لكنني في هذه اللحظة؛ أعلن: إنني أكرهكن جميعا، صديقاتي اللاتي يمصمصن شفهاهن، يتصعبن على حالي.
- معلش للسن أحكامه يا سلمى.
أستغربكُنَّ.. أشمئزُّ منكن، ربما أكرهُكن، أنا التي لم تعرف الكراهية، أنا التي أودعني الله خزائن الرحمة والشفقة علي أعدائي قبل أصدقائي.
أتمني أن ألعنهن من كل قلبي، لكن عقلي توقف، يستقبل ذلك الصهد الساخن الذي يخرج من أذني، تنغلق رئتاي كأنني أُخرج آخر أنفاسي، أطلق زفيرا متلاحقا، أصْلَى سعيرا، عروق رقبتي تنفر، يكفهر وجهي احمرارا، تنوء قدماي بحَملي، أريد أن أنام، أجلس، أتبول، أهَوِّي على وجهي في الوقت ذاته، أضم ساقيَّ بعنف حتي لا يتسرب بولي، قطرات خفية بللت ملابسي الداخلية، أخشى أن تنهمر وتفضحني.
دقيقة؛ علي الأكثر دقيقتان، بعدها أسترد روحي المعلقة حولي، ينضح جسدي عرقا غزيرا، يغرق شعري، وجهي، ظهر يديَّ، ركبتاي، سلسلة ظهري، بعدها أرتجف بردا ينخر في عظمي.
مهما ارتديت من ملابس ثقيلة، تظل درجة حرارة جسمي منخفضة، ثم ترتفع حد الغليان، هكذا مئات المرات في اليوم الواحد، صنع جسدي مناخه الخاص، فليس له أي علاقة بالطقس الخارجي.
قرفت من نظرات الشفقة، تعبت من الشرح والتوضيح، نعم أنا امرأة كسرت حاجز الأربعين بسنوات سبع، انقطعت دورتي الشهرية، أعيش مأساة سِنِّ اليأس، لا تغضبن أيتها الصديقات، أو اغضبن؛ لا يهم، لن أُجَمِّلَه، لن أردد تلك المقولات الساذجة التي تدعي أن لكل سن جماله.
ما الجمال في أن يتساقط شعري، تسكن الهشاشة عظامي، تمرح الخشونة بمفاصلي، ما الممتع في سن، أتحول فيه إلي ربع امرأة، بصدر لا تسطيع أية حاملة صدر أن تزيف مستوى تهدله، تجاعيد استطاب لها المقام بوجهي، عصبية وبكاء لأتفه الأسباب، يخاصمني النوم، يصادقني القلق، أزعجكن أكثر؛ تروادني أفكار انتحارية، بل ضبطتُني في طريقي لإلقاء نفسي من فوق كوبري قصر النيل، أنا التي لا يوقفني شيء عن حب الحياة، بعد كل ما واجهت من صعاب ومشاق، آلام وأوجاع، أبدا لم أنطق كلمة "انتحار"، لا في المراهقة، ولا عند طلاقي من الرجل الذي ذبت عشقا فيه، بعدَه لم أعرف حبا، لم أذق متعة، رغم زواجي مرة قبله وأخرى بَعدَه، بصماته ما زالت محفورة علي كل خلايا جسدي. وجدتُني منساقة، أبكي، أقف في منتصف الكوبري، بينما أضع يدي فوق السور، واتتني أصعب هبَّة ساخنة مرَّت علي، جلست أرضا؛ أبحث عن أية ورقة أُهوِّي بها وجهي، لم أجد، احتضنت شنطتي، رقدت على ظهري، يؤلمني الحصى والزلط الرفيع جدا، كأنه سكاكين تنغرس بلحمي، بمجرد مرور الهَبَّة، اعتدلت جالسة وسط استغراب المارين؛ الماشين والراكبين.
بكيت بحرقة، لأول مرة أشكر هبَّتي الساخنة، أنقذتني من انتحار مؤكد، لا أعرف حتى الآن، كيف وصلت إلي هذه الحالة، كيف اختزن مخي هذه الرغبة دون أن يطلعني عليها، وهو (أي مخي)، لا يُخفي عني شيئا، كل يوم عند خروجي من البيت أطمئن على ثلاثة أشياء لا أستغني عنها؛ المفتاح، الموبايل، مخي، أضع يدي علي رأسي أتأكد من وجود مخي وأنه بخير، يعمل جيدا، نتبادل تحية خفيَّة، لا يعرفها غيرنا، وأبدأ يومي.
عندما حكيت لصديقتي (سيناء) الخبيرة بحكم التجربة، أو بالأحرى تجاربها النفسية التي مرت وتمر بها، عن محاولة الانتحار التي ضبطتُني متلبسة بها، هبَدَتْ علي صدرها.
ـــ يا لهوي، لازم تروحي لدكتور، إنتي محتاجة مساعدة نفسية، ما تسبيش روحك يا بنتي، المرة دي ربنا ستر، بعد كدا موش مضمون.
ادعيت أنني أعي ما يحدث بداخلي، يبدو أنني واهمة، صحيح لم تتكرر محاولة الانتحار، لكنني أحس أن عطبا ما حلَّ بي، أشعر به ولا ألمسُه.
هل نحن فعلا كما تقول أمي، كل ما فينا أوجاع، بداية من الخِتان، آلام الدورة الشهرية، ألم أول عملية جنسية، حمل، ولادة، رضاعة، بؤس انقطاع الدورة.
جربت كل المراحل، أؤكد لكم أنها المرحلة الأصعب، تسرب الأستروجين من جسدي، هذا الهرمون اللعين، عندما يتخلى عنا لا نستطيع تعويضه، بدائله الدوائية تسبب سرطان الثدي، تليف الرحم، كي أنقذ نفسي من الأعراض الجانبية المكلِّفة لهرمون مُصنَّع، تحمَّلتُ أن أكتوي بهبَّات ساخنة، تحرقني في كل وقت، بأي مكان، تحت أي ظرف أو وضع.
يلعب الجسد المحروم من حنان الهرمون الغادر ألعاب اليأس الأخيرة، تحت عَرَقٍ وسخونة، يتلوهما صقيع يفتت جسدي، لا بد من شرح وتوضيح للمحيطين، لا بد أن أمرِّغ كرامة أنوثتي في طين الاعتراف، بأنني لم أعد صالحة إلا لاستقبال الشفقة، بكلمات تحرقني أكثر من سخونة الهبات.
كدت..
لحظة..
يبدو أنني أتعرض لـ (هبَّة جديدة).
علي طريقة برامج (التوك شو).. أعود إليكم بعد هبَّة غبيَّة.
كنت أقول: كدت أموت ضحكا، عندما اتهمتني صديقتي (نجوان) بأنني خنتها مع آخر أزواجها، وبأنني أقمت معه علاقة جنسية ملتهبة، بكيت من الظلم، أقسمت لها بأغلظ الأيمان، قدمت عشرات الإثباتات والأدلة على براءتي، و أنه لم ولن يحدث، ليس فقط لعدم إعجابي بأي من أزواجها وأصدقائها، فأنا لا أخون صديقاتي، لكن اضيف ايضا سبب خارج إرادتي تماما؛ فلم يعد عندي أية رغبة جنسية، كأنني سُرقت بلَيل، تركتني رغبتي، هجرتني، اختُطِفت مني، كأنها لم تكن.
مرتبكة أنا، لا أعرف كيف أشرح لكم، كيف هو الإنسان بلا رغبة، كيف يشعر، الأدق كيف لا يشعر، منذ بلغت الخامسة عشرة، أعيش برغبة جنسية عارمة، أقل كلمة حب، لمسة دافئة، مشهد عاطفي، غمزة عين، رنة صوت محبب، رائحة عطر، تثير شهوتي، تهز جسدي كله، ههههههههههه أتذكر صديقتي الراحلة (سلطانة)، شهوة تمشي علي قدمين، عندما تجد رجلا وسيما، تُبَلِّم، تفتح فمها عن آخره، تتوقف عن الكلام، والحركة، تتحول لصنم، لا تحول عينيها عن الشخص الذي أعجبها، أسألها:
- مالك تنَّحتي ليه؟
ترد بفحيح: اتنفخ جوايا شيء.
- يعني ايه؟
- يعني العفريت ركبني، بصي أنا مضطرة أشرح لك الحالة.
تعتدل في جلستها، دون أن تفقد إطلالة على الهدف، أي الشخص الذي حاز إعجابها.
- شوفي يا ستي.. أنا ليَّ (type) نوع كدا من الرجالة، لما باشوفه باتجنن، أتهوس، أحس إن جسمي اتخشب، مقدرش اتحرك، وجسمي ينمِّل، المهبل بيتنفخ فورا.
- هههههههههههههههههههه، حاموت من الضحك، يخرب بيتك، وبتعملي إيه؟
- باحمد ربنا إني ما طلعتش راجل، كنت اتفضحت، طبعا الرجالة الصيَّع المدردحين أحيانا بيفهموا، ودا بيكون مريح، بس لو الهدف زي اللوح اللي قدامي، ما فهمش، وما حلصش المراد من رب العباد، أبات أغلي طول الليل، ولا أي مهدئات يا اختي تنفع، واقعد اغني "يا تجيب لي شيكولاته يا بلاش يا ولا".
- وليلتك السودة بتخلص علي إيه؟
- لازم تخلص بوجود البديل، وإلا لا حيهدي ولا حينام.
- اللي هو إيه؟
- اللي هو معذِّب البشرية، تعدل ياقة بلوزتها، تضع النضارة، تكمل: الذي هدم إمبرطورايات وأذل العباد
- العضو الأهم يا أختي، "لا بد أن يلتقيا، كما دخول المرود في المكحلة".
تعض على شفتها السفلى: الفعل الوحيد في العالم اللي لا بيحتاج لمعرفة اللغة، ولا كلام من أصله، فقط، حديث الأجساد للأجساد يسري!
تبدأ سلطانة أولى خطوات التعرف على الشاب الذي اعتبرته هدفا، قبل خطوة واحدة، على مرمى جملة غزل أو نبض احتكاك، تصل امرأة أخرى، تحتضنه بعمق، تجلس بجانبه، تعود سلطانة خائبة، أضحك، تندب حظها، تشخط فيَّ.
- أعمل أنا إيه دلوقتي؟
- ههههههه، ولا حاجة، كان حلم وراح.. إنساه وارتاح.
- أنا ممكن أنسى، بس هو (تشير لعضوها الأنثوي) ده ما بينساش.
- إمسكي نفسك، واتحكمي في جسمك، بلاش فضايح.
- وربنا ولا أعرف، ده ماشي لوحده، أنا ما ليش كلمة عليه، هو اللي بيمشِّيني، وبصراحة بقى ما اقدرش أزعله.
ولكنه يا سلطانة تخلَّى عنكِ، ماتت بالإيدز، ماتت تلعن عضوها الأنثوي، تلعن الرغبة.
هبَّة مفقودة
ما بين لعنة الرغبة واختفائها، والاتهام الذي طوقتني به (نجوان)، لم تبرئني هبَّاتي التي امتنعت عن الحضور، كأنها تواطأت ضدي، لتؤكد ظنون نجوان، وجدتُني أضحك لدرجة البكاء، تخيلت لو أني فعلا أقمت علاقة مع زوجها كما تدَّعي، وفجأة غرقت في هبَّة حامية، ولم أستطع أن أتحكم في مجرى البول، كما يحدث باستمرار، كيف سيكون المشهد، بينما أنا بين ذراعيه، عارية، أكفهر سخونة، أتبول عليه.. هههههه، سيكون موقفا هزليا ومخزيا، كفاني الله شرَّه.
أخجل من شعري الذي كان جميلا، ناعما، صار تحت تأثير العرق، وجنون التخلص من غليان رأسي خشنا، أجري؛ أضعه تحت الماء المنساب، استوحش عليَّ، هائشا، جافا، يرفض محاولات إعادة ليونته، حتى مع استعمال أغلى الشامبوهات وكريمات فرد الشعر.
تتعجب أمي مما حل بي.
- روحي لدكتور، كلنا قاطعتنا الدورة وما حصلناش كدا! اشمعنى انتي؟
أطيع كلام أمي، أذهب لأكثر من طبيب، أخضع لسونار، وعرض لاستئصال الرحم، يرفض آخر طبيب أخذتني إليه صديقتي (فريدة) استئصال رحمي، أخبره بأن طبيبي الاستشاري ذا الشهرة الواسعة قال إنه لم يعد له فائدة، وإن استئصاله سيجنبني كارثة الهبَّات.
يضحك ساخرا من زميله: وإذا كان ما لوش لازمة، ربنا خلقه ليه.
أؤمن علي كلامه: منطق برضه.
ـــــــ ثانيا موش اكيد استئصال الرحم يمنع الهبات
يكتب لي هرمونا بديلا، أتعاطاه بانتظام، تنهرني (أميرة) زميلتي الدلُّوعة، المتخصصة في صفحة المرأة والموضة، ترتدي فساتين سعاد حسني في الأفلام، تصر عليها رغم تغير موضتها، سبقتني بشهور إلى سن اليأس.
- إوعي تاخدي الهرمون الزفت دا.
- بس أنا بقيت كويسة لما أخدته.
تقول أميرة: شوفي راجل حلو يدلعك، أنا (إيساف) بيدلعني، بس باموت بقى لما بيشوفني عريانة، حتى واحنا مع بعض، طبعا انتي فاهمة، في الوضع الحميم، بابقي خايفة موت يشوف عيوب جسمي، و..
أقاطعها: استني شوية، عايزة أفهم، يعني انتي في حضن جوزك، ومركزة في عيوب جسمك؟
- آه يا سلمى؛ دي أكتر حاجة خانقاني.
- ده إنتي اللي خانقاني، قومي من قدامي، وبتستمتعي بأه يا ذكية؟
تعود، تقترب مني أكثر: أحيانا، أصل إيساف دا(quiet) و(handsome) وما فيهوش عيب واحد.
- كفاية إنه مستحملك عشان أصدق إنه راجل صبور، كان الله في عونه.
ستة أشهر مرت علي تناول العلاج، بدأت أصابع يدي تنتفخ، لم أربط بين تعاطي الهرمون البديل وبداية (روماتويد) بدأ يغزو مفاصل أصابعي.
سألت زميلتي الآنسة، أقصد العانسة (شيرين)، تصغرني بعشر سنوات، عندما قابلتها صدفه في الأسانسير، عما حل بها.
شيرين: دخلت برجلي اليمين الخمسة وتلاتين، وبرجلي الشمال سن اليأس،ههههههه.. برضو الواحدة مننا لازم تحافظ علي وضعها الهرموني.
- وانتي عاملة إيه؟ أو عامل إيه فيكي الإستروجين المنيِّل.
جاوبتها وأنا ألتقط أنفاسي بصعوبة، حيث الإشارة المعتادة للدخول في هبَّة جديدة.
بصوت متقطع: الحمد لله، زي ما انتي شايفة، حاموت مهبوبة، أو مهببة، ما فيش فرق.
أخرجت شيرين من شنطتها الكبيرة زجاجة مياة ساقعة جدا، خطفتُ الزجاجة من يدها، رششت بعضها فوق رأسي، شربت الباقي، اعتذرت لها، حينما استطعت، وأنا أرتدي جاكيت ثقيل.
شيرين: ولا يهمك، نحن السابقون وأنتم اللاحقون.
- إنتي صغيرة، لسه بدري. طيب عملتي إيه؟ حلتيها ازاي؟
- حلتها بمصيبة أصعب منها، طلبت معايا سُكَّريَّات، كنت باشرب في اليوم الواحد خمسة لتر بيبسي، ونص كيلو شيكولاته، خلصت بسرعة، بس جاني السكر زي ما انتي شايفة.
مذهولة مما أري، تجعد الوجه المليح، غاصت العيون الزرقاء تحت جفون متهدلة، ثقيلة في وقعها، تخفي العيون الجميلة، أسنان مخلعة، هل هذه شيرين الفاتنة؟، صاحبة أشهر مثل "من كتر خطابها بارت"، شيرين التي كان يتقدم لها ـــ يوميا ـــ خمس عرسان بلا مبالغة، تحكي دائما عن مأساتها، ونحن نضحك.
ـــــــ ما تحكيه، ملهاة يا شيرين وليست مأساة.
تبكي ـــــــ ـ من كتر العرسان، لا عارفة أحب ولا أختار، من وانا عندي 15 سنة، كل يوم في وش العدو خمسة، تعبت، ما حدش عاجبني، وما حدش مدِّيني فرصة أحب، يا خوفي في الآخر يقولوا.. العانس أهي.
يبدو أن شيرين كانت تعرف ما ينتظرها.
هبَّة ساخرة
نوبة بكاء حارة جرفتني بلا سبب، علي الأقل لا يوجد سبب واضح، ربما مقالب أمي، وشجار نا الذي لا ينتهي، لكنها قبل ذلك كانت تدفعني للتحدي والصمود، احيانا الاستقواء عليها، سعيدة أمي بضعفي وهواني، تغني وتلقِّح عليً بالكلام.
- لك يوم يا ظالم.
أحاول المقاومة، الرد بوقاحة أنها من ظلمتني، خربت حياتي، لست أنا بالظالمة، أبلع كلماتي.
تنغمها وتعيدها، رقت لحالي بعدما انطرحت أرضا، أتقلب علي بلاط الصالة، أستدر رضا برودته، كي تمتص سخونتي.
- إنزلي اتمشي يا سلمي. تقول أمي
لا أرد!
- طيب إنزلي هاتي لي حاجة حلوة من حلواني العبد، أنا هفتانة، كمان التلاجة فاضية، وعايزة عيش سِنّ من فرن عجايبي اللي في محمود بسيوني، وسلسلتي الدهب اتقطعت؛ خُدِي صلَّحِيها.
بعد إلحاح أمي، قررت التجول في منطقة وسط البلد التي أعشقها، مرتعي وملاذي، جنتي التي عشت فيها كل حياتي، أعرفها شِبرًا شِبرًا، أمشي في شارع هدى شعرواي، لا أملُّ من استعادة جمال عمارات (النخيلي)، عمارات (فرسان مالطة)، أعبر شارع طلعت حرب، قاصدة الممر المؤدي إلي شارع قصر النيل. خوفا من ضياع سلسلة أمي الذهبية، قررت أولا المرور حيث صديقي محمد بائع الفضة والأنتيكات، بجوار (استوريل)، قبل أن أصل إليه بخطوتين، تحديدا علي باب استوريل، تمكنت منِّي هبَّة ساخرة؛ أحس بها صاعدة هابطة، كأنها تقهقه، لم أفهم هذه الطريقة الجديدة التي تبتكرها هبَّاتي، اشتدت وطأتها، جلست أمام باب استوريل، خلعت الجاكيت والكوفية، ألقيتهم أرضا، مسَّني طرفُ الباب، يبدو أن أحدهم يفتحه، لا أعرف داخلا كان أم خارجا، أشعر بيد تحاول مساعدتي، وأنا أتوسل نفحة هواء باردة، لم أستطع النهوض.
- مية، عايزة مية. أردد بعصبية
يُفتح الباب ويُغلق، تأتيني يد ترش ماءً على وجهي، أخطف الزجاجة، أفرغها فوق رأسي، ما تبقى أشربه متلهفة.
- غطِّيني.
أقول، وجسدي يرتعش من البرد، تلبِسُني اليدُ الجاكيت، تعيد ربط الكوفية على رقبتي، أنزعها بعنف، أغطي بها رأسي.
- سلمى! إنتي كويسة؟. يسألني صاحب اليد
أتشكَّك في سمعي؛ هذا الصوت مألوف لي، بل محبب، لا.. إنه أحب الأصوات.
أرفع رأسي، ما زال الصوت يسأل: سلمى.. طمنيني عليكي.
- احضني!
نظر حوله، ضحك: طيب قومي، لسه زي ما انتي مجنونة.
- احضني.
احتضنني بود أحفظه، طبطب على كتفي، أخذني من يدي، انسقت معه كالعادة، جلسنا في مقهى التكعيبة، طلب لي قرفة بالجنزبيل لتمدني ببعض الدفء.
لا أعرف إن كنت أشكر هبَّتي أم ألعنها؛ شرحت له حالي، وما فعله بي الزمن.
ألمح في عينيه الشفقة التي أكرهها، عدم التصديق، محاولته مواساتي، التخفيف عني، أضاع لهفتي وفرحتي بلقائه بعد غياب سنوات ثقال بالسؤال عن أمي وصحتها، عملي وإنجازاتي، حكايات عن أولاده ومشاكلهم. انتظرت أن يعلن اشتياقه، يبرر هروبه المستمر، نظر في ساعته، فهمت أن مجاملته انتهت عند هذا الحد، كالعادة سيعاود الهروب، لملمت كبريائي، ادعيت أنني تأخرت على أمي في وحدتها، ودَّعني دون سؤال عن لقاء قادم، أو اعتذار عن ألم سابق!
كل ما فيك يا (آدم) موجع، حبك، غضبك، حنانك المفتقد، غطرستك، أفكارك حول النبل والتضحية، تضعني في آخر قائمة اهتماماتك، دائما تضحي بي، بحبي.
يقول باستسلام ــــــ لماذا دائما لا ترين إلا نفسك، أنا أضحي بحبي لكِ، لأجل من هم أهم مني ومنك.
نعم؛ أعرف.. في البداية العائلة، نقاء الدم ، الأولاد، المحافظة على نسل الأشراف، وكأني من صنف أدنى، طالما لا أتمتع بحفظ (نسب شريف) في ورقة يحصلون عليها من نقابة، تمارس دائما تصنيف الناس بين شريف ونجس.
هبَّة حنونة
تجمعنا من كل فج قريب وبعيد، نستعد لاستقبال (سلطانة)، حاولت صديقاتي إثنائي عن الذهاب إلى المطار والبقاء في المنزل، يعِدنَ بأنهن سيقُمن بكل أعمال البيت من تنظيف وطبخ، كي أتفرغ أنا للمعاناة مع هبَّاتي، مع كثير من (الصعبانيَّات)، أنظر إليهن بغيظ، ربما بكراهية انبثقت مع دخان الصهد الخارج من جسدي، أتساءل بيني وبين نفسي، لماذا يتعاملن معي بكل هذا البؤس والإشفاق، هل أنا الوحيدة في العالم التي تعاني؟.
لا تقلقن، إنها هبَّة زمن تنسل من بين أيديكن، لن تعرفن إذا كنتن تعيسات بالرغبة؟ بانتظام دورتكن الشهرية؟ أم أضعتنَّها في صراعاتكن اليومية، في الكيد لبعضكن، تضحك نضارة وجوهكن المرتسمة خطوطًا سعيدة، صريحة واضحة في مراياكن، هبة زمن فقط، وتضطرب الهرمونات، أو هي مضطربة بالفعل، بفضل زوج غبي يقضي ساعاته يصطاد إحداهن في (الإنبوكس)، وهي سعيدة بلهفة الرغبة لدى الرجال، لا يعلمون شيئا عن مصيبة تركهم لنسائهن مهملات، أو غير راضيات، أو رجل يمنع نفسه عن زوجته، خوفا من استنفاد صحته، كما فعل زوج (مريم)، وعقابا من الله أصيب بالصدفية نتيجة الكبت، هكذا قالت. وآخر يصاحب كل شهر امرأة بعد أخرى أصغر منه بعشرين سنة علي الأقل، يدَّعي أنه أمين وشريف، يشترط عليهن السرية المطلقة، حرصا علي زوجته وبناته، آخرون ينتهون من العلاقة الجنسية بعد ثلاث دقائق، إذا طالبت النساء بحقهن في وقت أطول كي يصلن للأورجازم، يلطم خديه.
- أجيب منين، إنتي عايزة تور موش بني آدم.
وغيرهم كثيرون، حالات لا تنتهي، لو ذكرتها لكتبت مجلدات في خيبة معظم النساء اللاتي لا يحصلن طوال حياتهن علي أي إشباع يُذكر.
