طالعتنا نشرات الأخبار في الأسبوع الأخير بأخبار سيئة عن ارتفاع درجات الحرارة في العالم كله. تركيا تعاني من ارتفاع درجات الحرارة بشكل يقلص أعداد السياح، بينما اليونان وصفت ما يحدث عندها بالحرب الطاحنة، حيث نشبت في عدة جزر منها حرائق واسعة النطاق، وأرسلت مصر طائرات مروحية لإطفاء الحرائق، بينما راحت روسيا كالعادة توجه الحدث في اتجاهات سياسية، وتعلن أنها على استعداد لإرسال قوات الطوارئ والمروحيات الروسية الضخمة المخصصة لإطفاء الحرائق في حال إذا قدمت أثينا طلبا رسميا بذلك. وكانت الجزائر أيضا تتابع العالم بما يجري فيها من حرائق في عدة ولايات، وتتحدث وسائل إعلامها بالإنجازات الجبارة في إخماد الحرائق، وفي الوقت نفسه تبث بيانات غريبة عن استمرارها، وعن الخسائر المروعة..
كانت الدول العربية وإيران وتركيا غارقة في قضية حرق القرآن في السويد والدانمارك، وأزمات القمح والمياه، والتركيز على المظالم التي تطولها من الغرب بإهانة مقدساتها، وتقسم بأن الحرب الروسية الأوكرانية هي السبب في نكباتها ومشاكلها الغذائية. وتطالب حكوماتها بمقاطعة البضائع السويدية والدانماركية وطرد السفراء وقطع العلاقات إلى أن تسلم الدولتان مواطنيهم الذين قاموا بهذه الجرائم البشعة. كل ذلك والحرب الروسية الأوكرانية في منتصف عامها الثاني، ولا غالب ولا مغلوب، والأمور تتطور إلى سيناريوهات مخيفة.
في هذا اليوم تحديدا كان المطر يهطل على موسكو بشكل غريب، ودرجات الحرارة تتراوح بين الخمس عشرة درجة ليلا والعشرين نهارا. وهذا طقس معتدل يثير الحسد، لا يفسده إلا أخبار الحرب، ورفع سن التجنيد، وكذلك رفع سقف أعمار العسكريين في قوات الاحتياط. إضافة إلى هجمات المسيرات التي وصلت إلى العاصمة موسكو. كانت رائحة التربة بعد المطر وخلال هطوله المتقطع تنبعث بقوة وتملأ الصدر بالحياة، والشوارع نظيفة وإشارات المرور تعمل بدقة شديدة، وقطرات المياه العالقة على الأشجار في الشوارع تلمع على استحياء، ويتساقط بعضها على رؤوس المارة القليلين للغاية. كانت الشوارع شبه خالية، ربما لأنهم استدعوا أعدادا ضخمة من الشباب والبالغين للحرب، وربما لأن أعدادا كبيرة أخرى توجهت بسبب الحرب إلى دول مثل أرمينيا وجورجيا وكازاخستان وأوزبكستان والإمارات وبعض الدول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة.
في صباح هذا اليوم مررتُ على العيادة الطبية لإجراء رسم قلب، وعمل أشعة على الصدر والظهر. ففي الأيام الأخيرة، شعرتُ ببعض الآلام والتقلصات في الجانب الأيمن من الظهر عند أسفل الضلوع. وعندما هممتُ بدخول العيادة، أوقفتني سيدة في حوالي الثمانين من عمرها، ترتدي فستانا زهريا جميلا، وشعرها الأبيض المصفف بعناية وبطريقة تدل على ذوق رفيع، يطل بكبرياء من تحت قبعتها النسائية البيضاء، وعلى وجهها ابتسامة رقيقة. قالت لي في خجل شديد، وعيناها تشعان ببريق جذاب: "هل يمكنك أن تساعدني في خلع هذه الأكياس من قدمي؟" وظلت تنظر إلىَّ بنفس الابتسامة وبنفس البريق الذي يشع من عينيها. لا أدري إلا وأنا قد انحنيتُ، فرفعتْ قدمها الأولى بهدوء، وأنا أشعر بنفس الابتسامة والبريق يندلقان على رأسي. خَلَّصْتُ قدمها الأولى من الكيس، ثم انتظرتُ وأنا في نفس وضع الانحناءة لأن ترفع قدمها الثانية. فرفعتها بنفس الهدوء. وعندما اعتدلتُ، وجدت نفس الابتسامة على وجهها والبريق يفيض من عينيها. شكرتني ببهجة وامتنان، وانصرفت.
