّها الطبع والعقل والفكر، لأنها غارقة في الوحشية. فتحدث الصياغة اللغوية للعنوان تصدعاً في الفكر، مما يقودنا للسؤال: لماذا يعيد فهد الخيلوي صياغة سطور من مشهد الوأد؟!! هل يقارن الكاتب بين ما في مخيلته من مخزون مؤلم وما هو حادث الآن؟!! يعتمد الكاتب على طلل من أطلال الماضي، وهو كليشة من نقطة زمانية متوحشة يعاد بعثها من جديد، لتجسد صورة زمن مضى، فهل هذه الصورة ابتكار فقد الرغبة التي أفرزته؟ أم أن خيوط التراث البائد مازالت تعمل فينا في خفاء من خلال الوعي المزيف الذي بنيت به العقلية العربية؟ قد يكون الرجوع إلى الماضي ملاذاً يتجاوز المبدع به كبت الحاضر ومآسيه، ويعانق به الأمل في المستقبل(4). لكننا نلاحظ أن العودة إلى الماضي في هذا النص السردي تفتح الجراح من جديد، وتذكر بما لمآسي العنف الأبوي الوحشي الذي كان يسلط على المرأة في تلك الفترة وهي كائن ضعيف(طفلة صغيرة لا حول لها ولا قوة) فالوأد هو دفن فتاة حديثة الولادة بالحياة مخافة جلب العار عند كبرها.
يبدو النص لأول وهلة وثيقة تاريخية لجاهلية اندثرت، إلا أنه يحمل في طياته رموزاً أسطورية وطقوس بدائية وقداساً جنائزياً فنحن حيال أحاسيس أشد عمقاً من مجرد الشعور بالألم، إنه الرعب في أعنف مظاهره وأكثرها مأساوية(5). فيصبح العنوان "سطور من تراث الوأد" مشهد من مشاهد الدفن بالحياة. ويتجلى طيف المرأة في هذا المقطع المشهدي بوصفه رمزاً لمعاناة الخلق الفني واستلهاماً يتصل في مسارب النفس بالأنثى التي تاهت في الوجدان العربي(6). وهي في كل الحالات ترمز للغواية والفتنة التي تحيل على الشيطان طالما أن الفكر الجاهلي الرجعي ما زال قابعاً في لا شعور الرجل العربي بصفة عامة.
المتن/ سطور من تراث الوأد
"تحلقوا حول المدفن، خرج بين الجمع رجلاً يحمل فأساً وطفق يحفر في الأرض، أجتثت الفأس جذور أعشاب صغيرة، جفّت فوق أكوام التراب وتبعثرت بفعل الرياح. اصطفوا على شكل دائرة، أشهروا سيوفهم وبنادقهم وأطلقوا أعيرة نارية في الفضاء. رقصوا على قرع الطبول، تمايلوا جذلاً ثم انطلقت صرخة مدوية.. أدفنوها! ارتدى جسدها الشفيف كفناً منسوجاً من عروق ليل طويل، شعت من روحها ومضات عذاب تليد. امتصتها العتمة، دلفت إلى مهرجان موتها، تقاطرت أنوثتها شموساً. أومض طيفها من خلايا الصمت، وساد سكون مهيب في ساحة المقبرة. انصرف الجمع عند حلول المساء. كانوا يلوحون برايات سوداء، ويحملون فوق كواهلهم ليل حالك وسلاسل غليظة وبقايا وأد قديم".
من العسير الإقرار المبدئي بسهولة ولوج هذا النص الغارق في الرمزية، على الرغم من أن المشهد العام يذكرنا بمشهد من مشاهد الوأد القديم، ومن غير المعقول أن يتصور الإنسان أن مثل هذه الممارسات ما زالت حالة في المجتمع العربي، وبالتالي ينبغي التنبيه إلى أننا أمام نص يعدّ من قبيل كشف عوالم المبدع، فهو لا يسعى إلى مطابقة العالم المرجعي الواقعي، لأن الصورة المشهدية تحمل في طياتها نفس شعائري تمتزج به نبرة مبطنة بالألم والسخرية في الآن ذاته، فيذكرنا المشهد "بالطقوس الوثنية البدائية التي تؤدي رقصات حول الضحية التي يستعد لتقديمها قرباناً للمعبود"(7)، أو كأنما نحن حيال وحش أسطوري يأبى إلا أن يداعب ضحيته راقصاً رقصة الموت قبيل الانقضاض، فإرجاء لحظة الهجوم إيغال في التعذيب والوحشية(8). هذا ما تذكرنا به الصورة المشهدية التي رسمها السارد لعملية الوأد هذه، لأن الوأد الحقيقي يقوم به الأب بمفرده عندما تولد له فتاة، فيواريها التراب لاعتبارات نفسية واجتماعية في تلك الفترة المظلمة. ولكن الأثر الأدبي مهما كان غامضاً، يحوي دلالات معينة يتقيد بها تأويله، ويُحدّ بها فهمه، وأول هذه الحدود (اللغة) التي يظهر فيها، وما تحيل عليه من قيم، تلزم القراءة بشيء من الموضوعية والتعامل مع النص تعاملاً جمالياً، لا تعاملاً وثائقياً لما في لغة فهد الخليوي من ثراء جمالي وصور معبرة وآسرة، وبالتالي تلزمنا بشيء من الوفاء لنوايا الكاتب ومقاصده والعصر الذي ألف فيه، ولتصبح عملية الوأد علامة بارزة تحيل على العديد من الممارسات الشبيهة بالوأد في العصر الراهن:
- وأد المرأة.
- وأد الحرية.
