جلس في باريس عاصمة الحضارة في القرن التاسع عشر مجموعة من المثقّفين: شعراء، أدباء، فلاسفة، علماء تربية واجتماع وغيرهم من روّاد الفكر الإنسانيّ الذين يبنون كتاباتهم وإبداعاتهم على رفع قيمة الإنسان وتحقيق ذاته، متخوّفين ومذعورين، وهم يرونه وقد تحوّل إلى مجرّد وجود لا قيمة له، وقد حلّت الآلة بدلًا منه لتقوم بما لا يستطيع هو وغيره القيام به لا منفردًا ولا مع الآخرين. تخوّفوا على مصير الناحية الإنسانيّة والفكريّة أمام هول الآلة وسيطرتها على أشكال تطوّر البشريّة ممّا يؤدّي إلى تقويض دور الإنسان وانسحاقه، وتخوّفوا من أمر أكثر خطورة ألا وهو اندثار الإبداع وانهيار الفلسفة وتقزّم الفكر بمواجهة وهج الآلة وتأثيرها.
إذا كانت الثورة الصناعيّة قد وظّفت الآلة لتحلّ محلّ الإنسان وتلعب دوره بجدارة متناهية، وتحوّل مجتمع القرن العشرين إلى واقع طغت عليه الآلة قالبةً نمط حياة البشر، فإنّ ثورة القرن الواحد والعشرين، ويُطلَق عليها ثورة الذكاء الاصطناعيّ، تبغي أن تنتهك الإنسان نفسه لتحوِّله إلى "آلة ذكيّة" بما تهب له دون سائر البشر من قدرات على الإدراك والفعل تعتمد على ما يُزرَع فيه من ذكاء موجَّه عن بعد من مخترعه.
حضرتني هذه الأفكار وغيرها، وأنا أقرأ رواية «ارتعاشات: فانتازيا روائيّة» (مكتبة كل شيء –حيفا-2024)، للأديبة كلارا سروجي-شجراوي.
تتناول الرواية فكرة الذكاء الاصطناعيّ من خلال أسرة حيفاويّة: (الأب: نسيم/ الأمّ: مريم/ الأبناء: سحر/ ضياء/ نور وشفق). أسئلة كثيرة تطرحها هذه الرواية –حسب ما لاحظتُ-: كيف أُبرِزت فكرة الذكاء؟ وأين موقع الروح أمام هذا الذكاء، هل تعارضه وتتحداه، إذا ناقض ميولها وتطلُّعاتها، أم تذوب فيه وتتلاشى ولا تستطيع إلى المقاومة سبيلا؟ وإلى أيّة نتيجة يقود هذا الذكاء الإنسان؟ وما هو مقصد المؤلّفة من توظيف الفكرة التي بنت عليها روايتها؟ وأسئلة أخرى سأقف عندها لاحقًا.
ترصد الرواية شخصيّات تعرّضت لتأثير هذا الذكاء من خلال مؤسّسة لا نعرف عنها إلّا القليل من "معلومات" سُرِّبت أو "مذكِّرات" سُرَقت، تسردها الراوية سحر، وهي الابنة الكبرى للأسرة المذكورة، تظهر كيفيّة زرع ذكاء اصطناعيّ فيها: (الأب: نسيم/ الأبناء: ضياء/ نور وشفق).
الأب لقيط ربّته عاملة تنظيف في دير مار الياس على كرمل حيفا، تُدعى ماتيلدا. فقد وجدته "على عتبة الدير..يتململ. لم يكن يبكي..لكنّه كان يتحرّك كأنّه يريد لفت الأنظار..مغطًّى بحرام أزرق تزيّنه النجوم"(38). ولأنّها لم تكن متزوِّجة فقد اعتبرته ابنها حقًّا، وعوّضته بحبِّها وحنانها عن فقدانه لجذوره من أبٍ وأمّ. واستكملت المهمّة مريم التي عطفت عليه أوّلًا، وسرعان ما تحوّل هذا العطف إلى حبٍّ متفجِّر بينهما، فهو تلميذها المظلوم والمفترى عليه من أولاد المدرسة بسبب تعييرهم له بأنّه "لقيط". تزوّجته رغم فارق السنّ بينهما، واحتضنته بحبّها الممزوج بالرومانسيّة بحيث تحوّلا إلى روح واحدة بلا انفصال: "أحبّت مريم عنفوانه وكبرياءه وشموخه وانجذبت لمرآه، أمّا هو فقد وجد فيها الحنان والعطف والذكاء، كما أحبّ جسمها الصغير اللطيف"(72)، وكأنّما واحدهما يكمّل الآخر. يُلاحظ أنّ الإعجاب المتبادل بينهما مبنيّ على الصفات الروحانيّة أكثر من الماديّة، بحسب الاقتباس، وكأنّ روح الواحد تبحث عن نِصفها عند الآخر.