اليوم كانت هبَّاتي أكثر حنانا، تأتي كأنما شكشكة دبابيس تبدأ من رأسي، تستحي أن تكمل فوضاها التي تحدِثُها بجسمي، ربما ترحيبا بسلطانة، أصررت على الذهاب إلى المطار واستقبالها بنفسي، دعَّمتني سيناء، أخذنا عربتها الصغيرة، كدت من الصدمة أن أموت.
ضغطت سيناء على يدي ــــــ إهدي، بلاش تخضِّيها على نفسها.
توقعت أن أرى سلطانة تمشي على قدمين، تتنطط كالعادة، وجدتها بقايا جثة، تتنفس بصعوبة على كرسي متحرك، حولها طفلان (توأم) في الثالثة من عمرهما، قدمتهما لنا: أولادي (شمس) و(قمر)، أجمل ولد وبنت.
كانت صدمة للجميع، فشلت تحذيرات سيناء في إخفاء ردود أفعالهن، بمجرد رؤية سلطانة، انهارت (سماهر) و(لوليتا)، تجلدت (فريدة) و(راجية)، حتى أمي بلَّمت من المفاجأة الحزينة.
سافرت سلطانة إلي أمريكا عام 2012، بعدما تزوجت (إسحاق داوود)، انبهرت سلطانة، عاشقة السينما ومخرجة الأفلام التسجيلية، ليس بإسحاق، ولكن بجدِّه، أحد الأسماء التي يربطنا الحنين إلى عصرهم، (إيزاك ديكسون)، مصمم الرقصات في أفلام الأبيض والأسود، من صمَّم رقصة الكاريوكا لتحية، منها أخذت اسم شهرتها، مدرب سامية جمال وكيتي، من صنع مجد الطفلة فيروز المعجزة، بتصميمه رقاصاتها في أفلامها الاستعراضية. ومعظم أفلام فريد الأطرش الغنائية.
عندما تعرفت إليه، بدأ يحكي قصة جده، الذي يلقبه بالعظيم، كادت أن تُمَلِّسَ عليه، تستنشق منه البركة، رحنا نضحك.
- دا موش ولي يا هبلة!
- دا جده ستين ولي، إنتو عارفين يعني إيه إيزاك ديكسون! يعني الشياكة والجمال، الفن والرقي، إيش فهمكم انتم في السينما!
قررت سلطانة عمل فيلم تسجيلي عن إيزاك ديكسون، بمساعدة الحفيد الذي قدَّم لها مادة ثرية ومعلومات نادرة، صحَّح ما أسماه بظلم الصحافة المصرية عام 1956، وما بعدها، التي طالت العديد من الفنانين الأجانب، حتى من لم يكونوا يهودا، مثل الراقصة الجميلة كيتي.
نفى اتهام ديكسون بالجاسوسية وهروبه إلى إسرائيل، وفق الإشائعات المتدوالة حتى الآن، قال فيما سجلته سلطانة، إن جده عشق مصر والمصريين، كان صديقا مخلصا لتحية كاريوكا وسامية جمال وكيتي، وأنور وجدي الذي كان يثق به ويعتمد عليه كلية، ليس فقط في صنع نجومية الطفلة فيروز، لكن أيضا في كل أفلامه، بعدما تعارفا، تصادقا أثناء تصوير فيلم (فاطمة) لأم كلثوم.
يضيف؛ أنه هرب خوفا من التنكيل به بعد ثورة يوليو 1952، وظهور حالة من العداء للأجانب، اضطر للعودة إلي النمسا بلده الأصلي، ثم هاجر إلى أمريكا، لم يوفَّق في العمل بهوليود، تزوج في الخمسين من عمره، أنجب (ديفيد) والد (إيزاك)، يقول إيزاك إنه يحب اسمه العربي أكثر، إسحاق دواود، وهو الترجمة العربية لإيزاك ديفيد.
جمعت سلطانة مشاهد من أفلام قديمة لديكسون، خاصة مشاهده في فيلم (فاطمة)؛ حيث قام بدور مصور (الزنكوغراف) الذي لجأت إليه البطلة لتصوير عقد زواجها العرفي من ابن الباشا، ودوره في فيلم مصطفى كامل حيث قام بدور الطبيب الذي يشخص مرض الزعيم.
لم ندرِ، أهي قصة حب، أم انبهار، تلك التي تدور بين سلطانة وإسحاق، جاء إسحاق مراسلا لجريدة النيويورك تايمز، خصيصا ليغطي أحداث ثورة 25 يناير 2011، تقابلا في ميدان التحرير، يحوم حولها أينما ذهبت، يقلق، يقرض أظافره، إذا غابت، حذرناها أن الوقت ليس وقتَ حبٍّ، وانتفاخِ شيئها، وأن اللحظة التي نعيشها أكبر من الاهتمام بمشاكلنا الجنسية والعاطفية.
قالت سلطانة: تعرفوا أول مرة في حياتي أشوف الــ (type) اللي باحبه، الواد الأشقر.. أبو عيون زرق.. المسمسم.. ولا ينتفخ جوايا شيء!، مع إنه أول راجل في حياتي هو اللي يعجب بيَّا، موش أنا اللي أبدأ، واعمل حِيَل ومؤمرات عشان أفتح كلام.
تُكمل مسحورة: أول ما شافني.. اتسمر قدامي، فتح بقه وكلمني، اتغزل فيا بكلام عمري ما سمعته، مفتون بسماري اللي باكرهه، وشعري اللي بيقول عليه غجري ومجنون، شامة خدي، اللي كنت بافكر أشيلها حتى لو بالجراحة، خلاني عشقت نفسي.
اعترضت سيناء، وصفت أفعال سلطانة بالمراهقة، كادت أن تنشب بينهما خناقة، أنهتها لوليتا قائلة: اهدوا يا جماعة، أيام الثورة دي موش هتتكرر في حياة مصر، واحنا أول مرة نكون صناع حدث بالروعة دي
قالت سيناء:ـــ صحيح (ضاحكة): تخيلوا ويا هول ما سأقول، أنا شوفت (شريف)، ولا كأني أعرفه، وجودي في الميدان كل يوم، خلاني شبعانة حب وجنس، كأني مروية من غير أن يمسسني بشر.
غريبة، أهمس لنفسي. أنا أيضا أشعر بذلك، لمحت آدم مرارا، كأنه لا يعنيني، كيف لم يدق قلبي، كيف لم أحاول حتى السلام عليه، أشعر بالامتلاء، حينما نطوف بالكعكة الحجرية، كأني أطوف بأقدس مكان، لا أَمَلُّ من التعلُّق بالناس، الأشجار، حتى الطوب الذي نحمله، نحمي الميدان يوم معركة الجمل، كأنه ليس مجرد طوب وحجارة.
قبل أن تنتهي سلطانة من فيلم إيزاك ديسكون الجد، لم يعرض إطلاقا، طلبها إسحاق للزواج في مشهد رومانسي، دعانا جميعا إلى كافية ريش، بمجرد دخولنا، ركع على قدميه، نطق ــــــ أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قدم لها خاتما ثمينا.
قائلا: أرجوكي اتجوزيني.
انبهرنا جميعا، حسدناها ربما، تجاهلت إلحاح أمي التي تطالبني بالعودة فورا، سهرت معهن في شقة البنات للصباح، نرقص، نغني، ندخن، سلطانة واجمة، نحاول أن نفهم ما بها.
- مالك يا فقرية، افرحي يا كئيبة!
- يا بنات أنا عايزة أقول لكم سر، أنا لما باشوفه موش بيتنفخ جوايا أي شيء، موش باحس بأي حاجة.
قالت سماهر: واضح إن ما لكيش غير في الحرام!
- لا والله؛ موش مسألة حرام وحلال، فيه حاجة كدا موش مريحاني!
- زي إيه، إحنا موش مجرد صاحباتك، إحنا اخواتك، إيه اللي مضايقك؟
ـــ موش عارفة؛ فيه حاجة غامضة، موش قادرة أمسكها، بس حاسة بيها بتخنقني، يمكن القلق من الغربة، يمكن اتعلقت بيكم ومش عارفة أبعد، يمكن.
- صلِّي استخارة واللي فيه الخير يقدمه ربنا. قالت فريدة الوحيدة المحجبة بيننا.
بسخريتها التلقائية والمعتادة قالت سماهر: حتكفروا بقى، دي عمرها ما ركعتها، حتغشوا ربنا يا ولاد الكلب!
انفجرنا ضاحكين، ضحكت سلطانة، قالت سماهر ـــــ بصي يا أختي؛ أنا شايفة إن دي رحمة بينا، وبأشيائك اللي بتنتفخ، تتجوزي وتسترينا من الفضايح. نضحك
- أهو علاج لانتفاخ شيئك، بدل من الخيار. نضحك
- الخيار بقى صغير عليها، المفروض دي مرحلة (الأتَّة). نضحك
- أحيه، (أتَّة) يا ولاد الكلب، دا أنا ممكن أموت فيها. نضحك
- أيوة بقى، وتبقي (عزيزة) في فيلم (الحرام)؛ ماتت بجدر البطاطا اللي كان السبب يا ضنايا، وسلطانة ماتت بجدر (الأتة) اللي كان السبب يا ضنايا. نضحك
ليلة سفر سلطانة، صحت أمي مفزوعة تصرخ: يا سلمى بالله عليكي ما تخليها تسافر.
- سافرت يا ماما، زمانها وصلت المطار!
- كلميها، خليها ترجع، موش حاضايقها تاني، يا بنتي دي جوازة الندامة.
أحتار في اهتمام أمي المفاجئ، وإصرارها غير المبرر.
- طيب اهدي يا ماما وفهميني فيه إيه؟
- حلمت بيها يا بنتي قاعدة فوق سحابة، لابسة أبيض في أبيض، حتى وشها الأسود بقي أبيض، وجات غمامة على شكل غول، زقتها، وقعت، والأرض فتحت بقها، بلعتها في غمضة عين، قمت مفزوعة.
- خير يا ماما.
لم تقتنع أمي، ولم يكن في وسعي أي شيء لأفعله.
تُصدَم أمي من رؤية هُزال سلطانة، وهي تحتضر، همست في أذني.
فاكرة الحلم؟ حلم السحابة والغول، أهو دا تفسيره.
- لا يمنع حذر من قدر يا أمي، كله مقدر ومكتوب.
تعلقت أمي بالطفلين، تركتنا أنا وكل صديقاتنا، أخذتهما يوم العزاء، يكتشفان تحفها الثمينة، يمرحان باللعب بها.
تحفها؛ التي تخاف عليها أكثر مما تهتم بي، جعلت منها ألعابا لطفليّ سلطانة، يقلبان في فونجرافاتها الخمسة عشر، تحكي لهما قصة كل فونجراف.
- دا فونجراف الأستاذ محمد التابعي، ودا للست أسمهان، ودا بتاع فريد الأطرش، أما دا.. فكان ملك الست روزاليوسف.
تصدق أمي ادعاءات باعة الأنتيكات بطول شارع هدى شعرواي، في نسبة ما تشتريه منهم لعباقرة الفن المصري، خاصة فناني الأربعينيات والخمسينيات، أيضا عدد تليفوناتها الكثيرة، أحدها كما قال لها بائع محلات (محروس العسّال) كان تليفون الملك فاروق شخصيا، تحكي لهم تاريخ الملك، الأميرات، الثورة، حكايات شارع مظلوم كلها.
رفضت أمي بإصرار قاطع، تنفيذ وصية سلطانة؛ وهي أن أتبني طفليها رسميا، باعتباري الوحيدة التي تثق بها، كما أنها منقطعة عن أهلها منذ زمن طويل، احتد النقاش بيننا، اتهمتها بالبخل، وبأنها تخاف على الميراث أن يذهب لأطفال سلطانة، لأني لا ولن أنجب.
تحلف ـــ والله العظيم موش فلوس ولا ميراث، أنا بنفسي هاعمل لهم شهادات استثمار يصرفوا على نفسهم من أرباحها.
- أكيد حتقولي التبني حرام؟
- برضو موش دي المسألة، اقعدي كدا واستهدي بالله، إنتي ربيهم براحتك، وانا معاكي، بس سيبيهم على اسم أمهم، مسكينة يا بنتي، دول اللي طلعت بيهم من الدنيا، والذكرى الوحيدة لها.
لم أصدِّق أن كل هذه الينابيع من الحنان تفجرت في قلب أمي مرة واحدة، بمجرد موت سلطانة، اكتشفت السر؛ ليس الموت هو ما فجَّر رحمة ورِقَّة أمي، فقد تعلقت بالطفلين، يناديانها "ناناه" عادت إلى المطبخ، فقط كي تطبخ لهما طعاما صحيا، رقت معاملتها لي، أمي التي كانت تهدئني كلما استبطأتُ حَمْلِي.
كانت تقول: مستعجلة على إيه بلا نيلة، يعني همَّ اللي خلفوا خدوا إيه!
أمي التي كانت تحذرني أن يناديها أولادي المستقبليين بتيتة أو ناناه.
تقول: أنا موش باحب اكون جدة، يقولوا لي يا زوزو أحسن.
ينامان إلى جوراها في سريرها، الذي خلا لها وحدها بعد موت أبي، ترفض مشاركتي لها رغم اتساعه، تمنعني أن نستضيف الطفلين في شقة البنات، كما نسميها.
- إزاي الشمس والقمر الحلوين دول، ينامو معاكوا في شقتكم المعفنة ودخان السجاير يدمر صحتهم.
اغتنمنا الفرصة الثمينة، كي نرتاح قليلا من تحكمات أمي، ومطالبتها بطرد صديقاتي المزعجات، من وجهة نظرها، تطهير البيت من سجائرهن، يتحملنها، يقبلن يدها، يهدينها ورودا تحبها، من كشك الورد أمام مقهى الحرية، يعرفن نقطة ضعفها، كي يضمنَّ مبيتا آمنا، يستدرجنها لتقص عليهن الحكايات التي سمعنها مئات المرات، تاريخ شارع مظلوم، سرايا مظلوم باشا، فيلا معهد جوتة حاليا، سوق باب اللوق وكيف خرَّبه الرِّعاع، أصبح في منتهى القرف، على حد تعبيرها، بعدما كان أهم وأجمل مول، قبل أن يعرف العالم فكرة المول.
تأخذهن إلي البلكونة المطلة على مدخل السوق، من شارع باب اللوق.
- شايفين المدخل دا كان منقوش، مكتوب على الحيطة من فوق أنه اتبنى سنة 1912، شايفين؟
- طبعا شايفين.
يكذبن، لأن المسافة بعيدة جدا، والكتابة صارت باهتة لا تبين.
- اللي بناه يوسف أصلان قطاوي باشا، كان يهودي آه، بس ساعتها مصر ما كانش فيها فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي.
تكمل: طيب انتو تعرفوا إنه كان ضمن اللجنة اللي كتبت دستور 1923، وكان وزير مالية قد الدنيا، اتجوز من عيلة سوارس، مراته (أليس) كانت وصيفه أولى للملكة نازلي، مرات الملك فؤاد، بعد كدا وصيفة الملكة فريدة، مرات الملك فاروق، وميدان الفلكي دا كان اسمه ميدان الأزهار، وكان بيعدي منه قطر بيروح لحد حلوان.
تمصمص شفتيها: أيام ما كانت مصر حلوة، صحيح الإنجليز كانوا ولاد كلب، والخدم المصريين ما كانوش يقدروا يمشوا في شوراع وسط البلد، وممنوع علينا ندخل نادي الجزيرة.
تكمل: يا عيني، دا حتى الأمير عمر طوسون رفض الإنجليز يدوه عضوية النادي، أصله كان للجاليات الأجنبية بس، واحنا ولاد البلد محرَّم علينا، السوق ده يا بنات كنا نشتري منه أحلي شنط وجزم، الدور الأرضي اللي قدامكم بيبيع خضروات، بقالة، جزارة، لحم من كل صنف، حتى لحم الخنازير، ودور سحري تحت الأرض، فيه تلاجات، وأول مصنع لتصنيع التلج، الدور التاني محلات شنط وجزم، الدور التالت ورش التصنيع، دلوقتي ما فيش غير الدور الأرضي، من أول ما تدخلي تشمي الريحة الزفت.. أعوذ بالله، بعد ثورة يوليو 1952؛ ما نعرفش ازاي اشتراه واحد اسمه حسين عيسى، واشترى أملاك تانية، في عز الثورة اللي فككت الدايرة السنية، وكل دواير الباشاوات، حسين عيسى الباشا الجديد كوِّن دايرة.
تتصعب: يلا.. كان زمن وراح لحاله.
كانت سلطانة، رحمها الله، تتحمس كثيرا لحكايات أمي، تعدها أن تجعلها بطلة فيلمها التسجيلي القادم عن (وسط البلد)، لم تنفذ أيا من وعودها قط، تنعتها أمي بالكدابة.
تضحك: إن شاء الله، ادعي لي بس يوافقوا في المركز القومي للسينما، ما تقلقيش، وعد الحر دين عليه يا حاجة بزادة.
تنهرها أمي: اخرسي، حاجَّة في عينيكي، أنا بزادة هانم، بنت ماهر بك المنفلوطي، يا حمارة.
لا تنسى أمي أبدا أن تضيف حكاية بيت الزعيم أحمد عرابي، الذي تحول إلي خمارة.
تقول: عارفين العمارة اللي في وش بيتنا، اللي تحتها خمارة الحرية، عارفة أنكم بتقعدوا فيها يا غجر، تعترض فريدة.
تهدئها أمي: عارفة يا فريدة، إنتي مؤدبة يا حبيبتي، الباقيين قلالات الأدب حتى البنت سلمى.
نضحك من خلف ظهرها، تنجلي أمي.
- واحدة منكم تناولني سيجارة، عكَّرتوا دمي.
تضيف، وهي تستمتع بأول وثاني دخان نفس، بعد إقلاعها المتقطِّع عن التدخين .
- عارفين؟ أصل فريدة دي بنت البيت، متربية معانا.
بدأت فريدة تتوتر، خافت أن يزِلَّ لسان أمي، وتذكر أن الست بهية أمها، كانت تعمل لدينا خادمة؟
- بس هي برضه هبلة. تقول أمي بعدما لمحت اضطراب فريدة:
- موش فاهمة أن أمها كانت حبيبتي، والوحيدة اللي كنت باحكي لها أسراري.
تكمل: الحرية دي بقى، أول ما اتفتحت كانت حاجة فخمة قوي، كنت لسه ما اتولدتش، حمايا الله يرحمه، رياض بك خيرالله، حكي لنا، كان واحد من اللي حضروا الافتتاح، وبيحب القهوة دي جدا.. أكتر حتي من جروبي، اللي كان شيك برضه.
تسحرنا أمي بحكاياتها: أصل انا مولودة في العمارة دي، أبويا الله يرحمه، ماهر بك المنفلوطي، أول واحد سكن هنا، وعمارتنا (تمصمص شفتيها)، اللي كانت أحدث طراز وقتها، قبل ما يبوظوها البوابين، والسكان الجداد، بيسموهم الطبقة الجديدة، كانت أحلى عمارة في المنطقة وآخر شياكة، اتبنت سنة 1929، بنوها ورثة الخديوي إسماعيل زي ما مكتوب في العقد، ووهبوها لوزارة الاوقاف..
الأسانير اللي شايفينه على طول بايظ دا، كان تحفة، والأجانب يعملوا جولات سياحية يتفرجوا على جمال العمارة، أصل الخديوي إسماعيل لما عمل القاهرة بتاعته أصدر فرمان إن أي عمارة ما تقلش تكلفة بناءها عن عشر تلاف جنيه دهب بندقي، وقبَّة تشرح القلب، وأوضة غسيل، دلوقتي بيأجروها لكل من هب ودب، اتحولت لمزبلة، بعدنا بشهر سكنت عيلة أبو سلمى، جد سلمى كان بيشتغل موظف كبير في وزارة الأوقاف، تخيلوا مين كان زميله في المكتب، ها، أقول لكم أنا.. سلمان بك نجيب، (نشهق نحن)؛ كان سكرتير وزير الأوقاف، قبل ما يتجه للتمثيل.
الله يرحمه رياض بك، خلف ولد وحيد، حافط بك، جوزي، أكبر مني بعشر سنين، سافر يتعلم في فرنسا سنة 1948، بعد ما خلصت الحرب العالمية التانية، أنا كان عندي 8 سنين، رجع قبل حريق القاهرة بأسبوع، الناس مرعوبة، بيصرخوا مش عارفين الحريقة الجاية فين، اتجمع كل سكان العمارة في شقة واحدة، كنت خايفة وباعيط،، جِه حافظ أفندي إداني شيكولاته، أحلى شيكولاته أكلتها في حياتي، اتبسطت قوي، وبدل الدموع ضحكت، قدر أبوه يعينه في وزارة الأوقاف قبل الثورة بشهرين، صحيح رياض بك راجل أفضاله على ناس كتير، وقعد مرة واتنين مع عبد الناصر والسادات، همَّ برضه من زباين قهوة الحرية، بس ربنا ستر، كان ممكن يقرفوه، ويرفضوا تعيين ابنه، ويقول لك أصله من العهد البائد، النغمة اللي كانت موضة أيامها.
أبويا رفض يجوزني صغيرة، خلصت مدرسة السنية، وأمي فتحت لي مدرسة في البيت، تعلمني أطبخ واغسل وامسح، خطيبي حافظ افندي يقول لهم: هاجيب لها خدامين.
أمي راسها وألف سيف ما حد يعلمني غيرها، بعدين عرفت إن كان عندها حق.
قالت: مين يصدق اللي حصل، ومين يضمن اللي جاي، لا بقي فيه بهوات ولا باشوات، واحتمال يلغوا الخدامين.
عشرين سنة بالتمام والكمال كان عمري، حافظ اتولد سنة 1930، فرق السن كان لصالحي، أنا طايشة وهو عاقل ورزين، حنين ومحترم، كان فيه ارتياح واحترام ومعزَّة، الحب الكبير بينا ظهر بعد الجواز والعشرة، مش زي حب اليومين دول تيك أواي، عشنا مع بعض بما يرضي الله، لما مات أبوه رياض خيرالله، وأمه روحية هانم رستم، بقيت الشقة لينا، عشت فيها أجمل أيام حياتي، خلفت البنتين، سلمى وسهى، وحاموت فيها، لما ماتت أمي قرنفلة هانم، وابويا ماهر بك المنفلوطي، أخدنا الشقة التانية، اللي إنتم محتلينها، منك ليها.
- احكي لنا بقى عن قهوة الحرية، تلح سلطانة: نفسي أعمل فيلم عن قهاوي وسط البلد.
تسرح أمي: يا سلام، دي كانت قهوة الباشوات، عارفين إن فريد الأطرش صور فيها فيلم.
تحاول التذكر: تقريبا فيلم (تعالى سلم)، كان طالع بدور قهوجي.
تكمل: سبع سنين والقهوة بتخسر، زي ما حكى حمايا رياض بك، نسيت أقول لكم أنها اتفتحت سنة 1936، كان فيها صالتين بلياردو، دول اختفوا مع بداية السبعنيات، عشان ما عليهاش طلب كتير، يوم الجمعة رياض بك يعزم روحية هانم على الفطار فيها، يقدموا لهم براد شاي صيني فخم، وفناجين تحفة ماركة روميو وجوليت، سكريَّة ولبَّانة، فيها نص كيلو لبن بحاله، ونص ليمونة، كل دا كان بـ 15 قرش بس، مفروشة سجاجيد حمرا موجود زيها في قصر عابدين، ومشَّاية (عربية) زي اللي عندي دي عليها الطلبات، ومفارش مطرزة بأشكال جميلة، والجرسونات يونانيين، بيلبسوا (يونيفورم)، في الشتا بدلة سودا، وفي الصيف بدلة بيضا، خدي بالك يا بنت يا سلطانة.
تهز سلطانة رأسها: معاكي يا طنط.
تكتب سلطانة في نوته صغيرة لا تفارقها.
- مين بقى اللي كانوا بيقعدوا علي قهوة الحرية؛ محمد عبدالمطلب، تحية كاريوكا، حسن الإمام، فطين عبد الوهاب، الشيخ زكريا أحمد، وتوأم روحه شاعر الشعب بيرم التونسي، كمان أحمد رمزي ورشدي أباظة وشكري سرحان وزكريا الحجاوي، ولعِّيبة الكرة؛ عبد الكريم صقر ومختار التتش.