دخلتُ إلى العيادة الضخمة ذات الطوابق الأربعة. أخدت كيسين وارتديتهما فوق الحذاء كتقليد صحي معمول به في كل المؤسسات الطبية والمستشفيات. أجريتُ رسم القلب، وقالت المختصة إن النتيجة ستكون جاهزة بعد ثماني وأربعين ساعة، ويمكنني مراجعة طبيبك الذي يشرف على متابعتي، أو الاطلاع على التقرير عبر حسابي الإلكتروني الخاص. توجهتُ إلى الطابق الرابع لإجراء الأشعة. وكان موعدي المحدد مسبقا، بعد حوالي عشرين دقيقة. وفي الواقع كان لدىَّ موعدان. الأول في الساعة الثانية وعشرين دقيقة بعد الظهر لإجراء أشعة على الصدر. والثاني في الثانية وأربعين دقيقة لإجراء أشعة على الضلوع من الجانب ومن الخلف.
كل مريض يستغرق عشر دقائق فقط لإجراء الأشعة. وكان من الأفضل لي، والمتوافر على شاشة الكمبيوتر أثناء اختياري للمواعيد، هما هذان الموعدان. وكنت أعرف أن المختصة سوف تقوم بإجراء الأشعتين في مرة واحدة. ولكن هذا هو النظام: لكل أشعة موعد. وكان ذلك يعني أن هناك مريضا سيدخل بعدي في الساعة الثانية وثلاثين دقيقة، ثم أدخل أنا في الساعة الثانية وأربعين دقيقة. وجدتُ في صالة الانتظار الصغيرة رجلا ربما قيرغيزيا أو طاجيكيا ومعه امرأة تبدو ابنته ينتظران. وإلى جوارهما كانت هناك فتاة روسية تبدو في الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت غرفة الأشعة مشغولة.
عندما استدعت المختصة، الفتاة الروسية، جاء رجل في حوالي الأربعين من عمره يسير على عكازين. راح يسأل بهدوء وابتسامة وديعة على وجهه: "هل هناك دور محدد أم أنهم يستدعون المرضى وفق ترتيب معين، او حسب أولوية الحضور؟! وهل هناك أحد بعد الساعة الثالثة؟" أجاب الجميع بأنهم جاؤوا في موعدهم وينتظرون استدعاء المختصة. فابتسم مرة أخرى وقال: "أنا موعدي في الساعة الرابعة تماما. إذًا، علىَّ أن أنتظر". وبدأ يتخلى في صعوبة عن أحد العكازين استعدادا للجلوس على أحد المقاعد. راح يبذل مجهودا واضحا وعلامات الألم تظهر على ملامحه. سألتُه: "هل يمكننني مساعدتك؟" فابتسم وقال: "يجب أن أقوم بكل شيء بنفسي، وإلا سأظل طوال الوقت بحاجة للمساعدة". فابتسمنا جميعا. وجلس هو بعد عدة محاولات.
خرجت المختصة لتستدعي الرجل القيرغيزي أو الطاجيكي المسن. حاول أن يخلع معطف المطر الذي يرتديه. فقالت له بصرامة وعلى وجهها ابتسامة: "لا داعي لخلعه هنا. ستخلع كل شيء بالداخل. لدينا اليوم عرض استربتيز مجاني". ضحك الجالسون. وابتسمت المرأة التي ترافقه. همستُ للرجل الأربعيني: "سأحاول أن أسألها إذا كان من الممكن أن تجري لي الأشعتين في مرة واحدة، وأن تستقبلك في المرة الثانية المخصصة لي عند الساعة الثانية وأربعين دقيقة". فنظر إلىَّ بود وامتنان وخجل وهز رأسه بالموافقة. جاء دوري، فاستدعتني بنفس اللهجة الصارمة التي تنطوي على بعض الود والدلال. طلبت مني خلع الجاكت والانتظار قليلا. دخلتْ إلى حجرتها المعزولة جيدا عن الحجرة الكبيرة التي تجري فيها الأشعة وتركتني واقفا. راحت تضغط على أزرار الكمبيوتر بالداخل، وانا أراقبها عبر النافذة الزجاجية الواسعة. ثم خرجت لتوقفني أمام الجهاز وتغطي بعض المناطق في جسدي. قلتُ لها: "لدىَّ موعدان و..."، وقبل أن أكمل، ردت بأنها تعرف ذلك. قلت لها: "هل يمكننا عمل الأشع...". وقبل أن أكمل ردت بأنها ستجري الأشعتين الآن. سألتها عن إمكانية أن تستقبل الرجل الأربعيني في دوري الآخر طالما لن أستخدمه. فلم ترد، وتركتني واتجهت إلى غرفتها المعزولة جيدا وأغلقتها بإحكام وراحت تصدر لي الأوامر من هناك.
