يتتبع الباحث المصادر الجمالية الشرقيّة المؤثرة في المسرح الملحمي، ويؤكد على كون الملحميّة نظرية متكاملة لأنها تعالج العملية المسرحيّة بكافة عناصرها: الدراماتورجيا، السنوغراف، أداء الممثل، والإخراج، وآلية التأثير على المتلقي. ويشير إلى أن وظيفة هذا الفن جماليّة بامتياز لا سياسيّة. كما يتناول الكيفيّة التي فهمت به هذه الوظيفة من قبل التجارب العربية.

الأصول الثقافيّة الشرقيّة للتجريب في المسرح الملحمي

سعيد الناجي

يطرح مفهوم الأصول أو الجذور بعض الإشكاليات المتعلقة بطريقة تمثلنا له، وكيفية تطبيقه على التبادلات الثقافية، خاصة في سياق الثقافة العربية التي استهلكت بغير قليل من التكرار التفكير في مسألة الأصول والارتباط بالماضي، وغيرها من ملابسات هذه المسألة على أصعدة سياسية وثقافية ودينية. وما يزال النقاش مستمراً وأحياناً متوتراً وحاداً حول أصول النظام السياسي بين الديموقراطية والشورى، وأصول الدين بين مختلف الاتجاهات الدينية والفكرية، وأصول الأخلاقيات العامة والسلوكية، وبقدر ما نلاحظ في بعض اللحظات خفوت هذه النقاشات، إلا أنها لا تتوقف عن إعلان نفسها مجدداً وربما بحدة أكبر. ولهذا، نحن ندرك أنه من الصعب جداً استعمال المفهوم الأنثربولوجي "الأصول" في سياق ثقافة لم تحسم في علاقتها بالماضي، وتتعدد الدعوات لعودته، كما تتعدد الرؤى إليه باعتباره كينونة ثابتة لا تتغير.

لقد استعمل مفهوم الأصول عادة في الخطابات الأنثربولوجية لتعيين حالة ثقافيّة معينة باعتبارها تتكون من عناصر وقيم ومبادئ تشكلت في أزمنة سابقة، وبقيت تمارس أثرها وتضمن حضورها الدينامي في الحاضر إلى جانب عناصر جديدة ومتخلقة. كما استعمل مفهوم العودة إلى الأصول للحديث عن تلك اللحظات الطقسيّة والاحتفاليّة التي تستعيد أزمنة التأسيس الأولى، ولحظات الخلق الأولى باعتبارها أزمنة نموذجيّة يضمن الاتصال المتجدد بها نوعاً من التوازن الروحي والاجتماعي. إن احتفالاً مثل عيد الأضحى يضمن الاتصال بزمن نقي مؤسس هو زمن سيدنا إبراهيم وتفتق رؤياه على التضحية بابنه قبل أن يفديه الوحي بكبش عظيم. وفي كل عيد يتكرر يتم التواصل واستعادة هذا الأصل لضمان توازن روحي، كما تتم استعادة زمنه باعتباره زمناً نموذجياً تاماً.

ونحن نستعمل مفهوم الأصول بالمعنى الأول، أي باعتباره عدداً من القيم والمبادئ الجماليّة والفكريّة المنتمية لثقافات أخرى تشكلت في أزمنة سحيقة انتقلت بعمليات مزج وتفاعل لتندمج في نظرية جديدة هي هنا المسرح الملحمي المعروف خلال أواسط القرن العشرين. من ثمة، ففرضيتنا تنبني على أن التجريب المسرحي الذي عرفه المسرح الأوروبي، وانتقل بعده إلى مسارح أخرى من بينها المسرح العربي، قد تأسس على أصول ثقافية خارجية، تشكلت في أزمنة سابقة وفي ثقافات أخرى غير أوروبية بالضرورة. ومن المنطقي أن مفهوم الأصول بهذا المعنى لا يتضمن أي أسبقيّة للثقافة الأصل على النظرية اللاحقة، ولا لأي تمجيد للأصل على الفرع، بل إنه يشير إلى نوع من التبادل والمثاقفة المرتبطة بتوفر سياقات ثقافيّة وتاريخيّة محددة قادت إلى استلهام المسرح الأوروبي لعناصر ثقافية جديدة من أجل التجدد.