لاحظت مريم كما لاحظت قبلها ماتيلدا وجود "وحمة" على ذراع نسيم، تزيده غرابة، ونعرف معلومات عن هذه "الوحمة" ممّا جاء في صفحتين صوّرتهما سحر خفيةً من "مذكّرات" ضياء تروي فيهما محتوًى لحلم راودها عن مولد أبيها، وكيف تعرّض لتأثير زرع اصطناعيّ. ترى في حلمها رجلين يتحاوران لا نعرف عنهما شيئا وبلا أسماء، قال أحدهما: "اشتريناه بمبلغ رخيص جدّا وبدون تعب.. بألف دولار فقط، فهو ابن غير شرعيّ يريدون التخلّص منه. عندنا الآن أربعون طفلًا حديثو الولادة. سنبدأ اختباراتنا عليهم اليوم، ثمّ سنوزِّعهم على أماكن مختلفة من العالم، وسنجلس لنراقب الأمور". "من خلال هؤلاء الأطفال سنطوِّر الذكاء الاصطناعيّ. ونحن العلماء سنسيطر على العالم، بدلًا من هؤلاء الظالمين الفاسدين".(93-94) ولكنّ ضياء لم تستغرب من وجود "الوحمة" وكرّرت عدم استغرابها لأنّها تعرّضت لزرع شريحة شفّافة أكثر تطوّرا في الجانب الأيسر من دماغها، وكذلك حصل مع أخيها نور.
كانت ردّة فعل ضياء على انتهاك جسد أبيها بتثبيت الشريحة على ذراعه على مستوى الحلم "اتركوا بابا يا مجرمين"(95)، ولكنّها بالمقابل لم تعترض على انتهاك دماغها، بل سايرت هذه اللعبة، أمّا أخوها نور فرغم محاولاته المتكرّرة في المقاومة باستيقاظه ليلًا وثوراته العارمة في صغره إلا أنه هو الآخر تقبّل الزرع لاحقا. وقد نلاحظ أنّهما يعبِّران أحيانًا عن حذرهما وتشكُّكهما من هذا التسلّط على مصائر البشر ومن نواياه المبيّتة. يقول نور:"لا أعرف كيف يمكننا أن ننقذ العالم من هذا التسلُّط غير الشرعيّ. هم أنفسهم لا يدركون تمامًا النتيجة النهائيّة لكلّ اختباراتهم"، "لقد قاومتهم بشدّة ولكنّني لم أنجح".( 116) وتقول ضياء:"يبقى السؤال إن كان ما فعله بنا هو فعلًا سيؤدّي إلى إنقاذ البشر من الأمراض والحروب. أنا أشكّ في ذلك. هنالك خطورة بالغة.. نحن نتعامل مع المجهول".(117)
لقد استفادا من هذا الذكاء الاصطناعيّ وتفوّقا على مستوى التحصيل العلميّ والقدرة المهنيّة، مقابل تذمُّر سحر من قدرتها المحدودة في التحصيل والتطوُّر المهنيّ.
نقلت سحر الحوار السابق بين ضياء ونور عن طريق التنصُّت (التجسُّس) عليهما، وكانت ردّة فعلها على ما سمعت كارثيّة، فقدت توازنها وبدأت تطرح تساؤلات حول الهدف من خلق هذه الروبوتات البشريّة المبرمجة والموجّهة؟ وتصل بها الأسئلة إلى الاستنتاج :"قليل من الأفراد يديرون العالم كلَّه/ الناس يسيَّرون مثل حواسيب مبرمجة/ سنعود من جديد إلى شكل الحكم الديكتاتوريّ الظالم بأسلوب تكنولوجيّ عصريّ أكثر قوة، سيمنع الثورات بجهاز تحكُّم عن بُعد/ هل سنفقد إنسانيّتنا؟/ هل سيبقون مشاعرنا أم سيسرقونها هي الأخرى؟"(119).
المفاجأة الكبرى أنّ سحر تعايش هذه الروبوتات تحت سقف واحد:"صدمتي بأخويَّ كانت عظيمة لا تُحتَمَل./ وماذا عن أبي؟ إنّه الآخر وقع تحت تأثير قُوًى خفيّة/ وأخي شفق غريب هو الآخر جسمه طفوليّ وقُدرته على نسج الحكايات تتفوّق عليّ، وأكثر ما يؤلمني نظراته إليّ الدالّة على امتزاج رهيب للحبّ والشفقة".(121-122) لقد تعرّض شفق وهو الأخ الأصغر إلى زرع الذكاء فيه منذ صغره وقد عضّه نور وهو في حالة من الهيجان في بطنه، فأصبح إثرَها "أكثر شموخًا وثباتًا وثقة. وشعر لأوّل مرّة بالامتنان لأخيه نور"،(13) فأصبح يدافع عن نفسه بل يهاجم مَن يعيِّره بهذه العضّة التي تشبه "السمكة" التي تتضخَّم عند غضبه لتتحوّل إلى الهجوم بقوّة، وهي تُذكِّر "بالسمكة" التي تمتلكها ضياء منذ صغرها حيث فرَض عليها في تلك السنّ دافعٌ مجهولٌ أن تتوه عن والدَيها في الهدار (إحدى مناطق حيفا التجاريّة)، وحاول رجل عجوز أن يساعدها ظاهريًّا في البحث عن والدَيها، ولكنّه في الحقيقة كان يريد الاستمتاع بها رغم صغرها، وما أنقذها عند اقترابه منها لبدء محاولته في اغتصابها إلا قرعاتٌ على الباب ودخول لزوجته، فابتعد عنها، ولكنّه أعطاها لعبة عبارة عن "سمكة" عجيبة "أدخلها خفيةً في فتحة فستانها الأزرق"(17) واكتشفت أنّ هذه "السمكة" "أداة إرسال لاسلكيّة في غاية التطوُّر".(35)
كثيرة هي الإشارات الواردة التي تلفت انتباه القارئ، ولا تفوت ذكاءه القرائيّ، وتجعله يُؤوِّل مدلولاتها ممّا يثري الرواية:"التيه"،"السمكة" و"الأزرق" المتكرِّر كلون ذي دلالة على الذكاء.