انتهيت من إجراء الأشعتين. وقررتُ المحاولة مرة أخرى. فنظرت لي بابتسامة وبنفس الصوت الصارم وقالت: "لا تتدخل فيما لا يعنيك. هذا ليس شأنك. يمكنك الآن ارتداء الجاكت". شكرتها وتمنيت لها يوما طيبا، وانصرفت. وعندما خرجت، وجدتُ عينيِّ الرجل الأربعيني معلقتان بوجهي. فابتسمتُ له وقلتُ: "يبدو أن الأمر صعب للغاية. رفضت رفضا قاطعا وكادت تعتدي علىَّ في الداخل". فابتسم الجالسون الذين زاد عددهم قليلا. وهز الرجل رأسه ببعض الضيق، وابتسم، ثم قال: "إذًا، علىَّ الانتظار حتى الساعة الرابعة"...
في المساء، طلب مني ابني أن أوصله بالسيارة إلى بيت صديقه لحضور حفل عيد ميلاده الذي يجمع عددا من أصدقائهما المشتركين. رحبتُ بذلك، خاصة وأنني كنتُ ارغب بالتجول قليلا. أو بمعنى أوضح، كان يجب أن أقوم بجولتي اليومية لمدة نصف ساعة أو أربعين دقيقة. فقررت أن أضرب عصفورين بحجر واحد: أوصل ابني إلى بيت صديقه، وأقوم بجولتي. وكان المطر لا يزال يهطل بشدة أحيانا، وعلى استحياء في أحيان أخرى. لكن الطقس كان رائعا، ورائحة الأرض تفوح في بهجة تحت حبات المطر، والأشجار حول البيوت وفي الشوارع تتمايل في جلال وهيبة وقطرات المطر تتساقط منها تارة في شكل خط متواصل، وتارة أخرى على شكل زخات صغيرة متقطعة.
أوصلت ابني إلى هدفه، وعدت سريعا. أوقفت السيارة في مكانها المعتاد. وقررتُ القيام بجولتي اليومية. لم أكن أبتعد عن البيت كثيرا. فهناك شوارع رئيسية يمكن السير فيها حول البيت. وهناك حدائق ومساحات واسعة من الخضرة بين البنايات ذات التسعة طوابق التي تميز المنطقة التي أعيش بها طوال السنوات العشرين الأخيرة. وكانت العيادة الطبية تقع على بعد حوالي ثمانمئة متر فقط من بيتنا على ناصيتين لشارعين رئيسيين متقاطعين. وفي الحقيقة، فجولاتي اليومية عادة ما تكون لمدة ساعة حول المربع السكني وبين البنايات.. رائحة الخضرة والأشجار والأرض صيفا منعشة. وفي الشتاء تكون الثلوج المتراكمة ببياضها الأخَّاذ نهارا، وبلمعانها تحت الأضواء ليلا، والطرق الضيقة بينها، مثيرة لشهية المشي والتفكير وإطلاق الخيال.
على بُعد عدة بنايات من بيتي، وبالقرب من العيادة الطبية، اتجهت إلى أعلى قليلا لكي أنحرفُ يمينا، وأصعد نحو ساحة لعب الأطفال التي يوجد بجانبها مساحة كبيرة من الأشجار مختلفة الأحجام والأنواع. كانت هذه المساحة تقع تقريبا على بعد مئة متر فقط خلف البناية التي أعيش فيها. ولكن على بعد عشرة أمتار فقط من العيادة، لمحتُ رجلا مسنا. لم أرغب في تخمين عمره، ولم تكن لدىَّ رغبة في الحديث معه. كان يجلس على كتلة خرسانية على الرصيف، تشبه مقعدا غير مريح، وبجواره حقيبة على عجلتين، من تلك التي يستخدمها عادة كبار السن أثناء شراء احتياجاتهم اليومية. عندما حاذيته بالضبط، ثم تجاوزته بخطوة واحدة، شعرتُ بأنه لا ينظر إلىَّ فقط، وإنما يحدق في جانب وجهي بابتسامة هادئة ودودة، كأنه يدعوني لمشاركته حديث ما. ويبدو أنه لاحظ أنني لم أكن مهتما به، أو ربما كنتُ مستغرقا في داخل نفسي. وإذا بصوت رخيم وعريض ينطلق في هدوء وخجل من خلفي: "هل تعرف جون ريد؟". تسمرتُ في مكاني لعدة ثواني. أعادني الاسم إلى آفاق الصبا ورحابته، إلى ألق الشباب ويقينه. عدتُ خطوة إلى الوراء، واستدرت إليه مبتسما. تطلعتُ في عينيه الحزينتين المتعبتين، ودققتُ جيدا في ملامحه الناتئة من وجهه الطويل الرفيع ذي العينين الزرقاوين، وقلت: "طبعا أعرفه". تهلل وجه الرجل، وشعرتُ أنني رددتُ جملة "طبعا أعرفه" بنفس صوت أرشميدس وهو في برميله الحبيب يردد: "وجدتها".
