يقدم الناقد المغربي هنا دراسة مستقصية لرواية الكاتب المصري، ييتبع فيها عتباتها النصية والسياقية على السواء، ويتناول متنها السردي بالتحليل والتأويل ليموقعها في تلك المسافة الثرية الممتدة بين الواقعي والمتخيل.

جميلات العمري

عبد المالك أشهبون

«حذار يا صديقي من النساء الجميلات، فعندما تبدأ رقتهن... تبدأ عبوديتنا!»
فيكتور هيجو
 

قلما تداولت الأقلام النقدية، كتابات الروائي المصري محمد عبد السلام العمري، صاحب رواية "الجميلات" (أواخر ديسمبر 2002) التي تزامن صدورها مع مجموعة من ردود الأفعال، سواء من جهات سياسية أو دينية أو أدبية بمصر المحروسة، وذلك على ضوء ما ورد فيها من أفكار وتصورات ومواقف ورؤيات. وتجدر الإشارة إلى أن الروائي محمد عبد السلام المصري من مواليد البحيرة ـ مصر، وحاصل على بكالوريوس في الهندسة المعمارية عام 1975، كما عمل مهندسا معماريا حراً لسنوات طويلة قضى معظمها في دول الخليج، ثم تفرغ تماما للأدب. وللروائي أكثر من تسع مجاميع قصصية، وروايات نذكر من بينها: "اهبطوا مصر"، "النخيل الملكي"، "صمت الرمل"، "قصر الأفراح"، "زيارة السيدة الجميلة"، "نجوم زاهية في الليل".

فقد تعرضت رواية "الجميلات" إلى المتابعة القضائية وهددت، كذلك، بالمصادرة، من خلال الموقف المعادي لما تَضَمَّنَتْه الرواية من أفكار جسورة ورؤيات غير مألوفة وحساسيات فنية مغايرة؛ فمنهم من بحث في الرواية عما يراه "مسيئاً" إلى الدين، بينما انبرى آخرون للتفتيش فيها عما يخدش حياء القارئ، في حين اعتبرها البعض الآخر متجاوزة للخطوط الحمراء على الصعيد السياسي. لكن الذي يدعو للاستغراب هو أن جهات متضاربة الأهواء والمشارب والمرجعيات، كلها تتقاسم الرأي القاضي بمصادرة الرواية ومحاكمة الروائي!!!

كل هذا وغيره دفع بالروائي إلى أن يحيط روايته هذه بمجموعة من النصوص المحاذية والعتبات التي كان لا بد من استحضارها، في نظر المؤلف، من أجل إحاطة القارئ العربي بسيرة كتابة الرواية/ الحدث، رفعاً لأي التباس، ودفعاً لأي تأويل مغرض لما ورد في الرواية...

فهذه العتبات الروائية تحكي، إذاً، قصة هذه الرواية المشاكسة، بما في ذلك: ظروف وحيثيات ظهورها، بالإضافة إلى ما تعرضت له من أنواع المنع والتهميش والمحاكمة، بعد أن تجرأ صاحبها على ملامسة قضايا حساسة، تُعَدُّ من بين القضايا المسكوت عنها في الثقافة العربية، وعلى رأسها: قضية النزعة الذكورية المهيمنة على المجتمع العربي، من خلال ممارسات الرجل الشاذ أو الأب المستبد أو الزوج القاسي، وغيرها من مظاهر العسف والشطط والتجاوز الذي تعانيه المرأة العربية على مختلف المستويات المجتمعية...