وهب الذكاء الاصطناعيّ الأب نسيم والابنة ضياء والابنَين نور وشفق تميُّزًا في مجالات متعدِّدة، فالأب يمتاز بقوّة ورشاقة جسمانيّة وجمال ومواهبَ كثيرة، جعلت زوجته مريم تغار عليه من عيون المعجبات اليهوديّات اللاتي يعمل عندهنَّ، وهنَّ يتمنَّينَ معاشرته جنسيًّا، ولكنّهنَّ امتنعنَ عن ذلك نظرًا لكونه عربيًّا. وتميّزت ضياء بعلمها وتطوّرت في مجال الجراحة الروبوتيّة. وتميّز نور بمرَحه وقدرته على إضفاء جوٍّ جميل على الأُسرة، إضافة إلى رؤيا متفوِّقة في الرسم وتفوُّق بارز في استيعابه للعلوم. أمّا شفق فيمتاز بسرد الحكايات المبنيّة على الخيال والغرائبيّة ممّا حدا بسحر أن تعترف بتفوُّقه عليها وهي المحترفة للسرد، وكذلك برسوماته التي تجعل رأس الإنسان ثلث هيكله (يُذكِّر ذلك بنظريّة أفلاطون في جمهوريته، إذ رأى أن الفلاسفة هم الذين يشكِّلون الرأس الحاكم، والذي بتوجيه منه تتصرّف الفئتان الأُخريان: فئة الصدر أي الجيش المدافع عن الدولة، والفئة السُّفلى التي تمثّل العاملين والمزارعين الذين يُهيِّئون متطلّبات الحياة لمن فوقهم)، و"شفق يرى أنّه يرسم للمستقبل أي بعد مئة عام"،(61) وامتاز أيضًا بمهارته في التعامل مع الحاسوب والأعداد.
بالمقابل لهذه الشخصيّات التي زُوِّدت بالذكاء نقف في الرواية أمام شخصيّتين (الأمّ مريم والأخت سحر)، فهما لم تتعرّضا لزرع الذكاء. إنّهما تتعاملان مع شخصيّات مبنيّة على الذكاء، ولا بدّ أن يفترض هذا التعامل توافقًا أو تنافرًا، والرواية تطرح الحالتين –كما سيتّضح-.
يتمّ زرع شريحة الذكاء في الجهة اليسرى من الدماغ، وهي المسئولة عن الجسم بقوّته ورشاقته وتوفير الذكاء لحامله في مجالات متعدِّدة بينما تبقى الجهة اليمنى منه، وهي المسئولة عن الشعور والروح، خالية من أيّ زرع. وبما أنّ الدماغ واحد فلا بدّ من وجود تأثيرات متبادَلة وسريعة بين الجهتين ممّا يحتِّم تغييرات تظهر في تصرُّفات الشخصيّة ذات الزرع وتجعلها مقبولة أو مرفوضة لدى الشخصيّات التي هي غير ذات زرع.
تقول سحر:"أمّي "مريم" هي الوحيدة التي بقيت نقيّة.. صافية، ألجأ إلى حضنها الدافئ لأشعر بالأمان، وأتمتّع بخلُوِّها من ذلك الجانب الذي يرعبني بغرائبيّته".(126)
ولكنّ الأمّ كانت متلبِّسة بمأساة فقدانها لأبيها وأمّها وأختها في حادثة سير حصلت معهم وهم في طريقهم إلى رام الله، وأودت بهم. تكاد هذه الحادثة لا تفارقها في الواقع وتعاودها في الحلم، ممّا يزيد من شعورها بالألم بالرغم من أنّ نسيم عوّضها عن هذا الفقدان بحبّه وإخلاصه التامّ لها. ترى في أحد أحلامها أنّ رام الله "تحتفل بعودة كثيرين من أبنائها الذين اضطرّوا عنوة إلى الهجرة منها إلى بلاد بعيدة جدًّا بعد أن اطمأنّوا إلى أنّها صارت آمنة وذات سيادة مستقلّة"(132)، وترى بينهم والدَيها يرقصان بفرح حتّى ينتهيَ الحلم بمأساة حيث ترى أختها قطعة لحم بلا وجه (الفقدان)، وتستفيق من حلمها وهي تقول:"لا تأخذوه منّي"(135-134) وهو تنبُّؤ بما سيحصل. فمَن هو الذي سيأخذونه ويفارقها؟
وما إن ينتهي الحلم حتّى يحصل حادث طرق جديد، وهذه المرّة لنسيم إذ تتلقّى سحر مكالمة ورسالة مقتضبة من ضياء تقول فيها:"كدنا نفقد بابا، أنا ونور في المستشفى ننتظر انتهاء العمليّة"(137)، ولكنّ نسيم الذي تغلّب على ما جرى له من بتر لثلاثٍ من أصابع يده لحظة الحادثة، ولكنّه كمَشها ، وأعادها الأطباء إلى مكانها، عاد إلى بيته وزوجته وأبنائه معافًى. تأثّرت يده من الحادثة، ولم يعد يستطيع العمل كما كان قبل الحادثة. ولم تُصب "الوحمة" بأيّ أذى.