 

عبثيّة بريخت

بُعيْد الحرب العالمية الأولى، كان برتولد بريخت شاباً يملك آراء سياسيّة قوية، ولكنه مسرحياً كان أقرب إلى العبث. على الأقل هذا ما بدا من مسرحيته الأولى بعنوان "بعل" تلك الشخصية المتمردة والعابثة، التي ستقول بكل الجرأة: "إن أحسن مكان في العالم هو المرحاض... لأنه المكان الذي يمكن أن تكون فيه وحيداً ليلة زفافك". كانت شخصيّة بعل شخصية عبثيّة بامتياز، ولعلها بقيت تسكن داخل بريخت حتى في مرحلته الملحميّة وبعدها، حيث سيفكر في العودة إلى النص نفسه في نهاية حياته، بعد أن كان قد بدأ يتحدث عن المسرح الجدلي بدل الملحمي، وإني أعتقد أن مواقفه، خاصة تجاه الحزب الشيوعي السوفياتي، وخلال هجرته إلى أميركا، كانت تمليه مواقفه السياسية المتأثرة بشخصية بعل العابثة والحرة. لهذا بقي يُنظر إليه بارتياب دوماً، خاصة من دوائر الحزب الشيوعي. مهما يكن من أمر، بعد المرحلة العبثية، ومتمكناً من آراء سياسيّة قوية كانت تعتبر المسرح أداة للتغيير، بدأ بريخت مسرحه التعليمي. في مسرحياته القصيرة ستتكشف طلائع توجه تجريبي عميق، وبوادر التفكير في تغيير المسرح. لقد بدأ بريخت يتكلم عن مسرح من دون جمهور، يغير ممارسيه وأصحابه قبل أي جمهور مفترض، وبدأ يتمثل مصادر ثقافيّة متعددة لكتابة مسرحياته التعليمية.

في مسرحياته التعليمية، وقبل سنوات على بروز مشروعه الملحمي، بدأنا نلاحظ توجه بريخت إلى المخيال الشرقي لكتابة نصوصه المسرحية. لقد بدأ مشروعه التجريبي من هذه النقطة التي ستحسم في اختياراته الدراماتورجيّة والحكائيّة على صعيد النص قبل العرض. ففي مسرحياته التعليمية، بدأ بريخت يأخذ نماذج من الأدب الحكائي الصيني، أو من المسرحي الشرقي، ليعيد كتابة نصوص جديدة. (مسرحية القائل لا والقائل نعم مثلاً). في هذه اللحظة ستتشكل لديه رؤيته للنص المسرحي، ولأهميته التي احتلها في هذا المشروع الملحمي على امتداد تحولاته. لقد بقي النص يحتل أهمية بارزة في نظرية المسرح الملحمي، ومنح بريخت نفس الأهمية للغة، رغم ما قيل عن بحث بريخت عن جماليات بصرية. لهذا اعتبر أن التعبير الخطأ تقابله طريقة خاطئة في التفكير، الشيء الذي برز في مقاله الهام: خمس صعوبات لدى كتابة الحقيقة. وطبعاً، سيتكشف هذا الاهتمام باللغة على تنويع التجليات اللغوية في المسرح الملحمي، بين لغات محكيّة وأخرى غير محكيّة (الصوت، الغناء، اللافتات...) ولكنه سيصل مداه إلى بحث بريخت عن لغة جسدية تمتد دلالتها في البعد الاجتماعي مباشرة. سيقود بريخت اشتغاله على نماذج تخييليّة أو مسرحيّة شرقيّة إلى العثور على مبدأ سيقيم عليه اقتراحه التجريبي الملحمي الذي سيغير بفضله جزءاً من وجه المسرح الغربي التقليدي، وهو مبدأ التركيب Montage، لأنه سيعمد إلى التركيب بين نصوص متعددة للحصول على نص مسرحي جامع تحتل فيه الحكاية مركز القوة. وأحياناً، سيتحقق هذا التركيب في وضع مجريات الحكاية داخل فضاء مكاني وزماني شرقي بامتياز، مثل مسرحية رجل برجل. وسيسمح مبدأ التركيب هذا ببروز الحكاية الملحمية، وهي الحكاية التي لا تتطور بطريقة عضوية ومتنامية خلال تتابع الأحداث، بل إنها تترتب عبر أجزاء مستقلة، ومتقطعة، تتأسس بينها علاقات ترابط، مثل مدينة صينية، حيث يتجمع السكان في فضاء واحد دال، ولكنهم لا يفقدون استقلاليتهم. وقد أعجب بريخت أيما إعجاب اللوحات الصينية الطويلة، التي لا تقدم المشاهد المرسومة مرة واحدة، ولكنها تقدمها محكية يتتبعها الناظر من اليمين إلى يسار اللوحة. ستكون هذه اللوحات حاسمة في اقتراحات بريخت الجمالية على الصعيد السينوغرافيا وترتيب الخشبة المسرحية في علاقتها بحركة الممثل.

