وشم أحمر
رحت أزهو بردائي الأحمر القصير، محلقة في جيبونته الواسعة كاتساع قلبي، فرحة منطلقة، يغطي ذلك الوشم الذي اخترت له ذات اللون الأحمر -فأنا عاشقة للأحمر- جزء لا بأس به من سمانتي الخمرية؛ فيزيدها اشتعالا. أتقدم خاطرة في حذائي ذي الكعب المتوسط، لأنتظر على مقربة من تلك التبة المشرفة على البحر، حيث موعدنا الأول، أردد النظر بين ردائي ووشمي؛ لأتأكد من تأثير سحري عليه، فلابد للقاء الأول من سحر يضمن تكراره. لم أنتظر طويلا، فها هو يلوح فاردا قامته العريضة، مختالا بشعره اللامع وحذائه الأكثر لمعانا، رغم طول مشواره، ورغمًا عني وجدتني أطلق صافرة إعجاب قصيرة، لم يصل صوتها لأذنيه، وربما لمح انضمام شفتي بطلائهما الوردي؛ فابتسم في ثقة تركت له كفي يضغط عليها في شقاوة لم تخف عني، فتظاهرت بالخجل وأشحت بوجهي بعيدا، فلم يلبث أن أعاد وجهي نصب عينيه بلمسة حانية منه، وراح يطمرني بكلمات غزل لم تذقها أذناي من قبل، حتى أنني نسيت كفي نائمة بين أصابعه، هائمة في سماء كلماته، و.... فجأة هبت رياح باردة، وكادت أن تعصف بي أرضا، لكنني لم أقاومها، وكيف أفعل وكفي بين أصابعه! لكن ويا للعجب، كانت الريح أقوى من قبضة يده، التي فقدتها سريعا، حملتني حملا، وألقتني بين فكي البحر، رأيت حذائي يطير بعيدا عني، وجيبونتي الحمراء تغادرني، رحت أقاوم مياه البحر وبصري يشخص حيث التبة، التي لاحت وكأنها الوحيدة التي تحارب المد معي... ولم يبق لي سواها و.. ووشم أحمر يغطي جزءا لا بأس به من سمانتي الخمرية.. لكنه ما عاد يزيدها اشتعالا.
الطاحونة
أكوام الأجولة البيضاء، تتناثر من بين ثقوبها الخفية زخات الدقيق، طابور غير منتظم من جلاليب رمادية قد لا تصدق أنها في حقيقتها سوداء. مشهد يتكرر أمام عيني مرة كل شهر . قبيل الفجر بلحظات، توقظني أمي هامسة: "هيا لنذهب للطاحونة"، فأنهض متلهفة وقد غلفني نشاط مبهم . تسحب قدماي حذاءً باليًا، وفي ذيل جلباب أمي أتشبث، بينما تحمل هي جوالًا ضخمًا من القمح، فوق رأسها، وبين الاثنين خرقة من قماش بالٍ قد صنعت منها دائرة أطلقت عليها "حواية" وثبتتها في مهارة فوق رأسها لتقيها ثقل الجوال . لم أسأل أمي يومًا عن سبب اصطحابها لي، وأنا الطفلة، فربما كانت تستمد من كفي الصغيرة قوة وأمنًا لا يحسهما سواها، وربما كنت لها صدًّا لحكايات أهل القرية وغمزات نسائها عن تلك الأرملة التي تغادر في الفجر بحجة الطحين، وتُرى أين تذهب . بين بيتنا والطاحونة مسافة طويلة، لا أذكر أني يومًا تأففت من طولها، بل كانت بالنسبة إليّ وانا ابنة الخامسة لحظات مرح واستمتاع أنتظرها بولهٍ لا يقاوم. نسمات الفجر وهي تتسلل إلى رئتيّ، شعاع الشمس الكسول يتمدد في وجل، ليغمر وجهي بدفئه فأبتسم إليه في فرح، قبضة كف أمي وهي تحتضن كفي في حرص