يتجلى المكان: إبداعاً وأصداء لدى شعراء العامية في الفيوم منذ عقود، حيث يفرض موقعها الفيوم نفسه في نفوسهم؛ كونه منخفضاً طبيعياً، أكبر من الواحة وأصغر من الإقليم، ينأى عن النيل وواديه، بعيداً إلى الصحراء الغربية، وإن كانت تربته ترتوي بماء النيل عبر ترعة بحر يوسف. وقد تبارت الأجيال الأولى في شعراء الفيوم في شعر الطبيعة والوصف، سواء بالعامية أو الفصحى معتمدين على الشكل العمودي المشابه، وجاء وصفهم المكاني للوطن الصغير والوطن الكبير، وعندما شجبوا الوطن المكان، فقد أدانوه بخطاب مباشر، ينتقد الجزئيات والسلبيات، ولكنه يؤكد على تمسكه بالمكان، وانتمائه للوطن. يبدو هذا في تجارب الشعراء: ابن حنضل، ومحمد حواس، محمد البسيوني، ومن لحقهم من جيل الشباب مثل عبد الكريم عبد الحميد وغيرهم، على أن الجيل الجديد (شعراء حقبة الثمانينيات وما بعدها) تفاعلوا مع الوطن/ القطر /المكان، وعكسوا التطور في شعر العامية الحديث: شعر التفعيلة وقصيدة النثر، فظهر المكان بشكل مختلف، لا يقتصر على الفيوم المدينة والطبيعة، وإنما أضحى المكان متسعاً باتساع الوطن، ممتداً إلى خارج الوطن في السفر وبلاد الاغتراب، انزوت فيه ملامح المدينة الصغيرة، لتصبح ملامح عامة، تتشابه فيها مع سائر المدن في مصر وخارجها، وهذا بالطبع ليس علامة سلبية كما يُظَن في الوهلة الأولى، وإنما هو علامة إيجابية، تتمثل في إيجاد تراكم إبداعي، يضاف لما سبق، ويقرأ المكان في تجلياته في المدينة الصغيرة، وارتباطها بالقطر الأكبر/ الوطن، والفضاء الأرحب (مجتمع العروبة والعالم).
وهذا ما نجده في قراءتنا لشعر العامية في الفيوم عبر استعراضنا لنماذج من نصوص الجيل الجديد من مثل: محمد عبد المعطي (رحمه الله)، محمد حسني إبراهيم، مصطفى عبد الباقي، سيد لطفي، وهم وإن تفاوتت أعمارهم، واختلف التراكم الإبداعي لديهم، إلا أنهم يتجاورون في إبداع قصيدة العامية الجديدة بتدفق، يشي بالكثير من المشترك بينهم، ودراسة تجليات المكان فيها، ولعل الانطباع الأول في علاقة شاعر العامية بالمكان، تبدو متقابلة، بين حميميّة الانتماء، ومعارضة الانزواء، بين الرغبة في الالتصاق بالأرض، ومشاعر الاغتراب المكاني، بين إدانة السفر للبعض، والتماس العذر لمن اختار الغربة وطناً. وهذا ما سيبرز في المحاور الآتية:
المكان/ النيل/ الحلم
حيث نرى الانفعال مع الوطن الكبير (مصر)، وهو تفاعل يمتزج بثنايا الخطاب الشعري، يقول محمد عبد المعطي معبراً عن روح هذا التوحد بالمكان/ الوطن، متخذاً مفردة النيل عنواناً لهذا التوحد، متوجها إلى المحبوبة الحلم:
والتقيكي بين عيوني بتسجدي
تتعبدي.. تتوضي من صبح الندى وتجسّدي
نيلي فـ عروقي وترصدي
نبضي في وريدك تنشدي غنوة صباحي وتفرضي
دمك في دمي توحدي.. تتوحدي...
