نعثر في الكتاب على تفاصيل مروعة لآثار عنف السلاح في الولايات المتحدة، وذلك في إطار بحث بول أوستر عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة أكثر بلاد العالم عنفًا. لا تختصر القضية في حيازة الأسلحة، بل بما يرتبط بها من عنف دموي، وذلك بعد أن تحوّلت الأسلحة إلى أداة قتل جماعي، وبمستوى من العنف وقدر من الدموية يذهلان كل محاولة عقلانية لفهم القضية وسبر أسبابها.

ما الذي يجعل الولايات المتحدة البلد الأكثر عنفًا؟

عمر كوش

 

تعدّ مشكلة السلاح من المشكلات التي تلقي بظلال قاتمة على حياة الكثير من الأميركيين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن سكان الولايات المتحدة يمتلكون 393 مليون قطعة سلاح، بمعدل أكثر من قطعة سلاح واحدة لكل فرد فيها، وأنها تشهد حوادث إطلاق النار مأساوية متكررة، تودي بحياة حوالي 40 ألف شخص سنويًا، ويتضاعف هذا العدد ليصل إلى 100 ألف عند إضافة الوفيات العرضية التي يسببها السلاح، والأعداد الناجمة عن عمليات القتل التي ترتكبها أجهزة الشرطة. ولا يتوقف الأمر عند أعداد القتلى فقط، بل يمتد إلى ما تخلفه عمليات إطلاق النار من مصابين ومعطوبين، فضلًا عن أثر العنف الذي يتجاوز أجساد الضحايا والمصابين ليتحول إلى ألوان من الدمار على أسرهم ومحيطهم الاجتماعي. لكن، وعلى الرغم من أن النقاش حول الحق في امتلاك السلاح في المجتمع الأميركي، يثار في أعقاب كل جريمة ترتكب بحق أطفال أو تلاميذ مدارس أو مدنيين أبرياء، إلا أن ما يغيب عن بال كثيرين هو أن الحوادث الدامية التي يسبّبها استخدام السلاح لا تقع بين الفينة والأخرى فحسب، بل يواجهها الأميركيون في كل يوم تقريبًا، بدون أن يتم التوصل إلى وضع حدّ للعنف المميت الذي تسببه الأسلحة.

دفع استفحال مشكلة السلاح وعدم وجود حلّ لها، العديد من المفكرين والمثقفين الأميركيين إلى النظر فيها، وتناول أسبابها وحيثياتها، ومن بينهم الروائي والشاعر بول أوستر (توفي في الأول من مايو/ أيار الحالي)، الذي تناولها في كتابه "الشعب الدموي" (ترجمة سعد البازعي، دار كلمات، 2023)، من خلال تأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وتأثيره على حياته الشخصية والعائلية، مستعرضًا كيفية تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة، وصولًا إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي، والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، ثم يتحدث عن انضمامه إلى البحرية التجارية وتعرّفه على أشخاص من الجنوب الأميركي، واندهاشه من علاقتهم بالأسلحة النارية، ليتوقف عند الحلول الممكنة لها.

ينطلق أوستر مع تاريخ عائلته، الذي شهد حادثة إطلاق نار حاول والده (وأخوته الثلاثة) التستر عليها، وأودت بحياة جده، الذي جاء ذات يوم لزيارة أبنائه، وقامت زوجته (جدة بول) بإطلاق عدة رصاصات على زوجها المنفصل عنها أمام أعين أحد آبائهما (عم بول) وأردته قتيلًا، ولعل الجرح الذي لم يندمل تجسد في أن أولادهما عاشوا وهم يدركون أن والدتهم هي التي قتلت والدهم، لكن ذلك، وإن لم يمنعهم من تعلقهم بها، إلا أنه ترك جروحًا عميقة في نفوسهم، وأثّر كثيرًا على سلوكهم وحياتهم.