سحب من حقيبته المفتوحة كتابا رفيعا بغلاف جلدي سميك ذي لون بني وهو لا يزال جالسا في مكانه. وسألني مرة أخرى والشك يلوح على وجهه: "هل تعرفه فعلا؟".. ابتسمتُ له مؤكدا أنني أعرفه. وأن كتابه "عشرة أيام هزت العالم" من الكتب التي قرأتها في صباي، وأثر فيَّ كثيرا بحكاياته عن أحداث الثورة البلشفية، والتفاصيل الدقيقة لتحركات لينين والبلاشفة واجتماعاتهم، وحركة الجموع أثناء الثورة، والشعارات الإنسانية التي كانت تسحب هذه الجموع نحو الأمل في المستقبل، وإقامة المجتمع الإنساني الذي يتمتع بأخلاق الفرسان ذوي العزيمة الصلبة في مواجهة الظلم والجهل والعسف والتخلف. راح ينظر إليَّ بفخر وكبرياء وابتسامته تتسع في مودة وطيبة. سألني: "كم عمرك؟".. قلت له ضاحكا "ستون عاما". هز رأسه وهو ينهض في نشاط غريب، وقال: "أنا أكماتُ الثمانين قبل شهرين. أي أنني أكبرك بعشرين عاما". وأعطاني الكتاب قائلا: "هذا هو جون ريد العظيم. انظر إلى صوره. لقد مات في سن الثالثة والثلاثين". قلت له، يبدو أن الكتاب عن حياته وليس أحد كتبه. فأجابني، بأن هذا صحيح، ولكن يجب أن أتصفحه لأرى صور جون ريد وهو بين الجموع، وأثناء تحركاته بين الناس، وفي اجتماعاته مع قادة الثورة. وأضاف بأنه الأمريكي الوحيد المدفون عند سور الكرملين إلى جوار الكبار من المفكرين والساسة والزعماء السوفييت وأعضاء المكاتب السياسية واللجان المركزية المؤثرين في تاريخ روسيا والبشرية.
كان جسده نحيلا وأكتافه منحنية وملابسه تميل إلى البساطة، وربما إلى الرثاثة قليلا، ولكنها نظيفة. جر الحقيبة وسار إلى جواري. قال إن الأجيال الجديدة لا تعرف جون ريد ولا حتى تتذكره. لا أحد قرأ أعماله المهمة. لا أحد يقرأ الآن. كلهم ينظرون إلى شاشات الهواتف والكمبيوترات، ويعتمدون على آذانهم في تلقي المعلومات. أجيال بائسة تسير نحو حتفها وهي مبتسمة ومشغولة بعزلتها ووحدتها وجلوسها بالساعات والأيام في عالمها الافتراضي، متصورة أنها بذلك تواكب الحضارة وتتابع مجريات الواقع، بينما الواقع هنا في الشارع وفي وسائل المواصلات، وفي الغابات وحقول القمح والشوفان، والمصانع الكبيرة التي تضخ إلى العالم منتجاتها المختلفة كل ثانية وكل دقيقة.