 

ماي لانغ فانغ، هواء الشرق

في حدود سنة 1933 سيزور بريخت روسيا، وسيشاهد هناك مسرحية من تمثيل الممثل الصيني ماي لانغ فانغ Mei lang Fang، حينها سيقع تحت سحر الشرق، وسحر الجماليات الصينية. وفي عدد من شهاداته سيخلد بريخت إعجابه الكبير بالممثل الصيني الذي، حينما قدم شخصية امرأة، قدم شخصيتين: الأولى تعرض والثانية معروضة. لقد تحول مفهوم المسرح عند بريخت بعد لقائه بماي لانغ فانغ، وانتقل من تلك المسرحيات التعليمية إلى مسرحيات ملحمية تعتمد الجماليات الشرقية بامتياز، مركزة على إحداث التغريب، الذي يقود إلى تأسيس مسافة واضحة بين الممثل وبين الشخصية، وينتهي تالياً عند حفاظ المتفرج على استقلاله بدل الاندماج في الشخصيات والأدوار.

واعتماد على عدد من الاقتراحات، سيقوم المسرح الملحمي بشكل كبير على منح وظيفة سردية لكل مكوّنات العرض المسرحي. ومنذ كتابة الحكاية المسرحية بطريقة مجزأة ومتقطعة وإعادة ترتيبها بشكل مترابط في العرض المسرحي، سيقترح بريخت تقطيعاً للحدث الدرامي لكي يُنقل بشكل متقطع في المسرحية بدل تناميه العضوي. ولكنه سيجعل كل مكونات المسرحية تلتف حول هذه الوظيفة السردية التغريبية.

على الصعيد السينوغرافي، سيرفض بريخت الديكور التقليدي الثابت، وسيدعو إلى كتابة سينوغرافية متحركة لا يتم اقتراحها قبل بدء عمل الممثل، بل ينبغي أن تتحقق بموازاة مع عمل الممثل وطريقة تحركه على الخشبة. والغاية هي أن تذكر السينوغرافيا المتفرج بأنه في مسرح وليس في مكان حقيقي لمجريات الأحداث كما يقول بريخت: "اليوم، يهم كثيراً أن يذكّر الديكور المتفرج بأنه في مسرح... ولا يكون بديلاً عنه، بقدر ما يشير إليه ويعرضه حتى لا يتوهم المتفرج أنه حقيقة فيخلط بين المسرح وبين ما هو خارج عنه، بين التخييل وبين الواقع".