تنصهر الكلمات داخل هذا النص العجائبي لتشكل لوحتين متباينتين، لوحة العبث الذي يقوم به هؤلاء الرجال ضد كائن جميل (الأنثى، الطفلة) وهذه اللوحة هي النص الظاهر أو مستوى السطح، أما اللوحة الثانية فنلمسها في البنية العميقة ويمكن أن نسميها لوحة البعث التي تتعانق مع الحلم المخلص، كاشفة البنية الدالة لهذا الكون التخييلي الذي يحتضن موضوع حقوق الإنسان في كل زمان ومكان (الحق في العيش، الحق في الحرية والكرامة، الحق في الكلمة، الحق في الثورة على الأعراف البائدة... إلخ. تلك هي أبجدية النص المضمر وواقع النص فيه مبالغة إذا ما قورن بنص الواقع، وهذا الانزياح والعدول في مسار التناص مع هذه الحادثة الجاهلية يخلق مسافة توتر، يمكن أن نطلق عليها شعرية النص ومسافته الجمالية لأنها تتيح للقارئ التحرر من اللغة التي تحاصره وتترك له فضاء للتأويل دون الخروج عن نص الكتابة. يحيل نص الكتابة على المرأة المؤودة من قبل المجتمع وسلطة الأعراف ويتشظى نص القراءة إلى عدة مداليل، منها الإحالة على الكتابة الإبداعية المؤودة من قبل سلطة الرقابة. ولعل طريقة مزج الطقوس الأسطورية بمشهد الوأد الجاهلي وهي صورة متناقضة وبعيدة زمانياً ودلاليا، وحضورها لغوياً كلحمة واحدة، يفضح الضغوط المسلطة أيّا كان نوعها، ويحدث سلطة جديدة تتمثل في سلطة الكتابة التي تريد أن تكشف عن مظاهر الزيف المنتشر في بقاع كثيرة من العالم.
وربما عبارة: "ارتدى جسدها الشفيف كفناً منسوجاً من عروق ليل طويل"، تحيل على الكتابة كونها تكتب على الورق الأبيض الشبيه بالكفن والكتابة تعبر عن ذلك النسيج الأسود وكأن الكتابة تشّع من روحها و(مضات عذاب تليد) وبالكتابة ننقل عذاباتنا وبها ننقل أحزاننا مغلفة بأحزان الماضي، ونكتب حزننا بمداد الروح على بياض الورق، وأقصى درجات الوأد هو وأد الكتابة ووأد حرية التعبير، لأننا بالكلمة نحيا وبالكلمة نموت. ولكن الكاتب فهد الخيلوي لا يفقد الأمل، لأن الكتابة الحاملة للهموم يومض (طيفها من خلايا الصمت) وتشع منها شموس الأمل. وفي الأخير قد يفضي بنا التصور إلى ضرب من التأويل السيميائي أو الحفر المعرفي في طبقات اللغة، يتحول بموجبه القبر وعملية الدفن إلى طقس عبور وتعدية، لأن التعبير عن المأساة والجحيم هو رغبة في الانعتاق والتحرر، أو لعل القبر (رحم الأرض)، يرمز إلى التخلق الجنيني للفكر الموؤود ليُبعَث من جديد. وترمز السلاسل الموضوعة على كاهل الرجال العائدين من المقبرة إلى قيود الأعراف الاجتماعية الجائرة، ويرمز الليل الحالك إلى الجهل وظلمة الفكر المتحجّر، ولعل التلويح بالسلاح في الفضاء ما هو إلا رمز تهكُّمي لأولئك الذين يستعملون القوّة في غير محلّها، بل قد يستعملونها ضدّ الجمال لصالح القبح، ويعتقدون أن ذلك انتصاراً، كما يرمز الجمع ُالذي ساهم في عملية الدفن "ادفنوها"، إلى الاتحاد في غير محلّه، ثم عبارة ادفنوها موجهة لمن؟! تلك هي أبجدية الكتابة عند فهد الخليوي من خلال نصه "سطور من تراث الوأد".
ب- ظلام
وسم الخليوي نصه بظلام، وهذا الترميز الدلالي ثقيل ثقل الليل، وهو يكتسب صفة العموم، لأنه جاء نكرة وكأنه يوحي بأن الدنيا برمتها "ظلام". يحيل الظلام على عدم الرؤية، وهو مقترن بالسواد، كما يحيل على الليل الذي يقترن بالسكون وانعدام الحركة، كما يقترن الظلام بظلمة القبر، وكل عنصر مقترن بالظلام يوحي بانعدام النور، عدم الرؤيا الوحشة والحزن، وعلى الرغم من تشظي هذه المداليل من دال "ظلام"، إلا أن الخبر المتعلق بهذا الدال يبقى كامناً في المتن.
المتن/ ظلام
"تعثرت بعباءتها وهي تعبر للجهة المقابلة، كادت عربة مسرعة تحيلها إلى أشلاء!
أزاحت الغلالة السوداء من عينيها، أبصرت المصابيح المعلقة تتلألأ في أسقف المتاجر.
وضعت يدها على قلبها وهي تلعن الظلام".