وقوة وامتنان، دفقة خطواتي على حقول البرسيم وأمي ترشدني إلى موضع آمن لخطوي. كلها لحظات سكْر أنستني معنى المسافات وشقاءها. محاولةً أن تحافظ على دورها دون أن يسطو عليه أحد، ترفع أمي صوتها بالتنبيه تارة وبعبارات المزاح أخرى، فيما انسلّ الجوال عن رأسها وأسكنته يداها جانبًا، ثم أسرعت لتعيد احتضان يدي وهي تبسم وتغمز لي بجانب عينيها مشجعة . يتسارع الآخرون إلى حجز أماكنهم، وتهدر الطاحونة لتبدأ بهرس جوالات القمح واحدًا واحدًا، فإذا بجسد أمي ينتفض على إثر هديرها وكأن مسًّا أصابها، فيزداد قبضها لكفي وتعتصره عصرًا، أنظر إليها في استنكار فأراها مغمضة العينين وقد فاضت عضلات وجهها وانبسطت كأن حلمًا يدور بخلدها، لكنها تعود لتنتفض فجأة بعد سماعها تأوهي، وتفتح عينيها وتجيل النظر حولها في ذهول، ثم تنكس رأسها في خجل. تستدير عيناي عنها لأرقب الطاحونة في حذر وخوف وأتساءل؛ ماذا لو كانت تلك الأجولة تحمل الأشرار لتعتصرهم الطاحونة وتصنع من عظامهم القذرة دقيقًا تقتاته الشياطين؟!. يخترق هدر الطاحونة صوتٌ ربما فاقها قوة وصلابة، ذاك هو عم إسماعيل، وعم إسماعيل هو قائد تلك الطاحونة، إن رأيته بعيدًا عنها ظننته كهلًا واهنًا، وإن حاصرته أجولة القمح تحول إلى أسدٍ ضارٍ، يصرخ في الزبائن وينهر من يتجاوز دوره، فتكفي نظرة ساهمة منه لتدب الرعب في أوصالي الدقيقة، حتى وهو ينظرها لغيري، يقف معتليًا مقدمة الطاحونة، يتلقف الأجولة في خفة شاب عشريني ويقذف بها إلى الفوهة؛ فتمتليء أنفاسنا برائحة الدقيق، وتتطاير ذراته لتغمر وجوهنا وملابسنا، فلا يحرك أحدنا طرفًا لنفضها، وكأن وجودها دليل خيرٍ تحمده النفوس. وحين يحين دور جوالنا تتنفس أمي الصعداء وترقب حركة الطحن في حذر وهي تؤكد على عم إسماعيل أن يسكب الدقيق كله ولا يُبقى شيئًا في الحلة، فإنه طعام أيتام. يختلف وقع رحلة العودة في نفسي، فأعود منكسة مهمومة وكأنني سكبت الفرح على جسد الطاحونة وهجرتهما معا. وبينما تزيح أشعة الشمس أسبلة الظلام، تتعلق عيناي بباب الطاحونة وأنا أمنِّي النفس بأن يمر الشهر سريعًا حتى تحين الزيارة المقبلة، فيما ألحظ شرودًا قد حلّ بأمي ولم يغادر عينيها حتى وصولنا للبيت. وعند القيلولة أصرت أمي على ألا أنام بين أحضانها كعادتي، ولأول مرة أبيت في الحجرة الأخرى، إلا أن أرقًا قضّ نومتي، فتسللت إلى حجرتها علّها تعيدني إلى يديها، فتحت الباب بحذر متردد، ومررت رأسي من فتحة صغيرة أنظر إليها، فطالعني الشرود نفسه طالًّا من وجهها، وقد اتسعت عيناها عن آخرهما تنظران إلى اللاشيء. عدت أدراجي بالحذر ذاته وقد أيقنت أن أمرًا جللًا ذلك الذي حال بيني وبين أحضان أمي، وليتني أفهمه، ولست أدري لِم في تلك اللحظة تذكرت الطاحونة ولحظة انتفاضة جسد أمي على وقع هديرها.