بعد سنتين من هذه الحادثة التي تعرّض لها الأب، شعر بألم حادٍّ في ذراعه حيث "الوحمة" واستدعى ذلك بقاءه في المستشفى تحت رعاية ضياء ونور اللذين حاولا إعادته للحياة بعد تجربة مريرة، وترى ضياء أنّ سبب نكسة والدها يعود –كما تقول- إلى:"أنّهم يقومون بحملة "تنظيفات"، يريدون التخلُّص ممّن باتوا فوق سنّ الخامسة والأربعين، فهم لم يعودوا نافعين لهم بأيّ شيء"(167)، والمقصود بذلك صانعو الروبوت البشريّ وهم الذين زرعوا "الوحمة" أو الشريحة في ذراع الأب.
إنّ استجابة ضياء ونور لهذه الإرادة العليا بتبديل الشريحة للأب استطاعت أن تُبقيَ نسيم حيًّا، وجعلته يعود إلى بيته. ولكنّهما يعرفان أنّهما فشلا بإعادة نسيم الأوّل، بل خلقا "نسيمًا" آخر، لأنّنا كما تقول ضياء:"مهما نجحنا فلا نستطيع التكهُّن تمامًا بسلوك مَن نزرع فيه هذه الشريحة"(171). إنّه ليس زرع شريحة بِكر في إنسان بِكر، إنّما هو انتزاع شريحة لذاكرة إنسان على مدى 45 عاما من عمره، وزرع شريحة بديلة لها لجعله أكثر قوّة وذكاء، وأسهل قابليّة للتوجيه عن بُعد من صانعيه.
لم يكن ما جرى لنسيم مفاجئًا، ولكن توجد أكثر من سابقة له وإرهاص بحدوثه، وسأشير إلى سابقتين:
ذكرت –سابقًا- حلم مريم الذي انتهى بجملة مكرّرة "لا تأخذوه منّي". وأذكر هنا إشارات تدلّ على إحساس داخليّ لنسيم يستشعر فيه مخاوف كثيرة يبثُّها لمريم، تشير إلى أنّه مُستهدَف و"مُلاحَق من سنة قبل أن يُصاب بألم ذراعه/ وأنّهم يريدون التخلُّص منه/ وأنّ رسائل تصله من جهة مجهولة بعد أن اشتهرت الأغاني الشعبيّة"(196).
أتساءل هنا: لماذا حاول ذوو التشفير اغتيال نسيم أو تغيير تشفيره؟
بُنيَ نسيم الأوّل على خدمة اليهود والعمل عند أثريائهم بأعمال تتطلّب قدرة جسمانيّة، ولكنّه بعد تعرُّضه لحادث الطرق وإصابته في يده، لم يعد بمقدوره الاستمرار بها، فاضطرَّ إلى تغيير مهنته، وبدأ بمساعدة مريم بكتابة حكايات شعبه وأغانيه، وغنائها بصوته العذب في الأعراس والمناسبات (وقد كان هذا الاقتراح من الأخ الأصغر "شفق" المشفّر والمختلف عن ضياء ونور) لكي يُعبِّر عن "معاناة شعبه وعذاباته"(154)، وكان هدف شفق من ذلك "لكي نقهر شعورنا بالغربة والتهميش"(155).
إنّ ميل نسيم إلى شعبه وقضاياه وتركه للطرف الذي كان يخدمه (اليهود) شكّل السبب الأساسيّ للانتقام الذي واجهه من صانعيه، فهو لم يبقَ على الحياد أو مع الطرف الذي أُعِدَّ للوقوف معه، بل انتقل إلى الطرف المناقض له: انتقل إلى التعبير عن معاناة شعبه الفلسطينيّ، ليبرز من خلال تراثه الشعبيّ الحقيقة التاريخيّة المأسويّة التي تعرّض لها هذا الشعب. فهو مرضيٌّ عنه طالما هو يخدم اليهوديّ وينسى قضيّة شعبه، ولكنّه مرفوض ومعرَّض للاغتيال إذا أظهر انتماءه لشعبه.