نص سردي عميق من نسيج القصة القصيرة جداً، نحاول ملامسته لفك الشفرة اللغوية التي تجسد واقع النص، ثم الخروج منه إلى نص الواقع، أي ربط التجسيد اللغوي بالواقع الخارجي الاجتماعي أو السياسي أو النفسي... إلخ، إذا كانت الرموز اللغوية تحيل على ذلك أو بمعنى أدق كيف وظف المبدع رموزه؟ ولماذا؟. لا شك في أن هذه الرموز تحتضن ثنائية المرأة/ الظلام. غيب فهد الخليوي عبارة امرأة وأحال عليها بتاء التأنيث والهاء، مما يدل على أن المرأة في العرف الاجتماعي من المسكوت عنه. امرأة غير معروفة طبعاً، خرجت من بيتها متجلببة بعباءتها وهي لا تعلم أنها خرجت في الليل، لأن الغلالة السوداء تحجب عنها الرؤية أو أنها لا تميز بين الليل والنهار!! والسؤال المطروح أيعقل أن لا تميز المرأة بين الليل والنهار؟؟ أم أن النص يحمل رسالة تهكمية مشفّرة؟
يمكننا أن نستنبط عبارة الظلام من كل رمز من الرموز اللغوية البارزة على سطح النص، أي النية السطحية:
عباءتها + المرأة = هيكل أسود = ظلام
غلالتها السوداء = نقاب أسود = ظلام
المصابيح = نور في الليل = الزمن/ ليل = ظلام
تلعن الظلام = تلعن زمن الليل = ظلام
لا يكتب فهد الخليوي من فراغ ولا من خطاب مباشر فج، بل يحمل همّاً معرفياً وإنسانياً وإبداعياً، يجسده في هذا البناء اللغوي أي عبر هذه السلسلة من الرموز والعلامات التي يستحضر من خلالها التجربة عبر وجهها المجرّد، أي "أداة للتوسط الإلزامي بخلق حالة إدراك تسمح للذات الكاتبة بالانفلات من ربقة كل الإرغامات التي يفرضها الزمان والمكان، وليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة ترميزية قادت الإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب والزمان والفضاء ليخلق أشكالاً هي أداته في إدراك الكون(9).
من هذا المنطلق يمكننا القول أن هذا المبدع غير راضي بهذا الوضع الاجتماعي للمرأة، وهو وضع فرضته عليها سلطة العرف. وهذا الوضع المتردي الذي ترزح تحت نيره المرأة، جعلها لا تميز بين الليل والنهار، لأن سلطة الأعراف جعلت من المرأة جسداً بلا روح ولا عقل، تمشي دون تفكير حتى أنها لا تميز بين الليل والنهار!! إننا لا نشك في أن هذا الكائن المانح للحياة يعيش ظلمة على ظلمة، بل يعيش وأداً بطريقة مغايرة وهذا الوضع المزري سائد في مجتمعاتنا العربية وإن اختلفت درجة وحشيته.
كتب هذا النص في 2007، وهذا يبّين أن المشهد ملتقط حديثاً، فكأني بفهد الخليوي يئن تحت وطأة هذا المشهد ليدعو إلى النور وإلى التحرر من سلطة الأعراف البائدة لأن الله لا يمكن أن يظلم هذا الكائن الجميل(المرأة) وقد جعل الجنة تحت أقدامها.
النص يحيل على الظلام وهو مقابل للنور
الظلام = الوأد = الموت وهو مقابل للحياة
الظلام = الانغلاق = القيد وهو مقابل للتحرر
فالدلالات التي يحيل عليها الظلام، كالوأد والانغلاق ظاهرياً، تخفي تحتها دعوة صريحة من الكاتب إلى النور والحياة التي تليق بكرامة الإنسان، فكأن هذا المشهد المؤلم الذي أقتطعه الكاتب من الذاكرة اليومية يحزّ في نفسه وهو لم يستحضره ليتباهى أو للذّة في نفسه، بل ليُشركَنا في ألمه، وألم تلك المرأة التي وضعت يدها على قلبها من هول المفاجأة ولعنت الظلام وكأني بالمرأة في هذا البلد تلعن وضعها المظلم. يحيل النص في طبقاته الغائرة على رسالة تهكمية مشفّرة تدين سلطة الأعراف الظالمة وبالتالي سلطة المجتمع المغلّفة بطابع ديني متطرف، مع العلم أن ما يُفعل بالمرأة من تشدّد خارج عن حدود الدين، وما هو إلا تكريس للأبعاد التوراتيّة التي تنظر للمرأة على أنها رمز للخطيئة. لا يكتب فهد الخليوي ليتغزل بالمرأة أو ليصف أجزاء من جسدها كغيره من بعض الكتّاب، بل يقدمها هيكلاً أسوداً لا يعرف ليله من نهاره، غرضه من ذلك أن تخرج من ظلمتها، فنحن في زمن لا ينبغي أن تظهر المرأة فيه جاهلة وبلهاء، بل يريدها أن تكون المرأة المفكرة والمبدعة، لأنها العصب الدلالي للمجتمع، فهي أم وأخت وزوجة للرجل وهي مربية للأجيال والرجل منها يولد وإلى أحضانها يعود، فكيف يعيش مانح الحياة في ظلام، ولا شك في أن الاعتدال ما كان في شيء إلا زانه والتشدّد ما كان في شيء إلا ّشانه.
ج- إبادة
عنوان مقتصد يحيل على الدمار الشامل، فعن أي دمار يتحدث فهد الخليوي؟؟ قد يعتقد القارئ فبل الولوج إلى النص أن القاص يروي قصة عن معركة حدثت فيها إبادة شاملة، ولكن القصة تخرق أفق توقّع المتلقي.
المتن/ إبادة
"حرك جسده الضامر، فتح بيديه المرتعشتين خزانته المثقلة بأقفال صدئة، قرأ أوراقاً نسخت بمداد زمنه الآفل تذكر ضحاياه وكأنهم طيور متوحشة تهبط فوق روحه المتلاشية.
شعر بهمود ذهنه ونفور عروقه، وقرقعة عظامه.
نشطت حشرة الإبادة وأنجبت سلالتها المدمرة! في ربوع بيته الكبير. قاومها بكل مقتنياته الفتاكة، انهارت مقاومته أمام الزحف الكاسح للحشرة.
توغلت الحشرة في بطون الجدران ودلقت عناصر الإبادة في كل زوايا البيت.
أطل عبر النافذة إلى بهو بيته الكبير، كان البهو يغرق في لزوجة صفراء والحشرة تسبح في تلك اللزوجة تلتصق بجسدها القاتم أثداء مملوءة بسوائل نتنة!
انتشر فحيح الحشرة وفاضت اللزوجة في أرجاء المكان.