أولاً: عتبات الرواية تحكي قصة صدورها
إن التحدي الذي يواجهه أي روائي، يكمن في مدى قدرته على تقديم أعمال جديدة لقرائه، إن على مستوى الحكاية، أو على مستوى الفضاء، أو على مستوى الشخصيات... ذلك أن هناك علاقة خفية تنصهر في أتونها عناصر الخيال الروائي المفترض مع الحاجات الاجتماعية الأكثر حساسية في الواقع. فالموضوع الأساس الذي يطرحه هذا العمل الروائي هو كل ما يتعلق بالمرأة من قريب أو بعيد، فهل كل هذا الغبار المثار حول الرواية له علاقة بموضوع المرأة؟ الظاهر أن المرأة في وطننا العربي ذات أهمية بالغة الحساسية، سواء في ماضينا وحاضرنا، في حياتنا العامة والخاصة. إنها موضوع جدل لم ينته بعد بين من آمنوا بالمرأة ككائن مكتمل الذات، بقدرات عقلية لا تقل شأنا عن الرجل...، وبين من لا يتورعون في تكريس دونيتها، ويعمدون، بكل ما أوتوا من وسائل الإقناع والحجاج، إلى الإمعان في «وأدها»، على طريقة الجاهليين مع وجود الفارق الزمني، وتغير الوسائل لممارسة هذا الفعل الشاذ في زمن العولمة... وهذا ما تؤكده العديد من التقارير المحلية والوطنية والقومية والدولية عن جرائم العنف ضد النساء في وطننا العربي.

وتنطلق فكرة الرواية من اقتناع مبدئي مفاده: أن هذه الأنثى رقيقة المشاعر، الحساسة والحنونة، وهبها الله القدرة الفائقة على سعادة العالم، وتكوين الأسرة، والعيش في أمان واطمئنان. غير أن ما استجد في الأمر هو سلوك وتصرف وممارسات الرجال الشواذ، الذين استطاعوا، بما يملكون من مال وسلطة وجبروت، تحويل حياة النساء من نعيم إلى جحيم، ومن اطمئنان إلى خوف مستمر، ومن تعايش وتشارك إلى إقصاء وتهميش...

وهي الصورة ذاتها التي ترسخ عقلية الرجل العربي الذي لا يرى في المرأة سوى أداة لهو وتسلية ومجون، أو تفريخ للنسل، أو إناء لتفريغ مكبوتاته الجنسية بطرق شاذة، بمعنى آخر: الإمعان في ترسيخ صورة الإذلال الجنسي في حق المرأة، بمختلف الوسائل والطرق...

في هذا الجحيم المعيش على أرض الواقع، الذي يفتقد بصورة فاضحة لقيم العدالة والمساواة، وتؤسس قواعده العامة على التسلط والجور والخداع، تتعايش طبقة النساء المطلقات في هذا الفضاء اليوتوبي الساحر والساخر والعجيب الذي تبدعه مخيلة الروائي، لتجعل منه فردوساً تهرب إليه النساء المطلقات، وإبدالا حقيقيا عن واقع معيش مرفوض، لا يطاق...من هنا تبدو لنا رواية "الجميلات" عملاً جاداً للغاية، لأن الروائي الجاد هو الذي يستطيع أن يبدع ما هو غير مسبوق، سواء في الرؤى الكبرى للعالم والأشياء والناس والطبيعة. وبالعودة إلى عتبات هذا النص الروائي المتفرد، نجد أن صفحة الغلاف (الصفحة الأولى من الرواية) تحتوي على المكونات المحاذية التالية:

1 ـ صورة الغلاف: في أعلى صفحة الغلاف، وبالضبط في الجانب الأيسر منها، يثبت الروائي صورة امرأة لا نتبين منها إلى شكلها الخارجي الذي يوحي بصورة شهيرة في مجالنا المرئي، ويتعلق الأمر بصورة "الموناليزا" لليوناردو دافينشي، وهي الصورة الفنية التي حيرت العالم لقرون طويلة، ولا تزال تشكل مثالاً للمرأة الجميلة في الأزمنة الكلاسيكية، بكل ما تتسم به هذه اللوحة من عناصر الغموض الساحر، مما جعلها من الصور الخالدة في الثقافتين الغربية والعربية على حد سواء. في المقابل، وفي أسفل الجهة اليمنى من صفحة الغلاف، يثبت الروائي صورة امرأة تبدو عليها آخر صيحات الجمال في زمننا الراهن.