من هذه المقاربة ظهر بوضوح ارتباط الرواية بالواقع، وظهر أنّ زارعي شريحة الذكاء الاصطناعيّ يتصنّعونها ويزرعونها لخدمة طرف، لأنّهم بها يُهيِّئون له الظروف المناسبة للسيطرة على الطرف الآخر. وبذلك يصبح المبرمِج ذو العلم والخبرة هو القويَّ والمسيطر –كما يعتقد-، فيمنع معارضيه من التعبير عن آرائهم، ويقمع الثورات ويتحكّم بالعِباد بشكل ديكتاتوريّ. فأيّة مصلحة للإنسانيّة في خلق روبوتات بشريّة لا تخدم إلا صانعها؟!
ولعلَّ شراء نسيم (اللقيط) بألف دولار وشراء غيره من الأطفال وبرمجتهم، من قِبَل مجموعة لا نعرف عنها إلا القليل، وتدّعي أنها تريد من خلالهم "أن تُطوِّر الذكاء الاصطناعيّ، وتسيطر على العالم، بدلًا من حُكّامه الفاسدين"(94)، كان يهدف في أعلى مستوياته إلى أن تُوظِّفهم –ونسيم نموذج لهم- لخدمتها ولتحقيق مأرب معيّن. بالنسبة لنسيم فقد كان هدفهم من برمجته أن يخدم اليهود الأثرياء، بعد أن انتزعوه من جذوره الأصيلة، وأقصَوهُ عن بطن أمّه "وطن" في لحظة ولادته.
تحدّثنا سحر ساردة الرواية اعتمادًا على حلم لضياء ذكرت فيه أنّ في الرقم 3 ومشتقّاته في رواية "مدينة تائهة" أو "البحث عن مدينة تائهة"، يكمن الكشف عن جذور أبيها. بحثَت سحر عنها ووجدتها، وعرفت منها أنّ والدها وليد الاغتصاب عنوةً وقهرًا، وأنّه اختُطِف بعد أن خرج مباشرة من رحم أمّه التي سمّاها والداها "وطن" فلم يعجبها فاختارت اسم "نجمة"، وكان اسم جدّتها "عناتا" على اسم القرية الفلسطينيّة المصادرة، ولكنّها زُجّت في مستشفى المجانين لأنّها أرادت إحياء أسطورة جدّتها "عناتا" بتحرير "عناتا" المغتصبة، وتحرير نسيم ابنها من حوافر مغتصبيه، لتستعيد "مجد" حقيقة كونها "وطن".
عندما بدأ نسيم يتقرّب إلى حقيقة شعبه ومعاناته باغتصاب أرضه وتهميشه، رفضه صانعوه، وحاولوا التخلُّص منه. والسؤال: هل نجحوا في ذلك؟
النجاح محدود جدًّا بل إنّه أقرب إلى الفشل. عاد الأب نسيم إلى الحياة بعد أن زرعت له ضياء بمساعدة شفق شريحة في دماغه، فتغيّرت سلوكيّاته، وتأثّرت مشاعره وأحاسيسه، ممّا حوّله إلى نسيم آخر بنظر زوجته مريم أوّلًا وبنظر أبنائه ثانيًا. في إحدى محاولات التنصُّت نجحت سحر في أن تنقل لنا هذه النتيجة:"يهمس نور لضياء: لقد فشلنا هذه المرّة لتجيبه: الأمر أخطر بكثير ممّا تتصوّر"(166). وسوف يتأكد هذا الفشل كلّما اقتربنا من النهاية.
تخبرنا سحر كيف استقبلت أمُّها نسيم عند عودته من العلاج بعد حادث الطرق:"كانت تخشى أن تُفلِت خصره، تحيطه بيدها الناعمة"(150)، بينما في المرّة الثانية بعد تشفيره الجديد انقلبت عليه وثارت ثورة صادمة، وقد "نظرت إليه، بل تعاملت معه كأنّه غريب"(176).
إنّ تتبُّع تعامل مريم مع نسيم بعد هذا التشفير يُعتبَر من أهمّ خيوط الرواية، ويُبرِز المقصد المرجوّ منها. فعندما رأته في المشفى بعد ثلاثة أسابيع "وضعت يدها على فمها وأخذت تبكي وجسدها يرتعش، وشعرت بغثيان قويّ"(162). أمّا ردّة فعلها، وجاءت على لسانها:"أين نسيم حبيبي؟ هل استبدلتموه برجل آخر؟"(163)، "إنّه لا يشبهه!"(165).
وعندما عاد إلى البيت معافًى من الناحية الجسمانيّة وقادرًا وحيويًّا وراغبًا بزوجته مريم من الناحية الجنسيّة، كان شعورها تجاهه مناقضًا تمامًا لأنّها "نظرت إليه، بل تعاملت معه كأنّه غريب" وكانت تكرِّر قولها:" متى تعيدون لي روح نسيم؟!" وقد عاملته كأنّه نكرة فلا تريده أن يمسّها أو ينام إلى جانبها، ولم تعد تناديه باسمه بل بالضمائر، فهو آخر وليس نسيم الحبيب، أشبه بالشبح، شكل بلا جوهر بالنسبة لها، مجرّد جسد بلا روح، فاقد للطاقة الخلّاقة التي تمثّل بها نسيم الأصيل.