تحسس نبض عروقه وصرخ:
- كياني يحترق!
تسلقت سلالات الحشرة أبدان حاشيته وأخذت إحدى زوجاته تعوي من قسوة داء الجرب، وعصف (الدرن بأطفاله وفلول خدمه)
حدق بالشمس وترجرج دمع آسن في قاع عينيه أسلمه إلى ظلام دامس.
- إنه الفناء.
قال ذلك واستسلم لعواء طويل!!"
النص أمام المتلقي دون تعليق، وقد يبدو للقارئ العادي نص بسيط لا يقتضي إعمال الفكر، ربما هي ذكريات يختزنها شخص ما تقدمت به السن، وهو يسترجع داء الجرب الذي أباد أهله من جراء حشرة ضارة دخلت بيته. والسؤال المطروح هل فعلاً فهد الخليوي يقصد ذلك؟ هل يقصد من ذلك إمتاع المتلقي؟ لو نظرنا إلى النص من هذه الوجهة، فإننا نكتفي بقراءة المتعة، ثم نمر إلى نصوص أخرى، إذن المسألة ليست كذلك إطلاقاً لأن وراء هذا النص نص أخر. يوجد في كل زمان ومكان ما يسمى بسلطة تكميم الأفواه، لذلك يعمد المبدعون إلى التشفير اللغوي، والتعبير بالرمز، وتختلف طبيعة الرمز من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، أي يتحول الرمز والإشارة وفقاً للطبيعة الزمكانية، كرموز المتصوفة، وحكاية كليلة ودمنة، حكاية شن وطبقة، حكاية ليلة الأخيلية مع عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي والأمثلة كثيرة في التراث العربي بخاصة والعالمي بعامة، فيتحول المعجم الظاهر في الكلام عن دلالته الأصلية، ويحمل دلالات أخرى حسب ما يقتضيه السياق والشفرة المتفق عليها، وأحياناً لا يكون هناك اتفاق في الشفرة ولكن حسن التبصر في المعنى، وذكاء المتلقي يؤدي إلى فهم المعاني المستبطنة. أما في العصر الراهن يعمد المبدع أحياناً إلى اللغة العادية، ولكن طريقة السرد هي التي تمكّن المتلقي من اكتشاف العلائق المنطقية، كي تسهل عليه عملية التأويل، وهذا ما سنقوم به إذا اعتبرنا اللغة المعجمية لهذا النص علامات تحيل على ما يحدث في هذا الزمن، لأن الأديب لا يمكن أن ينفصل عن المناخ السوسيو ثقافي، والمناخ الأيديولوجي. فيصبح النص تعبيراً عن القويّ الذي يستهين بضعف الضعيف،لأن الضعيف لا يبقي على حاله، والقوة تؤول إلى الضعف.
"حرك جسده الضامر، فتح بيديه المرتعشتين خزانته المثقلة بأقفال صدئة، قرأ أوراقاً نسخت بمداد زمنه الآفل تذكر ضحاياه وكأنهم طيور متوحشة تهبط فوق روحه المتلاشية"، فالجسد الضامر يعبر عن الشيخوخة وبالتالي الضعف، والخزانة مستودع الأسرار الخاصة والمقتنيات المهمّة، والأقفال الصدئة تدل على القدم. ولا يمكن أن ننظر إلى الشيخوخة بمعناها الحقيقي وإنما بمعناها المجازي. والنص غارق في التكتّم وهو منفتح على قراءات عديدة تسبح في هيولات متعددة. تجدر الإشارة أيضاً إلى طريقة كتابة النص أي الفضاء الكاليكرافي، فشكل الكتابة يحيل على الطائرة أو على شكل الحشرة، الأمر الذي يجعل عملية التأويل ممكنة لأن الشكل ينسجم مع الدلالات المستنبطة.
تلك هي أبجدية الكتابة عند المبدع العميق فهد الخليوي. تبقى الكلمة رمز الخلود، وتبقى الكتابة إبحار في عالم الوجدان والفكر، وفضاء للمحاورة يلتقي فيه المبدع بكتاباته، والمتلقي بمساءلته، وفي هذه المحاورة يختفي المبدع والمتلقي الحقيقيان، ويظهر ما ينوبهما وهما السارد الضمني والقارئ الضمني، وتتجلى اللغة سلطاناً يوجه الذات الساردة والذات القارئة توجيهاً لا يخرج عن إطار النص. من هذا المنطلق ينبغي التمييز بين ما يسمى بنص الواقع، وواقع النص أي؛ بين "المرجعية العامة أو الخارجية أو الإطارية للنص الأدبي، وبين المرجعية الداخلية، ولاسيما بالمفهوم اللساني السيميائي". ويعتبر المتلقي/ القارئ الوسيط الذي يربط بين المرجعية الداخلية والمرجعية الخارجية، لذلك ينبغي أن نراعي في عملية التأويل:
1- أسس التلقي وجمالياته، ودور القارئ في الربط بين المرجعية الداخليةوالمرجعية الخارجية.
2- النص الذي تنصهر في رحابه الأبعاد النفسية للمبدع والأبعاد العقائدية والأيديولوجية.
من هنا يمكن أن ننظر للنصوص المتبقية للقاص فهد الخليوي من هذا المنطلق.
رياح
"لم تعهد المدينة تلك الرياح التي أزّت بعنف قرب شواطئها، مماّ اضطر أمن السواحل لإصدار تحذير عن مدى خطورة ارتياد البحر.
وردت أخبار من محيطات بعيدة تفيد بأن المدينة ستمنى برياح أشد، وأكد فلكيون بانتقال الرياح من البحر إلى قلب المدينة.
كان سرب من الطيور يغرد فوق البحر، ثم دفعته شدة الرياح للتحليق بعيداً باتجاه الصحراء.