وأصب نيلي واكتمل آية خصوبة فـ أرض بور
وأثبت الصورة.. أشتعل
أحلم.... أغيب(1)
الخطاب الشعري هنا موجه للأنثى/ الوطن، وقد مزج في طياته أبرز سمات الوطن ومعالمه المكانية ألا وهو النيل النهر والحضارة، وقد عبر عن الامتزاج بين الذات الشاعرة والوطن من خلال الدم: "دمك في دمي توحدي"، ويضيف النيل إلى ذاته، بإضافة ياء المتكلم إليه (نيلي)، والذي كان يوماً سبباً للحضارة حول واديه، ليكون النيل أبرز ملامح الوطن/ المكان، سبيلاً إلى النماء الجديد، الذي يعبر عنه بقوله "خصوبة فـ أرض بور"، فالخصوبة علامة على الحضارة، وسط صحراء مصر بشقيها الغربي والشرقي. ولو أعدنا قراءة هذا الطرح في ضوء عنوان القصيدة، نرى حلماً، يعبر – في دائرة المسكوت عنه – عن أزمة الوطن المعاصر بكل تداعيات هذه الأزمة، لذا لا غرابة أن تنتهي القصيدة بـ"أحلم... أغيب"، في إشارة إلى أن المكان/ الوطن الكبير، بات مؤرقاً، مانعاً لأحلام اليقظة.
ويؤكد هذا الملمح في قصيدة "نفس الشوارع"، معبرة عن تيه الذات وسط شوارع المدينة/ الوطن، التي أورثتهم الجنون والخوف:
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت مني.. سافر الإيقاع
العشق تعويذة
النيل عطش
شعر البنت تكعيبة ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع مسألة هزلية، واحنا بنخاف
م الحكومة ونستخبى ف الهدوم"(2).
لم تعد الشوارع معبرة عن ألفة أبناء الوطن، إنها مسألة هزلية، فالشوارع التي تسمح للمواطن بالسير وتمنعه من التظاهر والتعبير عن حبه؛ هي شوارع طاردة، لذا، بات المواطن، مختبئاً في ملابسه من الحكومة، خوفاً، وإيثاراً للسلامة. وتكون النتيجة الطبيعية لهذا، أن جف النيل "النيل عطش"، لتنقلب الدلالة، ويصبح النيل شاهداً على تهاوي الوطن ومواطنيه، وبدلاً أن يكون النيل هبة لمصر، صار شاهداً على انزواء مصر، ومن ثم جف ماؤه، وبدلاً أن يكون شعر المحبوبة مثل تكعيبة العنب خضرةً، وباتت الضفائر مشابهة للثعابين في التفافها.
وتتشابه التيمة لدى محمد حسني في قصيدته "عرايس النيل"، وهي تتناص مع عادة الفراعنة القدامى، بتقديم أجمل بناتهم لمياه النهر أملا في فيضان مبارك، وتوسلاً لعدم انقطاع المياه، لب حياتهم وحضارتهم، يقول:
"..أول عرايس النيل تشد ف دمعتي آخر عروسة نيل بتتمرغ ف قلبي"
غنايا سر تعويذتك/ على الجدران بتقراني
تسمعني رنين النيل
وإذا فكرت أقول مواويل
ألاقي صوتي مش مسموع، وأنا فاكر غناكي تماماً"(3).
التناص مع "عرايس النيل"، فيه وجهان متقابلان: استحضار الحضارة الفرعونية بكل إنجازاتها، وعاداتها، ورموزها، وهو استحضار للفخر، والوجه الثاني: بكاء على حالة معاصرة، تراجع فيها الوطن، وهذا ما عبر عنه مفتتح النص فعرايس النيل "تشد ف دمعتي"، "بتتمرغ ف قلبي"، وكلتاهما ممتزجة بالذات الشاعرة بإضافة ضمير المتكلم. ومن مظاهر أزمة الوطن/ المكان، الأذن الصماء التي لا تسمع أنين الآخرين، مثلما لا تسمع شدو الشاعر، وقد توحدت الذات مع النيل توحداً جماليا، باستخدام مفردات الصوت: (غنايا، رنين، مواويل، صوتي)، ويصبح الصوت مظهراً للحضارة، وأيضاً جسراً للتعبير عن ذات اكتوت بمن لا يسمعها.
كلا من محمد عبد المعطي، ومحمد حسني، من جيل واحد، وفي سن متقاربة، وقد جاء كلا النصين في خضم تجربة واحدة، في زمن واحد؛ كما يشير تاريخ نشر الديوانين، فالفارق الزمني بينهما عامان تقريباً. ويشتد الصوت بإدانة في تجربة محمد حسني، في آخر دواوينه، حيث يتحول الخطاب إلى صراخ، في قصيدة حملت عنوان "النيل" أيضاً، وكأنه الرابط بالوطن، والعلامة أيضاً على الوطن، يقول:
أنت اللي عارفينك وطن
وصبرت لما كبرت فيك
علمتنا معنى السكن
وزرعت فينا الخوف عليك....