أمام هذه المواجهة المأزومة المتوتّرة التي لا تعني إلّا خراب البيت، وقف الأبناء إلى جانب الوالد، باعتقادهم أنّ الأمّ تبالغ في نظرتها إلى الأب، ولكنّ سحر الساردة الذكيّة فكّرت بالقيام باختبار لاستكشاف طبيعة الأب: أهو أبوها حقًّا كما يدّعي إخوتها أم هو غريب كما تراه الأمّ؟ وهذا ينمّ عن شكّها ومحاولة التقرّب إلى فكر الأم. ارتدت ثوبًا مغريًا لترى إن كان نسيم سينظر إليها كابنة أم كعشيقة تستثيره؟
انتهت المحاولة بأنّه غريب وأنّ مشاعر أمّها صادقة:"لاحظتُ أنّه يُطيل النظر إلى مطلع نهديّ كأنّه يريد التهامهما. تقدّم منّي..واجهني بعينيه البرّاقتين..زادت رعدتي وتضاعف خوفي"(200) "اعترفتُ لنفسي بأنّ جسدي يرتعش إذا لامست يده ذراعي بالخطأ أو عن قصد"(198). لا يوجد أبٌ ينظر إلى ابنته بهذا الشكل إلّا إذا كان شاذّا، ولكنّه كان يعيش معهم وبينهم سابقًا، وسحر ابنته الكبرى، ولم تشعر في يوم من الأيّام بمثل هذا الشعور تجاه والدها، وكأنّ شيطانًا ركبه، ولعلّ هذا الشيطان يتمثّل بالذكاء الاصطناعيّ الذي زُرع فيه فانتزع روحه وحوّله إلى روبوت متحرِّك ذي قدرة جنسيّة مضاعفة عليه تفريغها ولايهمّ كيف..إنّه غريب حقًّا وها هو اختبارها ينجح في كشفه.
أمّا الاختبار الثاني فقد برمجته سحر مع شفق، فقد هيّآ البيت على أكمل وجه، وأعدّا الأب لاستقبال الأم، فاشترت سحر هديّة للأمّ خاتمًا أعطته للأب ليقدِّمه لها علّها ترضى عنه وتزول الغمّة عن بيتهم المهدّد بالانهيار، ولم تنجح المحاولة أيضًا، لأنّ مريم اعتبرت أنّ هذا الخاتم بمثابة الثمن الذي يدفعه نسيم المزيّف لها ليحصل مقابله على جسدها الذي تعتزّ به لأنّها وهبته لنسيم الحقيقيّ. إنّها ما زالت تحتفظ بكيس من نسيم الحقيقيّ يتضمّن عهدًا بينهما بعدم الافتراق واستمرار المحبّة، ويحتوي على خصلتين من شعريهما لتأكيد هذا الميثاق النابع من حميميّة الليلة الأولى لنشوة لقائهما. ومن المفارق والصادم لمريم أنّ نسيم الجديد لا يعرف عنه شيئًا. وهذا ما جعل مريم رافضة له ولأيّة علاقة معه، بل وأكثر من ذلك ناظرة إليه بعين الإستنكار والاشمئزاز، وحين حاول أن يأخذ حقّه الشرعيّ كزوج في ممارسة الجنس معها طردته من بيتها، ولكنّه استعمل معها القوّة المفرطة ممّا حدا بها إلى أن تمثّل اللطف معه، فادّعت أنّها تريد أن تتزيّن له وتعطيه بعد ذلك لذّة لم يشعر بمثلها من قبل، وعندما خلعت ملابسها ولم يبقَ منها "إلّا لبسة المتفضّل" وما يغري ويستثير، وقفت لتستعرض ثمارها جسدها المغرية أمام المرآة التي اعتادت أن تقف أمامها بعد غياب نسيم الحقيقيّ لتستعيده من خلالها، ولما وصلت إلى قمّة الانكشاف كانت المفاجأة أن ابتلعتها المرآة.
تعتبر هذه النهاية مفاجئة للقارئ، ولكنّها تتناسب مع شخصيّة مريم المخلصة في حبّها لنسيم الذي ساعدته على التخلّص من خدمة أثرياء اليهود والانتماء لتراث أمّته ولحقوق شعبه، ولإعادة هذا الشعب إلى الواجهة بعد أن تعرّض لمحاولات التهميش المتكرّرة، لذلك كان رفضها المطلق لنسيم الجديد ذي البناء الاصطناعيّ الذي يهيّئه لخدمة أمن اليهود.