أقفرت الشواطئ، بعد أن هجرها الناس وظلوا في بيوتهم وجلّ أحاديثهم تدور عن الرياح.
قال كهل يقطن شرق المدينة:
(ليس باليد حيلة إنها الرياح)
ازدحمت بالسماء سحب كثيفة، وكأنها تنذر بحدوث شيء ما لكن البعض رجّح بأنها مجرد أمطار غزيرة ستدفع بها الرياح إلى أماكن أخرى.
استبد شغف لدى الناس بتقصي كل ما يتصل بمعرفة الرياح، وتوصل باحثون إلى أن كلمة رياح هي أكثر المفردات انتشاراً في الكتب المقدسة وفي معاجم الأمم القديمة والحديثة.
كما أن الكتب المهتمة بتاريخ الرياح أشارت إلى أن مدناً مشتتة بأصقاع العالم اجتاحتها رياح عاتية، ودكت سكونها وبدلت أزمنة بأزمنة وأنماطاً بأنماط.
وأوضحت تلك الكتب بأن بعض الرياح تجري بالفضاء الشاسع وتمتزج بالبروق والأنواء والنيازك، وتنسج مفاصل التاريخ وتبدل رونق الطبيعة، ولكل ريح في ممالك السماء فلك ومدار.
ازداد هيام الناس بالتقاط أخبار الرياح من كل منفذ متاح.
بعض المهتمين عاد فيه البحث إلى أزمنة سحيقة وروى أن للرياح أساطيرها وطقوسها وهي تضرب بأعماق البحار وتجتاح الصحاري تدك أقوى الحصون، وتهزم أعتى الأباطرة، وتحيل الساكن إلى متحرك والثابت إلى رماد. وحكى الراوي أسطورة القرية التي نسفتها الرياح عن بكرة أبيها، ولم ينج من أهلها عدا بضعة رجال ونساء تناسلوا عبر الأزمنة وأعادوا بناء القرية بأنساق جديدة بعد أن هبت عليهم رياح، حملت أمطار غزيرة جلبتها من سماء بعيدة، وارتوت بعد هطولها الأرض، وأينعت السنابل، وتكاثر النسل وأقيمت الأعراس، وأضيئت الشموع في كل دار وسابلة.
وصلت الرياح إلى وسط المدينة، وأخذ أزيزها يصطخب ويصل إلى أطرافها القصية. انطوى اليوم الأول من مجيء الرياح بعد أن حاصرت المدينة من جميع الجهات. تعامل الناس مع ظاهرة الرياح، تعاملاً ينم عن الاستسلام للأمر الواقع. وصدر عن مرصد المدينة، توضيحاً أفاد بأن المدينة لم تتعرض طوال تاريخها لرياح بهذه القوة والتأثير. تضرع الآباء والأمهات إلى الله بأن تصبح هذه الرياح، فواتح خير ومحاصيل بركة ورحمة، وتجنيب المدينة من شرورها وعواصفها المتقلبة. كان القلق يرتسم على الملامح خوفاً من انهيار البيوت، والصروح والأعمدة، سيما وأن المدينة بنيت على النسق القديم ذي الطبيعة العشوائية، وربما تصبح في مرمى الخطر المحدق أمام هول الرياح وضراوتها".
العنوان الذي وسم به المبدع هذا النص يوحي بأن ريحاً عاتية ستجتاز المنطقة، ولا ينبغي أن نأخذ مفهوم الريح بمعناه الحقيقي إذا ما قورن بالواقع الراهن، فما أكثر الرياح التي تمر على البشرية في الزمن الراهن. يوضح المبدع السذاجة التي يتعامل بها أهل المدينة والمعنيون بالأمر، وفي نسيج النص تجسيد للقوة الخارقة للريح التي ستجتاح المنطقة ولكن!! ولكن الهروب إلى البيوت لا يحل المشكلة!! والبيت عادة ما يرمز للدفء والحب والأمان من الخوف، ولكن الخطر سيداهمهم، إلا أنهم لا يحسنون التفكير، لأنهم بدل من أن يجدوا الحلول للنجاة من خطر الرياح بدأ تضرّع الآباء والأمهات إلى الله بأن تصبح هذه الرياح، فواتح خير ومحاصيل بركة ورحمة، وتجنيب المدينة من شرورها وعواصفها المتقلب وهل ينفع الدعاء في مثل هذه المواقف؟؟ لا شك في أن المبدع يقدم هذا النص بطريقة تهكمية تنم عن استبطانه عن عدم وعي الجماعة التي داهمها الخطر، وتبعاً لهذه الاعتبارات تبدو للسارد السلطة المطلقة في تحريك جميع شخصياته وقيادتهم إلى مصائرهم، لأنه هناك صوت واحد يوجه طريقنا وهو السارد الخارجي بوصفه الصوت الوحيد الذي انصهرت فيه جميع الأصوات الأخرى، والتي لم نتعرف إلى منطوقها إلا من خلال صوت السارد الذي هو نفسه المبدع ولعل مرد ذلك يعود إلى أن الفنان يقرأ تحولات الواقع ويشارك في إيجاد أجوائها بطريقة رمزية محاولاً صفع هذا العالم المتخثر الذي تلعب برأسه حلقات التفكير الساذج، وإلا ما فائدة الرجوع إلى بطون الكتب لمعرفة ما فعلته الرياح في غابر الأزمان؟؟
يقتنص القاص صورة مصغرة لمأساة العالم المتخلف والرياح التي ترمز إلى السلطة القهرية التي تزعزع الأمان وتهدم البيوت العشوائية القديمة، وهذا التعبير ينمّ عن عشوائية البناء الفكري الذي مآله السقوط، بل الاندثار والفناء، فالفكر العشوائي القديم لا محالة ستعصف به الرياح، رياح التغيير.