ما زالت تكمل: كمان الدكتور محمود الحفني، أبو الدكتورة رتيبة، وطبعا جمال عبدالناصر والسادات، وكل الظباط الأحرار، كانوا بيجتمعوا فيها.
تطفئ عقب سيجارتها: أما بقى سي محمد عبدالوهاب، وأحمد بك شوقي، وحافظ إبراهيم، كانو بيقعدوا في محل (صولت)، كان..
تقاطعها سلطانة: اللي هو فين دا، يعني مكانه فين دلوقتي؟
- أقول لك يا ستي، عارفة إنتي كافيه ريش، فيه ممر كدا آخره القهوة المعفنة اللي بتقعدوا عليها، اسمهااا...
أسعف ذاكرة أمي: زهرة البستان يا ماما.
- أيوووة زهرة البستان، أهو أول الممر على اليمين كافيه ريش بتاعة الراجل الغِلِس اللي اسمه مجدي عبدالملاك، وعلى الشمال (صولت) اللي بقي دلوقتي مجموعة محلات ملابس، أما فريد الأطرش بقى كان بيقعد في جروبي العظيم، حمايا قال لي إن خبر وفاة أخته أسمهان جا له في تليفون جروبي، ولما عرف أغمي عليه.
بلهفة تسأل سلطانة: صحيح يا طنط كافية ريش فيه مطبعة تحت الأرض؛ كان بينطبع عليها منشورات ثورة 1919؟
- بيقولوا يا بنتي؛ أنا ما شوفتهاش بعنيَّا، هو الراجل مجدي دا غلس آه، بس بيحب المكان وعامل له تاريخ، وبيقول إن الست أم كلثوم، كانت بتغني فيه، وقبلها صالح عبد الحي، زكي مراد أبو ليلى مراد، والست روزاليوسف عرضت مسرحيات فيها.
- بس حمايا رياض بك خير الله قال لي إن ريش دي اللي أسسها، رجل أعمال نمساوي اسمه بيرنارد ستينبرج عام 1908، على أنقاض أحد قصور محمد علي باشا، وبعدين باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري ريسن، وهو اللي سمَّى المقهى باسم (ريش)، ليتشابه مع أشهر مقاهي باريس، ودا موجود لحد دلوقتي في فرنسا، وعلى المقهى دا أنا شفت لما كنت صغيرة الأستاذ نجيب محفوظ، والراجل الوسيم العصبي دا اللي اسمه يوسف إدريس، وصلاح جاهين.
مازال مخزن حكايات أمي يسكب المزيد: أما عمارة البدرواي، اللي تحتها قهوة الندوة الثقافية، كانت ساكنة فيها المطربة رجاء عبده، اللي مثلت مع محمد عبدالوهاب فيلم ممنوع الحب.. عارفينها؟
- طبعا يا طنط. تقول سلطانة
تكمل أمي: وعلى الندوة الثقافية كانت سهى وسلمى وهمَّ صغيرين يشوفوا الفنان أحمد زكي والفنان يحيى الفخراني في شبابهم، قبل ما يشتهروا كده، وكبرت سلمى وكانت بتحضر ندوة لكاتب.. اسمه إيه يا سلمى اللي عمل رواية عن عمارة يعقوبيان؟.
أجبت: الدكتور علاء الأسواني يا ماما.
*******
تعرفتُ إلى سلطانة أواخر عام 2004، وجدتها تحوم حول عمارتنا، تلمس بلاط السلالم الرخام، تمرر يدها برقة حول حديد الأسانسير.
سالتها: بتدوري على حاجة؟
- حضرتك ساكنة هنا؟
- أيوة
- ممكن أتفرج على شقتك؟
- نعم؟.. قلتُ باستنكار!
أخرجت من محفظتها بطاقة شخصية وكارنيه. مدتهما إليَّ.
- حضرتك أنا مخرجة أفلام تسجيلية، باعمل فيلم عن وسط البلد، عمارتكم هوستني، والله حابص بسرعة وأمشي.
نظرتُ في البطاقة والكارنيه، صعدت معي في الأسانسير، شهقت من اتساع الشقة وعلو السقف، جمال النجف، روعة تحف وأنتيكات أمي، شمعدانات عتيقة، ساعات حائط تخطَّى عمرها المائة عام، تماثيل برونز ضخمة.
غضبت أمي: موش تقولي لي إن معاكي ضيوف، أغيَّر هدوم البيت؟
سألت بعصبية: مين دي؟
بصوت خفيض سألتها: اسمك ايه؟
- سلطانة؛.. بهمس أجابت
- صاحبتي سلطانة يا ماما.
ذهبت أعد لها شاي، عدت، وجدتها تحكي مع أمي قصة حياتها.
- أنا أصلا من المنصورة.
رفعت أمي حاجبها و(زغرت) لها غير مصدقة.
- تقصدي من المنصورة اللي في السودان.
بأسى؛ ضحكت سلطانة: أبدا والله، من المنصورة بتاعة مصر.
عقبت أمي: وليه موش بيضا وعيونك زرقا، وشعرك فاتح زي بنات المنصورة.
تربعت سلطانة على الفوتيه: أمي واخواتي الأربعة زي ما بتقولي كدا، أنا أخدت جينات جدتي لأبويا، وصدق عليا المثل.. "العرق يمد لسابع جد".
جاملتها أمي: والنبي سمارك حلو، محمص شوية بس جميل، وشعرك الأكرت دا موضة، وغمازات خدك مداريَّة الشامة الفظيعة.
بكت سلطانة؛ شكرا لذوقك يا طنط، أنا متعودة على التهزيء، في بلدنا كانوا بيقولوا عليا "بوز الإخص".. إخواتي اللي اصغر مني؛ أول ما يكملوا 15 سنة العرسان يقفوا على الأبواب طابور، إلا أنا، قلت با بنت يا سلطانة ركزي في دراستك أحسن، بلا جواز بلا هم، اتخرجت من كلية العلوم قسم كيميا، اتعينت في المركز القومي للبحوث، وقررت أحقق حلمي وأدرس السينما اللي باحبها.
قاطعتها: تدرسي كيميا وتسيبيها عشان السيما؟
- للناس فيما يعشقون مذاهب يا أستاذة.
أصرت أمي أن تتناول سلطانة معنا الغداء والعشاء، طالت جلستها، تشكو لها أمي أمراضها المتعددة، صارت مستشارتها العلاجية، باتت ليلتها معنا، صارت من أهل الدار.
*****
أصبح الطفلان أقرب لأمي من حبل الوريد، لماذا الأطفال الأقرب دائما للأجداد؟ هل يجمعهم عجز الطفولة وعجز الشيخوخة، ربما! كيف صارت أمي جدة لغريبين؟ هل إحساس الجدات ينبثق هكذا بلا مقدمات؟ بمجرد وجود من يقول لها (يا تيته)؟
تقول أمي: دا زي إحساس أول شكشكة سرسوب لبن يسري في صدر الأم، تحس كأن صدرها في بُق رضيع، لما سابه، بيفضل أثر امتصاص اللبن محسوس، دا شعور الجدة، شكشكة في القلب، تخليه يسيل رأفة ورحمة، والله ما عارفة دا حصل ازاي، بس حصل!.
أقبل رأسها: دا من حظ العيال اليتامى دول يا أمي.
تدعو لي؛ ربنا يكرمك يا سلمى، واشوف عيالك.
يستوقفني الدعاء، أنظر إليها باستغراب، تتهرب من مواجهة نظراتي، لماذا الآن يا أمي؟ لماذا بعد أن بلغت سن يأسي؟ لم يعد يجدي دعاؤك! لماذا بخلتِ به طوال عشرين عاما؟ لم تذكريه مرة واحدة!
ـــ خلاص يا ماما ما عادش ينفع.
ــــ سافري برة، إعملي حَقْن، أطفال أنابيب، أي حاجة.
خفت أن تكون أمي خرفت، أو أصابها زهايمر.
ــــ روحي عند أختك في كندا، جوزها دكتور شاطر، وبيعمل من الفسيخ شربات.
ــــ يا ماما ما عادش ينفع لا فسيخ ولا شربات.
ــــ إنتي طول عمرك كدا كسولة، وما عندكيش إرادة.
هبات متتالية تنقذ أمي من خناقة قد أطيح فيها بما تبقى بيننا
تنسى أمي أنها أول من كسرت إرادتي، تحالفت مع أختي سهى وزوجها، تآمروا جميعا لتزويجي من دكتور أمير حسب الله، باعتباره (قيمة وسيما) كما قالوا، أخبروني بتشفٍّ أن آدم قد تزوج.
- أبوه الصعيدي القفل موش ح يوافق على جوزاه منك، حتى لو كنتي آخر بنت على وجه الأرض، وانتي داخلة على التلاتين، يعني عنستي.
تضع أمي لمستها الأخيرة: الحقي خلِّفي لك عيِّل، وبعدين لو ما ارتحتيش اتطلقي.
كأني منومة، وجدتني زوجة لهذا الرجل اللزج، يؤمن بالتعددية، ليس فقط في الزواج، لكن في الجنس أيضا، خجلت أن أخبر أمي بانحلال زوجي، دكتور أمراض النساء المشهور.
يقول: عارفة؛ أنا اخترت التخصص دا بالذات ليه؟؛ علشان باحب النسوان، كل أساتذتي نصحوني بالتخصص في جراحة القلب، كان ممكن أبقي زي مجدي يعقوب.
لا تمر أية امرأة أمامه، حتى لو كانت في سن أمه، إلا ويستعرض أمامها خفة دمه، مستحيل أن يمنع نفسه من لمسها في أي مكان تطوله يده، أحيانا أخاف أن أتركه مع أمي وحدهما، تعبت من الخناق، الاعتراض، إن كرامتي تئن تحت وطأة أفعاله الدنيئة، أن يرحمني من النظرات المستهجنة التي يرشقني بها الجميع بسبب أفعاله المُشينة.
- خلِّفي لي عيال كتير أنشغل بيهم، ومش ح اعاكس النسوان تاني، بدل ما انتي عاملة زي البيت الوقف كدا، ههههههه، آه صحيح نسيت إن بيتكم وقف، تقريبا نضح عليكي.
بدأ زوجي رحلة علاجي لتحقيق حلم الإنجاب، خمس سنوات يحقنني كل شهر بانتظام، لا ينسى أبدا، حتى لو سافر، يعود قبل موعد حقنة تنشيط البويضات، ولا فائدة، حريص على عدم معرفتي نوع الدواء.
نبهتني سلطانة أنَّ تورُّم جسمي، الغثيان، الصداع، انقطاع الدورة بالشهور ليس دليل حمل كما أتوهم، وأن النزيف الغزير الذي يصيبني ليس إجهاضا كما أفهمني أمير، تشك سلطانة في صحة علاج زوجي، نصحتني بالبحث عن طبيب آخر.
قررت التخلص من حصاره العلاجي، لم أخبر أطباء دائرة وسط البلد أنني زوجة الدكتور أمير حسب الله، لا أدري كيف عرف، أقام الدنيا، ضربني، منع عني الأدوية.
قال: عاقر، ما فيش فايدة فيكي، احمدي ربنا إني مستحمل برودك، يا باردة.
ظللت أشعر بأني امرأة منبوذة طوال سنوات زواجي، يمر طيف آدم برأسي؛ يقشعر بدني، كيف أكون باردة وآدم يقول: تلسعني سخونتك يا سلمى، بتجيبي الحرارة دي منين؟
بعيدا عن عيون أمير ومراقبته، أخذتني فريدة إلى المقطم، قابلنا صديقها الطبيب أمين عبدالدايم، بعد الكشف والتحاليل والأشعة، سألني: بقالك كام سنة بتاخدي موانع حمل؟
أكملَ: برشام ولا حقن.
صعقتني المفاجأة، لم أعرف كيف أجيب، كالمجنونة خرجت، لن يمنعني شيء عن قتل هذا الأمير الحقير، كيف واتتني هذه الجرأة والقوة، كسرت كل شبر في عيادته،اسأله بحسرة: عملت فيا كده ليه؟
يقول بينما يحاول تفادي المقذوفات التي تطير في كل اتجاه: عشان انتي نكدية وباردة، عمري ما حبيتك يا بخيلة، أيه اللي يربطني بخلفة عيال من ست هي موش انثي اصلا.
هرب من يدي بأعجوبة، أبلغ عني البوليس، قُبِضَ علي ومعي فريدة بتهمة الاعتداء على ممتلكات خاصة، عرفت أمي الخبر من الجيران، اختفي أمير، قضينا ليلة داخل تخشيبة قسم قصر النيل.
تعرفت إلي أدهم الصغير، فايزة، مريم، سماهر، في هذه الليلة العجيبة، رأف ظابط النبطشية بحالنا كسيدات، لم يجبرنا على دخول التخشيبة والاختلاط بالمجرمين، سمعت صوت زقزقة.
- فريدة، أنا سامعة صوت حمام!
اشارت برأسها إلي شاب رفيع وطويل جدا، يحمل على كتفه قفصا به خمس حمامات.
أكدت فريدة: دا حرامي فراخ وحمام بالمرة!
لم أمنع نفسي من الابتسام، اقتربت منا سيدة عجوز: وإنتي يا حلوة عملتي إيه؟
- ضربت جوزي.
تراجعت المرأة للخلف قليلا، سألتها: وانتي يا حاجة إيه اللي جابك هنا؟
أشارت إلى فتاة لم تكمل السابعة عشر، كل ما فيها بائس، تحمل طفلا أقرب للميت منه للنائم، تحاول إفاقته، إرضاعه بعد مداراة ثديها بطرحة سوداء، تضع حلمتها في فمه، لكنه غارق في النوم أو الموت.
- اتهموا بنت بنتي بالشغل في الدعارة! وقال إيه، أنا اللي باسرَّحها!
رمتها الفتاة بنظرة يطق منها شررٌ، لم تهتم.
- انتو والنبي حلوين كدا ونضاف، عارفين لو اشتغلتوا معايا نكسب دهب.
جاء صوت حفيدتها مكسورا: اتقي الله، كفاية بهدلة في بنات الناس!
مصمصت شفتيها: هو أنا يعني كفرت، ولا ضربت حد على إيده!
- بس يا (ألمظ)، يشخط فيها أمين الشرطة الذي يتابع الحوار من بعيد:
- لمي نفسك يا وليه وابعدي عنهم، أحسن لك.
تحركت المرأة بظهرها، خبطت في ذلك الأنيق، الذي يرتدي بدلة كاملة ماركة أرماني، عرفنا أن الإنتربول قبض علية لمحاولاته قتل زوجته الهولندية، أُعجِب كثيرا بسماهر، وعدها في حالة خروجه، ونجاته من سجن لا يعرف مكانه أو مداه، سيعود ويتزوجها، ضاحكة قالت: كويس؛ المرة الجاية أنا أقتلك عشان تبقى بصرة.
يضحك الأنيق، يخرج سجائر أجنبية، يوزعها علينا، حتى حرامي الفراخ جلس مبهورا يضحك، دخلت سماهر القسم وهي تغني، تتعامل مع الجميع بود، تتحدث كأنها بطلة في عرض مسرحي.
- والله يا جماعة أنا مبسوطة شوية، خرجت من النادي اليوناني، رقصت في الشارع، فيها حاجة دي!؟.. قال عطلت المرور، طيب هو فين المرور؟ أنا مالي، الناس نزلت من العربيات تتفرج! هو دا جزائي إني بابسط الشعب!
يخفي أمين الشرطة ضحكته؛ حتى لا يضيع وقاره أمام جبروت خفة دم سماهر.
اتجهت نحوي: طيب قولي لي إنتي يا قطة يا كيوت، أنا بذمتك غلطانة؟!
تكاد تقع، أسندها، أجلسها بجانبي: لا يا حبيبتي.. إنتي فُلَّة.
أطلب من قهوجي بوفيه القسم، فنجان قهوة سادة حتى تفيق.
سماهر فنانة تشكيلية، محبطة، أقامت معرضا واحدا في حياتها، لم تبع أية لوحة، قررت بعدها الاكتفاء بوظيفتها كمعيدة، لم تحصل على أية ترقية منذ عشر سنوات.
تقول: كلام فارغ، ح اقعد أقدم أبحاث في مواضيع مكررة، الحياة حلوة، وبتخلص بسرعة، بس من غير بوليس.
سماهر تحمل روح فنانة متمردة، ابنة سفير مصر في بريطانيا، كرهت حياة البروتوكول، صرامة أبيها، أرستقراطية أمها المتقمصة برجوازية مريم فخر الدين، التي تحمل كثيرا من ملامحها، ما زالت متمسكة بارتداء فساتين بأناقة الخمسينيات والستينات، حتى عقود اللؤلؤ، لا تستخدم غيرها زينة.
أول من تركت شعرها على طريقة موضة (الكيرلي)، اعترض أبوها بشدة على هذا الشعر المنكوش كما يراه.
- دا موضة يا بابا.
- دا جنان، قرف، من إمتى القبح بقي موضة؟
- من زمان؛ بس انت موش واخد بالك يا حاج.
هربت سماهر إلى فرنسا، تنفق على نفسها من عائد رسم بورتريهات فورية للسائحين في شارع الشانزليزيه، أكملت تعليمها في جامعة باريس، بمساعدة خفيَّة من أمها، تزوجت (إليكس)، فرنسي يدَّعي أنه من جذور مصرية، والحقيقة كما قالت لنا مريم حافظة التاريخ أن الجد رستم مملوك أهداه الشيخ خليل البكري لنابليون الذي اصطفاه ليكون خادمه الخاص.
قال لها إن جده الأول لأمه رستم، جاء مع نابليون بونابرت، كان خادمه الأمين، جُنَّت به جوزفين زوجة نابليون، يجلس أمامها بالساعات؛ ترسمه في لوحات بملابس المماليك، و ايضا وهو يعتلي حصانه الذي كان يتقدم موكب الإمبراطور نابليون بونابرت.
يذكر أن لجده مذكرات سينشرها يوما ما، تزوج ابنة خادمة جوزفين، بعد موت نابليون، خلع الملابس المملوكية، ارتدى البدلة الفرنسية، لم يعد لمصر أبدا بعدها، حدثها عن شغفه بالقاهرة والأهرامات التي زارها عدة مرات، اكتشفت سماهر أن زوجها الوسيم يعمل (جلوجلو) يقدم جسده لإمتاع النساء الراغبات في متعة مدفوعة الثمن، لم تطق الحياة معه، بعد عودتها؛ عادلت شهادتها بمثيلتها في مصر، توسط أبوها، عُيِّنَتْ معيدة في كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان.
مازالت سماهر تضحك، تلقي نكاتًا بعضها وقحة، والكثير منها سياسية.
- مرة واحد أجنبي ركب تاكسي، سأل السواق عن التلت صور اللي معلقهم قدامه، قاله الأول دا الزعيم جمال عبدالناصر اللي قال "ارفع رأسك يا أخي"، التاني دا الرئيس السادات بطل الحرب والسلام، التالت بقى الرئيس اللي ابنه شريكي في التاكسي.
تقول: مرة واحد طلب مراته وكان عليها الدورة، قالت له ولا تزعل، اطلع عند جارتي فوق وهي ح تعمل معاك الواجب، خلص ونزل مبسوط جدا، سألته عملت إيه؟.. قال لها تمام، بس أخدت مني 200 جنيه، الولية هبدت على صدرها: بنت الكلب، لما جوزها بينزل عندي موش باخد منه حاجة.
مرة دبانة وقعت في إزازة ويسكي طلعت تقول.. إوعي الصقر.
تضحك على ما تقول قبل أن يضحك الآخرون.
- طيب سمعتوا النكتة دي.. محشش بيولع عود كبريت، صاحبه قال له يمكن بايظ؟ رد عليه:ـ بايظ ازاي وأنا لسه مولع بيه من شوية.
أحاول أن أوقفها بلا فائدة.
- سألوا محشش ما هو الحب، قال.. عبارة عن حرفين، حمار يكذب وبقرة بتصدق. تضيف بجدية حلَّت عليها فجأة: صحيح.. حتى المحشش فهمها، وأنا لا.
أعتذر نيابة عنها للأمين الذي يبدي تفهما، جاء إنقاذنا جميعا على يد أدهم الصغير المحامي، داخلا علينا خلف فتاة نحيلة شديدة السمرة، تشبه تمثال نفرتيتي، كأنها هربت توا من متحف برلين، خلفها رجل يدَّعي أنه ثري عربي، فشل أدهم في إيقاف محضر السكر والعربدة لفايزة والمرافق لها، اكتشفنا أنه مصري يعيش في الكويت، ينتحل صفة أمير من عائلة (الصبَّاح)، أصر الظابط على تحويلنا جميعا إلي النيابة صباحا، اكتمل الجمع بدخول (مريم)، تم القبض عليها حسب البلاغ الذي قدمه طليقها، متهما إياها بترك دينها المسيحي، وإعلان إسلامها.
سألت سماهر: ودي كمان بقيت تهمة؟!
رد الظابط: موش ناقصين مشاكل، البلد موش مستحملة فتنة طائفية، عشان أي واحدة عايزة تتطلق من جوزها تغير دينها.
ردت مريم: بس والمسيح الحي، أنا موش عايزة أغير ديني؟
الظابط: عندنا بلاغ، وطلب تغيير دين للأزهر متقدم باسمك!
- دا بلاغ كيدي، طليقي متغاظ مني عشان طلقته بالمحكمة.
أخذ أدهم يد فايزة ، أجلسها بيني وبين سماهر، أوصانا بها، فقط حتى الصباح، وعدَنا أنه سيكون محاميًا عنَّا جميعا، حتى حرامي الحمام، سعيد بصحبتنا!.
أعطيته عنوان بيتنا ورقم تليفون أمي وأم فريدة كي يطمئنهن علينا. سأل فايزة إذا كانت تريد شيئا غير السجائر، طلبت أي غطاء لمرافقها الذي انتابته رعشة برد منذ دخل القسم.
يقول أدهم فيما بعد، إنها برقتها ورأفتها على هذا الرجل، شقت صدره وأخذت قلبه رهينة، لم يقف انبهاره عند ملامحها النفرتيتية، ولكنه وقع فريسة عشقها.
سألت سماهر فايزة : (المُوزّ) دا خطيبك؟
هزت رأسها أن لا، قالت إنها لم تره إلا هنا، لكنها شعرب به عندما تتبعها من الجريون، حتى تم القبض عليهما بتهمة السكر والعربدة، بعدما قرر مرافقها الغبي تمثيل دور شجيع السيما، وشتم الحكومة والرئيس مبارك وابنه جمال.
بعد مشقة عثرت أمي على أمير حسب الله الزفت، عقدت معه تسوية مالية سخية جدا، قبضها فورا، نظير تنازله عن البلاغ ضدي ومعي فريدة، انتظرنا مصير سماهر وفايزة ومريم، العجوز القوادة وحفيدتها، خرجنا جميعا بالضمان الشخصي، ناديت أمل الشابة البائسة بعيدا عن جدتها المترقبة، أخرجت كل ما في شنطة يدي، ومثلي فعلت سماهر ومريم وفريدة، مبلغ كبير منحناه هدية لأمل، إضافة لرقم تليفوني وعنواني، إذا قررت التوبة والهروب من جدتها، مع وعد بأننا سنساعدها جميعا.
بربطة المعلم، توجهنا إلى زهرة البستان، عزمنا أدهم الصغير على إفطار فول وطعمية وبطاطس من عند أم أميرة، عرفنا على عمدة وسط البلد، الكاتب (مكاوي سعيد)، الذي تبادل قفشات ساخرة مع الدكتورة سماهر، صارا أعز صديقين.
عرضت علينا سماهر الذهاب إلى بيتها في الزمالك، وفايزة إلى بيتها في المنيرة، لكنني قدتهم جميعا إلي بيتنا في 1 شارع مظلوم.
قالت مريم: يا بنت المحظوظة ساكنة في وسط البلد، لا، وكمان عمارتكم آخر شياكة.