يصبح العرض المسرحي إذن تتابعاً لامتلاء الفضاء بقطع السينوغرافيا وفراغه منها؛ فيمتلك الممثل الدور الأساسي في إدارة هذه اللعبة وتسييرها لخلق جدلية الفارغ والممتلئ le plein et le vide، من حيث كون الفراغ ثابت الفضاء المسرحي والامتلاء ديناميته وفعاليته. وعليه، فالفضاء السينوغرافي عند بريخت فضاء فارغ "يغير شروط ممارسة الرؤية، ويبني عالماً مسرحياً لا يقلد العالم الخارجي ولكنه يستقل عنه. وإذا كنا نبحث من دون جدوى عن ديكور في المسرح الصيني التقليدي، فإن الرسم الصيني كما يقول بريخت يترك أمكنة فارغة في اللوحة كأنها غير مستعملة، ولكنها تلعب دوراً مهماً. والرسام لا يخلق ذلك الفراغ بملء تلك الأمكنة باللون ولكنه يتركها بكراً، فيحتفظ الورق أو القماش بهويته. وقد أتاح هذا الإعجاب باستعمال الفراغ في الرسم الصيني لبريخت بأن يقترحه لتنظيم الفضاء السينوغرافي في المسرح الغربي؛ حيث يصبح فضاء يتمفصل فيه الفارغ والممتلئ، ذلك التمفصل الذي يشكل المبدأ الأساسي لكل ممارسة إبداعية في الشرق الأقصى حسب جورج بانو. وإذا أضفنا إلى هذا استعمال المسرح الملحمي لتقنيات الخط والصورة من خلال استعمال اللافتات واستعمال الوثائق المصورة، سنجد أن النموذج الشرقي المعتمد أساساً على الحكي، كان يؤطر المسرح الملحمي برمته. لقد أعجب بريخت بجماليات الخط الصيني التي تجعل من اللفظة المكتوبة عملاً تشكيلياً حقيقياً، وكأنها عمل رسام حقيقي. كانت اللافتات تلعب دوراً تغريبياً مهماً لا ينفك يذكر المتفرج بوجوده داخل المسرح ويمنع اندماجه مع الأحداث.

كل هذه الاقتراحات الجمالية كانت تروم تحقيق هدف أسمى: أن يقدم الممثل دوره من دون أن يبرز اندماجه فيه، وأن يكشف عن هويته المسرحية، وأن تكون كل مكونات الخشبة رهن إشارته لأداء هذه المهمة لأنها الشرط الأساسي لتحقيق التغريب. ولكن، وللأسف سيفهم من اقتراح بريخت حول الممثل أن يعتمد هذا الأخير على اللعب المسرحي بطريقة باردة من دون حياة تذكر. وقد عبر بريخت نفسه عن تذمره من هذا الفهم القاصر. ذلك أن الاندماج شرط أساسي للممثل المسرحي، يكون خطوته الأولى لبناء دوره وفهم الشخصية المسرحية، وبعدها تحل مرحلة الانفصال عن الشخصية وأدائها بطريقة بارعة تراوح بين تمكن الممثل من الاندماج فيها، ثم الابتعاد عنها كأنه يحكيها فقط أو يعرضها بأمانة. لقد أعجب بريخت بالممثل الصيني في مسرح النو والكاتاكالي، حين يقدم شخصيات وأدواراً شاهدها الجمهور من قبل، واعتاد عليها، كما اعتاد على قصة المسرحيات، ولكنه يشاهدها بحثاً عن أداء الممثل. فمسرحيات النو معروفة ومتوارثة منذ أكثر من خمسة قرون، والجمهور حين يذهب لمشاهدتها مرات عديدة، لا يبحث عن مشاهدة قصة مسرحية غير معروفة تمنح له متعة الاكتشاف، ولكنه يبحث عن مشاهدة أداء الممثل لمسرحية معروفة، ومدى براعة أدائه لدور معروف مسبقاً. ولهذا، فإن عمل الممثل الملحمي صعب للغاية.