2 ـ العنوان: يبدو أن وضع العنوان ("الجميلات") قد صيغ عمودياً لا أفقياً، كما أنه من عينة العناوين التي يستشرف القارئ من خلالها، بطريقة غير مباشرة، موضوع الرواية الأساس.

3 ـ اسم الكاتب: يضع الروائي اسمه الكامل وسط الصفحة: "محمد عبد السلام العمري".

4 ـ التعيين الجنسي الرئيس: يثبت الروائي هوية هذا الكتاب على مستوى الأجناس الأدبية، ويحددها في جنس الرواية بالضبط.

5 ـ التعيين الجنسي الفرعي الأول: لمزيد من توضيح هذا التعيين الجنسي الرئيس، يعمد الروائي إلى تدعيمه بتعيين فرعي آخر: "رواية المعرفة مع قرار رئيس محكمة شمال القاهرة بالإفراج عن الجميلات".

أما بخصوص عتبات النص الداخلية، فيفتتحها الروائي بنصوص توجيهية لكل من السيد المسيح، وابن عربي وابن الفارض، ليعود من جديد إلى وضع تعيين جنسي فرعي ثانٍ، مدققاً في وَسْمِ روايته بعد ذلك بأنها: "رواية المعرفة. موسوعة المرأة".

وعند انتهاء المتن الروائي، يواجهنا الكاتب بتذييل طويل، يحمل عنوان: "ملف قضية مصادرة رواية "الجميلات" للروائي محمد عبد السلام وقرار رئيس محكمة شمال القاهرة بالإفراج عنها". ويتضمن هذا الملف القضايا التالية:

أ ـ حديث وزير ثقافة مصر لـ "روز اليوسف".
ب ـ مواقف.
ج ـ محكمة شمال القاهرة الابتدائية...
د ـ "قضاء مصر الشامخ ينتصر لحرية التعبير" ويأمر بإلغاء قرار مصادرة الجميلات.
هـ ـ الجميلات: تجربة في الكتابة.

يغلق الروائي روايته، بعد ذلك، بلائحة الكتب التي أصدرها، سواء في القصة القصيرة أو في الرواية أو مجال الدراسات المتنوعة...

أما في الصفحة الأخيرة (الصفحة الرابعة)، فيقدم الروائي تصوراً تقريبياً عن أهم المواضيع التي تتطرق إليها الرواية، وذلك بغية فتح شهية القارئ الذي لم يلج بعد عالم الرواية المشوق، وتحفيزه على أَخْذِ فكرة مسبقة عما يدور فيها.

ونستطيع تلخيص هذا التذييل الغني بالدلالات والأغراض والأهداف في المراحل التالية:

ـ مرحلة ما قبل النشر: يتناول الكاتب فيها باختصار شديد دواعي كتابة هذا النص، «لقد لفت انتباهي عدة أخبار متشابهة في أكثر من دورية مصرية وعربية، كانت كلها تتمحور حول خبر واحد، هو الإحصائيات المتعددة حول الارتفاع المذهل في عدد المطلقات والأرامل العوانس في مصر خاصة، وفي البلاد العربية بصفة عامة، هي إحصائيات غير دقيقة، مختلفة عن بعضها اختلافات واضحة، ومتباينة في الأعداد والأنواع والأرقام، فمن الذي تعمد وضع كل هذه الأخبار، وكل هذه المعلومات أمامي في أكثر من دورية عربية، وفي نفس الوقت تقريباً، لتعترض طريقي، وكأنه قدر علي أن أكتب هذه الرواية».

ـ مرحلة ما بعد النشر: ويتطرق فيها الروائي إلى مجموعة من ردود أفعال، ومواقف متباينة تلتْ صدور الرواية:

1 ـ موقف معارض لمضمون الرواية: يتجلى هذا الموقف المعارض في المؤسسات التالية:

أ ـ موقف المؤسسة الرسمية: في حديث مثير عن أحوال النشر والكتاب في مصر، يثير وزير الثقافة والفنان (فاروق حسني) الانتباه إلى أنه يوجد بالأسواق «كتاب رهيب مكون من 400 صفحة لصاحبه عبد السلام العمري، ولم ينشر عنه شيء !!»، ويستطرد الوزير في القول: «إنه فضيحة جنسية، لذا كل منطقة من حقها أن تضع برنامجها في النشر ومن حق القارئ أن ينتقي»، ويصل الحد بالسيد الوزير ليصف الكتاب قائلاً:«هذا الكتاب الذي نحن بصدده الآن رهيب».