فرَدَت فريدة أصابعها الخمسة في وجه مريم: "قل أعوذ برب الفلق". أكملت سماهر: وخمسة في عينيها باسم الصليب. ضحكنا.
سألتها فايزة : وانتي يا مريم ساكنة فين؟
تصعبت مريم على حالها: ياعيني عليَّ، أنا يا اخواتي مش ساكنة، اتطلقت من جوزي من أسبوع، وعلشان يسرق عفشي، قدم فيَّ البلاغ، المسلمين موش بيرضوا يسكنوني عندهم عشان مسيحية، والمسحيين بيرفضوني عشان مطلقة.
بتعاطف حقيقي سألت فريدة: أمَّال عايشة ازاي؟
ردت مريم: شوية عند (راجية)، وبعض الأيام عند (لوليتا).
- عند إيه؟.. سألنا في صوت واحد.
قالت بصوت خفيض يصل لحد الكسوف: لوليتا صاحبتي، اسمها ليلي، بيدلعوها بلوليتا.
انضمت صديقها لوليتا لباقي شلتنا، أصبحتا أقرب إلينا من مريم ذاتها.
وصلنا شقتنا في الدور الرابع صعودا علي السلم؛ حيث العطل الدائم للأسانسير، شهقت مريم: خمس أوض بتعملوا بيهم إيه؟
اغتاظت فريدة: وبعدين في الست (القرَّارَة) دي؟
سماهر بعصبية: إهدي يا حبيبتي أحسن من قرَّك الدَّكر يقوم زلزال، والعمارة تقع، اذكري المسيح في قلبك والنبي.
كل من تجد لها مكانا مناسبا تنام فيه، صحونا ليلا على صوت أمي وأدهم يلعبان طاولة في البلكونة.
كنت أكبرهن، انضمت إلينا سيناء بحكم صداقتها الفريدة بسماهر، و(فتنة) ابنة عم فريدة، في عمرها تقريبا، أصغر مني بخمسة عشر عاما.
جاءتنا فريدة عام 2000 تبكي، تلطم، تقول من بين دموعها: ضاعت الغلبانة، بنت عمي ضاعت.
اتهمها صاحب محل الموبايلات الذي تعمل فيه بسرقة البضاعة.
تحلف أنها بريئة: دخل شابين، راكبين موتوسكيل، ضربوني، كتفوني، سرقوا الموبايلات.
لم يصدق الرجل، استخدم كل سلطاته، للضغط عليها وتعذيبها، كي تعترف، ألبسها ضابط قسم عابدين (بنطلونًا) وعلَّقها في الفلكة، أصبح رأسها تحت، ورجلاها فوق، ضربها على قدميها بعنف، أفقدها الوعي، ونزَّت عروق قدميها دما، وانتفاخا يهدد بغرغرينة، كادت تعرضها للبتر، نقلناها إلى مستشفى المنيرة، حيث يعمل أبوها ممرضًا هناك، كلمت زملائي في قسم الحوادث بمجلة روزاليوسف، صوروها، كتبوا عنها، ومع ذكر الأحرف الأولى من اسم الضابط، الذي دفع لها تعويضا عشرة آلاف جنيه، كان مبلغا محترما عام 2000 مصحوبا باعتذار، اكتفت الإدارة بنقله إلي أسيوط.
تخيَّلتْ أن هذه التجربة الصعبة ستقضي على نفسيَّة فتنة إلي الأبد، نصحتُ أمَّها الشرهة؛ كما يبدو من حجمها المهول ولهفتها علي فلوس التعويض، وأباها ذا النظرات الوقحة على أجسادنا، متجاهلا إصابة ابنته، بضرورة علاجها عند دكتور نفسي، مصمصت الأم شفتيها: إحنا متعودين على أكتر من كدا، موش (بَسْكُوت) زيكم.
بدلا من أن تهزم صعوبةُ التجرِبة فتنة، صنعت منها شخصية أخرى، صهرت عظامها.
تقول فريدة: البنت بقيت قوية ومفترية، هي اللي بتدير البيت، وبتشخط في أبوها المبصبصاتي بتاع النسوان، كانت أمهم بتخاف على بناتها الخمسة من أبوهم، بتنام معاهم في أوضة مقفولة بالمفتاح من جوة، أحسن يسهيها ويعتدي على أي بنت، دلوقتي بقيت هي الوحيدة اللي بتعرف توقفه عند حده، تشخط فيه تنططه، وبتشتمه بوقاحة.
تقول له بقرف: احترم نفسك، أحسن ودين النبي أخزق لك عينك، ما تشوفش غير السواد قدامك.
- بقيت شاطرة قوي يا سلمى، أخدت كورسات في (الميكب أرتست) و(الاستايلست)، بتشتغل في بيوتي سنتر، وبتستورد أدوات تجميل ماركات عالمية، عملت عمليات شفط ونفخ ونحت، بدأت كمان تاخد كورسات في اللغة الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، بقي عندها شهوة الفلوس، والجمال، وحلم الهجرة من البلد كلها.
هبَّة ساحرة
هبَّة شفيقة، حنونة، تعيد إليَّ السخونة، التي كانت تتلبسني حين أختبئ في حضن آدم، هبَّة ليست ككل الهبَّات المؤلمة، كأنها تحثُّني على الصعود إلى السطح، حيث غرفة القبة، تلك التي شهدت طفولتنا؛ أنا وآدم، آدم الديب أبو النعمان القناوي، ولدنا في العام نفسه 1970، نسكن الدور الرابع، يترك كل الأطفال ليلعب معي، إذ كانت أمي تمنعني من اللعب في الشارع، باعتباري بنت أكابر، حفيدة ماهر بك المنفلوطي، وأبي حافظ بك رياض خير الله، وكيل وزارة الأوقاف؛ الوحيد الذي رفض عرض الرئيس جمال عبد الناصر بتولي الوزارة، بعد نكسة 1967، اعتذر، فضَّل الاحتفاظ بوظيفته التي أخلص لها.
نذهب للمدرسة معًا، يجمعنا فصل واحد، نفتسم السندوتشات، والشيكولاته، بعد الثانوية العامة افترقنا قليلا، ذهبت أنا إلى كلية الإعلام، وحقق هو حلم إبيه تاجر الخضروات والفواكه، ملك سوق روض الفرج، فدخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. يحلم الحاج (الديب) بابنه سفيرا، ولا أقل من ذلك.
كقدر صارم، أنزل الحاج ديب حكمه القاطع على قصة حبنا، أنا وآدم، لم يكتفِ بالرفض، انتقل بعائلته من العمارة، ووسط البلد، القاهرة كلها، عرفنا أنه اشترى فيلا في مدينة (الشيخ زايد)، خصص فيها دورا بكامله لزواج سيادة السفير آدم، الذكر الوحيد على أربع بنات، يراعيهن ويكمل رسالة الأب بينهن.
استسلم آدم لقضاء أبيه، هرب مني، ألمحه أحيانا، لا أعرف كيف يشعر بوجودي، قبل أن أقترب منه بخطوات، يكون قد فر، يختفي في لمح البصر.
أتذكر بعد طلاقي، خايلني طيفه، تاقت روحي إلى هواء كنا نتنفسه معًا، رؤية رسوماته المهجورة على جدران السطح وحجرة القُبَّة، أتلفتها مع كل نوبة غضب منه، خاصة رسوماته لوجهي.
صعدت السلالم، اقتربت من مدخلها، فتح شخص ما باب الغرفة، فزعت، وجدته أمامي، حاول المرور، فردت ذراعي على اتساعهما أسد طريق المرور أمامه.
- مش هتعدِّي، ح ارمي نفسي من السطوح، لو مشيت.
نظر إلي بابتسامة خبيثه: طيب تعالي موش ح امشي، ارتميت في حضنه، رحت في بكاء حار، لم ننتبهِ إلا ونحن عاريان نحتضن بعضنا.
- إحلف إنك موش ح تهرب تاني.
- موش ح اهرب، بس اعمل إيه في الحصار.
- يوم واحد في الأسبوع يكفيني، حتى موش لازم تبات، تعالى نقضي النهار مع بعض، وترجع للحصار بالليل، عادي.
كتبنا عقد زواجنا عند محامٍ شرعي، كي لا يعرف أبوه وزوجته، حذرني من الإنجاب، عدت لوسائل منع الحمل بإرادتي، خمس سنوات، ثم هرب آدم مرة أخرى.
مات أبوه، صارحه وهو على فراش الموت أنه يعرف قصة زواجنا، أخبره بشكوك زوجته التي تشعر برائحة امرأة أخرى تفوح من جسده، طلب منه أن يكتفي بما حصل عليه من متعة، وأنه كرجل يتفهم ذلك، ولا بد أن يتخلص مني، كي يتفرغ لأولاده وزوجته وأخواتِه، إدارة أعمال ثروة أبيه المتسعة، بعدما فشل في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، كما كان يحلم الحاج (الديب).
بعد وفاة والده بأيام.. صارحني آدم بمشكلته مع زوجته التي تشك في علاقتنا، وعده لأبيه بإنهاء ما بيننا، قبَّلتُه، طلبت منه تنفيذ ما وعد، قضينا يوما جميلا دافئا، ناعما، وافقت على طلاقنا، وألا يكلف نفسه مشقة تسليمي ورقة النهاية، سأذهب وحدي إلى المحامي لأستلم ورقتي، أتمعن فيما قضت به عليَّ من حرمان.
ستة أشهر مرَّت على طلاقي من آدم، لم ألمحه حتى صدفة، لم أصدق أن مشاعري التي تموء بمجرد ذكر اسمه، قد أصبحت فاترة، لا مبالية.
في الميدان؛ طوال الـ 18 يوما، كنت أراه معظم الأحيان، ننظر لبعضنا من بعيد، لم أفكر في الاقتراب، كنت مكتفية بحالة الزخم التي تملأ الميدان وبجمال مصر وهي تتغير، هكذا تخيلت.
هبَّة خارجيَّة
طافت بي هبة لم أشعر بحرارتها، وإن أغرقني عرقها.
تلقيت اتصالا أخيرا من إسحاق ديفيد ديكسون، أبي شمس وقمر، انزعجتْ أمي، تخيَّلتْ أنه سيأخذهما منها.
اعتذر كثيرا لموت سلطانة، قال إنه لم يكن يعرف أنه مصاب بالإيدز، ونقله لها بدون علمه، وقد أكد له الأطباء بعد التحاليل والفحوصات اللازمة، خلو الطفلين من المرض القاتل، فقد ولدا قبل إصابتهما.
أوضح إسحاق أن سلطانة أبعدته عنها بسبب اكتئاب الحمل، رفضت أن يلمسها، شعرت بالذنب لعدم قدرتها على تلبية احتياجاته الجنسية، وأنها هي التي نصحته بالبحث عن أصدقائه القدامى.
يواصل في مكالمة طويلة: كنت نسيتهم، غيرت سلطانة حياتي، لم أخدعها، اعترفت لها من أول لحظة أنني (Bisexual)، (متعدد الهوية الجنسية)، لكن حبها، شبقها غيَّر كيميا جسمي، ليلة ملعونة دمرتني، قضت علينا، قابلت رفيقي القديم، استعدنا ذكريات أيام متعتنا، لم أقاوم إغراءه لي، مارسنا الجنس، خدعني، الحقيقة انتقم مني لتركي له، وزواجي من سلطانة، لم أعلم أنه مصاب بالإيدز، نقله لي، عادت بعد الولادة أكثر جمالا ورغبة، ندمت على علاقتي العابرة برفيقي القديم، كنت ألتهم شبقها كل يوم، تستقبلني بحرارة، تعوضني عن شهور الحمل، كان من الممكن العلاج، أو أن تعيش فترة أطول، جاء التشخيص الأول سرطان رحم، خضعت للعلاج، تدهورت حالتها بسرعة، أثناء الفحوصات اكتشفنا إصابتها بالإيدز.
انهارت حياتنا بمجرد معرفة الكارثة، لم تطلب الطلاق، كنت على استعداد أن أعوضها بأي شيء تريده، فقط؛ طلبت العودة مع الطفلين إلى مصر.
قالت "تراب بلدي أحن على أولادي من قسوتكم".
نفَّذتُ لها ما أرادت، sorry، أقسم إني لم أقصد إيذاءها، يبكي: أحببتها أكتر من أمي وأبي وجدي، أنتِ لا تعرفين فداحة ما خسرت، لا تستطيعين تخيل ماذا كانت تعني لي سلطانة.
يكمل: لن تصدقي، كانت تخفف عني، لم تغضب، أو تلُمني، ابتسمت بأسى.
قالت "سرطان، إيدز، موش فارقة، كل الطرق تؤدي إلي الموت".
يبكي: تكفيرا عن ذنبي، كرهت الحياة، رفضت العلاج، أنا الآن أُحتضَر، أنتظر مصيري، أريد أن ألحق بسلطانة، ربما تقابلنا في العالم الآخر.
طلب اسمي رباعي ليضع في البنك أموالا، تكفي تربية أولاده وتزيد، أرسل عن طريق السفارة أوراق الجنسية الأمريكية للطفلين، في حالة اضطرراهما للعودة.
ودَّعَ إسحاق طفليه بمكالمة حزينة، صار الطفلان يتيمي الأب والأم.
قالت فايزة : فلوسهم تسعدهم، بلا هَمّ، عملنا إيه بأمهات وأبهات فُقَرَا وأغلب من الغلب!
- يا ساتر عليكي.. دا انتي فقرية، الأم والأب ما يتعوضوش حتى لو عضم في قفة. قالت مريم
لا يكف الشجار والنقار بين مريم وفايزة أبدا، لم تنسَ فايزة أول مشاجرة بينهما، حينما نادها أدهم الصغير فايزة باسم (نفرتيتي)، لم تلتفت، إنما التفتت مريم قائلة: نعم.
اعتذر أدهم: معلهش؛ أقصد فايزة ؟
باستنكار: فايزة ؟ ودي إيه علاقتها بنفرتيتي؟
تحفزت فايزة للرد، منعهتا سماهر، بقفشة ساخرة: وانتي زعلانة ليه، هي نفرتتيتي بنت خالتك واحنا ح نشوِّه سمعتها؟، انفجرنا في الضحك.
*****
تصر أمي على استضافة عائلات أصدقائي على الإفطار في رمضان، وأحيانا السحور، في السهرة بين الإفطار والسحور، تخرج طاولتها الثمينة من المقتنيات المخبأه بعناية، تُفضِّل لعب (عشرتين) مع أدهم الصغير في البلكونة بعيدا عن ضجيجنا الذي لا ينتهي، تحكي له أمي عن أخلاق زمان، وأنه يملك روحا عميقة ندر وجودها في هذا الزمن.
تشاغبه ساخرة: أنت ليه اسمك (الصغير)، يعني انت أخو نجاة الصغيرة؟
- حلوة القفشة يا (بزادة هانم)، بس للأسف ما لناش علاقة بالفنانة نجاة.
يضحك، يفسر لها سر تسميته بالصغير:
- أصل معظم رجالة العيلة اسمهم أدهم، وإن سلسالنا يمد لحد أدهم الشرقاوي، فبقي عندنا (أداهم) كتير كبار، و(أداهم) كتير صغيرين، أنا بقى من الصغيرين.
تسأله بصوت خافت: إنت مستحمل الولية مراتك دي ازاي، وليه بتتناقر معاك قدام الناس؟
يخجل أدهم، يستجمع روحه المرحه، بصوت خفيض يقول لأمي:
ــــ أصلها غيرانة منك، عارفة إني باحبك، ولو كنتي أصغر شوية كنت طلقتها واتجوزتك.
تطلق أمي ضحكات راضية: طلقها واجوزك أحسن منها، عارف يا واد يا صغير إنت، زمان كانت الست تحترم جوزها قدام الناس، مهما كانوا متخانقين، وفي بيتهم إن شالله يولعوا في بعض، إلعب جاتك وكسة، دا أنتو جيل خايب.
هبَّة قاسية
هبة تكاد تُوقف قلبي؛ أحدث المعلومات الطبية أن هذه الهبَّات في حالة التعامل الخطأ معها قد تسبب سرعة دقات القلب، وخللًا في وظائفه، فيجب التنفس ببطء وعمق، وعدم التنفس من الفم.
مثل النصائح التي كانت تجيء لنا في الميدان لتجنب الغازات التي تخنقنا ولم نعرف مصدرها، يوم الجمعة 28 يناير، بعدما انسحبت الشرطة، ودخلنا الميدان. في هذا اليوم خفت على سيناء المتهوِّرة، تجمَّعنا في شارع هدى شعرواي، انطلقنا بمجرد أن أنهى إمام المسجد صلاة الجمعة، الشرطة تطوِّق كل الشوراع، هدَّدَنا ظابط كبير بالضرب في المليان، إذا لم نتفرق، جرينا جميعا ماعدا سيناء، دخلت معه في مناقشة حامية، لم نتخيل جرأتها على تجاوز الخوف من عساكر مسلحين، ومدافع تتجه إلى صدورنا.
- الشارع بتاعنا ومش ح نمشي.
وآدي قعدة، جلست متربعة على الأرض، أمامها أرتال من المصفَّحات والأمن المركزي، جرى الجميع ماعداها، أراقب المشهد من وقفتي أمام محل انتيكات "زينهم" بجوار مكتبة اربيسك، أصرخ عليها: تعالي يا مجنونة.
نامت في عرض الطريق، وضعت رجلا فوق رجل، إمعانا في التحدي، خوفا عليها اضطررت للعودة، جلست بجوراها، عاد المتفرقون، انضموا لنا، راقبنا رجلا عجوزا، شعره أبيض، يعتذر للظابط الكبير، عما فعلته ابنته، سألتها: مين الراجل دا؟
- دا لا مؤاخذة أبويا، مناضل قديم، بس دلوقتي خايف زي كل الآباء، عادي.
لم تطل جلسة الوئام بيننا وبين الشرطة، هربنا كلٌّ في طريق، ضاعت منِّي، لمحت أباها يختبىء في بيت بجوار المسجد.
أبكي: سيناء ضاعت مني يا عمو.
من بين شهقات الكُحَّة التي انتابته، وضيق التنفس جراء استنشاق الغازات التي تملأ سماء كل شارع في وسط البلد، نظر متفحصا جسدي.
- إبعدي عني يا حلوة، انتي سكسي وأنا على شعرة.
أضحك؟، أم أبكي؟، أم أضربه؟، صارت نكتة نتندر بها عندما نتذكر هذا اليوم العظيم، تضحك بشدة، تقول:
- عادي دا أبويا، مناضل في الثورة ومع النسوان في الوقت ذاته.
يوم السبت 29 يناير 2011، قابلت الشاعر الكبير سيد حجاب، والمخرج السينمائي محمد كامل القليوبي، والجميل داوود عبد السيد يجلس معنا على الرصيف، قابلت فُتنة، لم أعرفها؛ تغيَّرت الطفلة المتورمة من الضرب في قسم عابدين.
ذكَّرتني فريدة: إنتي موش فاكرة فتنة بنت عمي؟
- فاكراها.. هي فين؟
بلَّمتْ فُتنة، مدَّت فتاة يدها، تشبه هيفاء وهبي، لولا شعر أسود طويل، وطبع الحسن، وعيون واسعة عسلية بفعل (اللينسز)، ووجه خمري اللون.
- أنا فتنة.
نفَضتُ رأسي غير مصدقة.
ضَحِكَتْ: دي حكاية طويلة يا أستاذة، هاعزمك على قهوة في أي حتة واحكي لك. قالت فتنة
يوم الأحد 30 يناير 2011، أثناء طوافنا بالكعكة الحجرية، سمعت صوتا أعتقد أنني أعرفه.
- الكنتاكي الحلو، حلو يا كنتاكي، اللي عايز الكنتاكي.
بدافع الفضول تحركت أنا وفريدة وفتنة، لحقتنا سماهر.
- بكام الكنتاكي بقى؟
رفعت رأسها: الأستاذة سلمى يا إبراهيم؛ هي دي الست اللي حكيت لك عنها.
- أمل! يخرب بيتك، بتعملي إيه؟
- بابيع سندوتشات (مِشّ).. الساندوتش بنص جنيه، عشان بس الوسخين اللي بيقولوا إننا بناكل كنتاكي، سميت المِشّ كنتاكي، ودا جوزي إبراهيم.
- وفين جدتك وابنك؟. سألنا
- واد يا بدر.. تعالى. شوفي أهو كبر وبقي حلو، ستي المفترية كانت بتسقيه دوا كحة وتحط له منوم في الزبادي، وعاملة حنينة على ابني، الحمد لله عرفت أهرب منها، وبالفلوس اللي اديتوها لي، أجَّرت أوضة على السطوح في السيدة زينب وقابلت سي إبراهيم، جدع ابن حلال، حكيت له كل حاجة، وسترني، بيبيع شاي وقهوة.
قال إبراهيم بترحاب ولاد البلد: تشربوا إيه يا هوانم على حسابي؟
قالت سماهر بألاطة: عايزة كابتشينو؟
- شابتشينو إيه دا يا أستاذة؟
ضحكنا على طيبة إبراهيم، أخرجت فريدة من شنطنتها، جراب الحاوي كما نسميها، نسكافيه ثلاثة في واحد، وضع لنا إبراهيم ماءً مغليًّا، رفض أخذ أي نقود: خيركم سابق يا هوانم، إحنا موجودين في الخدمة أي وقت.
******
تحطَّم زواج أدهم وفايزة بعد الثورة، وكأنها كانت الشعلة التي أحرقت خمس سنوات زواج، يصفهم أدهم بالجحيم، وتتتغزل فايزة بأنها أسكنته الجنة.. "وفَّرت له المأوى والسكن والأمان، ووهبته طفلةً لم يحلم بإنجاب مثلها"، تعايره أمام الجميع بتفانيها في حبه، تتهمه إذا طوَّقها بذراعيه أمامنا بأنه يعمل مسرحية، تقول: الرومانسية دي موش حنية، دي طريقة (للشقط) عشان البنات تُعجب بيه.
- بنات مين، إحنا أصحابكم انتم الاتنين.
تشير إلى فُتنة: دي مثلا، ما نزِّلش عينه من عليها من أول ما قعدت.
ترتبك فُتنة، يتكهرب الجو.
تضيف فايزة بقرف: ودي جبتوها من أي داهية، بقيتوا عاملين زي الفراخ تجيبوا الخَرَا في رجليكم.
قبل أن نتفوه بأي كلمة، لملمتْ فُتنة أشياءها، نظرت بتحدٍّ مرعبٍ لفايزة التي تراجعت مذعورة.
- أنا خرا؟
وضعتْ يدها في وسطها، أعادت شعرها الجميل إلى الوراء.
- بصي يا بتاعة انتي، أنا موش ح أرد عليكي، وحقي باعرف آخده، أنا يا ست.. وانتي أصلا ست اشهر، موش بانسى واقول ربنا يسامحك، وربنا يجيب لي حقي، تؤ تؤ.. أنا بقى الخرا، حاعرف ازاي أخلِّي كل أيامك أزفت من بعضها، وأشربك كل يوم خرا وأنا سايبة إيدي.
تركت لنا ذهولا وانبهارا بقوة لم نرها في أيٍّ منَّا من قبل، حتى فايزة وأدهم صمتا تماما، لم يتحدث أحدٌ بعدَها.
خدشتْ سماهر الصمت: يا بنت اللذينة، مين يا جماعة البنت المفترية دي؟.
تفرَّقنا، لم ننسَ أبدا نظرة التحدي في عيون فتنة التي اختفت مدة طويلة بعدها لدرجة كدنا ننساها.
*****
تقول سيناء: أدهم بيحمل روح فنان، فيلسوف، وفايزة واقعية، عايزة كل حاجة، الحب، التقدير، الفلوس، السفر، وما عندهاش حاجة تقدمها عشان تحصل على كل دا، أدهم وفايزة روحين متنافرين، لا يختلطان، زي الزيت والمية.