يُلاحَظ أنّ هذه المحاولة لإعادة حالة الألفة والحبّ بين الأب نسيم والأمّ مريم جرت بمبادرة سحر وشفق، بينما استثنت ضياء ونور، ونحن نعلم أنّ وجهة النظر في الرواية مبنيّة على شخصيّة سحر الساردة التي تنقل الأحداث، وقد تعلِّق عليها أحيانًا، وأنّ هذا الاستثناء لم يصدر عن عفويّة بريئة بل هو صادر عن موقف من أخويها، فقد تجسّست على حوارهما أكثر من مرّة، واطّلعت على "مذكّرات" ضياء بعد أن صوّرت صفحتين منها، وسمعت كثيرا من أحلام ضياء واستثمرتها مثل معرفة أصل الأب ومن تكون أمّه: بمعنى أنّهما انكشفا عليها، وعبّرت عن موقفها منهما:"لا أستطيع التخلّص من شعوري بغرابتهما، كأنّهما لا ينتميان لنا، لعائلتنا البسيطة الوادعة، بل يتهيّأ لي، أو يحلو لخيالي أن يتصوّرهما عميلين لصالح منظّمة سريّة"(161). ولعلّ أبرز ما في هذه الخيانة يظهر في تحويل نسيم، بزرع ضياء لشريحة في دماغه، من اتجاهه الوطنيّ إلى خدمة الأمن اليهوديّ: أي إلى الطرف المقابل، وقد برز ذلك بوضوح في أقوال ضياء:"من اليوم فصاعدًا يجب أن تتوقفوا عن مشروعكم بتسجيل الأغاني الشعبيّة"(162-163). لذلك استبعدتهما سحر لأنّهما يعتبران السبب في تدهور حالة الأب بانجرارهما وراء الموجِّهين لهما.
والسؤال: ماذا عن شفق، وهو أيضًا تعرّض للذكاء الاصطناعيّ، ويؤمن بالعلم ومتفوِّق بعلم الحاسوب، فبماذا يختلف عن ضياء ونور بالنسبة لسحر؟
يمثِّل نور وضياء جانبًا أحاديًّا للعلم الذي يرفض الفكر، ويعتبر كلّ اتّجاهاته كالأدب والفنّ والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانيّة التي تتعامل مع روح الإنسان مجرَّد تُرَّهات وأوهام لا قيمة لها. ولذلك شكّلا طرف النقيض لسحر التي تمارس مهنة السرد والقصص والأدب، ولا يمكن التقارب بينهما، بل ترى بهما سببًا أساسيًّا في خراب بيتهم. بينما شكّل شفق "تعادليّة" (أشبه ما تكون بتعادليّة توفيق الحكيم التي يطرحها في مسرحيّاته) بين هذين الطرفين المتناقضين، فهو في الوقت الذي يعتنق العلم ويمارسه لا يتخلّى عن الجانب الآخر أي الفنّ والأدب والحكايات والمعزوفات ورسومات فنجان القهوة "إنّه يمزج بين العلم والروح ما بين المحسوس واللامحسوس..بين المرئيّ واللامرئيّ. لو التقيتُ بشابّ يشبهه لما امتنعت عن عشقه بجنون..لاستسلمتُ له طواعيّة"(203)، كما عبّرت سحر بصريح العبارة عن أخيها شفق.
إذا كانت الرواية قد بدأت بأزمة " هيجان نور وثورانه الليليّ" دلالة على الذكاء الاصطناعيّ الذي حاولوا زرعه فيه، فإنّها انتهت بمأساة رهيبة تمثّلت بفقدانها للأب الحقيقيّ وابتلاع المرآة للأمّ. ومعنى ذلك انهدام البيت تمامًا بما يحويه من تناقضات داخليّة، ولكنّها حتمًا مبنيّة على مؤثرات خارجية موجِّهة لها عن بعد.
ولنتساءل: ما هو موقف الكاتبة من الذكاء الاصطناعيّ؟
لقد وظّفت الكاتبة هذا الذكاء لأسباب فنيّة تساعدها على تمرير فكرها على اعتبار أنّ الرواية فكريّة، ولم تهدف إلى الكتابة عنه، وقد يجد الباحث في أيّ مقال عن هذا الذكاء أكثر بكثير ممّا قدّمته الكاتبة في روايتها، إنّها توظّف هذا الذكاء لتوضّح أبعاد الشخصيّة في تحوّلها وخاصة نسيم، ولتستعمل نوعًا من الرمز الهادف للتلميح لا للتصريح الذي بالغت فيه بسرد الأحلام وقراءة الفنجان واللجوء إلى القصص الشعبيّة والأساطير وما شاكل، لتبعد بذلك مقاصدها. ولكنّ القارئ المتأنّي لا بدّ أن يكشف أنّ كلّ هذه الوسائل الفنيّة التي استخدمتها الكاتبة بهدف الابتعاد كانت أدراجًا هادفة للوصول إلى بؤرة الرواية ومقاصدها.
