لا شك في وجود ما يحدث حاليا في غزة خاصة وفى فلسطين عامة. وهو ما أتفق مع ما تقوله القصة بأن بالغفلة التي يعانيها الأهل والأقارب. هى ما سمحت للعدو أن يُحول الأخضر إلى الدمار والخراب. فهل يعي المتناطحون بالبيانات من ينتسبون إلى فلسطين، أهمية هذا الإنذار الأدبي، ليتهم يقرأون .. ليتهم يدركون.

بئرنا

حفيظة قار بيبان

 

في لمعة برق، وأنا أفتح أوراقي البيضاء، لمحت أخي الصغير نضال يعود، يركض في بستان جدي الشاسع ، يتطاير شعره الأشقر المنساب هفهافا على بياض الجبين ، يطير بين صفوف أشجار البرتقال وحواجز القصب ضاحكا ، ويختفي بميدعة المدرسة بمربعاتها الصغيرة البيضاء والزرقاء، بين صفوف القصب.

-نضال .. نضال ..ناديته. ولكنه كان قد اختفى.

أخذت أركض ، وحيدة في بستان جدي الشاسع، وقد افتقدت فجأة أخي، بعد أن فرقتنا لعبة الغميضة التي اخترنا للعب والتوغل في مجاهل البستان. جالت عيناي حولي. ناديته. بحثت عنه، راكضة في الممشى الطويل إلى الدار، المحفوف بشجر البرتقال المثقل بثماره، المتوالي صفوفا صفوفا في مساحة البستان الكبير.. عدوت راجعة، أطل على الإسطبل حيث البقرة الحلوب والخراف البيضاء. ناديت هناك بصوتي العالي المسكون بخوفه. ولكن أخي لم يكن هناك.

هرولت نحو باحة البيت منادية.. لا صوت يجيب غير صوت حفيف الشجر والريح.. ركضت بفزعي إلى الخارج. ماذا سأقول لأمي وقد ضيعت أخي الصغير؟

تجاوزت الممشى المظلل بكرمة العنب. وصلت المراح قرب الإسطبل. عدت أطل ثانية على الداخل. قد يكون دخل يتفرج على البقرة ويلاعب الخرفان الصغيرة والحصان الذي لم يؤخذ بعد ليدور بالناعورة.. طارت نظراتي إلى الزوايا، إلى أكوام ربطات التبن في الزاوية البعيدة ..قد يكون اختبأ هناك..

دنوت بحذر ، حتى أداري عنه وجودي.. ثبت نظراتي خلف ربطات التبن وحولها.. ولكنه لم يكن هناك.

خرجت بخيبتي، وصوتي لا ينقطع عن النداء

- نضال.. نضال.. نضاااال..

وأنا أترك الاسطبل ، وأتقدم أمام المراح، قبل النزول إلى التراب الندي، لأتابع آثارخطوات أقدام صغيرة ، لمحت بغتة، فتحة البئر العريضة العارية. بدت واسعة، شاسعة، مريبة، وحافتها الواطئة لا تتعدى الشبر..سقط قلبي فجأة...أخي هناك ..تركتني أمي لألعب معه في البستان، ولكني غفلت عنه..نسيته في لهوي.. تركت فوهة البئر الغادرة تدعوه، ليطل على حكايات مدفونة هناك..أو قد يكون مر راكضا، ولم ينتبه للحافة الواطئة، فسقط وهوى ..

خنت أمي.. .. وخنت أخي....

دمغت الفكرة رأسي: أخي سقط في البئر.. أجهشت بالبكاء ، وعدت راكضة إلى الدار، أردد دون وعي، الكلمات: أخي سقط ..في البئر.. أخي سقط في البئر.. أخي...

شاهدت خالي يهب من مكانه، يطير إلى .. يسبقني مع أمي المفجوعة، تتبعها خالاتي.. وأنا، بلا جناح، أطير برعبي..أخي سقط في البئر.. بئر البستان العميقة العريضة.. في قاعها ، يلتمع سواد الماء، بوجوه أشباح الحكايات..نخافها، نحن الأطفال، كلما أطللنا عليها، رافعين أصواتنا ، ليجيبنا الصدى.

- أخي هناك.. لم أجده.. سقط هناك..

كانت كلماتي تتناثر، وأنا أمسك دموعي خلفهم، وأمي وخالي وخالاتي حول محيط البئر العريضة، يمشرئبين على الأعماق الصامتة الرهيبة ، منادين:

- نضااااال... نضاااال ....نضاااااااااال...

توترت أصابعي وأنا أهم بالبياض، أخط حكاية الطفلة التي ضيعت أخاها في البستان. في حركة قلقة ، متوجسة من البداية، هربت أصابعي من بياض الورق. نقرت شاشة الهاتف الملقى على يميني. وإذا البستان الأخضر الذي كان ، يتحول فجأة أكوام خراب..وإذا البئر أمام المراح ، مهدمة الحواف، يعلوها سواد الدخان .. وإذا هم حولها، أمي، خالاتي ، خالي ، يعودون .يلتقون مع بعض المنجدين في المدينة المحاصرة، ينادون

- نضااال.. نضااال... جنى .. حلا.. سلام.. نضاااال

الأطفال كانوا هنا... يلعبون، قبل القصف.

التفتت بغتة عيونهم إلي ..حدقت بي ، عارمة الغضب، صارخة الإدانة .

عادت الطفلة الماضية ترفع يدها ، سبابتها إلى السماء ، تحركها مسرعة نافية التهمة، أمام غبار القصف المتصاعد من البئر والأنقاض حولها

- لا.. لم أدفع أخي.. لم أُسقط أخي في البئر.. لا .. لا..

بغتة، شاهدت ميدعة المدرسة بالمربعات الصغيرة البيضاء والزرقاء، تطير إلي.. كان يرتديها وهو يركض طائرا إلى الجمع المفجوع الباحث في البئر وفي الركام. تتطاير خصلات شعره الجميل الأشقر مع الريح .

هبت روحي إليه. دخلت المرآة ، مع الجموع، اقتحمت الدائرة، أشق الغبار، أبعد الركام عن حواف البئر المحفورة بقصف الطائرات.. أمسك يد نضال الطائر إلى ، العائد أخيرا ، إلي ، من بئرنا الماضية..بينما الأصوات تنادي حوالي، لمن مازال حيا في قاع البئر، وتحت الركام، بعد القصف الأخير للمدينة المحاصرة..

حين رفعت يدي، أمسح دمعا ترقرق على مشارف الوجع المعتق والفرح المرتبك والمفاجأة بعودته.. حين رفعت يدي ألامس يد أخي نضال الطائر إلي، صاعدا من عمق البئر وظلمة الخراب..

حينها، غامت مرآة الشاشة، اختفى أخي، واختفت البئر والبستان ، والجموع والشظايا والخراب، وانطفأ الهاتف.

لم أجد أمامي غير البياض المخيف يحدق بي، صارخا، عاجزا عن استعادة ما مضى، و رتق ما مزقه القصف في البئر: مع الأعضاء الصغيرة المتناثرة، أشلاء نضال، ومزق ميدعة المدرسة.