لم أخمن إلى ماذا كان يريد أن يجرني. كان الطقس رائعا، ولحسن حظنا، كان المطر خفيفا ومنعشا، وأسفلت الرصيف يبعث ببعض البرودة، بينما الأشجار والخضرة تنفث رائحة حبيبة وطراوة للقلب والرئتين. اعتذر لي لأنه ربما يكون قد عطلني عن شيء، وأنه سعيد للغاية لأنني أعرف جون ريد، وربما يكون هذا هو السبب الذي جعله يفتح معي هذا الحديث. طلب مني مرة أخرى أن أرى صور جون ريد. وعندما فتحتُ الكتاب الذي كان لا يزال معي، أشار إلى بعض السطور المكتوب تحت إحدى صوره، وسألني: "في أي عام هذه الصورة. إن الخط صغير جدا ولا أستطيع قراءته. وأين كانت الصورة؟".. ابتسمتُ، وقلت له إنها في نوفمبر عام 1917 في القصر الشتوي بسان بطرسبورج. شعرتُ بأنه يريد أن يعرف هل لا زلت مهتما بجون ريد وأن الملل لم يتسرب بعد إلىَّ من مرافقته والحديث معه، وربما أراد أن يعرف هل أستطيع القراءة بالروسية أم لا.
سألني صراحة وبشكل مباشر: "هل أنت منزعج مني لأنني تطفلتُ عليك؟". قلت له: "لا إطلاقا. إنني أشكر الرب الذي ساق إلىَّ هذه الصدفة الرائعة، وأشكرك على أنك ذكرتني بأحد كتابي الذين أحبهم وأعرف تاريخهم وإسهاماتهم جيدا". تلاشت الابتسامة من ملامحه، وقال مغمغما: "أي رب وأي خراء تشكر! لا رب ولا شيء. هذا كلام فارغ". أكملتُ حديثي وكأنني لم أسمع ما قاله. خمَّنتُ بأنه لا يريد أن يعرف درجة إيماني أو توجهاتي العقائدية، ولكنه ربما أراد أن يعرف ما هي أصولي، وبالمرة إلى أي جماعة إثنية أنتمي في حال إذا كنت من روسيا أو من الجمهوريات السوفيتية السابقة. هذا الاختبار التقليدي الذي يمكن أن يصادفه الشخص حرضني للتدقيق في ملامحه مرة أخرى. فلاحظت أن ملامحه ليست هي الملامح التقليدية لذوي الأصول الروسية. ولكنه قد يكون من أسرة مختلطة، او ربما لديه دماء وأعراق مختلفة مثل الكثير من الروس.
عندما فشل الاختبار، قاطعني وأنا أتحدث عن بعض الأعمال الصحفية والقصائد الشعرية لجون ريد، وقال: "أنا أرمني من يريفان. جئتُ مع أمي إلى موسكو عام 1944. كان عمري أقل من عام. مات جدي في المذابح التركية عام 1915، بينما مات أبي في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية أثناء مواجهة الجيش الأحمر مع الألمان في بيلاروس. نحن الأرمن، أمة منكوبة بكل نكبات البشرية". كنتُ أسمعه بحياد شديد، ليس بسبب الملل، ولكن لأنني أعرف مصائب الأرمن وتاريخهم والبؤس والعسف الذين طالهم، سواء بسبب موقع بلادهم الجغرافي بين قوى إقليمية لديها مشاكلها الدينية والعقائدية والعرقية مثل إيران وأذربيجان، أو بسبب الصراعات حول أرمينيا منذ حضارة "أورارتو حتى المذابح التركية". وفجأة عاد مرة أخرى إلى اختباراته: "لقد اعتنقنا المسيحية في السنوات الأولى لظهور المسيح.. نحن من أوائل الشعوب التي عرفت المسيحية هل تعرف ذلك؟".. ابتسمت وسألته: "هل أنت ملحد؟". فرد بالإيجاب. قلت له في جدية: "أنا أيضا ملحد. لكنني لا أفضل الحديث عن ذلك، ولا أحب الخوض في النقاشات الدينية وقصص الخلق وأساطير الديانات والمؤمنين بها، ولا حتى في وجود الإله من عدمه". ضحك الرجل بصوت مسموع. وسألني: "ولكن لماذا قلت، الشكر للرب؟!". فقلت له إنه تعبير لغوي بالنسبة لي ولا علاقة له بمعتقداتي أو إيماني. فأنا أيضا من أصول مصرية. فسألني على الفور: "وما هي الديانة هناك؟".. فضحكتُ وأخبرته أن هذا أمر معقد للغاية. فمصر هذه بلد منكوب مثل بلدكم الأصلي، أرمينيا. فابتسم وقال إنه يعرف أن مصر دولة إسلامية، وأن هناك أيضا مسيحيين. وراح يتحدث عن الأقباط ويسرد جانبا من تاريخهم، ثم سألني: "ولكن هل هناك أقباط إلى الآن عندكم؟ أقصد، هل هناك مسيحيون أم أنهم اعتنقوا الديانة السائدة؟!". قلت له إنني لا أعرف، وأن الأمور في مصر ليست بتلك البساطة التي يمكن أن نتحدث بها عن ديانة أو اعتقاد. الأمور هناك معقدة لدرجة الخبل. ومن أجل أن أنهي الموضوع، قلت له إن هناك مسلمين ومسيحيين وشياطين وأفاقين وكائنات خرافية. فوافقني بهزة من رأسه وقال ضاحكا: "كأنك تتكلم عن أرمينيا، فيما عدا موضوع المسلمين. ورغم أن الجميع عندنا مسيحيين إلا أن هناك شياطين وأفاقين وكائنات ملعونة.