نعثر في الكتاب على تفاصيل مروعة لآثار عنف السلاح في الولايات المتحدة، وذلك في إطار بحث مؤلفه عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة أكثر بلاد العالم عنفًا، ودفعه ذلك إلى أن يُعنون كتابه بعنوان صادم هو "أمة حمام الدم"، أو "أمة الدم"، التي أراها أقرب إلى روح الكتاب من عنوان "الشعب الدموي" الذي اختاره المترجم لعنوان الكتاب باللغة الإنكليزية (BLOODBATH NATION). 

لا تختصر القضية في حيازة الأسلحة، بل بما يرتبط بها من عنف دموي، يزهق أرواح كثيرين، وذلك بعد أن تحوّلت الأسلحة إلى أداة قتل جماعي على النحو الذي تنفرد به الولايات المتحدة بين سائر دول العالم الأخرى، وبمستوى من العنف وقدر من الدموية يذهلان كل محاولة عقلانية لفهم القضية وسبر أسبابها. ولعل اللافت هو أن غالبية الأميركيين يعتبرون الوفيات الناجمة عن استخدام الأسلحة النارية، مثلها مثل الوفيات الناجمة عن حوادث المرور، أي بوصفها إحدى عواقب الحياة اليومية، التي لا يمكن تفاديها وتجنبها، وهو ما يرفضه أوستر الذي يقوم بتوثيق مراحل ذلك العنف المجتمعي، وتقديم تأملات تحليلية حول جذوره وأسبابه ومآلاته، بالتزامن مع تحليل أبعاد النزوع الدموي الذي وسم التاريخ الأميركي منذ بداية الاستيطان حتى عصرنا الراهن.
اشتهر أوستر ليس بوصفه باحثًا اجتماعيًا أو كاتبًا سياسيًا، بل بوصفه كاتبًا وأديبًا وروائيًا، أصدر ثماني عشرة رواية، إضافة إلى كتب سيرة وقصص ومقالات، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة، وكان يثير النقاش والجدل مع كل مؤلف يصدره. ويبدو أن تناوله لمشكلة السلاح في بلاده له حيثيات شخصية واجتماعية، تبدأ من رغبته في تفكيك علاقته الشخصية بالسلاح، التي اتسمت بالغربة والنفور، وتمتد إلى تأمل حيازة السلاح في حدّ ذاته، وتبيان أسباب نشأتها التاريخية في المجتمع الأميركي، ومحاولة فهم أصولها وأسبابها في الأمة الأميركية، إذ أن علاقتها مع البندقية أبعد ما تكون عن العقلانية، ولم يتمّ بذل جهود كبيرة من أجل حلّ مشكلة السلاح، التي هي في الأصل مشكلة غير جديدة، لذلك يعتبر أوستر أنه من أجل فهم كيفية وصول المشكلة إلى ما هي عليه، يتوجب إراحة النفس من الحاضر والعودة إلى البدايات، أي إلى "زمن ما قبل اختراع الولايات المتحدة". وقد استدعى ذلك الحفر في الأعماق التاريخية لكي يكشف عن جذورها، التي ترجع إلى بدايات الاستيطان في الأرض الأميركية، حيث توطّن العنف الدموي مع بداية الاستيطان الأوروبي في القرن السابع عشر، وذلك حين "أقنع المستوطنون الأميركيون الذين ولدوا في إنكلترا أنفسهم بأن الله منحهم حق السكنى في أي مكان يشاءون من براري العالم الجديد، الذي جاءوا ليطلقوا عليه وطنًا، حتى وإن أدى ذلك إلى الحلول محل السكان الذين كانوا يسكنون في تلك الأراضي التي سكنوها لآلاف السنين قبل وصول الإنكليز". وعليه قام المستوطنون الأوروبيون بتشكيل ميليشيات مسلحة مارست كل أنواع العنف الدموي ضد السكان الأصليين الذين سموهم "الهنود الحمر". وقد نمت تلك الميليشيات وكبرت مع الزمن، كي تعبر عن تلك الفجوة، التي اتسعت منذ حرب الاستقلال بين عامة الاميركيين والحكومة، وتجد معادلها في الخوف الدائم من أن تتحول الحكومة إلى سلطة مستبدة، وتكون استمرارًا للهيمنة البريطانية التي سبقت الاستقلال. إضافة إلى أن حيازة السلاح ارتبطت بالتاريخ الاجتماعي في الولايات المتحدة، الذي تجسد في العنصرية واستعباد الأفارقة، وما تلاها من مراحل شهدت حروب الاستقلال والعنف الذي رافقها، ثم كتابة الدستور الأميركي، حيث يمنح التعديل الثاني فيه كل الأميركيين الحق في حيازة الأسلحة.