إيزيس
لم يكن لصوت عجلات القطار على قضيبه ذاك الوقع المعتاد في نفسها. ها قد غلبتها غفوة مفاجئة، كانت تقاومها طوال ساعات.. فاستسلمت لها ساندة رأسها على ملجأ عينيها الوحيد هنا، على النافذة الزجاجية المجاورة لمقعدها. استيقظي، استيقظي، استيقظى فى سلام يا سيدة السلام... يا إلهة الحياة يا جميلة فى الجنة.. استيقظي.. انتفضت بعد دقائق على وقع تسلل تلك الكلمات إلى سمعها، وكأنها تتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصوات خفيضة مواسية ومشجعة في آن واحد... فتحت عينيها وجالت بهما أرجاء العربة في دهشة، تحولت لذهول خائف عندما لم تجد مصدرًا لتلك الأصوات، فهزت رأسها في استسلام إلى كونها حتمًا تحلم. أدركت أنها تحتاج لقضاء حاجتها وتقاوم ذلك الإحساس منذ أكثر من ساعة حتى لا تضطر لمغادرة المقعد ورؤية أحد.. لكنها قررت الاستسلام لفطرتها، فنهضت وسارت حيث أول العربة باحثة عن مكان الحمام، توقفت أمام الحد الفاصل بين العربتين ونظرت إلى الأرضية التي تتأرجح في خفة مرعبة. عادت بخطوها للخلف وفكرت في هجر الفكرة برمتها والعودة لمقعدها، لكنه بزغ فجأة من أمام باب القطار، حيث يقف متخفيًا خلف الحاجز الجانبي الفاصل بين العربتين، شاب في الثلاثينيات، يبدو هادئًا قويًّا، ينظر إليها في حنو أدهشها، وكأنه يعرفها حق المعرفة، ويدرك سرها الدفين. سألها بصوت ينطق احتواء: _ أتريدين الذهاب للحمام؟ أومأت برأسها في تردد ولم تنطق، فمد إليها يده قائلًا: _ يمكنني مساعدتك.. تفضلي. لم تدهشها معرفته بوجهتها، ولا بسبب فزعها، بل ما أدهشها حقًا أنها تركت له يدها ليساعدها على عبور ذلك الحاجز المائع.. لم تشعر بكفه، وربما كانت ارتعاشة جسدها ورعبها من اهتزاز الأرض تحت قدميها سببًا في ذلك، لكنها وجدت نفسها تقف نفس الوقفة في طريق عودتها إلى المقعد، مترددة حائرة، ومثل المرة الأولى بزغ من مكمنه، ومد إليها يده، في تلك المرة شعرت بقبضة كفه، بل امتد إليها شعور غريب، نظرت إلى عينيه فإذا بهما تمتلئان احتواء، كادت تهمس له: لا تتركني، كن بجانبي فأنا وحدي... تمالكت نفسها وشكرته وهي تخفض عينيها وتركت جسدها يسكن إلى مقعدها، لكن في تلك المرة لم تركن عيناها للنافذة، بل تحولتا نحو ذلك الحاجز الفاصل بين العربتين، فإذا بها تراه يحاول اختلاس النظرات نحوها، فأشاحت بوجهها إلى النافذة وقد سكنها لوم عظيم، وهي تتذكر ما هي فيه، فعادت إليها دموعها ثانية، ولم تعد تعير اهتمامًا لتلك النظرات الحنون التي تشيع دموعها بين اللحظة والأخرى. أرقام ساعتها الصغيرة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، زفرت في يأس وهي تتذكر أن ثلاث ساعات مرت منذ انطلاق القطار بها، وأنه مازال أمامها ساعة كاملة عليها أن تتحملها حتى محطة الوصول في تلك القرية النائية من صعيد مصر. فجأة أدركت أن دموعها لم تكف عن صفع خديها منذ انطلاق القطار، حاولت أن تمسحها لكنها ظلت تنهمر بغزارة، وكأن ما يعتمل بصدرها أقوى من قدرتها على السيطرة على دموعها؛ فاستسلمت لانهمارها، وحاولت ألا تحيد عيناها عن النافذة، متخفية في بعض ظلام يغشى مقعدها ويخفيها عن أعين الركاب المتطفلين، ممن يحاولون التمسك ببعض يقظة بعد نوم متقطع. مطت شفتيها في يأس وهي تضع احتمالًا مأساويًّا أنها