من عادات أهل القرية، يسعى الكاتب لأن يبث رؤيته السياسية في قصته "التي تحمل روح الرواية، لكن معرفته لروح القصة القصيرة، ابقت على نمطها، وأبقت على الرؤية الكلية للقصة، مغموسة بروح الحكي، ومتعة القراءة.

شجرة العبيطة

شـوقي عـقـل

 

لم أتعمد الجلوس أمام الشجرة.. لكن كثرة المريدين.. أثارت في نفسى الفضول لتأمل أمر عايدة.

جاءت عايدة البلهاء إلى القرية قبل أن تلقي نبوءتها المشؤومة بحوالي عشرين سنة، لا يعرف أحد من أين. كانت ترتدي جلبابا قصيرا ممزقا وشعرها يغطي ظهرها. رغم الوجه المغطى بالأتربة والبقع والجلباب القذر الممزق رأى أهل القرية جمالا أخاذا وجسدا فاتنا.

تجولت الفتاة بين البيوت وهي تمتم. كانت النساء يعطفن عليها ويمنحنها قطع الخبز وبعض الغموس، تأكل بلا مبالاة، لا تطلب من أحد ولا تشكر أحدا.

لكنهن حين لاحظن نظرات الرجال الجائعة، أخذن بطردها من البيوت.

تعود الناس أن يعبر متشرد بلدهم، رجلا أو امرأة، لا يطيلون البقاء، لكن عايدة لم تغادر.

حين رآها العمدة، أمر على الفور بإدخالها المنزل ورعايتها قائلا:

-   دول فيهم شيء لله.

تبادل الخفراء النظرات. أقامت الفتاة في إحدى غرف بيت العمدة الكبير ومعها خادمة عجوز. ادخلوها الحمام لتستحم رغم رفضها وعويلها. ألبسوها جلبابا نظيفا ومشطوا شعرها المرسل وطيبوه بالزيت والعطر. أكلت بشراهة كل ما قدموه لها،  حتى استعاد وجهها نضارته واختفت بقع " القوب " منه.

كان العمدة رجلا وسيما مهيب الطلعة دائم الابتسام، خاصة حين يلمح امرأة جميلة. لم تمنحه وسامته وقوته البدنية ولدا، كانت كل خلفته بنات! ظل دائما يبدل نساءه، بلا جدوى.

أخيرا، بعد إيواء الفتاة في بيته بشهور، أعلن العمدة أن الله من عليه بولد من إحدى زوجاته. أقيمت الزينات وذبح ثلاثة عجول ووزع اللحم على الفقراء.

قال الشيخ إسماعيل إِمام المسجد ومؤذنه:

-   ربنا راضي عنك يا عمدة، إحسانه سبق إحسانك!

سرت إشاعة في البلد أن الولد قبيح الملامح، لا يشبه أباه الوسيم، لكنه يشبه جدته أم العمدة القصيرة الدميمة. لم يكن العمدة سعيد بما منح، لكنه توقف عن المحاولة وأعلن:

-   أمر الله.

كان الناس قد نسوا أمر الفتاة البلهاء، حتى علموا أنها هربت من البيت الكبير!

لم يعرف أحد أين ذهبت. قال العمدة إنها عادت إلى حياتها. مرت شهور أخرى ثم ظهرت عايدة فجأة بأسمالها القديمة، تدور بين البيوت ويركض خلفها الأطفال، يلقون عليها قطع الطين الجافة ويضربونها أحيانا! لكنها هذه المرة كانت صامتة حزينة، لا تعترض، ولا تغضب، لا ترد الضربات ولا تتكلم.

عشرون عاما مرت، لم يتغير شيء في القرية الساكنة. أصبح ابن العمدة شابا، يسير في الطرقات وحيدا، لا يصادق أحد ولا يحادث أحدا، يتجنبه الجميع، ينظر للناس بابتسامة هازئة متوعدة.

حتى جاء أحد أيام السوق الكبير، اليوم الذي أسماه أهل القرية فيما بعد يوم العبيطة.

كان اليوم ما زال في أوله. الناس يتوافدون من القرية ومن القرى المجاورة، حاملين بضائعهم أو جارين خلفهم بهائمهم للبيع أو للبدل.