ب ـ موقف المؤسسة النقدية: يورد الروائي ـ في هذا الصدد الجدالي اللجوج ـ موقف الناقد والأديب أنيس منصور، وهو موقف لا يخلو، كذلك، من تشنيع وقدح ظاهرين. إذ يعتبر أن محمد عبد السلام العمري قرر أن «يتعرى ويحشر نفسه ضمن عشرات العاريات الصارخات. مستخفاً بالمقدسات الدينية. وهذه هي الغلطة التي لن يغتفرها له أحد ـ ومعنا الحق إذا فعلنا ذلك! ثم إن المؤلف على يقين من رد الفعل. إذن لماذا؟ السبب هو: أن المؤلف قد قرر أن يموت بأيدينا وعلى أيدينا وأعيننا. يموت شهيدا. مع أنه ليس شهيد واجب ولا قيمة أدبية أو أخلاقية. وإنما هو "مختل" أراد أن يكون شهيداً... شهيد الرعونة والهوان».

ج ـ موقف المؤسسة الدينية: نجد أن من قدم البلاغ، وحَرَّكَ أطوار محاكمة الروائي، كان أحد طلاب الأزهر بدعم من شيخه. وكانت نيابة أمن الدولة قد أصدرت قرارها بعد صدور الرواية، وأحالت كاتبها إلى المحاكمة، بعد التحقيق معه بتهمة "ازدراء الأديان"...

من هنا نستخلص أن معركة الروائي لم تتوقف عند ردود فعل المؤسسة السياسية فحسب (ممثلة في تصريحات السيد وزير الثقافة)، بل كان على الروائي أن يتصدى، كذلك، لجبهة أخرى لا يقل فيها الصراع شراسة، حيث جيوب المقاومة ضد كل ما هو جديد أو مغاير، أو لا ينسجم مع نغمة المرحلة على صعيد الرؤية الفنية، مما يدل على أن عناصر الممانعة لما هو جديد مترسخة في طبيعة النقد العربي السائد كذلك.

وهنا نلاحظ أن هذا النموذج من النقد التشنيعي عادة ما ينهض على فكرة اختزال النص الأدبي في سلسلة المقاطع الجنسية غير المحتملة، وبالتالي فإن الرواية ككل، من هذا المنظور، تسيء للجمهور المتعفف، وتُخِلُّ بحسن سيرته وسلوكه، وتنحرف به عن جادة الأدب المهذب.

2 ـ موقف داعم ومساند: إذا كانت بعض المؤسسات (السياسية والدينية والنقدية) قد أوعزت بمحاكمة الروائي ومصادرة الرواية؛ فإن هذا لم يحُلْ دون تعاطف العديد من الأصوات مع محنة صاحب: "الجميلات". وكان من ضمن الأصوات التي صمدت بجانب الكاتب في محنته، كل من الناقد حاتم عبد العظيم، والروائي المتميز خيري شلبي، وكذلك فعل بعض الروائيين الذين يجايلونه.

وفي هذا الصدد، يعتبر الناقد حاتم عبد العظيم أن الرواية «غير مسبوقة وغير التي نعرف، جديدة في كل شيء، ليس على إبداع الكاتب فقط وإنما على كل من سبقها من أعمال، ليس في الأدب العربي فقط، وإنما في كل الآداب العالمية أيضاً». أما خيري شلبي فيرى أن هذه «الرواية من الأعمال الكبرى التي تغير المجتمعات. يتعذر علينا أن نفهم لماذا كل هذا التعتيم من جميع الصفحات الأدبية، سواء المصرية أو العربية».