قد لا تستطيع العثور عليه، مثلما لم تستطع إيجاده خلال ستة شهور مضت، قضتها متنقلة بين محافظات وقرى بلدان لم تطؤها قدماها من قبل... انهارت منتحبة لمجرد مرور ذلك الاحتمال في خاطرها، حتى إذا خشيت أن يصل صوت بكائها إلى النائمين، أسرعت بكتم أنفاسها حتى هدأت. وراحت بعينيها إلى النافذة ثانية شاخصة حيث اللاشيء، وكأنها تناجي ربًّا يسكن تلك الحركة المتوالية لقطار يشق الظلام، داعية إياه أن تكون تلك هي محاولتها الأخيرة لإيجاد زوجها، الذي اختفى عنها منذ شهور ولم يعثر له أحد على أثر، حتى استسلم أهله وأعلنوا وفاته، بل وتلقوا العزاء فيه، في ابنٍ لم يعثروا حتى على جثته، وكأنهم كانوا يحددون لأنفسهم مدة بعينها إذا لم يعد خلالها فلسوف يستسلمون للأصوات القائلة بانتحاره، هكذا دونما أدنى إحساس بألم، وربما استطاعوا تطويع ألمهم، فراحوا يعدون العدة لاستصدار حكم قضائي بوفاته رسميًّا.. لكنها أبدًا لم تستسلم لهم، فمازال ذلك الشعور الخفي يراودها أنه مازال على قيد الحياة، ينتظر قدومها، ويمد يدًا مستغيثةً لتلتقطها بين أحضانها، مثلما كان يهرع إليها من كل كرب. أسموها مجنونة، غبية، لكنها لم تلتفت، وعادت أهلها وأهله، ولم تطلب من أحدهم مساندتها، بل قررت خوض رحلة البحث اليائسة وحدها.. وحدها تمامًا.. أفاقت من شرودها على توقف القطار في المحطة المرجوة، هنا شعرت برعدة تسكنها، وهي تتخيل عودتها خائبة إذا لم تجد زوجها هنا أيضا.. أمسكت بحقيبة يدها وتوجهت نحو الباب خلف طابور طويل من الركاب، ورمقت النافذة بنظرة مودعة وكأنها تستأمنها سرها ودموعها. متجنبة الزحام، وجدت نفسها آخر النازلين، ووجدته، كان واقفًا بجوار الباب وكأنه ينتظرها، أفسح لها المجال للهبوط وهو ينظر لها نظرة وداع، توقفت أمام القطار ونظرت حولها في حيرة، ففاجأها نزوله أيضا وتوجهه إليها غير عابيء بالقطار الذي راح يطلق صافرة المغادرة. وكأنه يعرف ما تبحث عنه أشار إلى مكان السلم المؤدي لباب الخروج، وهو يؤكد عليها أن تعتني بنفسها، لم تجد ما ترد به على اهتمامه سوى إيماءة دامعة، وتوجهت بخطوات مترددة نحو السلم، في حين أسرع هو قافزًا للعربة واقفًا على بابها ينظر نحوها، فتوقفت للحظات والتفتت إليه تبادله نظرة حزينة، كادت على إثرها تمد إليه يدها صارخة ألا يتركها، لكنها لم تلبث أن قاومت دموعها التي تقف على حافة جفنيها، وعاودت السير نحو السلم. أزاحت عن عينيها قهرًا كاد يفترسها وهي ترى الركاب يحتضنون من ينتظرهم من ذويهم بشوق، بينما تقف هي وحيدة حائرة مترددة. حاولت أن تتجاهل ذلك الشعور وتبحث عن وجهتها وهي تدعو الله ألا يخيب رجاءها تلك المرة.. شيعت محطة القطار وقد تماهت صورتها خلف ذلك التاكسي الذي استقلته، بينما احتلت صورة ذلك الشاب واجهة المحطة تمامًا، ثم راحت تختفي رويدًا رويدًا حتى تحولت أمام ناظريها لصورة زوجها وهو يركض نحوها من بعيد، ملوحًا لها أن اقتربي، فأغلقت عينيها وتركت لأذنيها وكيانها ذلك اللحن الهاديء، المنبعث من كل زوايا وجودها، وكأنه يتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصواتٍ خفيضة مواسية ومشجعة في آن واحد: " إيزيس ستعتنى بك، ستعتنى بك بعد أن وجدتك"."يا ابنة نوت وابنة جب وحبيبة أوزوريس الكل يمتدحك أعشقك... يا سيدة إيزيس". ****