كان بريخت يرفض التحول التام للممثل إلى الشخصية المسرحية، ويدعو إلى حل وسط، أو إلى تحول جزئي يحافظ فيه الممثل على هويته كممثل مسرحي، في اللحظة نفسها التي رفض أن تكون الخشبة ممتلئة تحاكي الفضاء الحقيقي للحدث، بل ينبغي لها أن تكون خشبة ساردة للحدث وللفضاء، محايدة تعلن الهوية المسرحية. إن فقر السينوغرافيا واعتمادها على أدوات بسيطة متحركة يثمن دور الممثل الذي يصبح محور صناعة الفرجة، ومولد الحركية في الفضاء. وهذا يلزمه بإتقان اللعب المسرحي وبالقدرة على الإيهام، لأن التغريب يكسر الوهم الحاصل عند المتفرج، ولكنه لا يتحقق ـ أي التغريب ـ إلا بتحقق الإيهام. جاء على لسان الممثل في مسرحية "ابتياع النحاس": "إذا لم نتمكن من القدرة على الإيهام كيف يمكننا أن نقنع المتفرج اعتماداً على خرقتين أو ثلاث، أو على لافتة مكتوبة فقط بأنه أمام ساحة حرب" نستخلص إذن أن فعالية الممثل لا تقف عند أحداث التغريب، بل تقوم على تحقيق الإيهام لتكسيره وتغريبه بعد ذلك: تلك ميزة الفرجة المسرحيّة الملحميّة.

والغاية التي يراهن على تحقيقها المسرح الملحمي هي الجمع بين التمثيل والتقديم، بين الاندماج وبين التغريب، وبين الحكي والتقديم. لم يعد المسرح مكاناً لتقديم الأشياء كأنها حقيقة، ولكنه أضحى مكاناً نقدم فيه الأشياء والأحداث، ونكشف عن طريقة تقديمنا لها. هذه الغاية تحققت بالجمع بين مسرح غربي تقليدي، وبين مسرح شرقي يحافظ على أصوله وعلى جمالياته، هو سحر الشرق ألهم المسرح الغربي تجدده.

 

الشرق والغرب

تبدو لنا نظرية المسرح الملحمي نموذجاً للمزج الذكي بين تقاليد المسرح الغربي وبين أصول الجماليات الشرقية، مزجاً جدد المسرح الغربي ومنحه أفقاً جديداً للتجريب وارتياد جماليات جديدة. وفعلاً، اعتبرت هذه النظرية من النظريات التجريبيّة التي ساهمت في تشكيل صورة المسرح المعاصر، ومنحته مواصفات جمالية جديدة ومتكاملة. لقد كان هدف بريخت الأسمى التوصل إلى مسرح يدفع المتفرج إلى تغيير العالم بدل تفسيره. وطبعاً، ربما لم يتوصل إلى تحقيق هذه الغاية ولكنه انتهى إلى تغيير المسرح نفسه. ويبدو لنا الطابع الشمولي لهذه النظرية هاماً، لأن التجريب فيها كلي ينسحب على كل تفاصيل الظاهرة المسرحية، ويعتمد على مبدأ مركزي يتحقق بتقنيات كثيرة: التغريب الذي تتلاقى عنده كل الاقتراحات التجريبية: المسرح الذي يحكي الحدث بدل أن يقدمه، الخشبة الفقيرة، والسينوغرافيا المتحركة في جدل الفارغ والممتلئ، استعمال الصورة والخط والأغاني، والتمثيل الباذخ الذي يمر بين الاندماج وبين المسافة، بين التقديم وبين الحكي.