3 ـ مواقف غير واضحة: لم يُبْدِ كتاب آخرون موقفهم الواضح والصريح من محتويات الرواية، وهذا موقف الناقد عبد القادر القط الذي خاطب الروائي بأسلوب لا يخلو من التحذير، ومن مغبة ما ستثيره الرواية من أصداء غير محمودة العواقب، وذلك بعد قراءته فصل "القبلات" مسلسلاً في الأهرام العربي: «إنك ستفتح عليك أبواب الجحيم، لأنك دخلت عش الدبابير».

وما يمكن أن نشدد عليه، من منظورنا الخاص، هو أننا يجب أن نتفق على أن"القيمة الجمالية" لأي عمل أدبي لا تُهَدِّدُ، بأي حال من الأحوال، الروابط الاجتماعية، وأمن وسلامة الآخرين، إلا إذا فُرِضت هذه القيمة الجمالية من قبل عنصر خارجي، فرداً كان أو جماعة، وذلك في حالة الأنظمة الشمولية التي تُمْعٍنُ في حرمان القراء من عناصر المتعة الجمالية التي يرغبون فيها، أو تفرض عليهم ما هم غير راغبين فيه، عن طريق القوة والإكراه.

فالاتهامات التي كِيلتْ للرواية، من هذا المنظور، تنصبُّ أساسا على عدم التزامها بالمعايير الأخلاقية والجمالية التي يُفْتَرض أنها تسود المجتمع المصري، كل ذلك وغيره تسبب في تهميش الرواية، وعمل على عدم إعادة إدماجها في الإطار التداولي المقبول، من خلال طبيعة هذا التلقي غير الموفق والرافض، وهو ما حال دون انتشارها أو توسع رقعة قراءتها.

وهذا ما يعني أن ما تلا نشر الرواية من ردود فعل، يشهد على الصعوبات التي يواجهها المجددون عندما يتعلق الأمر بالخضوع لمعايير الكتابة التي يفترض أنها تنسجم مع أفق انتظار القارئ، وهذه المعايير محددة في إطار الالتزام بقائمة التيمات التقليدية المقبولة، وتجنب الخوض ـ بعمق وشفافية ـ في ثالوث المحرمات المعروف في وطننا العربي: الدين والسياسة والجنس. لكن صاحب رواية "الجميلات" فعل ذلك، وسبح ضد التيار، حين تجرأ على تجاوز تلك المعايير النمطية في الكتابة، واخترق بعضا من طابوهات الجنس، من هنا كانت ردود الفعل الحرونة، بحجم هذه الجسارة الفنية التي أقدم عليها الروائي عن سبق إصرار...

ولقد شكلت تلك النصوص المحيطة بالرواية وثيقة مسنودة بمانيفيستو(بيان)، يبرز طبيعة الأفكار الجديدة التي بموجبها يغرد الروائي خارج السرب، متحدياً بذلك عقلية القطيع. كما تقدم، في الآن نفسه، نموذج قراءتها، وطبيعة المواثيق التي يجب اعتمادها لتجاوز صدمة الجديد من الأفكار والمقولات الجمالية، لأن ما تميز به هذا النص الروائي هو هذا البعد التجريبي الغريب والخلاق والمتفرد...

نتساءل في هذا الصدد: لماذا كل هذا الخوف والقلق من الإبداع الذي يعتبر محدود الانتشار أمام المد الهائل لخطاب الصورة، من خلال انتشار القنوات الفضائية التي تجتاح منازل الوطن العربي بالكامل على مدى الأربع والعشرين ساعة يومياً؟ ناهيك عن الأفلام الجنسية المتاحة، أو من خلال الإنترنيت، في حين تقوم قيامة المسؤولين على رواية من حجم خمسمائة صفحة أو أقل، قَضَّتْ مضجع الوزير، وأقلقت طمأنينة بل الشيخ وأربكت حسابات الناقد، علماً بأن معدل توزيع الكتاب في العالم العربي، ولأسماء كبيرة، ومشهورة جداً ضعيف وباهت...