إنّ سحر الراوية بتوجيه من الكاتبة ترفض الذكاء الاصطناعيّ لأنّه مبنيّ على الجسد وليس على الروح، على السلوك وليس على الشعور والأحاسيس. إنّه أشبه بالجنون، فالمجنون (الذي يسكنه الجنّ أو الشرّ) يتصرّف بإيحاء من جنّه الذي ركبه ويسيِّره دون أيّ التفات إلى مشاعره وأحاسيسه: قد يقتل أو يسرق أو يخون وطنه وشعبه بحسب توجيهات خارجيّة شرّيرة. وهذا ما حصل مع نسيم في تحوُّله. لقد أراده شيطانه أن يبتعد عن القضيّة التي يخدمها( رفع قيمة شعبه واسترجاع حقوقه المشروعة)، وأن يعود كما كان خادمًا لأثرياء اليهود وحاميًا لأمنهم. إنّه ليس مجذوبًا(الذي تسكنه روح الجذب أو روح الخير وتوجِّهه، كما حصل للزين في رواية عرس الزين للطيّب صالح).
لذلك وجد نسيم رفضًا مطلَقًا من أقرب الناس إليه وخاصّة زوجته التي فضّلت الروح في رحيلها عبر المرآة، على الجسد الفائر بالجنس والفاقد للروح في الواقع، ولا بدَّ لشفق وسحر أن يتّخذا منه موقفًا متشابهًا في استنكاره، ولا بدَّ لضياء ونور أن يكفِّرا عن خطأين ارتكباهما: خطأ في غسيل الأدمغة بأمر من قوًى عليا، وخطأ في غسيل دماغ والدهما لمعاداة شعبه بدلًا من جعله ذا دور وطنيّ فاعل في خذمة شعبه.
إنّ توظيف الذكاء الاجتماعيّ في الرواية جاء لقهر الناس واستعبادهم وإلغاء روحهم الحرّة المتطلِّعة للحريّة وتحقيق الذات، وتحويلهم من ثَمَّ إلى مجرّد روبوت يتحرّك بمتحكّم عن بُعد.(التسريبات)
ولكن ما ذنب نسيم بكلّ ما جرى له؟ إنّ أمّه اغتُصبت، وأرضه صودرت، وانتُزِع من أحضانهما، وتعرّض للذكاء بزرع وحمة على ذراعه، وبتجديدها بعد أن ثبت أنّه لم يعد يعمل لمصلحة أسياده. لا بدّ أنّه كان تحت تأثير قوّة أعظم لا تُقاوَم –حسب ظنونه-، وجّهته حسب مشيئتها أوّلًا، وحاولت التخلُّص منه ثانيًا، وخلقته نسيمًا آخر مزيَّفًا ثالثًا، إنّه ضحيّة لهذه القوّة العليا الطامحة إلى تشفير العالم كلِّه، ليسير حسب توجيهاتها، وبشعارات برّاقة مخادعة مثل: قهر الشرّ في العالم، تحسين حياة البشر وإحلال السلام على الأرض.
مهما بلغت قدرة هذه القوّة العُظمى وعلومها الموجّهة نحو السيطرة، فلا يمكن إلّا أن تظهر المقاومة ضدّها من حيثُ لا تدري، لأنّ العلم ليس حكرًا على أحد بل مفتوح للجميع، وما تقوم به أنت اليوم سيكون أكثر منه مُتاحًا لغيرك غدًا، وأنّ روح الشعوب الحيّة لا بدّ أن تهتدي للذكاء الطبيعيّ القائم على روحها الثائرة لتثأر ممّن عاداها بذكائه الاصطناعيّ(نهاية الرواية).
أُطمئِن الأدباء والمفكِّرين الذين جلسوا في مقهًى في باريس في أواخر القرن التاسع عشر، وكانوا متخوِّفين من اندثار الأدب والفنّ والفكر، بأنّ هذه الأشكال الإبداعيّة تطوّرت وازدهرت مع وجود الثورة الصناعيّة. وأُطمئِن المتخوّفين على الإنسان مبدع الفنون والآداب والفكر أنه لن يتلاشى مع بروز الذكاء الاصطناعيّ، بل سيبدع لأنّه يعبّر عن ذكاء أكبر بكثير وهو ذكاء الشعب بكلّ مشاعره وتطلُّعاته وآماله، ليصوغها بأشكالها الفنيّة والجمالية.
إنّ هذا الذكاء الاصطناعيّ مهما بلغ من تطوّر حتّى وإن كان مُوجّهًا للخير والإيجاب، فإنّه لن يستطيع أن يخلق إبداعًا كإبداع أمّ كلثوم ونجيب محفوط وكافكا وسيراماغو و.. و.. أمّا إذا كان هذا الذكاء موجَّهًا للشرّ والجنون والشياطين وقهر الإنسان واستغلاله فإن الفكر والإبداع والفن كأشكال لروح الشعوب ستقف له بالمرصاد لتقاومه وتقهره، ولكلّ فعل ردّ فعل. وأنّ الإنسان المعرَّض للقهر والتلاشي لا يمكن إلّا أن يبدع أشكالا موازية ليواجه بها عدوّه، ولعلّ أبرزها إبداعه في الخلق لممارسة مقاومته الحقيقيّة على شتّى المستويات.