التجريب من هذا المنظور أسلوب مسرحي متناسق، وليس اقتراحات جزئية حول الممثل أو الارتجال أو غيرها... إنه برنامج ينطلق من تشكل القصة المسرحية وينتهي عند لحظة تقديم الفرجة للجمهور، ويحاول أن يبقى مؤثراً في هذا الأخير. ولكن بريخت في كل هذا، لم يكن سياسياً، ولم يكن يرفع شعارات تغيير سياسي، بل كان يهدف إلى تغيير المسرح أولاً، والى تغيير الجمهور ثانياً، مع تمجيد فادح للحرية: حرية التفكير وحرية الاختيار. ألم يدفع بريخت الثمن غالياً لهذه الحرية؟ ألم يقل: نمشي نغير البلدان أكثر من الأحذية. ولكننا نستكشف معنى جديداً للتجريب المسرحي كما اقترحه ومارسه برتولد بريخت، حيث أنه يقترح علينا تجريباً متسماً بمسار دراماتورجي محدد، طويل النفس، وهو ما يمنح للدراماتورجيا معنى خاصاً وكثيفاً. إن الدراماتورجيا بهذا المفهوم الألماني مسار ينطلق من الاشتغال على مادة دراميّة أو حكائيّة لصياغة نص مسرحي وفق رؤية سوسيوثقافية معينة، ويمتد عبر الاشتغال على إنجاز هذا النص بناء على محورية عمل الممثل، ووفق جمالية ترتكز على فقر السينوغرافيا وسيميوطيقا خاصة بفضاء الخشبة يجعل منها إعلاناً للهوية المسرحية عبر عدد من الخيارات الجمالية المستوحاة من ثقافات الشرق، وينتهي عند توزيع الفرجة المسرحية على متفرج يحافظ على فكره المغرب. ووفق هذه الدراماتورجيا، لا يتمثل الإخراج المسرحي في التصادم مع النص الدرامي، ولكنهما، أي النص والإخراج، يتأسسان وفق جمالية موحدة تستند على السرد وما يستتبعه من تقطيع وتركيب وفراغات.. وربما يساعد مفهوم الدراماتورجيا على ردم الهوة بين الصراع التاريخي بين المؤلف والمخرج، ويحسم في جانب كبير من مفهوم الدراماتورجيا الملتبس كثيراً في المسرح العربي.

 

المسرح الملحمي عربياً

أصبح من الشائع أن المسرح الملحمي، ببعديه التجريبي والسياسي أثر تأثيراً كبيراً على المسرح العربي، ويكفي أن المسرح العربي عرف تجربة مثل مسرح التسييس المعتمدة على المسرح الملحمي في جزء كبير منها، لكي نتعرف على الأثر الذي أحدثه المسرح الملحمي على مسرحنا. ولكن المسرح العربي المتأثر بالمسرح الملحمي، سواء جزئياً على صعيد تمثل بعض مبادئه، أو في التجارب التي تبنت المسرح الملحمي كلياً، بقي بعيداً عن تمثل خصوصيات مسرح بريخت، وبخاصة أصوله الثقافية الشرقية التي تنتمي الثقافة العربية إليها. ولعل تجربة ونوس، قبل مرحلته الأخيرة، كانت من بين محاولات قليلة تراهن على قراءة واعية للمسرح الملحمي، ولكنها قراءة باعتراف ونوس نفسه بعد 1991، سنة إصدار أول مسرحية من مرحلته الجديدة، كانت قراءة سياسيّة أكثر منها جماليّة، لهذا سيصرح ونوس بأنه لم يكن يحس بأنه "في جلده في تلك المرحلة"، وأنه عبثاً راهن على "تسييس لا يرجى منه شيئاً".