لم تكن الغيرة الشديدة لفايزة هي السبب في أول انكسار في جدار زواجهم، ربما طبيعتها المتحّدِّيَة التي ترفض الهزيمة، مستحيل أن تنام إذا أغلق التليفون في وجهها لأي سبب، تظل تطلبه، بلا ملل أو صبر على عودته، فقط كي تشتمه وتغلق التليفون في وجهه، حينها من الممكن أن تهدأ، تعد كل ما تقدمه له جميل يجب عليه رده أضعافا مضاعفة. ترفع أمامه سيف التهديد: لو خنتني ح اخونك، وح اعرَّفك، واقتلك بالبطيء.
أصبح القلق جزءًا أساسيًّا من تكوين أدهم، الرجل الذي تقول عنه أمي، يملك روح صوفي، تتعمد فايزة أن يسمع أدهم همس مكالمتها التليفونية الليليَّة، لم يعد يقربها، إذا حاول فشل، لم يصدق أنه فقد رجولته ببساطة هكذا، جُنَّت فايزة، فسَّرت عدم قدرته بكثرة عشيقاته اللاتي يستنزفنه جنسيا، دخل أدهم في نوبة اكتئاب خفيَّة، أنقذتْه فُتنة، أغدقت عليه حبًّا واهتماما، تفهَّم وتشجَّيع على المقاومة بعدما توعدت فايزة بالانتقام.
انقطع الحبل القصير الذي كان بين أدهم وفايزة، جن جنونه بعدما كسرت فايزة تمثال نفرتيتي الذي يعتز به كثيرا، يعتبره أيقونته، عالمه الذي يحاول أن يكتشف غموضه، لم يصدق أنها تغار من مجرد تمثال لملكة رحلت عن العالم منذ آلاف السنين.
صرخت في وجهه: كفاية.. أنا موش نفرتيتي.. ومش تمثال.
بغِلٍّ، حطَّمت التمثال الذي صنعه لها أدهم على غرار رأس نفرتيتي، وقف حائرا، مصدوما، يرى كل حياته تتهشم، ليس فقط كل أثاث البيت الذي كونه بعرقه ودموعه كما يقول: كنت بامشي مئات الكيلو مترات عشان أوفر تمن الموصلات، باعيش على الشاي والفول والطعمية شهور، عشان اشتري لها هدية تفرحها، أو قطعة أثاث في البيت، استلفت من طوب الأرض عشان أأجر لها شقة في مكان نضيف.
تبكي فايزة : تردد من بين دموعها: أنا الحياة، شكرا للست نفرتيتي اللي جذبتك ليَّا، بس صعب أعيش على إني هي بجلالة قدرها.
يحاول أن يوضح، يشرح لها وجهة نظره، لا تمنحه أية فرصة كي ينطق، ينزوي في ركنٍ صغير ضيق، يطول ارتباكه، وعدم قدرته على لملمة أفكاره، أعذاره، شرح سوء فهمها لمشاعره.
يكتب على صفحته على الفيس بوك.. "تشبه حياتي هذا المكان الضيق الذي بالكاد يحتوي جسدي، أنكمش مثل عصفور اصطاده شخص غادر، كل ما حولي مهشم مثل قلبي الذي علَّم الناس الفرح والحب، لكنه انكسر رغما عني.
لم تعتذر فايزة ، مازالت تهذي: عرفت أن نفرتيتك سيدة النعمة، صاحبة التهليل، حلوة الحب، سيدة جميع النساء، حفظت كل تاريخها، مللت من شرح أنها أجمل وأعمق من كل اللي اكتشفوه عنها، وإن قلبك الموجوع بيها حاسس إن باقي أسرارها إنت اللي ح تكتشفها، طيب موش لما تكتشف الست اللي في حياتك الأول، أنا بنت بسيطة، عاملني على إني أنا؛ بكل ميزاتي وعيوبي!
يندهش أدهم من منطق فايزة ، يضرب كفا بكف، يسألني، معقولة يا سلمى، أنا كنت غبي للدرجة دي، تخيلي أنا عشت سنين مع ست المفروض أنها زوجتي، روح واحدة في جسدين، وأكتشف بعد كل دا إني ما أعرفهاش، شفتها كائن غريب عني .
دخلت فايزة في نوبة جنون، تسكر حتى تسقط، تبحث عن شبيه أدهم بين الرجال، تجلس متيمة أمام من يحمل لمحة منه، رفضت أن ترسل له ابنتهما، منعته من رؤيتها مطلقا.
*****
أبلغتني فريدة أن فتنة تريد رقم تليفوني ومقابلتي، تعمل فريدة ممرضة في مستشفى المنيرة، كانت أمها الست بهية أقرب مُساعِداتِنا في البيت لقلبِ أمي، مات زوجها، ترمَّلت تربي ابنتها الوحيدة.
بسبب سمعة عمها التي تسبب لها الكثير من المشاكل في المستشفيات الحكومية، وسعيا وراء الأجر الضخم. استقالت من عملها في مستشفى المنيرة، عملت في مستشفى استثماري كبير.
- عارفة يا سلمى، هو عمي بس أنا باخاف منه، عينه وحشة، طول الوقت بيبص على جسمي بشكل غريب، شفت فتنة مرة بتشتمه، كانت بتغيَّر هدومها، دخل فجأة، اتغطت بسرعة، وقف يبص على جسمها، اتغاظت منه، طردته برة الأوضة، وقالت له: احترم نفسك أحسن لك، أقسم بالله أبيِّتك في المشرحة، ها، عارف المشرحة، ولا أفسر، وتبقى فضيحتك بجلاجل.
- خاف، نزل جري، طبعا أنا عارفة اللي بيحصل، بس عملت نفسي ولا سمعت حاجة.
- إيه اللي بيحصل في المشرحة؟
- يوووووه كتيييرررر، من أول التعدِّي جنسيا على المتوفيات حديثا، لبيع الجثث اللي ما لهاش أهل يسألوا عليها.
- بس انا معجبة بقريبتك دي يا فريدة، عندها إرادة وثبات انفعالي قوي جدا.
- فُتنة دي قادرة، أنا عرفت إن خالها كان بياخدها الأقصر وأسوان، تقول تعاويذ غريبة على المكان المشكوك وجود آثار فيه وبتفتح الكنوز، ومرة انضرب عليها رصاص، وربنا أنقذها بأعجوبة، وبتروح تقعد في أماكن فخمة قوي في الزمالك، مع الزباين، ترقص وتشرب، وتاخد فلوس، رافعة شعار (احضن وبوس وابعد عن...). سكتت فريدة
- عن إيه؟
ترد ضاحكة: إنتي فاهمة، أهو.. عند سلطانة بيتنفخ، وعند بنت عمي بيبعدوا عنه.
- إزاي بقيت كدا؟ صعبانة عليا!
فريدة: أمها غولة فلوس، واخواتها صغيرين؛ اربعة في رقبتها، وهي بنت جدعة ما اتخلِّتش عنهم، جوِّزت اتنين، واحدة منهم اتطلقت، دي بقى حكاية، بنت هادية وبريئة جدا، ما كملتش 25 سنة، جوزها الأولاني سواق تاكسي، ليلة الدخلة طلع ما بيعرفش، اكتشفت إنه مدمن ترامادول، وبطول فترة الإدمان، باظ، ما بقاش نافع، بعد سنة طلبت الطلاق.
تضحك: همّ يضحَّك، اكتشفت إنه بيعاكس نسوان، ومعلق مع واحدة بيقول لها إنتي روحي وانتي حياتي، استحملت كتير رزالة أهله اللي بيعايروها بقلة الخلفة، من الغيظ نطقت، وهي أصلا طيبة، قالت لهم: موش لما يبقى ابنكم راجل.. أخلِّف، طبعا شتموها، أنكروا خيبة ابنهم راحت فتنة طيّنت عيشتهم، طلقتها وأخدت كل حاجتها، بعد العِدَّة اتجوزها فرارجي من المنيرة، كان بينام معاها عشر مرات في اليوم، لدرجة إنها أغمي عليها، ولا اهتم، كمِّل وهي قاطعة النفس، ضربها لأنها ضعيفة ومش مستحملاه، جريت تعيط في الشارع بقميص النوم، رفض يطلقها بعد أسبوع جواز بالعافية، فتنة رفعت عليه مسدس، قالت له: ح اقتلك لو مطلقتهاش.
ردوا له المهر والشبكة، حتى أزايز البارفان الفاضية أخدها المعفن، رجعت تستنَّى يمكن يتعدل بختها المايل.
طلبت فتنة مقابلتي في (لابسترو)، المواجهة لعمارة أنور وجدي المطعم وليس الكافيه، يملكه الفنان زكي فطين عبدالوهاب، أصرت أنها من ستدفع ثمن الغداء الغالي بالنسبة لها، أو هكذا توهمت.
جاءت في منتهى الأناقة، تفوح منها رائحة جميلة، تأكَّدتُ أنها (شانيل5) الأصلية، أو حرصت هي على تعريفي بذلك، عندما أخرجت الزجاجة من شنطة ماركة ديور، وضعت نقاط منها على عروق رسغها، شمتها باستمتاع، مكياج زادها سحرا، بهدوء ورقي تكلمت: بصي يا أستاذة.
ضحكت: دا أنتي اللي 100 أستاذة.
ابتسمت:ــــــ شوفي حضرتك.. أنا باحبك واحترمك، عارفة إن مدام فايزة صاحبتك، وأكيد أنا لم أحصل على شرف صداقتك لحد دلوقتي، بس عارفة إني حتى لو عدوِّتك وقلت لك سر هتحفظيه في بير، صحيح عمري 28 سنة، بس شفت كتير، حكايات ولا أفلام السينما، الدنيا طحنتني، بس زي ما بتقولوا.. الضربة حتى لو جرحت تقوِّي، أنا بقى جروحي كتير، وقِوِّتي أكتر.
يقطع استرسالها جرس تليفون مُلِحّ، بهمس تنهي المكالمة:
- حاضر يا حبيبي.. أخلَّص واكلمك.
تستعيد وضع جسدها المفرود:
- مدام فايزة ما تخصنيش، بس أنا اتجوزت أدهم.
- إيه؟ إمتى؟ إزاي؟ ليه؟
- إهدي يا أستاذة. برزانة تقول فتنة،.. مالك اتخضيتي كده ليه، أكيد حضرتك عارفة إنه طلقها من 6 شهور، وأكيد برضه حضرتك عارفة المشاكل اللي بينهم، وازاي كانت بتأذيه، نغصت عليه حياته، أما أنا فهو حياتي، هارجعه الفنان والنحات العظيم، طيب حضرتك تعرفي إنه شاعر كبير، زي ما بيقولوا.. شيطان الشعر راكبه ودلدل رجليه.
لم أفق من الذهول، تركت الأكل وطلبت قهوة بسرعة، تكمل فتنة وهي تأكل بشياكة وتأنٍّ: أنا موش شايفه أي سبب لانزعاجك، كمِّلي أكلك وانبسطي، يا ريت تخففي عن نفسك، موش كل حاجة تاخديها على قلبك، لو سمحتي لي يعني، ممكن أدي حضرتك كورس مكثف في اليوجا، والضبط الانفعالي قبل ما أسافر أنا وأدهم.
أشعر أن المكان يدور بي: تسافروا؟ ليه؟ فين؟ إمتى؟
- بالهدوء ذاته: ليه؛ علشان نبعد عن المشاكل، هو خايف، أنا موش باخاف، فين؛ رايحين أوروبا، لما نستقر على بلد أكيد كلكم ح تعرفوا، إمتى؛ لما نستلم الشنجن.
- وبنته؟ بنت أدهم، ح يتصرف معاها ازاي، البنت متعلقة بيه!
- ما فيش مشكلة. قالت فتنة
أكملتْ: بعد ما نستقر، لو عايزة تيجي معانا أهلا وسهلا، لو موش عايزة براحتها، تفضل مع أمها، وكل مصاريفها ح توصل لها وأكتر كمان.
أحاول ظبط أعصابي: إنتي مين؟
ضحكة راقية تطلقها فُتنة، ترعش يد الجرسون الذي يصب لي القهوة، تدرك تأثيرها، تضحك أكثر، تندلق القهوة، يسحبها مرتبكا، تزيد ضحكتها يسمعها كل زبائن المطعم.
- أنا بنت اتولدت في أقدم وأفقر بيت في السيدة زينب، بيت الكلاب ما ترضاش تعيش فيه، أبويا راجل، بصي هو صعب أقول عليه راجل، أكيد فريدة حكت لك، أمي طيبة، حنينة، بتخاف علينا وتحمينا، اتغيرت 180 درجة، زي ما بتقولوا، أول ما شافت العشر تلاف جنيه، التعويض عن ضربي، إهانتي وكسرة نفسي، بقيت غولة فلوس، عمري 17 سنة، موش بس جسمي اللي بينزف، روحي وكل حاجة فيَّ ضايعة، الدنيا سودة، موش لاقيه خرم إبرة أنفد منه، كنت في المستشفى، نمت وانا باقول يا رب خدني، عايزة أموت، حلمت إني مُت فعلا، جسمي بارد، فاقد الحياة، شفت واحدة تانية، طالعة مني، شبهي بس أحلى، أجمل، أقوى، زي شخصية (زينة) كدا مع (هيركليز)، ركبتْ حصان حلو قوي، وفضلت تجري، وأنا شايفاها مهما بعدت عن عيني، بتشاور لي، بتقول لي تعالي، صحيت، صوت الحصان في ودني، طلبت من الدكتور يخرجني، بالعافية أخدت فلوس من أمي، بصراحة كنت أول مرة أزعق فيها، فهمتها إن الفلوس اللي كابساها في صدرها دي تَمَنِي، ولازم آخد منها، تفتكري لما أخرج وانا لسه رجليَّ وارمة وبتنز صديد، أروح فين؟
- لدكتور نفساني. أجبت
ضحكتْ، ابتعد الجرسون عن مجلسنا.
- sorry، بس إنتي من غير زعل، بتضحكيني قوي.
شغوفه بحل ألغاز هذه الشخصية، أسمع بانبهار دون أن أقاطعها.
أنهت ضحكتها: رحت أركب حصان.
- إيه؟ حصان وانتي في الحالة دي؟
- آه، وكل ما رجلي توجعني أجري بالحصان أكتر، كأني باتدرب على الألم اللي كان في حياتي زي أنفاسي، رجعت البيت شخصية تانية، قررت إن فُتنة القديمة ماتت، دفنتها بإيدي، اتولدت واحدة جديدة، كنت باكل الدنيا بأسناني، اشتغلت مساعدة في كوافير، وبعدين اتعلمت الباديكير والمانكير، والشعر، البشرة، اللي أكسبه آخد بيه كورسات، أقرا الفنجان للزباين، اكتشفت إني أقدر أحدد مكان آثار، كأن الأرض بتتفتح لي، بتهمس لي أنا لوحدي بأسرارها، سافرت أسوان، الأقصر، المنيا، بني سويف، انضرب عليَّ نار، اتبهدلت تاني، أمي عايزة فلوس، إخواتي محتاجين ياكلوا ويتعلموا، غيَّرنا البيت، جبنا شقة أحسن في المنيرة، وبعدين عابدين، ضعفت، خفت، شفت الموت بعنيَّا، لما الكنوز اللي تحت الأرض بتطلع، الشركا بيطمعوا، أكلوا نصيبي، سرقت حقي، الرصاصة عدت من بين شعري، جريت يوم بحاله، استخبيت في كوخ من البوص في عز البرد ليل بطوله، رجعت معايا فلوس كتير، هربنا للشيخ زايد، بلَّغت عن شركائي، اتقبض عليهم، اتعلِّمت لغات كتيرة، سبت لأمي واخواتي فلوس تكفيهم 100 سنة جاية، وهابدأ حياتي على نضيف، هاخد حبيبي وأسافر.
- ليه؟ اشمعني أدهم، إنتي صغيرة وحلوة ومليون راجل يتمناكي؟ انتقاما من فايزة ؟، أسألها بحيرة.
- يمكن كان في الأول، تقول بهدوء ورزانة:
- فاكرة حضرتك الليلة اللي مدام فايزة شتمتني فيها، ليلة ما تتنسيش أعتقد، كنت مبسوطة بصحبتكم، أخيرا دخلت العالم اللي كانت بتحكي لي فريدة بنت عمي عنه، كنت فرحانة بإنك ح تبقي صاحبتي، حبيتك من قبل ما أشوفك؛ حكاوي فريدة عن جدعنتك، وروحك الحلوة، واللي عملتيه معايا من غير ما تعرفيني.
ح تصدقيني لو قلت لك إن أنا ما أخدتش بالي من أدهم طول القعدة، بس بمجرد ما اتهمتني فايزة بَصّيت للراجل اللي بتهزأه، بصراحة صعب عليَّ، شفته عجوز، قليل الحيلة، مغلوب على أمره، قارنت بينه وبين الرجالة اللي بيترموا تحت رجلي، يتمنوا رضايا، أكيد هو أقل بكتير من أتفه واحد فيهم.
لولا غباء فايزة ، وإهانتها ما كنتش آخد بالي حتى إنه موجود، بس هي استفزتني، طلعت طاقة التحدي اللي جوايا، تاني يوم رحت مكتبه، معايا عقود الفيلا بتاعتي في الشيخ زايد عشان يسجلها لي، لمدة شهر ؛ كل يوم أجيب له زباين وقضايا، اكتشفت إنه محامي شاطر، وفنان، رقيق وطيب، حنين ومقهور، كل دي صفات حلوة عند راجل لو اهتم بنفسه ومستقبله ح يبقى هايل، سدد ديونه، كان فرحان وممتن جدا، بصيت في عنيه، قلت له تتجوزني؟.. شالني من على الأرض، نزلنا جري على المأذون، عارفة أنا اتجوزته ليه، رغم إني كان ممكن أخليه يتعلَّق بيَّا، وانتقم من فايزة وبعد كدا أرميه من طريقي، عشان اكتشفت إن هوَّ دا الراجل الأمان بالنسبة لي، على قد إيدي، قابل للتطور والتغير، ودي شغلتي بقى، ح اغيره، أو تحديدا أنا فعلا غيرته؛ بقي أدهم تاني غير اللي تعرفوه.
قبل أن تودِّعَني استدركتْ: آه يا أستاذة، عايزة أقول لك إنه ما بقاش اسمه أدهم الصغير، بقى أدهم الكبير، الكبير قوي، باااااااي.
لن أستطيع أن أحكي لأيٍّ من صديقاتي، أتخبط في خطواتي، ساهمة وقفت أمام أمي، لا أعرف كيف أُخفِي عنها، وأخاف أن أحكي لها.
- مالك؛ نازل عليكي سهم الله؟
حكيت لها بالتفصيل، بعدما وعدتني بحفظ السر، زغردت أمي التي لا تجيد فعل ذلك.
- يا اختي بركة، فايزة دي كئيبة، قال فايزة قال دي لازم يسموها خاسرة، شوفتي ازاي يا سلمى قالت أدهم كبير قوي، تصدقي فرحت له والنبي، هو موكوس، بس غلبان، أهو ربنا يعوضه خير.
سافرت فتنة وأدهم إلى اليونان، كمحطة أولى عملت مدربة رقص شرقي، تقول فريدة المندهشة من الخبر: بنت سوسة وجوَّانية، كانت معايا ولا جابت سيرة، قادرة هي وأمها.
بعد سنة نشرا صورا على الفيس بوك من سويسرا، تحمل فُتنة طفلًا جميلًا، يحتضنها أدهم الذي تغير كثيرا، أصبح وسيما، حلق لحيته وشاربه، صبغ شعيراته القليلة البيضاء، يرتدي هو وفتنة والطفل شورت وتي شيرت بالألوان نفسها.
نقلنا فايزة للمستشفى بعد محاولة انتحار فاشلة، بمجرد قراءتها عنوان ديوان أدهم.. (فتنة تشعل أضواء روحي)، وتغير اسمه ليصبح أدهم الكبير،
راحت تبكي، تصرخ، بلعت شريط كامل من دواء (أماريل) المخصص لمرضى ارتفاع السكر في الدم، فأصيبت بهبوط حاد، كاد أن يوردها الموت.
نمنعها من الكلام، تبكي وتئن: يعني أنا اللي كنت مضلمة أضواء روحه؟ مين البنت التافهة دي اللي تقدر تاخد مكاني في قلبه؟ إزاي ينسى إني نفرتيتي حبيبته؟، إزاي قِدِر يشطب من مخه كل ذكرياتنا؟ أنا ح اتجنن؟
لا نملك إجابة على أسألتها المعقدة، ننصحها بنسيانه، بالاهتمام بحياتها، ورعاية ابنتها التي يبدو أنها تدخل في حالة توحد، تنفر من الجميع، لا تتكلم تقريبا، تسأل أمها: أنا عطشانة.. أشرب ولا لا، أنام ولا أعمل إيه؟.
لا تستطيع اتخاذ قرار في أي صنف طعام تأكل، أخاف على الطفلة من انشغال أمها بوهم استعادة زوجها الضائع.
يرفض أدهم العودة وإقامة حفل توقيع لديوانه في معرض الكتاب، يقول عبر رسائله لي على الماسينجر، موش عايز مشاكل، أنا موش باكره فايزة، أنا باكره أدهم الضعيف اللي كنته على إيديها.
أحاول أن أنَبِّه أدهم إلى حالة ابنته التي تتدهور بمرور الوقت، ندم فايزة، ورغبتها في إصلاح أخطائها، وإذا كان من الممكن أن يقيم معها علاقة مصالحة ووئام، يرفض، يكتب في محادثته معي علي الماسينجر
"لم أعرف الفرق بين الحياة والضياع إلا بفُتنة، ليس كافيًا أن أجد الفتاة التي تشبه أحلامي أو أوهامي، ليس كافيًا أن يحلم قلبي بالرضا دون أن يرى بشاعة الواقع الذي حاولت كثيرا أن أجمِّله، أضيف إليه صورا مبهرة، أتغاضى عن بعثرة كرامتي، هل تتخيَّلي أنني عرفت بخيانة فايزة في أول شهور زواجنا، كنت غبي، لم اسألها عن علاقتها بالرجل الذي كان بصحبتها ليلة القبض عليها، فاكرة هو ده اللي خانتني معاه، عرفت وسكت، لماذا فعلت ذلك؟، هل أنا جبان إلى هذا الحد؟ هل كنت متعلقا بها لدرجة الكذب على نفسي؟، ربما كتبت قصتي رواية فيما بعد، لكني الآن، اليوم، الساعة، شخص آخر، رجل ذو سطوة، رغم قوة شخصية فُتنة التي أرى أنها فِتنة لعن الله من وأدها، لكني أجد ذاتي، الاحتواء، التشجيع، الفخر بي، تفجير طاقتي التي لم أدرك أنا شخصيا أنني أملكها.
هبَّة شرسة
تتناسب مع شراسة ذنبي، ألمي ووجعي، لم أصدق أن يرحل سريعا تاركا لي الإحساس بذنب لم أقترفْه، إنما اقترفه عقلي الباطن، منذ أن تركني آدم في منتصف العام 2010، حاولت نسيانه، بكل السبل، لا يأتي ذكره إلا ويلهج لساني بلعنته، وسب الدين له ولأبيه وكل جدوده حتى سابع جد، حرصت صديقاتي على عدم ذكره أمامي أبدا، تزوَّجتُ الدكتور ( نور) بعدما أجبرت ذاكرتي على محو (آدم) من رأسي، من ذكرياتي، امتنعت عن الصعود لحجرة القبة، إمعانا في تشويش ذكراتي، وافقتُ وأجبرتُ كل سكان العمارة على تأجيرها، حتى يستحيل الصعود إليها والمكوث فيها، انتظارا لمعجزة أن يهبط آدم من السماء، لم أصدق أن تنغِّصَ الأحلامُ فرحتي، لم أصدق أن ليلة دخلتي تتحول إلى ليلة غبيَّة، بمجرد وضع رأسي على المخدة، الاختباء في حضن زوجي، يظهر آدم كالعفريت، يروادني عن مشاعري، اغتظت أكثر حينما ضمَّني وقبَّل رأسي، وأنا كالطفلة في يده كما يقول نزار قباني، من أي جحيم أتى، نِمتُ مروية، سعيدة، كان الدكتور نور زوجي حنونا، دافئا، طيبا، مبهورا بنعومة جسدي، وسخونة اللقاء الحميمي بيننا، أهداني خاتما (ألماظ)، وبدلة رقص، ضحكت كثيرا على خلاعة بدلة الرقص، رقصنا، فرحنا، أقمنا علاقة أكثر من رائعة، يغيب آدم عن تفكيري طيلة الوقت، عقلي الباطن هو مُعذبِي، كنت أشعر أني خائنة، كيف جعلتَ يا آدم النوم مزعجا إلى هذا الحد، ما الذي تملكه يجعلني أسيرتك حتى في منامي، خمس سنوات وأنا أقاوم اغتصابك لأحلامي، لم يستطع الطبيب النفسي حل مشكلتي، ذهبت إليه خلسة، أثناء سفر الدكتور نور لعمله في جامعة بني سويف؛ أستاذا للجيولوجيا، كل صديقاتي يحسدنني على هذا الرجل الطيب المتفهم.