فلسفة المحو.. والانبعاث من البوابة حتى الأجراس
إن القاص فهد الخليوي استطاع أن يشحن نصّه برموزه منطلقاً من خلية مصغرة متمثلة في جماعة بشرية تحتاج لمن يوقظها وينبهها من خطر الرياح، ولا شك في أن القاص يحمل في طياته نوايا معرفية مستبطنة، لأنه قال رياح والرياح عادة ما تجلب الخير فهي لواقح، في حين لو قال ريح لأختلف الأمر، لأن الريح عادة ما تكون مدمّرة وبالتالي، لماذا يختبئ الناس أصلاً من الخير، ولماذا يتضرعون إلى الله، ولماذا تهجر الطيور الأماكن الساحلية فارّة إلى القفار. كل هذه الرموز تحيل إحالة غير مباشرة على تخلف الأمم التي لا تريد التغيير إلى الأحسن والأمثل وتظل متقوقعة على أفكارها البليدة، لأنها لا تستطيع أن تجابه رياح التغيير، وتبقى على أفكارها القديمة، ولعل عبارة: "تدك أقوى الحصون، وتهزم أعتى الأباطرة، وتحيل الساكن إلى متحرك والثابت إلى رماد" تدل دلالة قاطعة على أن الرياح القادمة ستقتلع الثابت غير النافع من جذوره.
البوابة
لا شك في أن الطريق الإسفلتي الذي يحيط بالمدينة على شكل دائرة هو البؤرة التي يتناسل منها المعنى، على الرغم من أن المعنى القريب يحيلنا على وجه من وجوه الانغلاق، انغلاق ليست له بداية ولا نهاية؛ لأن الدائرة ليست لها بداية ولا نهاية. في ضوء ما تقدم يمكن القول أن المعنى لا يمكن أن يصبح مرئياً إلا في علاقته بالنسق المولد له، والنسق في نص"البوابة" هو مجموعة من الدوال التي تجبرنا على إنتاج المعنى. إن التسليم بوجود نسق يقاس عليه المعنى المتحقق يضعنا مباشرة في قلب إشكالية الإمساك بالمعنى وتداوله وتحديد سبل انتشاره الإستقبالي ضمن مسيرات تتحقق عبرها أكوان دلالية متنوعة العدد والأشكال، وسيكون لكل كون من هذه الأكوان قوانينه التي تحدد طريقته في الكشف عن المعنى. فنحن في قصة "البوابة" حيال مدينة محاطة بسياج من الإسفلت وهو طريق دائري التفافي، بالإضافة إلى طرق داخلية في وسط المدينة ملتوية "كأمعاء كائن بشري" لا تفضي إلى الخارج. فالمتحقق هو مدينة داخل دائرة مقفلة، ولو حفرنا قليلاً في أركيولوجيا اللغة وذهبنا نبحث عن معنى الدائرة في الثقافات الميثولوجية ماذا نجد؟ لا شك في أن قوى عامة مشتركة لدى البشر جميعاً فيها نوع من التوافق والتشابه وهي جميعاً تقول شيئاً مما هو بداخلنا.
"يقول عالم النفس الشهير يونج Jung: "إن أقوى الرموز الدينية هي الدائرة، ويقول إن الدائرة هي واحدة من الصور الأولى المبدئية للإنسانية وإننا عندما ننظر إلى رمز الدائرة فإننا نقوم بتحليل النفس"(10). ويقول جوزيف كامبل: "إن العالم كله دائرة، وكل هذه الصور الدائرية تعكس النفس وعلى هذا فلا بد أن هناك علاقة ما بين تلك الرسوم المعمارية والتركيب الواقعي لوظائفنا الروحية (...) وفي داخل الدائرة المحددة وداخل المنطقة المحكمة الإغلاق فإن القوى التي تستحضر تكون فاعلة، في حين أنها تضيع وتتبدد خارج الدائرة"(11). والروابط الإنسانية كالملك والزواج ترتبط بالدائرة الممثلة في الخاتم، خاتم الملك، خاتم الزواج... إلخ. بالإضافة إلى كون الخاتم دائرة فهناك وجه آخر للخاتم فهو قيد، فعندما تصبح ملكاً فإنك تكون مقيداً بمبدأ، فأنت لا تعيش فقط وتسلك طريقك الخاص، بل لقد تم اختيارك لتميزك. والأمر نفسه بالنسبة لخاتم الزواج فهو يقيد الرجل والمرأة على حد سواء بهذه الرابطة المقدسة داخل إطار ديني معين.
ننطلق في معالجة نصنا من هذا التصور؛ لأن فهد الخليوي عندما استحضر في مخيلته مدينة داخل دائرة، كان يقصد شيئاً معيناً، فكأنه بهذا التعبير المجازي جالس على رقعة رملية يرسم دائرة داخلها مدينة وخطوط ملتوية. "عند قبائل هنود النافاهو Navaho Indiana، تجري احتفالات وطقوس الشفاء من خلال الرسوم الرملية Sand paintin والتي هي في معظمها ماندالا على الأرض (أي دائرة على الأرض)، فالشخص الذي سيعالج يدخل إلى الماندالا على أنه يتحرك إلى سياق أسطوري يتوحد معه أي أنه يوحد بينه وبين ماهية القوى التي يترمز إليها"(12). فعندما وضع فهد الخليوي المدينة داخل دائرة مقفلة فإنه يبحث عنها عن الشفاء، قد يكون الشفاء من مرض الأفكار التي تحاصر المدينة، والشفاء من الفكر المتحجر، الشفاء من الانغلاق، إذن هو البحث عن الحرية والإنعتاق، لأن المجتمع داخل المدينة لا يرغب في التحرر والتيمة الأسلوبية الآتية تحيل على ذلك، يقول القاص "انتقلت من يد إلى يد ورقة شفافة أنيقة رسم فوقها كروكي صغير تظهر فوق خطوطه الهندسية الدقيقة مدينة داخل دائرة مقفلة يشقها خط مستقيم نحيل كأنه وتر فضي يجتاز تجوفة آلة موسيقية (...) انتشرت حكاية مخيفة تقول: لو أنشأ طريق مستقيم فإنه سيشق المدينة إلى نصفين وسيبتعد كل نصف عن النصف الآخر أكثر من عشرين متراً بفعل عرض الطريق وهذا الابتعاد سيؤثر على التقارب الحميمي للمجتمع، ثم يفضي إلى الخارج، وخارج المدينة ليس إلا تيه قاتل وصحاري قاحلة".