فهذا هو السؤال الأهم والتحدي الأصعب الذي يواجهنا (قراء ونقادا وقيِّمِين على المشهد الثقافي)... ورب سائل يسأل: متى يتوقفون عن الإمعان في هذا الفعل (فعل المنع) الساذج في زمن كهذا؟ وهل بالفعل يمكن اعتبار فعل الإبداع بهذه الخطورة التي تتصورها الرقابة في زمن الفضائيات، وزمن الإنترنيت، وزمن الأقمار الصناعية؟

حتى أن الكثيرين أصبحوا يبشرون بعصر جديد، وبزمن جديد. فبعد "زمن الشعر" و "زمن الرواية"، ها هو زمن آخر أكثر انتشاراً واختراقا لكل الحواجز والخطوط الحمراء: إنه "زمن المدونات الالكترونية"، فالأفضل للقيمين على الشأن الثقافي، والحالة هذه، أن يوسعوا هامش الحريات للكتاب الورقي، وأن يمتعوا الكُتَّاب بفضاء أكثر رحابة لكي لا تنتقل إبداعاتهم و «سيرهم» من مستواها الوطني والمحلي إلى أن تصير عالمية، وذلك حين تجد طريقها إلى النشر في مدوناتهم الإليكترونية!

ثانياً: مدينة مثالية أم معسكر للاحتجاز؟
إن كل عمل حكائي يفترض أن يحدد، منذ البداية، مكانه وزمانه حتى يجعل للسرد مرتكزه الافتتاحي. وقد حوَّلَ الكثير من الروائيين المكان إلى بطل روائي، يدمغ شخصياتهم بملامح خاصة، ويسمها بسمات متميزة، ويشكل لها أقدارها ومصائرها. وهذا شأن مدينة النساء في رواية "الجميلات".

ولقد صممت هذه المدينة المتخيلة خارج تخوم مُدُنِنَا الواقعية، لذلك يحار القارئ في ضبط تضاريسها وموقعها، وتلتبس لديه طبيعة أواصر العلاقة التي تجمع ما بين شخصياتها. فهي فضاء معزول عن أي بلد، ولا سبيل إلى الوصول إليها بأي حال من الأحوال، لأن تصميمها وتخطيط بنائها، يجعلها محمية بعناصر الطبيعة التي تسيج تخومها (جبال وبحار، وأنهار، وتماسيح، وكهرباء...).

أما غرض المشرفين على تصميم هذه المدينة المفترضة، فهو الإمعان في عزل النساء، ومنعهن من الاحتكاك والتواصل مع العالم الخارجي، حتى يتسنى لهن العيش في كرامة وانسجام مع الذات، وطمأنينة النفس التي تغيب في عالم الواقع...

ـ فهل المقصود بهذا الفضاء تصور«مدينة فاضلة» خاصة بالنساء، أم أنه سجن كبير، يقاد إليه المطلقات فور تطليقهن عن كره منهن؟

1 ـ مدينة النساء أو نموذج «اليوتوبيا الحالمة»
إن واقع المدينة الخارجي ـ بكل ما يستشري فيه من قيم مرفوضة ـ كان أحد البواعث الأساسية في بحث الروائي عن لعبة البدائل، والتشوف إلى مدن متخيلة يفزع إلى عوالمها، ويلوذ بها مع شخصياته من قسوة المكان الواقعي، بكل ما فيه من عنف مادي، وقهر عاطفي، وتصحُّرٍ وجداني...