قالت سيناء: موش أحسن من جالوس الطين اللي أخد من عمرك خمسة وتلاتين سنة، بَلا هَمّ، تجاهلي أحلامك الغبية.
لم تكن مشكلتي فقط في الأحلام، إنما في سؤال يلح دائما، لماذا؟ وهل أقتحم أنا أيضا أحلامك؟ هل تذكرني عندما تأخذ زوجتك بين أحضانك؟ هل تناديها باسمي؛ ولو علي سبيل الخطأ؟
بمجهود عظيم استطعت نزع آدم من رأسي، لا أتذكره، أو تخيَّلت ذلك، في سباتي جاء آدم، يحمل بالونات كثيرة، يناديني، أخرج من داخل حجرة القبو التي أختبئ فيها من أختي سهى، يمسك بيدي، يهديني كل البالونات، تصعد بي إلي السماء، أصرخ: ما تسيبنيش يا آدم، يختفي آدم، أضيع بين أشكال السحاب، تتلقفني أيادٍ، تطبطب على خوفي، أبعدها عن ملامسة جسدي، أبحث عن يد آدم، أصحو مفزوعة، يهدئني نور، يدَلِّك ظهري وقدمي، استطاع أخيرا تغيير حالتي.
أرسلت لي سيناء (اسكرين شوت) لما كتبه آدم على صفحته عندما أعلنتُ خبر زواجي، ونشرت صوري مع نور، كتب "أنه يشعر بالضياع، كما لو كانت روحه فارقته".
هل أعتبر ما كتبه آدم اعترافا؟.. انتصارا لي؟.. تعويضا عن القطيعة؟! حتى الفيس بوك حجبه عنِّي، حظرني عن رؤيته، غيَّر رقم تليفونه، حاصرني بالغياب.
لكنه يطوِّقني في الأحلام، أراني سمكة ذات ألوان جميلة، يغازلني حوت يحمل وجه أدم، نلعب، أتقافز فوقه، يبتلعني في غفلة، لا أخاف، أقنع نفسي أنه أدم حبيبي، يلفظني فجأة يلقي بي إلى ظلمات البحر.
هَبَّة شديدةُ السُّخونة
انتفضت سماهر، كمن لسعتها عقربة: إيه ده، حرام عليكي، جسمك نار، دا أنا اللي بيني وبينك مسافة، حسيت بصهد طالع.
بكيت: أعمل إيه، لا نافع هرمونات، ولا أعشاب، ولا رياضة ولا أي زفت.
ــــ يمكن ينفع الحب، أنا ممكن أكلم آدم، وأدبر لكم لقاء.
قبل أن أرفض، انبرت سيناء: لا طبعا، هو حد ضيعها غير الزفت دا، الله يرحمه الدكتور نور لو كان لسه عايش كان خفف عنها كتير.
تزوجنا في 2013 ومات أنور في اغسطس 2017، مات وهو فوقي، لم أكن أعرف أنه يتعاطى فياجرا كي يرضيني، يرضي حالة شبقي، صرت مهووسة بالجنس، لم يعد وجوده ثلاثة أيام في الأسبوع يكفيني، كنت أذهب معه لبيته في بني سويف، كي أظل دائما بجواره، في تلك الليلة، بكى على صدري، قبَّل رأسي.
شكرني: إنتي أجمل حاجة حصلت لي في حياتي، قبلك ما عشتش، وماعرفتش يعني أيه ست، رغم إني اتجوزت مرتين، ما دقتش أي حنان ودفا، أنا لو مُت دلوقتي، ح اموت فرحان، ربنا عوضني بمتعة الدنيا، والآخرة.. ربنا عالم أنا عملت خير قد إيه، لو مُت ما تزعليش، وعيونك الحلوة دي ما تبكيش.
مارسنا جنسا مجنونا وجميلا، طلب مني أن أتحمله فوقي دقائقَ، طال صمتُه، طالت الدقائق.
- نور؟
لم يَرُدْ، أنزلته وأنا أصرخ، أبكي، سترته. أعلن الطبيب وفاته بجلطة في القلب، نتيجة إسرافه في تناول الفياجرا.
*****
تزوجت نور زواج صالونات، صديق قديم لزوج أختي سهى، قابلاه في أحد الأجازات القليلة التي يزوران فيها مصر، دعياه للغداء في بيتنا، حرصت سهى على وجودي، دار بيننا حوار قصير، في منتصف الكلام توقف، نظر لي بجدية: ممكن أطلب إيدك؟
مددتُ له يدي: اتفضل.
قبَّل يدي الممدودة، ضحك: عايز اتجوزك.
قبل مرور شهر كنت الزوجة الثالثة للدكتور نور، وكان لي ثالث ازواجي أيضا.
قضي نور حياته كلها بين المذاكرة والدراسة، الكتب والأبحاث، أجَّل كل احتياجاته الإنسانية والجنسية، خرج من بلدهم سمنود بعد حصوله على الثانوية العامة بمجموع كبير، اعتمد كليا على نفسه في تدبير حياته، أبوه رجل فقير لديه كوم لحم كما يقول،عشرة من الأولاد والبنات، يعمل نور صيفًا ويدرس شتاءً، لم يبدأ حياته الاجتماعية إلا بعد الأربعين، أسَّس شقة زوجية معقولة في مدينة نصر، تزوج من زميلته في جامعة بني سويف التي عُيِّنَ بها بعد حصوله على حكم قضائي بأحقيته في الوظيفة، التي كانت محجوزة لابن رئيس جامعة القاهرة، وجدوا له فرصة تعيين في بني سويف، قبلها مضطرا، طلق زوجته التي تحلم بالإنجاب؛ لأنه عقيم، تزوج بعدها تلميذته التي استغلته في إنجاز رسالتيها العلميتين في الماجستير والدكتوراه، ثم طلبت الطلاق لفارق السن، وعادت إلى حبيبها الأول.
نساء ثاني أكسيد الكربون
- انتم شوية بنات كلكم دراما، بسخريته المعتادة أضاف (مكاوي سعيد)، بس دراما سودا، مسيري في يوم من الأيام اكتبكم، عملت لكم كراسة خاصة، هاسميكم نساء ثاني أكسيد الكربون.
- إشمعني يعني؟ ليه موش نساء الأوكسيجن؟ دا احنا نحيي البلد، والبلاد المجاورة، تشاغبه سيناء
- أوكسجين لغيركم يا موكوسة منك ليها، بس بتتنفسوا الزفير من بعض، المفروض إن كلكم كاتبات ومثقفات، مخرجة، فنانة تشكيلية، مرشدة سياحية، ممثلة، شاعرة، والست سلمى صحفية كبيرة، بس كلكم نسوان هفأ، البنات الأصغر منكم، وما عندهمش إمكانياتكم، بيحققوا إنجازات وبيكسَّروا الدنيا.
يكمل: يا غبية منك ليها، الحب اللي يأخرك عن حياتك ويستهلك روحك يغور، وخصوصا إنتي يا سينا يا لِمضَة، قال (سينا) قال، دا انتي آخرك (زِفْتَى)، أو بالكتير (أبو طشت)، ولا أقول لك لايق عليكي (طلخا)، عشان انتي لَطْخَة.
بلَّمت سيناء، لم نجدْ ردًا، قالت سماهر: عندك حق يا مكاوي، أوعدك إن أول معرض ح تشوفه قبل ما السنة تخلص.
انشغل مكاوي في مشاريع أدبية كثيرة، مات في 2 ديسمبر 2017، قبل أن يبدأ أو يُنهي روايتَه عنَّا.
*****
اختفت سماهر شهورا طويلة قبل أن تجمعنا الثورة في ميدان التحرير، بعد خناقة شرسة مع فايزة التي تبدي تعجبا من هروب سماهر من بلد الأحلام فرنسا، تسألها: الموز (إليكس) كان كويس؟
- زي أي حاجة في البداية كان رائع. تردُّ بتوتُّر
- هو فيه حد عاقل يسيب باريس ويرجع للهَمّ هنا؟
هنا وقفت سماهر، تصرخ فيها: إنتي عايزة مني إيه، بَلَا قَرف، عارفة يعني إيه تعيشي مع راجل عاهر بالمعنى الحرفي للكلمة، عارفة يعني إيه ممكن يجرِّك لنفس الطريق ويجيب لك رجالة أغراب في بيتك..؟
تنتبه سماهر لما نطقت، تملم أشياءها بسرعة، محطمة الكثير من الزجاجات والكوؤوس في طريقها.
تزوجت سماهر أنس، الرجل المتَّهم بالشروع في قتل زوجته الهولندية، تقابلا في ميدان التحرير صدفة يوم 11 فبراير، لحظة إعلان مبارك التنحي، وجدت نفسها محمولة من على الأرض، قال لها: اتجوزيني دلوقتي حالا!
رفضت، ظل يلاحقها في كل مكان لمدة سنة، لم ييأس، أقسم إن زوجته الهولندية كانت تخونه، وأنه فعلا حاول دفعها من القطار، لكنها نجت، ساومته على تبرئته، أخذت معظم ثروته، لولا بعض شهادات الاستثمار التي وضعها في بنوك مصر، سألها ماذا يفعل الرجل المحترم حينما تخونه زوجته؟
- يطلقها، أجابت: معنى كدا إن عندك نزعة إجرامية، يعني لو اتجوزتك واتخانقنا ح تقلتني؟
- لا؛ إنتي اللي هتقتليني لو ما اتجوزتنيش، بس لو خونتيني أكيد هاقتلك، سألها بتوسل: إنتي خاينة؟ يعني هتخونيني؟
لم ترد!!
- لو كرهتيني ومش عايزة تكملي معايا طلقيني!
يسترحمها، تقابله بصمت ونظرات تسألنا رأينا، لم نسعفها بإجابة.
كمن يجد طوق النجاة: أنا هاقول لك حل يرضيكي، رغم إن دا ضد كرامتي، بس عشان تطمني؛ أنا موافق العصمة تبقى في إيدك.
زغردت فريدة، تبعتها سيناء: حرام عليكي، وافقي، الراجل قدِّم تنازلات كتيرة.
وافقت سماهر، ليس فقط لأن العصمة ستكون بيدها، ولكن أعجبها إصراره عليها، صبره وعدم فقدانه الأمل، تغيَّرت سماهر بعد الزواج، أنجبت ولدين، ترقَّتْ في وظيفتها، أقامت عدة معارض، لم يحضرها (ميكي)، (مكاوي سعيد).. كما كانت تناديه.
أسالها: سماهر.. إنتي سعيدة في حياتك؟
تضحك: جدًا.. أنس دا راجل لطيف بشكل، عارفة، أحيانا أصحى في عز الليل ألاقيه بيتفرج عليَّ وأنا نايمة، أستغرب جدا، تحسيه بقلب امرأة، حنين، موش عارفة الست الأجنبية الموكوسة خانته ليه، تخيَّلي بيحضر لي الفطار، وأحلي قهوة أشربها من إيده، رغم إن عندنا شغالة، بس مزاجه إنه يدلَّعني، يمكن عشان كدا حبيته، واضح إن الدلع بيفرق مع الستات! مغرم بنُكتي، من ليلة الحبس في قسم قصر النيل، فاكرة؟ تكتم ضحكة وتكمل، باضطر أحفظ نُكت من الإنترنت أقولها له، عشان ما يزعلش، كمان الأولاد غيَّروا حياتي، صلَّحوا علاقتي بماما وبابا، كان ناقص (ميكي) الله يرحمه، يشوف معرضي وينتقدني علي البورتريه اللي رسمته له، يقول لي.. طيب بذمتك أنا أقرع كدا، ونضحك، بس قضاء ربنا بقى.
هَبَّات تنخرُ جِلدي
نكتة سخيفة ألقتها (نجوان)، بغرض التلقيح عليَّ.
- كان فيه مرة واحدة ست عجوزة قوي.
ألمحها تومئ برأسها نحوي: قلعت عريانة ملط جنب جوزها، سألها مالك يا وِلِيَّة، قالعة كدا ليه؟، قالت له.. لا يا عبيط دا قميص النوم الجديد، ضحك وقال لها وما له مكرمِش كدا، موش كنتي تكويه الأول.
نكتة موجعة، بل نكتة ساقطة، آلمتني حد سخونة جسدي، أكثر ضراوة من هَبَّاتِي الساخنة، أصلُ إلى يقين أنه لا بد للعُري من الغياب في حضرة التجاعيد، فما بالك بالكرمشة.
ألملم أشيائي، أخرج مندفعة، لم أنتظر وصول الأسانسير، قبل الباب الرئيسي للمجلة؛ تهاجمني هبَّة حقيرة، تنخرُ جسدي، أجلس على أقرب سُلَّم، يمنحني (كريم) زميلي زوج نجوان، المتهمة إياي بالخيانة معه، زجاجة مياه، دلقتها فوق رأسي، شربت، يد نجوان تشد كريم، تنهره أن يبتعد عني، يوصي كريم عم دياب موظف الاستقبال بالاعتناء بي.
قاسية نجوان، تعارفْنا منذ عشر سنوات، عادت إلى المجلة، بعد رحلة عمل في الخليج استغرقت خمس سنوات، عملت كما يقولون "خميرة كويسة"؛ اشترت شقة في عابدين، تزوجت زميلنا كريم مجاهد فنان الكاريكاتير، هذا هو الزواج الثالث لها، كنت رسولَ الغرام بينهما، كريم زميل عمل وصديق الأزمات، من اهتم بي بعد وفاة زوجي، نصحني بالانغماس في العمل كي أنسي أحزاني، أن اقتحم مجالا جديدا، وليكن الترجمة، أخذني من يدي، قدمني إلي الدكتور (أنور مغيث)، رئيس المركز القومي للترجمة، قابلني الرجل بابتسامة ودودة، وعدني بإدراج اسمي ضمن المتعاملين مع المركز، وفي أقرب فرصة سيختارون لي كتابا لأترجمَه.
فسَّرتْ نجوان جدعنة زوجها بطريقة مهينة لي وله، اعتذر نيابة عنها.
- حقك عليا، والله أنا قلت لها عيب.. اعتذري لصاحبتك!
طلبت منه الابتعاد عني، عدم إثارة غيرتها، رغم ذلك أُكِنُّ لنجوان عِرفانا بالجميل، لن أنسى موقفها النبيل مع فُتنة، نقلتها إلى المستشفى عقب تعذيب الضابط (سليم عبدالغني) لها في قسم عابدين، أقامت الدنيا ولم تقعدها، حتى عوقب ونقل، ودفع تعويضا كبيرا لها.
هَبَّات لوليتا / ليلى
انضمت (لوليتا) مبكرا لنادي الهبَّات الساخنة، كما أسمته.
- إزاي وانتي صغيرة كدا تدخلي سن اليأس؟.
- يمكن من رحمة ربنا، يمكن انتقام عادل، تخلصت من الرغبة الملعونة، اللي دمرت حياتي، من أول ما كان عمري عشر سنين.
أندهش: رغبة وعمرك عشر سنين؟
- غصب عني، أخويا اتحرش بيَّ وأنا عندي عشر سنين، هددني إنه ح يدبحني لو قلت لأمي، خفت، تَمَن سنين وهو بيدمرني، بينتهك جسمي كل يوم، اتخرج من كلية الهندسة، وقدر يجيب عقد عمل في الخليج، ليلة سفره، قلَّعني ملط.
تبكي: عارفة أكتر حاجة وجعتني في الليلة دي إيه؟!.. إني استمتعت، تخيلي.. استمتعت، بص لي بقرف، وسابني ومشي، بعدها نمت مع طوب الأرض، أدوَّر على المتعة اللي جربتها.
- إزاي أمك ما عرفتش، إزاي سبتي نفسك للحقير دا؟
بأسى: عرفتْ، أنا قلت لها، أختي كمان قالت لها، ضربتنا، صوَّتت، طردته برة البيت، خافت بابا يغرف اضطرت تقبل رجوعه، رجع اعتذر، سابنا في حالنا شوية، وبعدين رجع تاني، كان بينام معايا وحاطط السكينة على رقبتي.
تبكي، أضمها إلى صدري: أنا فخورة بيكي، واحدة في ظروفك، كانت اتجننت أو انتحرت، لكن إنك تتخرجي من اقتصاد وعلوم سياسية دا إنتي جبَّارة؟.
- تصدَّقي لو قلت لك أنا لحد دلوقتي ما اعرفش عملت دا ازاي؟.
جميلة لوليتا، مؤخرة أحلي من (كيم كاردشيان)، عيون خضراء، شعر بُنِّي ناعم، طيبة إلى حد العبط، تقول: موش لازم نقتل إنسانيتنا بعد ما الآخرين قتلوا جسمنا.
كتبت لوليتا على الفيس بوك:
"لم تعد الجنة على الأرض... عفوا، لم توجد جنة على الأرض مطلقا".
تقول لوليتا: أمي طيبة، بأحس إن أختي (هبة الله) البلهاء، هي الوحيدة المستقيمة في البيت دا، البلهاء الجميلة، أكثر حظا مني لأنها لا تعرف رغم انه ممكن يكون برضو اعتدي عليها، كانت بتحبه بتقول انه بيبوسها ويغطيها.
تتساءل: هل المعرفة تقتل؟.. البلهاء الجميلة لا تعرف، بس أنا عارفة، أعرف كل الإثم والدنس، القذارة اللي كنت باغوص فيها.
تكمل: عارفة كام مرة أجهضت نفسي في 15 سنة، سبع مرات، ولما اتجوزت راجل محترم ما يعرفش عني حاجة، وكان ح يتجنن على حتة عيِّل، ما نفعش، انتقام ربنا بقى.
بحسرة شديدة ممتزجة بهدوء غريب:عرفتي ليه بقى سن اليأس العظيم اللي جاني وأنا في السبعة وتلاتين، رحمة وعدل.
لا تنتهي كوابيس لوليتا، تصحو مفزوعة تتصبب عرقا تطلب ماء، تقول با احلم با ابويا مصلوب علي حيطة اوضتنا، اخويا صالح بيقطع في لحمه بمنشار كبير وانا باصرخ وصوتي موش طالع، ايدي مشلولة موش قادرة ادافع عنه.
مات أخو لوليتا في الغربة، عادت زوجته وأولاده بجثمانه في صندوق، عشرون عاما لم ترَ لوليتا أخاها، تتابع أخباره من بعيد.
تقول زوجته: دخل نام، بعد نص ساعة نادى عليَّ.
قال لي: هاتي العيال أبوسهم، قولي لليلى، وماجدة يسامحوني.
سألتْه: يسامحوك عن إيه؟
قال لها: هُمَّ عارفين، وخليهم يدعوا لي ربنا يسامحني.
كانت طريقة إعلانها للخبر غريبة، كتبت على صفحتها.
"أخيرا ملكت حريتي، أنفاسي لي وحدي، لم يعد جسدي خائفا، قهرت قلقي، بعد ثلاثين عاما، عرفت نعمة النوم بلا كوابيس أو قلق، حرة أنا، ربما ليس تماما".
- ولكنك تكذبين!
أحاول أن أُخرسَ هذا الصوت الصارخ من عقلي، يبعثر تركيزي، ثقتي بقدرتي على التجاوز، ينغِّص أحلامي.
لا، لا أكذب، كل شيء في هذه الحياة نسبي، هكذا علمتني الدنيا لو تدري أيها الصوت الشيطاني.
في آخر البوست كتبت: توفي أخي (صالح)، لا حول ولا قوة إلا بالله.
بحثنا عن لوليتا لنقدم لها واجب العزاء، أخيرا وجدناها في (الأفتر إيت)، سكرانة، تقف فوق ترابيزة، ترقص بهيستريا، تضحك وتبكي، أخذناها، باتت ليلتها معي، في الصباح أرسل لها زوجها ورقة الطلاق.
أصبحت لوليتا ضيفه دائمة على شقة البنات، شقتي التي خلت عليَّ بموت نور، وانغماس أمي في تربية أولاد سلطانة، نسميها أحيانا شقة المواجع، نادرا ما نجتمع، منذ عام 2014 دبت الخلافات بيننا، بعمق يصل إلى حد التجريح والقطيعة، آخر هدفٍ جمعنا، اشتراكنا في جمع استمارات تمرد، من كل حدب وصوب، وتسليمها لمجدي عبد الملاك، صاحب كافيه ريش، رفضنا أن نكون جزءًا رسميًّا من الحملة، قادت الرفض لوليتا.
قالت: بلاش نتورط، إحنا بنعمل دا علشان بلدنا موش عشان (الشو الإعلامي). لم نخرج حتى في مسيرات ما بعد 2013.
ليلي/ لوليتا، الشاعرة والمحللة السياسية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كانت ترى أبعد مما نرى، رغم عملها المهم، كانت أكثرنا تواجدا في التحرير خلال الـ 18 يوم، قلقة دائما على الميدان.
تسألها سماهر وهي تضحك: هو الميدان بيت أبوكي يعني؟ موش ح يضيع، تعالي نشرب حاجة، ناكل، هاموت من الجوع والله.
ترد: لا الميدان موش بيت أبويا، دا أبويا الله يرحمه شخصيا، حنين زيه، ودافي، وبيساع الدنيا كلها، زي قلب أبويا.
تندهش سماهر: اللي هو مين؟
تجيب بثقة: اللي هو الميدان.
تخطف العود من صديقها (خالد)، تقلِّد عزفَه، تغني: "يا الميدان، يا الميدان، كنت فين من زمان".
تقلدها سماهر: يا الجنان يا الجنان، دا انتي آخرك المورستان. كنا نضحك
لم تصدق بشاعة ما حدث في مذبحة ماسبيرو، شاركت منذ أول لحظة في أحداث (محمد محمود)، أحداث مجلس الوزراء، تقريبا تفرَّغت لحراسة الثورة، أدركت أن الأحداث لن تسير وفق أحلامنا، انقطعت علاقتها بالعمل الميداني والسياسي بعد عام 2014، أقنعتنا بالكف عن الأحلام المستحيلة، عادت إلى عملها، كأنها لم تكن يوما وقودا لثورة الأحلام.
معارك وخناقات وصلت إلى حد الضرب وشد الشعر بين مريم وفايزة!
قال مكاوي: فايزة دي فقدت ثلاث أرباع عقلها، والجزء الباقي بايظ من الأول.
لم نعرف؛ نضحك أم نبكي؟
أنهى الحوار بمقولته الشهيرة: اللي يِصْعَب عليك يفْقِرك.
موجها الحديث لي:
- كفاية لمَّة البنات اللي ح توديكي في داهية، الثورة خلصت، اقفلي بابك عليكي، واهتمي بشغلك أفضل لك.
ولسماهر: وانتي كمِّلي معرضك، خلصي أبحاث ترقيتك.
ولسيناء: وانتي اكتبي تجربتك في الثورة؛ ح يطلع كتاب حلو.
استوحشت فايزة بعد سفر أدهم، إعلانه زواجه من فتنة، نصحناها ألا ترى ما ينشرانه، رفضت، قالت: لازم أشوف بيعملوا إيه، عشان أملا قلبي غِل، وأعرف ازاي أدمرهم.
ردت مريم: هو إنتي ناقصة غِلّ، دا ربنا لما خلق الغِل، طمعتي فيه، أخدتيه لوحدك.
ضربتها فايزة بظهر يدها، أسقطتها أرضا، بركت عليها، تعضها، وتشد شعرها، كعادتي في مثل هذه المواقف، أرتبك، أخاف، أبتعد بسرعة. لم نعد نتقابل، لم نعد نضحك.