فلو سمحت تقول لنا: هاتجيب منين تقاوي تشبه أصلنا؟
واحنا إن لقينا ف وسطنا
بذرة ومن ريحة بطل نزرعها فين...؟(4).
الخطاب واضح مباشر، يحمل إدانة لتغييب أبناء الوطن، لذا جاء بضمير الجمع "تقول لنا، أصلنا، نزرعها"، مقارناً بين حالين: ما تم غرسه في النفوس من حب الوطن (زرعت فينا الخوف عليك)، وبين حال راهنة، صارت أرض الوطن فيه طاردةً أبناءها، إن الضدية أساس الرؤية في هذا الخطاب، فهي تطرح سؤال الانتماء: بين تنظير وغرس يتلقاه الشعب في المدرسة والإعلام والخطب، ثم يجد الوطن/ المكان مختطفاً منه.
المكان/ الطارد
عندما يصبح المكان دافعاً للانزواء، وهذا نتيجة حتمية لتهاوي الحلم في المكان/ الوطن، فشعرت الذات بعمق الأزمة، فاختارت المنفى، ليصبح المكان الوطن منفى، وقد يكون ما هو أكثر، يقول مصطفى عبد الباقي:
لسّاك بتكابر
اضربها في راسك واعقلها
وساعتها
إديني أمارة أنك تسوى
وانك مش أكتر من ضل الحيط
ديتها دمعة
ربيتها في كوم اللحم
وشوية بكش(5).
إن قضية قيمة الفرد في الوطن هي الشغل الشاغل، وقد جاء تعبير "ضل الحيط" مجسداً هذا المعنى، وهو من علامات المكان، فالظل انعكاس لشيء محسوس مادي، والحائط لا تقام إلا في مكان، وظل الحائط تعبير عن الوجود وعدمه، فالظل يجسد وجود شيء، وفي الحقيقة هو لاشيء، إنه تعبير عدمي، شديد الدقة، لأن الحائط يستلزم مكاناً، والمكان المقصود هو الوطن، الذي يتعامل مع أبنائه على أنهم ظلال، أشباه رجال، فيمكن للوطن أن يعترف بالحائط المادي، ولكنه لن يعترف بمكانة هذا الحائط ولا بمعنى انتصابه، ويأتي الخطاب الشعري هنا بضمير المخاطب، معبراً عن مكانة الفرد/ الذات/ الآخر، فهو في النهاية: دمعة، وبعض البكش أو الكلام المزخرف. ويقول:
الأرض بتتكلم صيني
وأنا..
رحت ميه ورا خرم الباب
وباقلد العتمة(6)
هنا تناص مع الأغنية الشهيرة "الأرض بتتكلم عربي"، التي تغنى بها سيد مكاوي في زمن الحقبة القوميّة، ولكن التناص يأتي بالسلب، لتصبح الأرض ذات دلالتين مكانيتين مترابطتين، الأولى: إن الأرض - هنا - ليست هي أرض العروبة (العالم العربي) وإنما كوكب الأرض المغرق بالبضائع الصينية، أما الدلالة الثانية فهي أن الوطن مصر بات غارقاً في الصيني: بضائع وبشراً وتجاراً، بينما انزوى الإنسان المصري، يراقب تراجع الوطن صناعة وإبداعاً، مؤثراً المنتوج الصيني رخيص الثمن، على الإنتاج الوطني المدعم من الحكومة، خلف الباب ينظر من فتحته، إلى عتمة وظلام، وهو غارق في عرقه خجلاً وقد يكون خوفاً؛ إنها صورة سيريالية، فالذات تسبح في عرقها، وتبحلق في الظلام.
أما الشاعر سيد لطفي، فهو يعزف على وتر أشد شجناً، يقول:
"... وبلاش تتكلم،
عن طعم الغربة في حضن بلادك
اعتبر إنك مفطوم.
..........
- خايف؟
- طبعا.
- ليه؟
- أصلها أول مرة أموت.