ظهرت عايدة في ساحة السوق وخلفها بعض صبيان القرية. ذهبت فورا إلى شجرة التوت العجوز وتسلقتها بخفة ثم تربعت فوق أحد فروعها العالية المطل على الساحة. انتظر الصبيان قليلا ثم ذهبوا حين يأسوا من نزولها. لم يهتم أحد، فالمرأة البلهاء تفعل ما تشاء!

ازدحمت الساحة الواسعة بأهل القرية والوافدين من القرى المجاورة، فجأة علا صوت غطى ضجة الباعة والمشترين. كان الصوت الواضح القوي يأتي من رأس الشجرة حيث صعدت البلهاء. صمت الجمع بفضول.

قالت بصوت واضح قوي:

-   أيام صعبة قادمة!

ضحك الناس.

صاح أحدهم:

-   أصعب من كده؟

رفعت يدها فصمتوا، أعادت:

-   أيام صعبة قادمة!

تابعت:

- لديكم زاد كثير، تحسبوا! فأنها أيام بلا زاد! لديكم مطر وفير، تحسبوا! فالمطر سيشح! لن تجدوا إلا الجفاف! لن تجد مواشيكم الماء لتشرب، ستجف حقولكم! احترسوا فالأعداء يعيشون بينكم ويحيطون بكم! ستعم المجاعة! سيكثر بينكم اللصوص، ستقتلون بعضكم بعضا! لن تبيعوا ولن تشتروا، لن يذهب أطفالكم إلى المدارس!

لن تجدوا مفر!!

سخر الناس من المرأة البلهاء. من كان يعرفها دهش لأنها كانت المرة الأولى التي يرونها تتحدث، وبهذه الطلاقة، عايدة العبيطة تتكلم بالنحوي!

قال شاب أزهري:

-   إبليس ينطق على لسانها!

نظروا إلى بعضهم البعض محتارين:

-    العبيطة بتتكلم زي الشيخ اسماعين!

تركوها وعادوا إلى السوق. عاد الصخب ثانية، لكن اليوم كان فقيرا، لم يبع أو يشتر أحد شيأ باستثناء بعض المنتجات الصغيرة، جبنا أو عيشا.

عاد الناس إلى بيوتهم بأغراضهم.

كان مشهد المرأة البلهاء ماثل أمامهم. لعل النقود كانت قليلة! لعل الجبن لم يعجب المشترين!

في موعد السوق التالي، لم يحضر الناس من القرى المجاورة كما تعودوا أن يفعلوا منذ زمن بعيد.

عاد أهل القرية مبكرين إلى بيوتهم، أغلقوا الأبواب، ظلوا واجمين.

قال عبد المولى الفقير المشاغب الذي لا يعمل حسابا لأحد حتى العمدة، رغم العلقات التي يأخذها من خفر العمدة من حين لآخر:

-    العبيطة عارفة!

أعدوا عدتهم للمطر الذي تعودوا على هطوله في هذا الوقت من السنة، تلحف بعضهم بالمشمع  في المشاوير البعيدة، وأخذ الموسرون منهم المظلات الخفيفة في أيديهم وهم خارجون من بيوتهم.

لكن الأمطار التي لم تغب من قبل، لم تأت!

تطلعوا إلى بعضهم البعض مندهشين! بماذا تنبأت المرأة أيضا؟ الجوع؟ المرض؟ العري؟ الأعداء؟ الموت!

عادوا إلى بيوتهم وصورة المرأة وهي تلقي نبوءتها المشؤومة تلح عليهم.

أخفوا أشياءهم، نقودهم وخزين الطعام الذي بدأ ينفد، فالأسواق خالية والحقول جافة......

بعد نبوءة عايدة القاسية، حين لم تأت الأمطار وغطت الحشائش والحلفاء الصفراء الحقول. لم يعد السوق يقام في موعده الأسبوعي، بعد محاولتين أو ثلاث فاشلات لأقامته لم يحضر فيها أحد.