لوثة فايزة جعلتها تضرب فريدة، اتهمتها بأنها سهلت الطريق لابنة عمها كي تسرق زوجها، (أبو ابنتها)، حب عمرها كما تقول، مسكينة فريدة؛ تحلف علي المصحف وأنا أصدقها، أنها لم تكن تعرف.
تشخر فايزة : قالوا للأوساخ احلفوا.. قالوا جانا الفرج.
كادت فريدة أن تختفي كلية من عالمي، بعد أزمة فُتنة وأدهم، لولا حرصي على الاطمئنان عليها، بين حين وآخر، كنت أشعر أنها تبتعد قبل أزمة ابنة عمها، تزوجت طبيب أمراض النساء، كنت أعرف أن بينهما قصة حب راقية، وافقت على شروطه، الاستقالة من عملها كممرضة في المستشفى الاستثماري ، والتفرغ له؛ مقابل أن يعول أمها، انشغلت بالحمل والولادة، والمرة الوحيدة التي فكرت في زيارتي، جاءت خناقة فايزة فوق رأسها ورأسي.
طال غضب فايزة الجميع؛ حتى أنا، اتهمتني أنني أفتح بيتي للشراميط، نسيت أن هذا البيت ضمها، حين كانت لا تجد مكانًا تعيش فيه، طردها أبوها بعد حادثة القبض عليها مع الثري العربي المزعوم، تكفَّل أدهم بتهدئة الأوضاع مع عائلتها، وأنه جاء يطلبها للزواج، ولا يصح أن يتزوجها بدون علمهم، وجدها الأب فرصة للتخلص من تلك المشاكسة العنيدة.
فخورة فايزة بطبيعتها، رغم أن سيناء نصحتها بالتخلي عن هذه الحماقة، لم تعد تلك الطفلة التي تضحك، بينما يضربها أبوها، تخرج لسانها لتغيظه،.. "ما وجعتنيش".
تقول: كنت أتصلب وأشد عضمي؛ فتوجع الضربة يده أكثر مما تؤلمني.
امتلأت مقاهي وسط البلد بحكايات خناقاتها مع أدهم، عرف القاصي والداني، أن أدهم الصغير، خاين وخسيس وواطي، هرب مع شرموطة، تاركا ابنته الوحيدة.
تصرخ فايزة : أنا موش مجرد أم بنته، أنا موش وعاء، لو انتو كدا، أنا لأ، أنا نفرتيتي، حب حياته.
تتدخل مريم، صاحبة العلاقة السيئة بفايزة منذ أول دقيقة تقابلا في حجز قسم قصر النيل.
قالت مريم: هو أي وحدة سودا ورقبتها طويلة تبقى نفرتيتي، معلهش يعني، أنا مرشدة سياحية وأفهم كويس في التاريخ الفرعوني، ولو إنتي فاكرة إن نفرتيتي مصرية، تبقي غلطانة، دي ميتانيّة، يعني شاميّة، ناقص بقى ندوَّر لك على إخناتون، يوقف قدام (استوريل)، ويقول لك: "الجميلة أتت".
بثقة، وحقد ردت فايزة : محروقة مني ليه؟ من أول يوم عرفتك وانتي هتموتي بغيظك، علشان أنا اتعمل لي تمثال بوضع وشكل (راس نفرتيتي)، وإنتي لأ.
تضحك مريم: والنبي إنتي هبلة..
تمسكها فايزة : إوعي تنسي إني شفتك بتعاكسي جوزي، وهو ولا عبَّرك.
- تقصدي طليقك!
سألت سيناء: وليه بتتخانقي على واحد طلقك!
- علشان هو بتاعي، وهاسترده، يا ح ادمره؟
*****
اختفت مريم، عرفت أنها تزوجت (أحمد سامي)، مدرس ثانوي، مطلق، لديه ولد وحيد يعيش مع أمه، احترم دينها، كانت تقدر له هذه اللفته، يذهب معها لزيارة (ماري جرجس)، و(سانت تريزا)، تصوم معه رمضان، تدعو عند مقام الحسين والسيدة زينب أن يعوضها الله بطفل بدلا من ابنتها، التي تبرأت منها، سافرت إلى كندا بعد حصولها علي لجوء ديني، مدَّعية بتحريض من أبيها كما تقول هي: بنتي استغلتني، ادَّعت إن جوزي الراجل المحترم اللي ما أجبرنيش على حاجة، عايز يجبرها تسيب دينها، المرة الوحيدة اللي زارتني بعد جوازي، أخدت السيشوار، وكل الهدايا اللي جابها لي أحمد، ولمَّا رفضتْ إنها تاخد الخاتم الدهب بتاعي، قال لي: حاجيب لك غيره، إوعي تزعَّليها.
قاهرية مثلي مريم، ولدت في منطقة نزلة السمان، أبوها أحد أصحاب البازارات في طريق الأهرامات، عشقت الآثار منذ صغرها، قررت التخصص فيما تحب؛ مرشدة سياحية، أحبت (مينا) زميلها في شركة السياحة، حلمت بالحب والتقدير خاصة أنها جميلة، بعد إنجاب ابنتها (ماريان)، انقلب حال الزوج، ارتبط جدا بالطفلة، لا يتركها طوال الوقت، ترك عمله، اضطرت هي للعمل لتعول الأسرة، زادت الخلافات حينما منعها من لمس الطفلة، يضربها إذا حملتها لمدة دقيقة، صبرت طويلا، حتي كبرت الابنة التي لا تطيق أمها، بسبب كراهية متجددة ينجح الأب في زرعها بقلبها كل يوم، فشلت كل محاولاتها في كسب ود الأب والابنة، قررت الطلاق، رفضت الكنيسة، حصلت على طلاق بحكم محكمة، زاد من صورتها المشوهة أمام ابنتها، طردتها عائلتها كلها، اعتبروها خارجة على تعاليم الكنيسة.
*****
تسطتيع سيناء أن تكتب مجلدات في تحليل شخصية راجية وفايزة، وأستطيع أنا أن أكتب مجلدات عن سيناء، الذكية، اللمَّاحة، القلِقة دائما، تغضب مني عندما أواجهها بالحقيقة وأنها مُتطَلِّبَة.
تستحلفني: والنبي إوعي تقولي عني كدا، إنتي مرايتي، الوحيدة اللي باقدر أتعرى قدَّامك.
أهدئها، تسكب دموعا حارة: هو موش تَطَلُّب، هو احتياج.
أصحِّح لها: احتياج ما يقدرش عليه الرجالة، إنتي بتطلبي الاهتمام الدائم، والحضن الدائم، الجنس الدائم، والرجالة ما بتفكرش كدا، عندهم وقت محدد للحب، ووقت أكتر تحديدا للجنس، والعمل، مش بيخلطوا كل حياتهم بالحب، هي لحظة، لما تنتهي، يرجعوا شغلهم، أصحابهم، لعب دور شطرنج أهم عندهم من رسالة يكتبوا لك فيها.. "باحبك".
ترى نفسها مرفوضة، دائما مرفوضة من كل الرجال، بداية من أبيها الذي تركها صغيرة، ليتفرغ لنزواته العاطفية، وسيمٌ عم (بهاء) أبو سيناء، شاعر بوهيمي، مصدر رزقه من القصائد التي ينشرها في المجلات العربية التي تدفع بالدولار، أمها موظفة في البرلمان، تحملت نزوات زوجها العصي على الترويض، تسافر خلفه في كل مكان كي تستعيده من أحضان نساء أخريات، في إحدى ضبطياتها له، تركت سيناء مع عسكري مرور، صعدت عمارة، رأت فيها ملابس زوجها الداخلية، خافت سيناء الصغيرة، جرت خلف أمها، تاهت، بكت، عادت الأم دون أن تحقق انتصارًا على غريمتها، التي رفضت أن تفتح لها الباب، طلَّق الشاعر بهاء (فاتن) أم سيناء، بكت الطفلة: خليك معايا يا بابا!
لم يرد!
- طيب خدني معاك.
نهرتها أمها: سيبيه.. هو موش فاضي لك، لما يخلص الأول على نسوان البلد، والبلاد المجاورة، ح يرجع يركع تحت رجلي، وساعتها موش ح اقبله.
تحكي سيناء: حتى في مراهقتي، وأيام الجامعة، كل اللي حبيتهم سابوني، اتجوزوا زميلاتي، الأقل جمالا وذكاء، يبدو أن جمالي وذكائي لعنة.
تعشق سيناء الـ (باد بويز) تنجذب إليهم كما المغناطيس، ثم تنعي حظها.
تتساءل: همَّ ليه كل اللي باحبهم سيئين كدا؟
أجيبها: لأنهم (باد بويز).
- يعني موش ممكن يتصلحوا؟
يتصلحوا ازاي وهُمَّ ملعوب في أساسهم.
تكتب سيناء على صفحتها رسالة موجهة لأشرف: هناك فص في مخي ممتلئ بك، لماذا تهجرني؟
لم يعلق.
قال الطبيب النفسي إن مشكلتها في التعلق المَرَضِي، ولا بد أن تساعد نفسها بتدريبات (تقنين الاندفاع).. ألَّا تكون لحوحة، ألَّا تُمطر الرجل بمشاعر تغرقه، لا يحتاجها وتطالبه بالمثل، الرجال لا يتعاملون بالمثل.
تكلمني فجرا: أعمل إيه أنا مانعة نفسي بالعافية أكلمه.
أقول لها: شاطرة، إلبسي وتعالي نتقابل، نتسكع في وسط البلد وهي فاضية، ملك لنا لوحدنا.
تسكن سيناء في عابدين، نلتقي في منتصف الطريق، أشغلها عن رغبتها الحارقة في الاتصال بأشرف.
- خلِّي عندك كرامة، موش ح يرد عليكي، وهيتحرق دمك على الفاضي، أكيد ح نقابله كمان شوية، قاعد على القهوة مع (ميكي).
انتهت قصة غرامها بكارثة، عرفت زوجته التي ادَّعَى أنه طلقها، هددتها أن تبتعد عنه، وإلَّا ستذهب إلى عملها في مجلس الوزراء، وتسبب لها فضيحة.
لم أقبل علاقتها بممثل مغمور، تعرَّفت عليه عن طريق راجية، كنا نسميه الكائن الصغير، كئيب بدرجة جيد جدا، فشل لقاؤهم الجنسي الأول والأخير، نهرتُها عن جلد ذاتها، بأنها السبب فيما حدث له.
سألته وهي في حضنه: دا حب ولا شهوة؟
انطفأ توهجه، قام معتذرا
لم أملك نفسي من الضحك اقاطعها: هي حبكت! فلسفة أهلِك تنقح عليكي في الوقت دا.
- وإيه الفرق يا فالحة؟
- تشرح بجدية شديدة: الاحتياج يعني أي واحدة ست موجودة في اللحظة دي، يمارس معاها الجنس والسلام، بس الشهوة معناها إني ست جميلة، وبيشتهيني أنا دونًا عن كل الستات.
- وطلع شهوة ولا احتياج؟ أسألها من بين ضحكاتي المتواصلة؟
- انكمش زي كتكوت غرق في البحر: لبس هدومه وسابني ونام.
*****
- إنتي فين؟. باكية؛ سألتني سيناء
- في الشغل، بتعيطي ليه؟
- أنا محتاجة لك جدا.
- تعالي ح اعزمك على حمام.
تبكي وتأكل: قال لي إن علاقتنا موش ممكن تستمر، وإنه مدين لطليقته بأفضال كتير، وعشان خاطر أولاده هيرجع لها.
استهلكت علبة مناديل بين الأكل والبكاء، لم تستمر قصتها مع (محمود) أكثر من شهرين، كانت طايرة من الفرحة بذكائه، وحكمته، نبله، ثقافته، محامي يعمل في مجال حقوق الإنسان، يرد كل شيء للمبادىء الشيوعية وتروتسكي على وجه التحديد.
- إنتي إيه اللي مزعلك، دا بني آدم تافه، كلمة توديه وكلمة تجيبه، طليقته دي برقبته، هو ليه انتي غاوية رجالة موكوسة يا موكوسة؟.
- ما كانشي باين عليه والله، أنا اخترته فوق الخمسين، أكبر مني بخمستاشر سنة، قلت بقى راجل عاقل وناضج.
أقاطعها: وضعيف الشخصية، وجبان، بيهرب من أي مسئولية، وطليقته هي اللي شايلة، احمدي ربنا إنها خلَّصِتك منه، هي مضطرة تستحمله عشان ولادهم، انتي تِبلِي نفسك ليه بيه.
دائما أعيد على أسماعها، أنها جميلة، ذكية، تستحق رجل يقدرها.
أقول مئات المرات: قنِّنِي اندفاعك، سيبي لأي راجل مساحة، فرصة، عشان تحسي إنك مرغوبة ، مطلوبة، ليكي قيمة عنده، لازم يبذل مجهود.
تنظر لي بتعجب: شوف ازاي! من الذي يتحدث؟ بأمارة إيه إن شاء الله! دا لسه قلم آدم معلم على قفاكي.
- آدم معذور، حكم أبوه صعب، أولاده ذنبهم إيه، ما اقدرش أحرم أولاد من أبوهم، اللي واجعاني الأحلام، لو بس يرحمني ويبعد عن أحلامي، حتى هروبه واختفاؤه؛ أنا متفهمة دوافعه.
*****
- لو بتعرفي تمثلي زي ما بتكدبي، كان زمانك بقيتي سعاد حسني.
الجملة الأثيرة التي تقولها سيناء دائما لراجية، تنصت ساهمة، تمر دقائق قبل أن ترد الهجوم: أنا موش كدابة، وممثلة شاطرة غصب عن عينك.
- كان لا مؤاخذة العِلْق نفع نفسه!
- يا سلمى لمِّي صاحبتك عني. تطالبني راجية
- هششششش، فركش، بس يا بنات، خلُّونا نتخانق بصمت. نضحك
لم تصدق راجية التي تخطت الخامسة والأربعين أنها انضمت لنادي الهَبَّات الساخنة، جاءت مكفهرة، تنتفض من شدة الانفعال.
- قولي لي يا سلمى هو أنا كدا قطعت الدورة؟
تبكي بحرقة: يعني أنا خلاص بقيت زيك؟ يعني أنا دخلت سن اليأس اللي بتقولي عليه؟
أنظر إليها غير مصدقة، بالأمس فقط، كنت مثار شفقة وصعبانية راجية، جادلتني بأنني أكذب في سِنِّي، وأنني تعديت الخسمين بزمن، وأنها أصغر مني بخمس سنوات وليس العكس كما أدَّعِي.
نظرا لحالتها المنهارة هدَّأتُها، شرحت لها أنني لست طبيبة، لأقرر إذا كان ما بها نوبة (مونوبوز) أم توتر وقلق مما تعاني منه طوال الوقت، ويجب أن تذهب لطبيب، نصحتها بزوج فريدة:
- هو شاطر ويقدر يقول لك مشكلتك، بس لو دا (مونوبوز)؛ ما تاخديش هرمون بديل، زي غلطتي.
- ضعيفة راجية امام الرجال العواجيز ، تتخيل كل واحد منهم أبوها الذي مات قبل أن تراه، تطبطب عليهم، تجالسهم، تسمع قصص حياتهم، وتنفق بسخاء علي اطعامهم، عزومات علي كوب شاي، او فنجان قهوة.
- تجد احيانا اعذارا لأمها التي تخلت عنها بسهولة تقول: غلبانة تعمل أيه وتعيش ازاي من غير راجل يصرف عليها، تهمهم ربنا يسامحها.
تكره سيناء راجية، تدَّعِي أن لها ميول سحاقية، زارتها بغير موعد، طلبت المبيت معها في سرير واحد لأنها تخاف الوحدة، رفضت، ضربتها بهزار على مؤخرتها.
نهرتها سيناء: ما تعمليش كدا، أنا عندي مشكلة مع التلامس.
نامت بجانبها حاضنة إياها من الخلف.
تحكي سيناء: اتفزعت يا سلمى، حسيت بحاجة مريبة، قعدت تكلمني عن الـ (Bisexual)، وإن دا بيعمل (Refresh) للجسم، أنا قلت لها.. آسفة أنا باحب الرجالة.
تكمل: يومين موش عارفة أخلعها من بيتنا، قعدت مع ماما تحكي لها إنها نفسها تخلِّف من غير ما تتورط في جواز، وندمت على المرة الوحيدة اللي أجهضت نفسها، طبعا انتي عارفة الست فاتن أمي ، قالت لي، خدي البنت دي من هنا، أحسن أضربها بالجزمة، ودي آخر مرة أشوف وشها.
وهي تشعر بالانتصار نسبيا: اضطريت أعزمها على الغدا برة، واتحججت بموعد غرامي، هربت منها وجيت لك.
*****
قبل أن تعرف اسمها، وماذا تفعل، تحكي لك راجية قصة حياتها، منذ ولدتها أمها، حتي لون الملابس الداخلية التي ترتديها، لا يهمها درجة القرب أو البعد، الصداقة أو العداوة، رغبة المستمع فيها أم تعاطفه معها، تحكي عذابها الأكبر مع زوج أمها، الذي تحرش بها، لم تصدق الأم؛ طردتها، هربت للقاهرة.
تكمل حتى إن لم يسمعها أحد، أحيانا تحكي لجرسونات القهوة، ربما للكراسي الفارغة : اشتغلت ممثلة، اتجوزت حسن، ميكانيكي مثقف، بيكتب زجل، بيقول عليه شِعر، أخدنا أوضة بحمام، فوق سطوح بيت في السيدة زينب، كان بيعزم أصحابه الشُعَرَا والكتَّاب، يشربوا يغنوا، كنت مبسوطة أغني واشرب معاهم، قلت لجوزي إن صاحبك (أسعد) دا بيبص لي نظرات غريبة، بيني وبينِك الواد أسمر نوبي، الرجولة بتنط من عينه، حبّيته، صارحت جوزي، ما اهتمش، أعمل إيه، ما عرفتش أسيطر على مشاعري، بعد سنة من علاقتنا، اختفي أسعد، رحت أدور عليه في كل مكان، وصلت بيته في عابدين، تخيلوا، كان يوم فرحه، قدمني لأمه على إني مرات صاحبه اللي جاية تبارك وتهنِّي، قلت له إني حامل منُّه، ما اعرفش ازاي سيطر على أعصابه، ابتسم، خدني في أوضة جوَّانيَّة، قال لي "بصي.. لو بتحبيني لازم تنزِّلي الجنين، أنا بس أسبوع، عشر تيام بالكتير ونرجع زي الأول واكتر"، الدكتور طلب مني ألف جنيه، طبعا ما فيش فلوس، واحدة صاحبتي نصحتني إني أمارس الجنس بعنف، لما رحت له تاني يوم، أمه واخواته شتموني، كانوا ح يضربوني، قلت لحسن كل حاجة، قال لي ولا يهمك أنا هاساعدك، في اليوم دا قطَّعني ضرب وهبد وجنس، شالوني من تحته وانا قاطعة النفس، في المستشفي كنت بانزف، تخلَّصتْ من الجنين، اختفي أسعد، طلبت الطلاق من جوزي.
بحسرة: لما رجعت اشتغل في التمثيل، كل الريجيسيرات قالوا لي ح تبقي نجمة الألفية الجديدة، بس لازم تفتَّحِي مخك.
تبكي: تعبت بقى من تفتيح مخي، بتمر عليَّ لحظات باحس إن الكل شايفني مجرد خرم، يتبول فيه ويمشي، وعشان أنا شريفة، بطَّلوا يطلبوني في أداور مهمة.
تتعاطف لوليتا معها، تطبطب عليها، تتخذ سيناء وضع التحدِّي.
تقول ساخرة: ما إنتي بتمثلي حلو أهو، طيب ليه بيقولوا عليكي فاشلة، ولا الشوية دول موش بيظهروا إلا قدامنا.
نصحني (مِكَّاوِي) بالتخلص من صداقة راجية: اسمعي كلامي دي ما وراهاش غير المشاكل.
- دي غلبانة يا (ميكي)!
- ما الحمار غلبان يا بنت (بزادة)، افهمي يا غبية، دي عايشة على افتعال المشاكل، التنمر على خلق الله، بتصطاد الرجالة الغلابة، وبتدِّعِي عليهم إنهم لمؤخذة راودوها عن نفسها، ويا يدفع يا يتفضح، عندها ميول استعراضية مريضة، يعني ممكن كدا من غير إحم ولا دستور، تردح لك وتطلَّع فيكي القطط الفاطسة.
حاولنا تجنبها بدون تجريح، ماعدا لوليتا وقعت في مصيدتها، سبَّبتْ لها مشاكل مع زوجها، فضحتها عند زوجها الذي لم يكن يعرف شيئا، ساعة فضفضة غبية، حكت لوليتا ما لا يصح أن يعرفه أحد، أرسل لها ورقة الطلاق، حاولت راجية أن تجرَّه إلى حبائلها، أبى واستعصم، شنَّعت عليه بأنه حاول اغتصابها ولكنها قاومته بقوة.
دافعت لوليتا بشراسة عن طليقها، الذي شكرها، قرر السفر من مصر نهائيا، ليعمل محاسب في السعودية.
طلب مني ميكي أن يقابل أمي، استغربت كثيرا طلبه، قال إنه يستعد لكتابة الجزء التاني من مقتنيات وسط البلد، يحتاج إلى بعض المعلومات التي لم يستطع الوصول إليها، عن المباني والشخصيات، عزمتُه وسيناء وسماهر وزوجها، وفريدة وزوجها على إفطار رمضان 2016، خفت الصدام بينه وبين أمي، هيأتُ له مجلسًا في البلكونة بعد الإفطار، بدأت الجلسة عاصفة حينما طلب ميكي قهوة من كيس بن أحضره معه، غضبت أمي: يعني موش ح نقدر نعمل لك فنجان من بن نضيف زي اللي جبته معاك؟
ضحك ميكي: هاتي يا سلمى البُن، ودوَّقينا بن بزادة هانم المخصوص.
سألها ميكي عن ذكرياتها حول شارع فهمي ومبنى الغرفة التجارية، فجرت أمي مفاجأة من العيار الثقيل، أن أباها ماهر بك المنفلوطي كان يعمل في الغرفة التجارية، وكيلا لها، منذ كان موقعها الأصلي في منطقة العتبة، قبل بناء هذا المبنى الجديد المقابل لبيتنا، تقول: افتتحه الملك فاروق يوم 15 مايو 1952، قبل الثورة بـــ 38 يوم بس، تضيف: أعتقد إن دا كان آخر نشاط رسمي قام بيه الملك، ولمزيد من الإبهار أحضرت أمي ملفًّا قديمًا تآكلت أطرافه واصفرت الأوراق بداخله، وبهتت الصور الأبيض والأسود الساكنة في ثناياه،
صور كثيرة، أشارت إلى رجل يحمل صرامة أهل الجنوب، قالت: دا أبويا ماهر بك المنفلوطي، في الصف الثاني بين رجال الغرفة التجارية، ضمنهم المعماري العظيم الدكتور سيد كريم مهندس المبنى، والنحات فتحي محمود صاحب اللوحة الجدارية التي تزين جدرانها.
تحكي أمي تاريخ جدي الذي جاء مع والده من منفلوط أحد مراكز محافظة أسيوط، حينما قرر أبوه توسيع تجارته واتخاذ القاهرة مقامًا له ولعائلته، في بادئ الأمر، سكن في 15 شارع فهمي، على بعد أمتار قليلة من قصر فهمي كامل بك، الذي تسمَّى الشارع باسمه، واصلت الإفصاح عن المزيد مما أبهر ميكي، صورة لجدي مع علي فهمي في مدرسة ليسية الحرية، التي ارتاداها معًا، وكانا زملاء فصل واحد، حيث ولدا جدي وعلي فهمي كامل بك في العام 1900، تحكي تفاصيل لم أهتم بمعرفتها يوما.