بدا كما لو أن الحديث يتجه اتجاها معاكسا للطقس، ويأخذ مسارا غير محمود العواقب. لم أكن متخوفا من شيء ما محدد، لكنني لم أكن مطمئنا أو مرتاحا لانعطاف الحديث إلى مزالق دينية وعرقية وعقائدية. وتأكد إحساسي عندما بدأتُ أشعر ببعض البرودة. إذ يبدو أن الطبيعة نفسها قد بدأت تحتج على مسار الحديث وترغب في إنهائه على طريقتها. رحتُ أفكر كيف يمكن إنهاء الحديث، خاصة وأننا لم نتعرف بشكل كامل، او على الأقل لم يعرف أحدنا اسم الآخر وأين يسكن وما هي طبيعة عمله. ولكن الأمر لم يكن بالبساطة التي تصورتها. فقد فاجأني الرجل بسؤال غريب حين قال بصوت وكأنه يأتي من صدره مباشرة: "هل تعرف اسم أول إنسان على وجه الأرض؟". قلت له بتلقائية: "آدم". فقال بيقين أقلقني نسبيا: "هناك ثلاثة أعراق رئيسية على الأرض.. العرق الأسود، والعرق الأبيض، والعرق الأصفر. دعك من الأعراق الأخرى الفرعية ذات الألوان البينية. ودعك من أعداد هذه الأعراق. ولكن هل هذا الآدم كان يمتلك ثلاثة أعضاء تناسلية مختلفة لكي ينجب هذه الأجناس السوداء والبيضاء والصفراء؟ بل وازدادت الأمور تعقيدا بكل تلك الديانات العجيبة التي لم تفرق بين كل جنس وآخر، بل وفرَّقت بين أبناء الجنس الواحد. يبدو أن الأسطورة نفسها مليئة بالأخطاء والتدليس. ويبدو أن الإنسان نفسه يميل إلى إرهاق نفسه، وتحميلها ما لا تستطيع".. سألته بقلق: "هل تشعر بالبرد؟". أجاب بالنفي، وضم ياقة معطفه، ثم سألني: "هل تمارس رياضة ما؟". قلت له إنني كنتُ في السابق أمارس السباحة. والآن أمارس رياضة المشي فقط. فقال: "أنا كنتُ أمارس الجمباز. وبالمناسبة، ما هو طولك؟". قلت له: "مئة وستة وثمانون سنتيمترا". فرد: "وأنا طولي مئة وستة وسبعون سنتيمترا. ولكن سني الكبير أحنى ظهري وكتفيَّ. ولذلك أبدو أقصر مما أنا عليه في الحقيقة". وتوقف عن السير وطلب مني التوقف أيضا. ترك حقيبته، وفرد جسده، وطلب مني أن أقيس الفارق. ثم قال لي وهو يمعن النظر في عينيَّ: "لو قست طولنا الآن، ستجد أن الفارق ربما أقل من عشرة سنتيمترات".