- وآخر مرة، غمض عينيك واشرب
بدل ما تستناه روح له، مادام مش قادر تهرب، اشرب"(7)
الخطاب موجه إلى الذات الشاعرة وأيضاً لكل ذات على أرض الوطن/ المكان، حيث يأتي تعبير "حضن بلادك" مؤكداً حقيقة الانتماء للوطن، وأن الإحساس بالغربة على أرض الوطن هو الأشد مرارة، ولذا جاءت الصورة واصفة الوطن حضن الأم، معتبرة أن الفطام يعني ترك هذا الحضن، وبتعبير آخر، فإن الفطام يتحور لغوياً من ترك ثدي الأم، إلى ترك حضن الوطن، وفي كلتا الحالتين، فإن الوطن كالأم، لا تنكر ابنها مهما قست عليه، مثلما لا يمكن الابن بنوته، مهما تناءى عنها. الحوارية التي أعقبت هذا، كانت منولوجاً في أعماق الذات، يشي بمشاعر من الخوف، ولكن الخوف ليس من رجال الأمن، وإنما من الموت، وكأنه يستعد للموت، وأن الموت حتمي لا فرار منه، وفي ثنايا النص، فإن الموت يعني الهروب عن الوطن، وبدلاً من انتظار الموت، فلتذهب له. وهنا نجد تتطوراً في العلاقة مع الوطن، فقد بات الاغتراب عنه أمر مسلم، وبات الموت على ثراه أمر مألوف، وهذا الموت لا يعني الموت الإكلينيكي، بقدر ما هو اغتيال الذات بنفيها وإقصائها.
إن الاغتراب المكاني لا يهدئ الذات، بل يشعلها، وهذا ما يؤكده محمد حسني، بقوله:
سافر وخطاويك الحزينة هتلاقيك
وهايعرف المشوار بداية خضتك
بتقول سنين ما هتعرفكش
وانت اللي ملبوس بالوطن والأمكنة(8).
المفارقة أن يكون عنوان النص "استغماية"، وهي لعبة شائعة، أساسها المطاردة بين فريقين أو فردين، وهي لعبة مكانية، فالمطاردة تقتضي أمكنة للاختباء والركض، وهنا يصبح اللعب بين الذات الشاعرة والوطن، فعندما فرت الذات إلى الغربة، طاردها الوطن في أعماقها، وكأنها مسحورة بعفريت أمكنته، ونلحظ استخدام الشاعر مفردات مكانيّة، فالخطوات الحزينة لا تبدو إلا على فضاء مكاني، والمشوار ما هو إلا قطع لمسافة مكانية. وهذا ما يجعله يخاطب نادي حافظ – شاعر من الفيوم مغترب بالخليج – بنبرة تحذيرية:
رايح لقدرك
بس نيلك عطش
والخوف تكون رايح تسف الرمل
أو ترمي ندرك ليه
الخوف عليك أكتر هناك تستطعمه
ترجع ما تعرفش الخضار
غير العلامة الوسخة على وش الدولار(9).
يكرر تعبيره "نيلك عطش" الذي يتناغم مع معطيات جمالية مرت بنا، ولكن النيل يأتي بخصوصية ذات المخاطَب، في إشارة إلى صعوبة الحياة في الوطن فبات طارداً أبناءه. وتأتي مفردة: "الخضار" معبرة عن اخضرار الوطن أمام مفردة "الرمل" المعبرة عن أرض المهجر.
المسافة بين المكان الحلم، والمكان الطارد غير موجودة، فكلاهما معبر عن مكان واحد، إنه الوطن، ولكن المسافة بين الذات المبدعة والمكان الحلم تتباعد كلما ابتعد الوطن عنها، وحاربها.
الهوامش
(1) محمد عبد المعطي، ديوان "بنت ما ولدتهاش ولادة"، منشورات فرع ثقافة الفيوم، 2000، ص.13-14، قصيدة "باحلم.. باغيب".
(2) السابق، ص.35.
(3) محمد حسني إبراهيم، ديوان "أو خطاوي العشق موت"، نشر خاص بالشاعر، 1998م، ص.3-4.
(4) محمد حسني إبراهيم، ديوان "المكان جواك محاصر"، دار اكتب للنشر، القاهرة، 2008م. ص18.
(5) مصطفى عبد الباقي، ديوان "صباح يوم بيتكرر كثير"، صادر عن سلسلة إبداعات، ع.(253)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2008م، ص.35.
(6) السابق، ص.69.
(7) سيد لطفي، عادة كل يوم، منشورات إقليم ثقافة الفيوم، 2003، ص.5.
(8) المكان جواك محاصر، ص.24.
(9) السابق، ص.6.