وإذا كانت الثقافة العربية تنتمي إلى فضاء أوسع هو الشرق، وتتأسس جمالياتها على الجماليات الشرقية، فإن المسرح العربي وجد نفسه يتمثل بعض الجماليات الشرقيّة من خلال المسرح الملحمي ومن غيره من النظريات، مثل تمثله للحكي انطلاقاً من مسرح بريخت كما تمثل الارتجال انطلاقاً من الكوميديا المرتجلة، أو تمثل الاحتفال من خلال تنظيراته الغربية، بدل الكشف عن هذه الجماليات في أصولها الثقافية العربية، وبناء نظرية مسرحية انطلاقاً منها. ولا يمكننا إلا أن نعترف بأن المرحلة التي تعرف فيها المسرح العربي على المسرح الملحمي وعلى نظريات أخرى (جروتوفسكي، أرتو...) كانت مرحلة تعرف غلياناً سياسياً حاداً، وأن الرهانات كانت سياسية أكثر منها جمالية. ولهذا وجدنا نوعاً من الخليط المسرحي في المزج بين نظريات متباعدة ثقافياً ومسرحياً، من أجل الرهان على خلق مسرح عربي متميز. وهنا، احتلت استراتيجية البحث عن نظرية خاصة بالمسرح العربي خريطة البحث التجريبي المسرحي في العالم العربي، مدفوعة بالتقدم الذي حققه المشروع القومي وايديولوجيته آنذاك.

كان هذا السياق السوسيوثقافي ضاغطاً إلى حد كبير، ولم يكن من المنتظر من ثقافة خرجت مكلومة من هزيمة 67 أن تحلق بعيداً في التجريب الجمالي، بقدر ما احتل سؤال وظيفة المسرح وتواصله مع الجمهور والمتلقي بشكل عام موقعاً مركزياً في التجارب المسرحية العربية. لهذا، انصبت أغلب تمثلات المسرح الملحمي على بعده السياسي، وربما هذا الذي كان يؤرق بريخت ويعتبره فهماً غير متنور لنظريته التي لم تكن يوماً نظرية رسميّة لدولة الاتحاد السوفياتي الشيوعية التي كانت تعلن عن تمثيليتها المسرحية والثقافية، وتحافظ على ستانيسلافسكي مسرحاً رسمياً للدولة. ألم يقض بريخت زهاء ثمانية ساعات مع لجنة من الحزب الشيوعي بصدد مسرحيته "القرار" وذلك اثر الحساسية الشديدة التي وجدها الحزب في مسرحية تحكي قصة مناضلين شيوعيين سيضطرون إلى قتل رفيقهم بعد أن كشف وجهه للعدو، من أجل هروبهم والنجاة بحياتهم؟ نعم، لقد كان بريخت يمج استقبال نظريته على أنها نظرية مسرح سياسي خالص، ويعتبر أن مقترحاته تمس جوهر المسرح وجمالياته. ولعل ما يزكي هذا الرأي أن بريخت نفسه في نهاية حياته بدأ يبدي نوعاً من الامتعاض بصدد مصطلح "المسرح الملحمي"، وبدأ يتحدث عن المسرح الجدلي، ويستشهد بماو تسي تونغ أكثر من استشهاده بمرجعيات الاشتراكية العلمية. كان يفهم طبعاً المسافة التي أخذها شيوعيو الاتحاد السوفياتي عن تطورات الحزب الشيوعي الصيني، وبدأ يعبر عن خيارات جمالية جديدة، من بينها إعجابه بلوحة الغرنيكا وحلمه بإنجاز عمل مسرحي شبيه بها. ولكن الأهم يبقى أنه بدأ يتحدث مجدداً عن مسرحيته الأولى، العابثة، مسرحية "بعل"، وبدأ يفكر في العودة إليها وإخراجها من جديد. لعل بريخت كان، ضمن خياره السياسي الاشتراكي العلمي، يحافظ على مسافة تغريبية معه، ويراهن على المسرح أكثر من السياسة، بخلاف من تأثروا بنظريته، وراهنوا على السياسة أكثر من المسرح، وأخاف أن المسرح العربي قد سلك المسار الأخير، فغاب عنه أن بريخت قد نهل نظريته من ثقافات الشرق.

 

* قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدت على هامش مهرجان القاهرة التجريبي الحادي والعشرين. (جامعة سيدي محمد بن عبدالله/ فاس. المغرب)