أخذ الناس يجلسون أمام بيوتهم صامتين ينتظرون. حدث قبل مغرب أحد الأيام أن استعار عبد المولى العاطل الفقير طبلة عم شعبان التي يدور بها في طرقات القرية كلما مات شخص أو أية مناسبة أخرى للإعلان، ثم دار في طرقات القرية الترابية حافيا وهو يدقها بقوة ويعلن:

-   أصحو يا نايمين ،العبيطة عارفة، الجاي صعب!

حتى وقف أمام باب العمدة يدق جلد الطبلة القديمة المشدود وخلفه عيال البلد وهو يصيح:

-    اصحوا يا نايمين !

خرج الخفراء وضربوه وكسروا الطبلة وجروه إلى الحجز.

في نفس الليلة، والطرقات خالية، سمع صراخ قوي من أحد البيوت ثم ساد صمت. ذهب الرجال مسرعين إلى البيت المظلم حاملين المصابيح، رأوا صاحبه وزوجته وطفليه مذبوحين! الأشياء مبعثرة والمرأة التي اكتشفت المشهد القاسي واقفة ترتعش وتبكي!

ارتعبوا، نظروا إلى بعضهم البعض! من الفاعل؟ ما الذي سرقه؟ بعض الدقيق والبيض والسمن؟!

عادت صورة المرأة والشجرة الجافة تطل عليهم.

ذهبت جماعة من الشباب الغاضب تبحث عن المرأة البلهاء، حتى وجدوها في إحدى الخرائب نائمة. جروها من شعرها وربطوها إلى شجرة التوت العجوز العقيم.

جمعوا كومة من الحطب الجاف، قالوا لها قبل أن يشعلوا النار:

-    ابعدي شرك عنا ونسيبك في حالك!

لم يأتهم في الظلام إلا قهقهة طويلة ساخرة مجنونة.

أشعلوا النيران، شاهدت القرية المرتعبة كلها من بعيد تراقص الظلال الحمراء!

غادروا الساحة بينما ظل ابن العمدة واقفا يرقب النيران صامتا متجهما.

تجاهل العمدة والخفر الأمر، بينما قال البعض:

-   ما لهاش ذنب!

أغلقوا جميعا الأبواب جيدا، نام بعض الرجال خلف أبواب بيوتهم المغلقة وفي أيديهم العصي والسكاكين، عزز العمدة الحراسة حول بيته الكبير.

في الليلة التالية تكررت الجريمة، هذه المرة في بيت أحد الخفر. لم يجرؤ أحد بعدها أن يخرج إلى الطرقات. كانت آخر صلاة يؤديها أهل القرية في المسجد هي صلاة المغرب، أما صلاة العشاء والدعاء إلى الله أن يزيح الغمة فتؤدى في البيوت المغلقة.

في غبشة الفجر لم يعد هناك إلا الكلاب تجوب الطرقات.

تهامس الناس أن الشيخ إسماعيل رأى عايدة المحروقة وهو ذاهب ليؤذن لصلاة الفجر جالسة على باب الجامع تنتظره! حكوا أن الرجل عاد راكضا كالمجنون إلى منزله وهو يتعثر في جبته. قالوا إن العمدة أنكر ما قاله الشيخ وكذبه، وأمره ألا يحكي لأحد ما تخيله.

في اليوم التالي أرسل العمدة أحد الخفراء إلى المركز وعاد ومعه بعض أهل الذكر ومحضري الأرواح، ارتفعت بعدها الأدعية وروائح البخور القوية من البيت الكبير، جاء رجل يرتدي عباءة سوداء ويحمل كتابا قديما، جلس في القاعة الكبيرة وأخذ يتلو بصوت عال بعضا من نصوص الكتاب.

في ساحة السوق الكبيرة، كانت الشجرة العجوز ما زالت واقفة رغم أن الحريق أكل جزءا كبيرا منها. في البدء، تجنب الناس المرور بجوارها أو وطأ الرماد المحيط بها.

مع مرور الأيام، كانت النساء تذهب إلى حيث الشجرة التي ظلت واقفة، يمسون الجذع الضخم بأكفهم برقة، يهمسون لها بكلمات خافتة، يعلقون عليها صررا صغيرة بها بعض الطعام.

 حين كانوا لا يجدون الصرر في اليوم التالي، كانت قلوبهم تخفق بالفرح.