أمسك بيد الحقيبة، وواصلنا السير. قال إنه انجذب لممارسة الجمباز بسبب زوجته التي كانت بطله في هذه الرياضة، ثم أصبحت مدربة. وصمت قليلا، ثم أضاف: "تزوجتها باعتبارها أرمنية. وذات مرة، كنتُ أفتش عن بعض الأوراق، واكتشفت أنها يهودية. تصور! كانت يهودية ولكنها تتقن الأرمنية. بل كانت تشبه نساءنا الأرمنيات في كل شيء. تزوجتها وعشنا زمنا طويلا. وحتى عندما اكتشفتُ أنها يهودية، كان الوقت قد تأخر على الانفصال. فظللنا نعيش معا إلى أن ماتت قبل عدة سنوات". ضحكتُ وسألته: "وهل يزعجك أنها كانت يهودية؟". فقال وكأنه يدفع عن نفسه تهمة: "لا، إطلاقا. ما أغضبني في البداية أنها كذبت علىَّ. ولكن عندما قالت لي إنها أحبتني وخافت أن أتركها إذا عرفتُ بأصلها اليهودي، أدركتُ أنها كانت تحبني.. أنا أيضا كنتُ أحبها على طريقتي. وكانت ملحدة مثلي. لكنها عندما كبرت في العمر، بدأت تتذكر الدين والأساطير. وتجلس طويلا بمفردها تتأمل حياتها، وحياتنا معا. لا أدري، ربما أقلقها في نهاية حياتها، أننا لم ننجب أطفالا. لم نتحدث أبدا في هذا الموضوع. ولم يبد أي منا قلقه أو مخاوفه في صبانا وشبابنا وكهولتنا. كان الأمر عاديا. وكان هناك شيء قوي يجمعنا. لا أستطيع الآن أن أحدده. ولا أستطيع أن أتحدث عن مشاعرها. لكن أنا عن نفسي، لم أكن أتصور أن أكمل حياتي بدونها. كانت تمثل لي كل شيء. ولكنها ماتت في النهاية وتركتني وحيدا.. أنا غاضب منها".
أصابتني رعشة خفيفة. لا أدري هل كانت من البرد، أم من جملته الأخيرة. لم أستطع أيضا التخفيف من تهدج صوته، ولا من رعشة خفيفة ظهرت في فكه السفلي. ربما كان يمنع نفسه من البكاء. لا أدري. سألته: "وأين تعيش الآن، يبدو أننا جيران هنا في نفس المنطقة؟!". قال إنه يعيش في البناية المواجهة لساحة لعب الأطفال بجوار المساحة الخضراء الكبيرة. فقلت له بصوت عال وكأنني أحاول التغطية أو التشويش على صوت ما أو شيء ما: "هل هذا معقول! إنني أيضا أعيش بالقرب من نفس المكان". وكنا بالفعل قد اقتربنا من ساحة لعب الأطفال الخالية تماما منهم في هذا الوقت من المساء، لكنها كانت تحمل رائحتهم وأصوات ضحكاتهم وعراكهم وألوان ملابسهم وزعيق أمهاتهم وخوفهن عليهم. قال إنه يسكن في المدخل قبل الأخير من البناية التي تضم أربعة مداخل. وعندما اقتربنا من المدخل الخاص به، راح يحكي عن الحريق الذي شب في شقته قبل عدة أشهر، وأن المطبخ مليء بالأثاث والصناديق. وأشار لي على شقته المكونة من ثلاث غرف في الطابق الأرضي. وكانت الصناديق والمقاعد والطاولات تظهر فوق بعضها البعض من وراء الزجاج، وأثار الحريق تظهر على الجدران من الخارج وتصل حتى الطابق الرابع أو الخامس.
قال لي إنه عاش مع زوجته في غرفة واحدة. واستطاع أن يشتري غرفتين مجاورتين. وبعد ذلك استبدل الغرفة والغرفتين بشقة مكونة من ثلاث غرف. كان يعمل طوال حياته نائبا لمدير إحدى الورش الحكومية الضخمة لصناعة المنتجات المعدنية وأدوات المطابخ. وقفنا أمام مدخل البناية. شعرت أنه يريد مواصلة الحديث الذي بدأ يأخذ مسارا معقولا أكدته الطبيعة أيضا بطريقتها الخاصة، حيث توقف المطر، وهبت نسمة طرية تحمل رائحة أشجار الغابة المجاورة وأصوات البط الذي يسبح في البحيرة الصغيرة التي تتوسطها. قال إنه في يوم الحريق، ملأ إناء صغيرا بالماء حتى منتصفه ووضعه على البوتاجاز. وسألني: "هل تعرف الصيدلية المجاورة لمحل البقالة الجديد على ناصية شارع المدرسة الابتدائية؟". قلت له: "نعم". قال إن هناك في الطابق الذي يقع أسفل محل البقالة عدة ورش صغيرة للخياطة وإصلاح الأجهزة الكهربائية والأحذية. في هذا اليوم تركت الإناء على البوتاجاز، وذهبت بسرعة إلى صديقي الأرمني الذي يصلح الأحذية. جلست معه قليلا، وتحدثنا في بعض الأمور. وعندما عدتُ، لمحتُ الدخان يتصاعد من ناحية البناية التي أسكن بها. ولما وصلتُ، رأيت سيارة الإطفاء وعشرات الجيران والمارة الذين تجمعوا. وقفت مذهولا أمام مشهد رجال الإطفاء الذين يحاولون السيطرة على النيران التي قضت على المطبخ تماما وصعدت ألسنتها حتى الطابق الخامس. ثم توقف عن الحديث وراح يغمغم بكلمات كثيرة غير واضحة.