فمن حسنات الروائي في هذه الرواية، أنه حاول اكتشاف عوالم فنية مغايرة ومفارقة لم تكن مطروقة من قبل الروائيين العرب الذين كانت عوالمهم لا تتعدى: القرية والمدينة والمهجر... من هنا نؤكد أن مدينة النساء في رواية "الجميلات" هي شكل من أشكال التمرد على الواقع العربي، الذي تحيل إليه الرواية ولا تسَمِّيه، من خلال جملة من المؤشرات والقرائن والعلامات. هذا الواقع العربي هو الذي أوحى للروائي بفكرة الرواية، لأنه لو لم يكن هناك مجتمع عربي ذكوري، سلطوي، وقمعي، لما كانت هناك رواية اسمها:"الجميلات" على حد تعبير صاحبها، وهذا يعني: «أن هناك ارتباطاً لا ينفصم بين المكان وبين الرواية». فالدلالة المبتغاة من انتخاب هذا الفضاء المتخيل هي تحويل المتعين إلى رمز والواقعي إلى منتوج مجاوز للشروط الواقعية حيث يعاين الكاتب العالم الخارجي من خلال منطق مجازي

وإذا كان لا بد لمحمد عبد السلام العمري أن ينتقد ويدين ويسخر من طبيعة المجتمع العربي بالمواصفات المذكورة أعلاه؛ فإنه لم يلجأ في ذلك إلى طريق التعيين المباشر، ولا إلى الأسلوب التقريري الذي غالبا ما يخلو من رمزية الكتابة، وبلاغة الإيحاء؛ بل استطاع أن يفعل ذلك بكثير من الفنية والرمزية، من خلال اختلاقه نموذج هذه المدينة المفترضة والمتخيلة: مدينة نساء بلا رجال.

ولكي يعطى لهذه المدينة بعدها المفارق للواقع، وطابعها التخييلي، وجغرافيتها العجيبة التي تنأى بها عن أي شبه بمدننا المعروفة، اختار الروائي تصميمها على شكل معسكر عصِيٍّ على الإدراك والتمثُّلِ. فقد بدا المعسكر بهذا التصميم المفارق للواقع، فضاء واقعا على الجزر الموشاة بروابي المرفأ القديم لنقل العبيد.

كما أنه بدا، كذلك، فضاء مناسباً لتجمع المطلقات والأرامل، والمرشحات للدخول مستقبلاً، مثلهن مثل العوانس. وإن كان الواقع الخارجي ببعده الأخلاقي والاجتماعي والسياسي يضيق بفئة النساء المطلقات، فإن هذه المدينة ستشكل واحتهم الظليلة، ومرفأهم الأخير، وفردوسهم المفقود...من هنا سنجد أن هذا المكان الروائي مصمم بمواصفات خاصة، ليضفي على القادمات ألواناً من بهجة أخرى، كل حسب ثقافتها وذوقها وإحساسها. وقد تزامن بناء المدينة المتخيلة مع انطلاق موجة الرسم العارمة في الجزء الأول من الرواية. فقد أخذت كل واحدة من نساء المدينة على عاتقها أن ترسم شخصاً ما كانت تهواه؛ فاستدعت كل واحدة منهن فارس أحلامها، تجسد ملامحه، وتشخص صورته،وتتفنن في ذلك عن طريق الرسم، بعد أن استحال عليها تمَلُّكه في عالم الحقيقة، والظفر به في الواقع.

وبهذا الصنيع الفني، كسرت النساء ركناً هاما من أركان الثقافة الذكورية التي تعطي كل الحرية للرجل أن يرسم المرأة التي يتشهَّاها، وفي شتى الأوضاع، في حين لا تجرؤ المرأة على تمثُّل صورة الرجل إبداعياً على الأقل، حتى لا تقع تحت نَيْرِ العيب والحرام...وربما انطلق، كذلك، هذا الاختيار من نزعتها النسوية التي جعلتها ترفض أن تجعل من جسدها فقط، بوصفها امرأة فاتنة، موديلا للرسم. بل اختلقت موديلاً آخر: هو موديل الرجل المشتهى والمحتفى به، كيما يتسنى لها التخلص من البعد الواحد في تصور مفهوم الموديل الذي تم تنميطه وترسيخه...