تقول:
- علي فهمي كان مغرور ومتعالي، طول الوقت بيسخر من أبويا علشان لهجته الصعيدية،
زي ما بتقولوا دلوقتي.. بيتنمَّر عليه، مع إن فهمي بك كامل أصلا من مغاغة، صعيدي يعني
وتقريبا أبويا كان معجب بأخته عائشة هانم فهمي، كانت فلقة قمر، صاحبة القصر الجميل اللي في الزمالك، عائشة دخلت مدرسة الفرير اللي في باب اللوق، علشان كدا ما كانش بيصعد الخلاف مع أخوها، يستوقفها ميكي: فين مكان قصر فهمي بك القديم؟
تخلع أمي نظارتها: قرب مبنى وزارة الداخلية في جراج كبير جدا، خالي تقريبا، تعرف القصر من بقايا مبنى فخم بيطل على شارع منصور، القصر كان له مدخلين؛ واحد من شارع فهمي والتاني من شارع منصور في وش مدرسة الفرير، فهمي بك كان راجل عصامي، بنى نفسه بنفسه، الناس كانوا بيقولوا إنه بخيل، بس أبويا قال لي.. لا، الراجل تعب كتير وشقي لحد أما جمع ثروته، وكان عايز يعلم أولاده يعرفوا قيمة القرش، ويعتمدوا على نفسهم، فكان علي وعائشة بيروحوا المدرسة مشي على رجليهم، وكل زمايلهم بيروحوا بعربيات بسواق، طبعا علي ما فهمش طريقة أبوه، كان فاشل في الدراسة لحد ما بلغ 16 سنة وما أخدش حتى الإبتدائية، إنما أبويا أخد البكالوريا، وبعدين التوجيهية، دخل كلية التجارة، جامعة الملك فؤاد الاول، مات فهمي بك وابنه عنده 16 سنة، زي اللي كان محروم وبقي كل شيء قدامه متاح من غير حسيب ولا رقيب، نزل بعزقة في فلوسه، لدرجة إنه في أربع سنين صرف مليون جنيه، عارفين يعني إيه مليون جنيه سنة 1920؟ كره قصرهم اللي في الشارع اللي بيحمل اسم ابوه، وطلعت موضة إن أولاد الذوات يسكنوا في الزمالك.
يهمس مكاوي في أذني: يظهر إن أمك قرأت كتاب صلاح عيسى!
لا أعرف كيف سمعته أمي، نظرت إلينا بغضب، أخرجت مجموعة من جرائد عام 1920، كادت تهلك، ينظر إليها ميكي غير مصدق، بها صور لعلي فهمي يركب سيارة أحدث موديل.
تقول أمي بتشفٍّ:
- مع احترامي الشديد للأستاذ صلاح عيسى، يعني هو بس اللي بيعرف يجمع مصادر؟ وعنده جرايد قديمةظ ما أنا أبويا كان معاصر الأحداث، بحكم الزمالة والجيرة، والأخبار والإشاعات مالية البلد.
يأخذ منها الجرائد: حقك عليَّ يا بزادة هانم، اتفضلي كمِّلي.
تكمل أمي:
- خطب منيرة هانم بنت إسماعيل سرهنك باشا عَدِيل سعد زغلول، راح قصر أبوها في جاردن سيتي على راس موكب متكون من 20 خادم لابسين يونيفورم بدلة ردنجوت آخر شياكة، كل واحد شايل صندوق من الفضة جوَّاه شوية مجوهرات، الغريبة بقى إن بعد أسبوع واحد، حد من أهل العروسة شافه في عربيته مع راقصة من شارع عماد الدين، فسخوا الخطوبة طبعا، ورغم إنه كان بيتبرع بفلوس كتير للجمعيات الخيرية وبنى مستشفى في مغاغة، لكنهم رفضوا يدوه عضوية نادي السيارات الملكي، علشان سلوكه المُشين.
يبدو أن الحديث سيطول، يطلب ميكي فنجان قهوة آخر، تعزمه أمي على السحور، نستحثها جميعا على استكمال حكاياتها.
تفرد أمي صفحة من جريدة اللطائف المصورة عدد يونيو 1923، يقول المانشيت الرئيسي فيها.. إن علي بك فهمي اشترى لزوجته الفرنسية مجوهرات بقيمة 200 ألف فرانك فرنسي، وبنى لها قصر على نيل الزمالك تكلف 120 ألف جنيه، تضيف :ـــ وهي دي الست اللي كانت آخرته على إيديها، قتلته، عارف إنه يبقى ابن خالة هدى هانم شعراوي، يهز ميكي رأسه أن لا.
تشعر أمي بالأهمية، تكمل:
- كانت أكبر منه بعشر سنين، وهو كان طايش، أعلنت إسلامها، وكمان سمت نفسها منيرة، إسلام صوري، مش حقيقي، بتقول إنه كان همجي وبيضربها، صحيح هي كانت ست حلوة بس مش فوق مستوى الشبهات، غاوية سهر ورقص، وشبعت فلوس ومجوهرات، مش واخدة على طبع الراجل الشرقي، قتلته بمسدسه هو، أطلقت عليه تلات رصاصات خلَّصوا عليه، في فندق سافوي بلندن، واشتعلت حرب بين الشرق والغرب، قبضوا عليها، اعترفت بجريمتها، دافعت عن نفسها، والمحامي الإنجليزي بنى دفاعه على همجية الشرق وتحضر الغرب.
تخرج من بين الجرائد التي تملكها، جريدة الأهرام التي تحمل شهادة مراسلها ، الذي كان حاضرا المحاكمة وكتب عنها، وحسب الجريدة التي تلهفنا على قراءة ما بها، نقلت دفاع السير (مارشال هول)، محامي (مارجريت ميلر) القاتلة، على تحويل القضية من جريمة قتل إلى محاكمة للعادات الشرقية، أصبحت قضية رأي عام، اعتبر البريطانيون والفرنسيون مارجريت ضحية لعادات الشرق المتخلفة والعنيفة، وأن القاتلة ضحية الشرق الماكر الذي احتال ليصطاد امرأة من قلب الحضارة الراقية إلى ظلام الصحراء، لتقضي شهر العسل بين وحوشها وزواحفها، وأنها تعرضت لمحنة حولتها إلى كائن خائف مذعور، امرأة لم تنوِ القتل، ولم تقتل، وإنما انطلقت منها رصاصة قتلت ذئبًا بريَّا، كان يهمُّ بافتراسها، وأضاف المحامي لهيئة المحكمة، إذا أردتم أن تسموه دفاعا شرعيا عن النفس فهو كذلك.
تمصمص أمي شفتيها تصعبا.
- طبعا برَّأتها المحكمة، والأجانب استقبلوها بمظاهرة فرحانين بانتصارهم علينا، واتحولت من مجرمة، لرمز، جات لها عروض زواج، وطلبات من أصحاب المسارح والسينما، يطلبوا منها تغني وتمثل قصتها المثيرة مع الذئب الشرقي، ذئب ياكلهم، نضحك على تعقيبها.
أبويا كان ح يتجنن، تضيف: قال الشاب ضاع دمه هدر، اللي زاد الطينه بلة، إنها طالبت بميراثها منه، ست قادرة؛ كذبت ادعت إنها حامل، أخدت على قلبها فلوس قد الداهية، تخرج أمي جريدة أجنبية ملونه، تقول: ودي جريدة الفيجارو الفرنسية، بتقول إنها ماتت سنة 1971.
سحبها مكاوي من يدها، تركتها له لحظات ثم سحبتها من يده، همست له ح اجيبها لك بعدين تصورها في السر.
قاطعتني أمي:
- وسر ليه، اتفضل يا أستاذ خدهم صورهم براحتك، بس لازم ترجعهم تاني.
طار مكاوي من الفرحة بهذا الكنز السمين، أضافت أمي:
ــــ طبعا حضرتك عارف إن الأستاذ يوسف وهبي عمل القصة دي فيلم اسمه (أولاد الذوات) بعد عشر سنين من الحادثة.
اتخذت أمي وضع المعلمة:
- لما وصل الجثمان مصر، الأول في مينا اسكندرية، وبعدين القاهرة كانت مظاهرة هددت وضع الإنجليز في مصر، وزادت العداوة اللي كانت على آخرها.
وصل الجثمان لباب الحديد، وجنازة مهيبة وصلته لمقابر الأسرة في الإمام الشافعي.
الحكاية ما خلصتش على كدا؟ أبدا. تقول أمي: الجرايد اتبنَّت حملة لعدم الزواج من الأجانب، لدرجة إن ظهر شعار أو مطالب إن الناس ما تنتخبش أعضاء مجلس الأمة من أي مرشح متجوز أجنبية، انضم الكتاب والفنانين للمعركة، وكتب الأستاذ بديع خيري زجل في مجلة (الكشكول)، يسخر من المحامي السير (مارشال هول) اللي بحسب كلامه، وفتحت صفحة بها زجل بديع خيري، مكتوب فيها.. "البنت القبيحة.. جلابة الفضيحة.. تقتل عيني عينك.. وتقول لك قتيلة.. يعمل إيه جنابه.. ما لقاش في جرابه.. غير إنه يشلَّق.. والمقصود وسيلة.. واتاريه سير بولاقي.. من الصنف الأشلاقي.. إن فرش الملاية.. تتبهدل قبيلة.. مين فينا يعاير.. يا وش الكباير.. نسكت ولا نفتن.. بلاويكم تقيلة".
حتى الأجانب كتبوا عنها؛ كاتب اسمه (بيير فروندويه) كتب مسرحية اسمها (العاصية)، في المكتبة بتاعة أبويا، ما هو كان بيقرا بالإنجليزي والفرنساوي.
أما أخته الست عائشة هانم كانت أعجوبة برضه، اتجوزت يوسف بك وهبي، وبعده اتجوزت المونولوجست محمود شكوكو، ويظهر إن العيلة دي موعودة باهتمام الصحافة، يوسف بك قوِّم الدنيا وما قعَّدهاش، هاجم شكوكو، طلب من الملك فاروق إنه يمنع زواج بنات الأسر العريقة من الرِّعاع، تُقلِّد طريقة يوسف بك وهبي، تكمل، وأجبروه يطلقها، ما اعرفش كانت قصة حب ولا إعجاب، أما الأخت التالتة عزيزة هانم فهمي، اختارت تبقى خارج الأضواء؛ عاشت حياتها بعيد عن عيون الصحافة، لدرجة إن بعض الناس بتستغرب إن لهم أخت تالتة.
كلفني ميكي بالبحث عن مقالات قديمة في ارشيف مجلتي روز اليوسف وصباح الخير عن الناشر المعروف (محمد مدبولي)؛ باعتباره أحد شخصيات الجزء الثاني من مقتنيات وسط البلد، تذكرت مدى حبي وإعجابي بهذا الرجل العصامي؛ لدرجة أني فكرت أن يكون أول كتاب يحمل اسمي، عن مذكرات عم مدبولي؛ سخر مني مكاوي حينها: كان غيرك أشطر، دا جمال حمدان بجلالة قدره طلب منه إنه يكتب مذكراته، وهو رفض، ح يوافق ليكي انتي؟.
بالفعل ذهبت إلى الحاج مدبولي عام 2008 اعرض عليه فكرة كتابة مذكراته، لم أجده، قالوا إنه مريض ويعالج حاليا في مستشفى المعادي، بعدها بيومين أُعلن خبر وفاته، مرت سحابة حزينة على وسط البلد، جلست أبكي على هذا الرجل الجميل، هدَّأني مكاوي، تهت في حكاياته هو والمهندس ناجي الشناوي عن تاريخ الحاج مدبولي، بداية من فرشة الكتب أمام رصيف جروبي وهو لم يكمل الخمس سنوات، يعمل مع أبيه وأخيه في مهنة توزيع الكتب، ثم كشك مدبولي الذي كان من أهم معالم ميدان طلعت حرب، أمام مكتبته الحالية التي افتتحها عام 1974، وتعنّت الرئيس السادات في إجبار البلدية على إزالة الكشك، الذي كتبت عنه الصحف الأجنبية بأنه من أهم معالم وسط البلد المؤثرة، ليس فقط بنوعية زبائنه التي هي أسماء كبيرة في عالم السياسة والأدب، ولكن أيضا لدوره الكبير في نشر الثقافة في مصر والعالم العربي.
جمعنا ميكي في (استوريل)، أو ما تبقَّى منا على صلة، كي نحتفل بعيد ميلاده، رفض أن يخبرنا عمره الحقيقي، طلب منا عدم اصطحاب الأطفال والأزواج.
يقول: موش كفاية مستحملكم، ما عنديش مرارة أستحمل عيالكم واجوزاكم، وانتي بلاش أمك برضه، الست بزادة تُصَنَّف ضمن الأطفال.
أحضر لنا هدية، عبارة عن كراسات، طلب منَّا باعتبارنا بطلات روايته الجديدة أن تكمل كل واحدة منا عدة جمل توضح مفتاح شخصيتها التي سيبني عليها روايته عنا، بحيث تعكس دواخلنا، اعتذرت سماهر لانشغالها بتجهيز معرضها الفني.
سيمنحنا وقتًا يحدده هو.
قال: اللي موش ح تعمل الواجب، ح اكتب عنها أزفت كتابة.
وسيأخذ هذه الكراسات منا جميعا في وقت واحد، ارتبكت راجية.
قالت بتجهُّم: ونعملها جلسة سيكودراما، ونقرا بقى بلاوي بعض، لا يا عم أنا موش لاعبة.
ضحك مكاوي: طبعا بلاويكي تنوء بحملها الجبال، لا، هاقرأ كل حالة لوحدي، إلا انتي هاقرأ حالتك لكل وسط البلد.
ضحكنا، همستُ لها: ما تخافيش؛ بيهزر.
أضفت أنه أمين.. يحفظ أسرار صديقاته، لا أعرف كيف سمعني.
مال ناحيتها: أنا دكتور وسط البلد، وح احجز لك أوضة في عنبر المجانين، عايزاه انفرادي ولا مع صاحباتك؟
نظر إليها، ضحك بخباثة: أنا عارف طلبك، عايزة أوضة مشتركة مع راجل غني وحليوة، عادتك ولا ح تشتريها، لا تقلقي، عارف ذوقك.
منذ زمن لم نضحك كما فعلنا في عيد ميلاد ميكي، لم نكن نعرف أنه عيد ميلاده الأخير، هاتفَنا جميعا يوم السبت 1 ديسمبر، طلب منا تسليم الكراسات بما حملت من كتاباتنا، اتفقنا على اللقاء في زهرة البستان صباحا، قبل أن نخطو نبحث عنه، عرفنا بموته، لم نصدق، حاولنا تكذيب الخبر، أكَّد (عاطف سلامة) جرسون زهرة البستان وصديقنا، أنه صحيح، لأن كاتب النعي هو المهندس (ناجي الشناوي)، وهو مصدر ثقة، لا يمكن أن يتورط في كذبة، بين دموعنا، اندفسنا جميعا في عربة سيناء، نلحق بوداعه، نصلي عليه بمسجد السيدة نفيسة، عدنا للزهرة، انضم إلينا الكاتب (إبراهيم عبدالمجيد)، انهارت (آلاء سنان)، صديقته الأثيرة، كان ينشر صورته معها ويكتب فوقها "أن تحبك آلاء".. بدلا من (جيهان)، عنوان راوينه الاخيرة " إن تحبك جيهان" بكته بحرقة (نهلة كرم) ابنته بالتبني الأدبي.
عدت لسيارة سيناء لأسترد شنطتي وشالي الأسود، وجدت الكراسات تنعي حظها في أرضية السيارة، لا أعرف لماذا أخذتها خفيةً، احتفظت بها، لم يسألن عنها أبدا.
كتبت لوليتا
بئري هو جسدي الذي حمل متاعب ومتاع البشر، ليس عميقا كفاية، ولا مهجورا أو فارغا، أعرف الحيلة التي تجعله وفق الحد المطلوب، سخي، لعوب، شبق، مراهق، يعبثون بهذا الجسد الشقي الجميل، أتركه لهم، أملك وسائلي الخاصة، بصبر ودربة أحمي روحا أنهكتها الكراهية، دؤوبة أنا على حراسة كراهيتي، كي لا تنقص مثقال ذرة،. أكره الحب، أكرهه أكثر من الموت، أكثر من كراهيتي لكل الرجال الذين وَطَأوني. بئري هو مستودع لكل العابرين، يلقون ما تنوء به أحمالهم، بئري جديرة بحمل أسرارهم، خطاياهم، عقدهم وأوهامهم، فهل أنتم ملقون.
سميحة
تجيد روحي الإخفاء التام ألمي العظيم، أخفيته، ردمت كل عمقها، جعلته سطحعا بارزا، سيظل ما بداخلي مطمورا، حتى إذا حفر النابشون في تاريخي ألف حفرة، لن يعرفوا، ضاعت ملامح المحتويات، ولا عزاء للنابشين.
سيناء
روحي ي مرئية، واضحة، لا مكان فيها للغموض، يسطع ما بداخلها كالشمس،، روحا مستوية، صحراء ينبت لها بعض جذور الصبار، أشجار الشوك والحنظل، سطحي أملس كجسدي، كحياتي.
راجية
دائما هناك أشياء مخفية، لا بد أن تكون مخفية، في ذلك العمق المهجور؛ المسمى العقل الباطن، العقل الذي يسترنا على الأقل أمام الآخرين، ذلك الذي نُلقي فيه زبالةَ أفكارنا، أمراضنا، الآثام التي لا نستطيع تحمل عبئِها، أنا أعشق ذلك الباطن الجميل، الأكثر فِتنةً مما تتصورون.
سلمى
أحلامي التي ترافقني ليل نهار، أو قل كوابيسي التي تجسِّد ما سأكون عليه، هل هي تكفير عن آثامي، هل هي عقابي في الدنيا.
********
هل يجوز الآن، بعد ما يمر به جسدي من تحولات أن أضيف، أن لعنة عدم الرغبة، تلاشيها، كان عقابًا مناسبًا، عُقمي، وأد أمومتي، ضياع الحب، لم أفهم ولن يفهم أيٌّ منكم، معنى أن تضيع رغبتك، ألا تشتاق، أن تهجرك لذة الاشتهاء، متعة أن تحصل على ما تشتهي، أن يستمتع جسدك بجسد آخر يملأه سعادة، تلك المتعة، تنسلُّ من أيام حياتنا، لن ندرك أهميتها، جمالها، مهما حاولنا، إلا بعد فنائها.
********
هل حصلت أمهاتنا على كامل الارتواء، أم أن خبايا الأمومة تخجل من الإفصاح، لماذا بعد الخمسين يتسرب إلينا إحساس بأن أمهاتنا طاهرات مطهَّرات، لم يتدلَّلن، لم تروادهن الرغبة، لم يحرقهن شوق ولا احتياج، لم يخلعن ملابسهن أبدا، وأننا لم نولد من أرحامهن، الرحم ذاته الذي يتلقى بويضة الأب، بعد التحامٍ وتعرٍّ، تأوّهٍ ولذةٍ، ذوبان وانصهار، متعة.
**********
لماذا صارت أمهاتنا ملائكة بملابس بيضاء وسبحة وسجادة صلاة، حتى أنهن يخجلن من تعريف بناتهن بما يحدث ليلة زفافهن، رفضت أمي الرد على أسئلتي: ولما اتوِجِع يا ماما أتصرف ازاي.
ردت أختي سهى: اتشطفي بمطهر ومية سخنة يا حبيبتي، أنا مجهزة لك كل حاجة في الحمام.
لا يتذكرن أوقات فُحشِهن، تخجل بعض الأمهات؛ كأمي، وأم سماهر، مريم وفريدة من تعريف بناتهن تفاصيل ليلة الدخلة ولا كيف يتصرفن، هل كما يقلن "المتعة زائلة"، هل انمحت تلك اللحظات التي شغلتهن كثيرا، وعشنها مرارا وتكرارا.
لعبة الهَبَّات الساخنة
وحدي؛ تلاعبني هبَّاتي الساخنة، أرقب جفاف جلدي، نتيجة العرق النازف ليل نهار من جسمي، أسكنه بمضاد حساسية، ربما تهدأ رغبتي في هرش كل جزء فيه..
أدعو الله: يا رب متى ينتهي هذا العذاب؟
أشرب مئات اللترات من المياه يوميا، لا فائدة، تنصحني الدكتورة (منال علي) طبيبة العلاج بالتغذية بتناول الأعشاب، تؤكد أنها ستساعدني كثيرا في تقليل ألم سخونة جسدي، الكثير من المريمية، واليانسون، الحلبة، البردقوش، وأن أتعاطي جرعات من الكالسيوم بانتظام يومي، كي أحافظ على ما تبقَّى من عظامي بدون هشاشة، أتابع على قنوات اليوتيوب نصائح دكتور (بيرج) أستاذ التغذية، الذي ينصح بتناول الكثير من الخضروات الصليبية؛ السبانخ، الفجل، الجرجير، الكرنب المسلوق، الأفوكادو، أصبحت زبونة دائمة لدى بائع الخضروات عم محمد، الذي احتل ناصية تقاطع شارع مظلوم مع هدى شعرواي، زرعه ملك الزبالة في السبعنيات، (ا ـ ر)، استقى من حكايته السيناريست (أحمد عبدالوهاب) قصة وسيناريو وحوار فيلم (انتبهوا أيها السادة)، وقدَّم دوره محمود ياسين، يقول المسنُّون في المنطقة إنه كان نافذا لدى السلطات، تستعين به لزرع زبالين وباعة جائلين، للتجسس على من يُشتبه في عمله بالسياسية في دائرة وسط البلد، خاصة الشيوعين.
طرقات جماعية على الباب، رنات جرس مرحة، تدخل أمي يسبقها شمس وقمر، كبرا بسرعة ، كأني لم أرهما منذ سنين، أنحني أقبلهما، يرتميان في حِضني، ينادياني في صوت واحد: ماما سلمى، ماما سلمى.
صامتة؛ أنظر لأمي مُستفهِمة، تأخذني من يدي.. "تعالوا يا اولاد، تعالي يا بنت يا سلمى).
- أحكي لكم حكاية بنت جميلة اسمها سلمى، أحن وأجدع البنات، أمها دايما تزعق لها، تتخانق معاها، وهي تسكت وتصبر.
تدمع عيون أمي: هي عبيطة شوية، فاكرة إن ماما موش بتحبها، بعد خمس سنين جواز ربنا كرمني وخلفت سهى، وتخيَّلت إنه كدا خلاص، قطَعْت خَلَف، لحد ما ربنا كرمني وبَعَت بنوتة حلوة اسمها سلمى.
تكمل: ماما زي أي أم فاكرة نفسها ناصحة، وقال إيه عارفة مصلحتها أكتر منها، وإنها بتسعدها، والحقيقة أمها غلطت، وآذتها كتير، عشان كدا يا ولاد، ماما اللي هي (تيتة) بتاعتكم، جاية تعتذر للبنت الحلوة سلمى.
قمت أبكي، أقبل رأس أمي ويديها، تمسح أمي دموعها
- بس كفاية يا سلمى.. إنتي لسه دراما كوين؟
أضحك وأبكي: تقريبا لسه يا ماما.
- بصِّي بقى يا حبيبة أمك، أنا فكرت كتير، العيال دول تعويض ربنا ليكي، خلي بالك منهم، أنا كبرت، ولو عشت النهاردا، موش ح اعيش بكرة، بذمتك في أحلى من كدا تعويض من ربنا.
مازالت تجلو قلبي وقلبها: ولو إنتي متضايقة من أنتيكاتي وتحفي الثمينة، بيعي اللي موش عاجبك، بس موش كلهم والنبي، أنا بقيت أحس إن البيت زحمة، محتاجين مساحة نتحرك ونتنفس فيها.
أغلقتُ الشقة التي كنا نسميها شقة البنات، انتقلتُ للعيش مع أمي، وشمس وقمر حياتي، صرنا نلعب لعبة أسميناها الهَبَّات الساخنة، اتفقنا على أنه عندما أحس ببداية الهَبَّات، أصرخ قائلة: هوبَّاااااااا.
يتنطط حولي شمس وقمر، يرشان بالماء وجهي، تقف أمي بفوطة، وروب حراري، اشترته خصيصا لأجلي، كي يدفئ جسدي عند كل هبَّة.
*****