يرفض المجتمع من خلال ما سبق حتى مجرد صورة عن طريق سيشق المدينة، وبالتالي تعبر المقولة عن عدم التفكير في التحرر، وكأن الكون كله متمركز في المدينة وكأنها منعزلة عن العالم، وإذا كانت الصحراء محيطة بها تحيل على التيه والضياع فإن مجتمع المدينة يكبله الخوف من المجهول، الأمر الذي يبقيه رهين الثبات الذي يحيل على الجمود. والسارد ينفي عن هذه الفئة من المجتمع علامات الشر والظلم ويسقط عليها كل معاني الاتحاد والانسجام والتعاطف، لأنه يجمعهم هم واحد ويوحدهم هاجس مشترك يتمثل في الوحدة، لذلك رفضوا مجرد رسم على ورقة يؤدي إلى انقسامهم مما يحيل على أن مجتمع المدينة المغلقة "هم بمثابة المعيق الذي لا يريد لعجلة الزمن أن تسير إلى الأمام ليظل العالم يدور في حلقة مفرغة وتتعاضد مظاهر الرمز الدلالي للدائرة عندما يبين السارد مشاهدة الناس لبوابة كبيرة أقيمت عند منحنيات الطريق الجديد، إذ يحيد المجتمع عن الغاية المرجوة من الباب، لأن الهدف من الباب هو الدخول والخروج، ولكن الناس عندما هرعوا إليه لم يستعملوه كوسيلة للخروج من أجل الإطلالة على العالم الخارجي، بل ذهبوا يتأملون البوابة المدهشة باستغراق، وكأن انقسامهم من أجل شيء تافه خارج عن الغاية الأساسية للبوابة، والغريب في الأمر أن المجتمع أصابه الرعب خوفاً من الانقسام بسبب طريق مرسوم في ورقة. ناهيك أن هذه المدينة التي لم يحدد الكاتب نقطتها الجغرافية بشكل مباشر، يعيش أهلها في توجس ورعب من الخارج، وخارج المدينة ليس تيها ولا صحارى قاحلة، بل هو العالم الإنساني الكبير كما يوحي رمز البوابة، وأسباب هذا الرعب يوحي أيضاً بأن سلطة فكرية مستلبة (بكسر اللام) تصور في أذهان أهل المدينة بأن العالم المتمدن ما هو إلا تيه وفجور وانحلال أخلاقي!!
تعالج نصوص فهد الخليوي بعمق قضية هامة بل معضلة ما انفك الإنسان يواجهها وهي مسألة الإنسان والمعرفة والكون. هذا الثالوث المؤرق الباحث دوماً عن الانعتاق، عن توازن ينشئه لتحقيق خلق جديد. وعليه فإن نصوص الخليوي إذا دققنا النظر فيها تبوح بجوهر الفكر الموغل في البعد الإنساني، حيث يعالج القاص ما يطرح على الذات الإنسانية اليوم من قضايا شائكة تنأى عن التقوقع على الذات الفرد ومخزونها الحضاري.
أجراس
حين يصير الموت الجارف أليفاً، والعدم الجارح نفخة من روح، يستمد القاص قوته من إيقاع الذاكرة وتراتيل الشباب، لذلك يعود بنا القاص في نصه "أجراس" إلى ذكريات الشباب وهجران المكان الذي ألفته النفس المكان الذي يحمل كل الذكريات. يربط بين جمل الكاتب خيط دلالي ناظم مشدود إلى فكرة أساسية تقوم على ذكريات آفلة بغية التعبير البلاغي الإبلاغي. لا شك في أن الإنسان عندما تستبدّ به الهموم يستثيره عبق الذكريات الجميلة ولكن السارد يتحدث عن ذكريات موجعة، وبين فترة الشباب والكهولة فقر وغنى.
كان شاباً يافعاً مدقعاً يسكن في منزل صغير وبسبب عجزه عن دفع أجره الشهري طرده مالك البيت. واضطر هذا الشاب المثقف المشبع بالفلسفة الوجودية والأفكار النيتشوية لـ"جلب عشرات الكراتين، من مرمى مستودعات الأغذية لشحن كتبه، أما باقي الأمتعة فأمكن شحنها بكيس صغير، إبريق شاي من النحاس الأصفر، سخان كهربائي عتيق، كوب من الزجاج الباهت، فراش من الإسفنج الهابط، أقلام، ناي، شريط غنائي لـ(فيروز)، وآخر لـ(فوزي محسون، ثم رحل إلى مأوى آخر.
لعل اللحظة التي انطلق منها القاص متجهاً إلى حيّه القديم تختصر الزمن وتحتويه فتفيض عليه، أليس فيها تذكير بما لا يجب أن ينسى في فترة من فترات الزمن أو لعله رجع صدى الحقيقة الأزلية التراجيدية التي تتردد في مخيلة كل مثقف مرهف الإحساس، وهو يعلن عن إفلاس مرحلة من جوهر الوجود الإنساني ودعوة للتأمل واستيعاب درس التاريخ حتى تتضح الرؤية ويستقيم جديد البناء إن أريد له أن يكون. أضفى الشاب معنى على وجوده من خلال الشرخ الذي حدّ في حياته، ولعل هذا الشرخ متنفساً يهفو الكائن من خلاله إلى امتلاك حقه المشروع في نحت كيانه وفق رؤى قادرة على الصمود والتحدي وتغيير واقعه المتردي من خلال خلق وبعث الرغبة في الوجود الحقيقي، ورغبة الإنسان في الاستمرار والبقاء، حيث استمد هذا الشاب من مقوماته من الموقف الذي آل إليه.