لم أكن أعرف ماذا أقول في هذا الموقف. فسألـه: "ماذا حدث بعد ذلك؟ هل تضررت الشقة بالكامل، وهل احترقت أوراقك وأوراق الشقة؟".. قال إن أوراقه الشخصية كانت معه. لكن أوراق الشقة وكل ذكرياته غارقة في مياه الإطفاء، وصوره وصور زوجته تسبح على سطحها. ضاع كل شيء. ونظر إلىَّ نظرة غريبة وقال: "لكنني بدأت مرة أخرى من جديد بدون ذكريات وصور. وظللت أياما وشهورا أتابع موظفي الحي لاستعادة أوراق الشقة، ومتابعة تجديدها. والآن أعيش في إحدى الغرف، وأجمع من جديد الكتب التي أحبها. واليوم عثرت على كتاب جون ريد. تصفحته في الطريق. وسأقرأه اليوم. وفجأة سألني: "ما اسمك؟". قلت له إن اسمي، يوسف. فضحك وقال: "يوسف برودسكي أم يوسف ستالين؟". ضحكنا معا، وسألته عن اسمه، فقال: "لونيا". لم أتبين نطق الاسم جيدا. فابتسم وسألني: "هل تعرف ليونيد إيلتش بريجنيف؟". فقلت له، طبعا أعرفه. هو أيضا كان اسمه "لونيا". نظر إلىَّ بعينيه الزرقاوين في امتنان. وخلف هذا الامتنان كان هناك شيء ما آخر، أعمق من الامتنان، لم أستطع فهمه أو الوصول إليه. مد يده ذات الكف الكبير والأصابع الطويلة الخشنة القوية، وقال: "عندي رقم هاتف، يمكنك أن تسجله". لا أدري، ماذا حدث لي في تلك اللحظة: هل أصابني نوع ما من الخوف أو القلق، هل شعرتُ بأنه يمكن أن يطلب رقم هاتفي، وبالتالي قد يشكل عبئا علىَّ، هل شككتُ فيه، وخاصة أنه في هذه اللحظة بالذات، وهو يقول لي إن لديه رقم هاتف، خرجت امرأة شابة مع طفلها ونظرت نحونا بحيادية وبرود ولم تلق على أي منا التحية؟! لا أدري. لكنني شكرته، وأكدتُ له إنني الآن أعرف أين يسكن. ثم توقف لساني تماما عن الحركة، وعلا طنين حاد في رأسي وشعرت بحرارة ما تنبعث من وجهي وجسدي كله.
قطعتُ المسافة القصيرة إلى بيتي بخطوات واسعة وذهني مشتت تماما. لا أدري لماذا رفضتُ تسجيل رقم هاتف "لونيا" واكتفيتُ بإعطائه انطباع بأنني ربما أمر عليه يوما أو أفاجئه بأنني أنتظره أمام مدخل البيت. وربما كنت بالفعل صادق في رغبتي بلقائه مرة أخرى. بعد عدة أيام، وأثناء جولتي اليومية تذكرتُ لونيا، فغيرتُ مسار جولتي بحيث أقضي أكبر وقت ممكن بالقرب من البناية التي يسكن فيها. لكنه لم يظهر في ذلك اليوم. كررتُ نفس الأمر في الأيام التالية. بل ورحتُ أجلس يوميا على مقعد بالقرب من ساحة لعب الأطفال بحيث يكون مدخل بيته في مجال رؤيتي: أراقب نوافذ المطبخ وإحدى الغرف لعله يفتح إحداها أو يشعل مصباحا يؤكد أنه موجود. وبعد أسابيع طويلة، وأثناء جلوسي على نفس المقعد، أُضي نور مصباح المطبخ. فانتفضتُ واقفا. توجهتُ مباشرة نحو مدخل البيت، ضغطتُ جرس باب شقته. خرجت امرأة شابة تحمل رضيعا. سألتها عن لونيا. فنظرت إلىَّ في دهشة، وقالت: "لا أحد يعيش هنا بهذا الاسم".