 يرى أوستر أن الولايات المتحدة ولدت في العنف، بالنظر إلى أنها ولدت ومعها ماض يتكون من مئة وثمانين عامًا عاشها الأميركيون في حروب مستمرة مع سكان الأرض الأصلية، التي استولوا عليها، ثم خاضوا حروب الاستقلال والاتحاد، وبالتالي ولد الأميركيون في العنف منذ نشأة أمتهم، وانقسموا كذلك، ليس فقط بين البيض والسود، أو بين المستوطنين والهنود، وإنما بين البيض والبيض أيضًا، فالولايات المتحدة تأسست على مبادئ الرأسمالية، القائمة على التنافس، أي على الصراع في لعبة مراكمة الثروات، بين أقلية من الرابحين وأكثرية من الخاسرين، ووصل الصراع إلى مستوى كبير من التوتر في الجدل حول الأسلحة بين القوى التي تؤيد السيطرة على السلاح وتقنينه، وتلك التي ترفض تلك السيطرة والتقنين، ولم يتم التوصل إلى حلّ لمواجهة الكارثة التي تدمي القلب، والمتمثلة بالعنف المتعاظم للسلاح الذي ما يزال ينتشر في كل بقعة في الولايات المتحدة، فيما يتحول الجدل حول السلامة والأمن إلى أحاديث مكررة، وتعابير حزن ورثاء دائم لمجازر ترتكب بحق الأبرياء، ليستقر في أنفس الأميركيين أنهم عاجزون عن إنقاذهم، وأنهم مجرد ضحايا عرضيون لحيازة السلاح.

لا يرى أوستر الحل لمشكلة السلاح في حظر تصنيعه وبيعه، لأن محاولة كهذه ستكون غير عملية، وغير فعالة، مثلما كان حظر الكحول قبل عقود غير قليلة، فضلًا عن أن "مالكي الأسلحة في هذا البلد لن يؤيدوا الحظر"، وبالتالي فإن معالجة مشكلة السلاح تتطلب حلًا أكثر شمولًا واستبطانًا، ولا تبدأ بالتشريع، لأن الحل يجب أن يقبله الطرفان، المؤيد للسيطرة على حيازة السلاح والرافض لها، وذلك عبر إجراء بحث أمين وعميق ينهي المشكلة، ويرسم ممكنات التقدم في اتجاه المستقبل. كما أن المشكلة الحقيقية ليست في حق امتلاك السلاح، أو في السلاح نفسه، فالسيارات كانت منذ اختراعها مصدرًا للموت الفردي والجماعي، لكنها لا تلام على الحوادث المرتكبة، بل اللوم يقع على الذين يقودونها، وبالنسبة إلى السلام، فالمشكلة هي في حق امتلاك السلاح وفي مستعمليه، بينما ترى اللوبيات والجماعات المدافعة عن حق امتلاك السلاح أن المشكلة ليست في حق الامتلاك، وإنما في كيفية استعماله، وذلك على الرغم من أن كل الوقائع تؤكد عكس ذلك، وتشهد عليها المجازر التي ترتكب في المدن الأميركية، وطاولت الشوارع والمدارس والجامعات ودور العبادة ودور السينما وسواها.

 

  • عنوان الكتابالشعب الدموي
  • المؤلفبول أوستر
  • المترجمسعد البازعي

 

 

ضفة ثالثة