إنها أجراس الحياة وصخبها، ومن الملاحظ أن القاص يستحضر على لسان بطله الرغبة في المطر "رغب لو تمطر السماء"، والمطر نفي للجوع والمرض والفقدان ليصير حباً وزهرة وغيمة حاكية، ولوناً يغشى فيه البصر، ونعمة سماوية عذبة وترنيمة مسلية تطهر الكون من الأدران وتحيي الأرض الميتة. يبدو أن هاجس القاص لا ينفصل عن الماء سواء أكان مطراً أم بحراً، والبحر يحيل على الحياة لذلك نجد بطل القاص مغامر متشبث في الحياة ليحيا لا ليعيش فحسب.
بحر وأنثى
"كانت الشمس قد أوشكت على الغروب، بدت خيوطها الذهبية تمتزج بزرقة البحر، وكأنها
قناديل صغيرة تضيء من بعيد.
اقتربت المرأة نحو الشاطئ، حدقت عبر الفضاء الرحيب لم يكن بينها وبين البحر حجاب.
تركت أسمالها الرثة قرب الشاطئ المقفر، توغلت عميقاً نحو البحر وهوت كنجمة مضيئة".
ليست المرة الأولى التي يستحضر فيها فهد الخليوي المرأة، بل نجده في معظم نصوصه يستحضرها مجازياً، ولعله يعتبرها منفذاً للمحاورة الاجتماعية وكائناً مؤثراً ورئيسياً لبناء حضارة إنسانية حقيقية. وهو في هذا النص يستحضرها مقترنة بالبحر بكل ما يحمله البحر من مدلولات عميقة فالبحر سر الأسرار وهو يحيل على الرحلة والمغامرة واكتشاف المجهول. يستحضر القاص مشهد الغروب وروعة الطبيعة وإبداع الخالق لكيونة الأنوثة، ثم يبين كيف استرقت المرأة لحظة من لحظات الغروب وحطمت قيودها المؤلمة لكي تتوغل عميقاً في البحر وتذوب فيه بل تهوي فيه "كنجمة مضيئة". بلغة متعالية مدهشة، رائعة كروعة منظر الغروب وروعة اتحاد السر بالسرّ، تتجلي المرأة في هذا النص العذب، سراً من أسرار الخلق وركناً متوهجاً من أركان الحياة وديمومتها.
المتمظهر فنولوجياً يبين أن المرأة إما أن تكون قد انتحرت أو هوت في البحر لتسبح بعيداً عن واقعها المختل إنسانياً، وفي الحالتين الرمز يحيل على الانبعاث والتجدد والثورة على أعراف التخلف والظلام. إنها فلسفة المحو والانبعاث من جديد يجسدها القاص فهد الخليوي بلغة شعرية ثرية تنساب عبر سرد مختزل ومحكم. ما من شيء يستقر على حاله، ويظل البحث عن الحقيقة ديدنه وحقيقة الوجود هو في حقيقته البحث عن العدم، فاتحاد المرأة والبحر هو العدم الماسح والوجود في الآن نفسه. إنها معاناة البحث عند المرأة عن الحق في الحرية والكرامة الإنسانية.
يهدف فهد الخليوي لخلق فضاءه المستقل من اقتطاعه للحظات عابرة من الزمن تمتلك دلالة من سياقها الخاص وتحفر في الفكر من أجل خلق معرفة جديدة. إن ما يعطى للكلمات، وكلمات السر قوتها وما يجعلها قادرة على حفظ النظام أو خرقه. نستطيع أن نقول بعبارة أخرى أن نصوص الخليوي تنقد المعيش وتطرح المكبوت والمراقب والمهمش كما تطالب بالاعتراف بالذات والحرية.
أستاذة تحليل الخطاب والسيميائيات بجامعة تبسة /الجزائر
المراجع
1- عمار بلحسن: الإبداع، الثقافة، السلطة، حوار بينه بين عمر زاوي في 6 سبتمبر 1981، مجلة التبيين، العدد7، الجاحظية، الجزائر.
2- محمد الناصر العجيمي: حداثة التماسات، تماسات الحداثات في القصة والرواية، دار سحر للنشر، تونس 2000، ص14.
3- سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، سوريا 2005، ص92-93.
4- د.شادية شقروش: الخطاب السردي في أدب إبراهيم درغوثي، دار سحر للنشر، ط1، تونس 2005، ص42.
5- صلاح الدين بوجاه: الشئ بين الجوهر والعرض، في الواقعية الروائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، لبنان،1993، ص33.
6- عاطف جودة نصر، النص ومشكلات التفسي، الشركة العالمية للنشر ولونجمان، ط1، القاهرة 1996، ص143-144.
7- محمد ناصر العجيمي: حداثة التماسات، وتماس الحداثات في القصة والرواية، دار سحر للنشر، ط1، تونس 2000، ص77.
8- صلاح الدين بوجاه: الشيء بين الجوهر والعرض، ص33.
9- سعيد بنكراد: السيميائيات مفهوماتها وتطبيقاتها، ص96.
10- الحياة الثقافية، ع162، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، تونس 2005، ص112.
11- ياسين النصير: شعرية الماء، آفاق من الشعر العراقي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2004.
12- فرج الغضبان نظرة في الفن الكازاخستاني المعاصر، قراءة تحليلية في رحلة المعراج إلى اللغة المفقودة، مجلة الحياة الثقافية، تونس 2005، ص111.