وإن كان من الطبيعي أن نجد امرأةً جميلة يستلهمُها الرسامون كموديل، فإن عناصر الجمالُ كانت وستظلُّ مطمحَ الفنِّ وقِبلتَه، «فالحسناوات والورود والغيمات والأشجار ووجوه الأطفال والفراشات والقمر والنجوم والنهر، كلها مفردات أصيلة في معجم الجمال. فاتنةٌ تجلس أمام لوحة التشكيل فتحاول ريشة أن تقلّد الخطوط الخارجية لجسدها وملامح وجهها ولون بشرتها لتصوغ لوحةً». هكذا انخرط البعض الآخر منهن في رسم لوحات جميلة لحسناوات معروفات، فرسمت إحداهن لوحة بديعة للممثلة الجميلة نرمين الفقى، بدت بجسدها الساحق كآلهة الجمال الفاتنة، ورسمت أخرى لوحة لسعاد حسني عندما كانت تلعب التنس بنادي الجزيرة... على هذه الإيقاعات الجسدية الملونة، بدت لنا هذه المدينة كمدينة آلهة، ومعرض نماذج الجمال ببعديه: الذكوري والأنثوي. ولعل وجود النساء في هذه المدينة (كما تقول نهلة وهي مديرة المعسكر) يثبت ويظهر أن لديهن وعيا بمختلف احتياجات ومتطلبات المرأة، سواء على الصعيد النفسي أو الجسدي أو الروحي...، لذا فإن الانشغال بصحة المرأة الجسدية والنفسية والروحية كان أحد أولويات وسبل خلق امرأة جديدة، تنشغل بالروح والجسد، أكثر من انشغالها بالطعام والعائلة وغيرها...

وإذا كانت فكرة المدينة الفاضلة تنطلق أساساً من واقع عربي مرفوض من لدن الكاتب؛ فإن الرواية تخلق نموذج نساء، تتحول فيها وضعيتهن من أقصى لحظات الامتثال إلى أقصى درجات الممانعة والتمرد والثورة، حين يتم استبدال عالم الحقيقة بعالم الوهم، وتعويض سلطة الآخر (الرجل) بوهم آخر هو سلطة الأنا (النساء)، مكرِّسَاتٍ بذلك مبدأ ممارسة الإقصاء المتبادل، وهو ما حصل في مدينة النساء المطلقات التي يمنع منعا مطلقا أن يلجها الرجال، ما عدا شخصية إسماعيل الذي يسهر على تصميم مجال المدينة، وأشياء أخرى... ومما يلاحظ في هذه الرواية أنها تحكي ـ وبشكل موسوعي لافت للانتباه ـ عن كل ما يخص المرأة: فنونها، أمراضها، حزام عفتها، سجونها، القمع الواقع عليها، أحلامها، حظوظها، ملابسها الداخلية والخارجية، أحذيتها، رياضتها، قبلاتها، ضحكاتها، كل أنواع ماكياجها، قدراتها الخارقة على إعادة خلق الحياة من جديد، زواجها بأكثر من أربعة وأربعين طريقة، باختصار شديد: عشرات النماذج النسائية المتعددة من كل بقاع العالم هي موضوع هذه الرواية الشيقة والممتعة والمفيدة...

وهذا ما يكشف عن جمال خفي، يسعى الكاتب جاهداً أن يستجليه من خلال تلك المواضيع الأنثوية الدقيقة التي تنتظر اليد السحرية لهذا الواصف والسارد والمحلل للإفشاء الهادئ والسخي بكثير من أسرارها. وكأنما بهذا البحث الموسوعي في تاريخ المرأة، يعيدنا الروائي إلى أصل الوجود الإنساني الأول، حيث كانت المرأة هي الموجهة والفاعلة والمقترحة، عندما أكلت حواء من الشجرة المحرمة، شجرة الخلود، شجرة التفاح في الجنة، حينها كان الرجل مجرد تابع لها، يأتمر بأوامرها...

2 ـ مدينة المطلقات أو «السجن الكبير»
تترجَّحُ صورة هذه المدينة المفترضة بين صورة مدينة فاضلة وصورة سجن كبير يأوي شريحة معينة من النساء، اللواتي حوكمن بتهمة لا دخل لهن فيها، سوى أنها تخص وضعهن الاجتماعي، بصفتهن مطلقات، أو عوانس، أو نساء معنفات من أزواجهن...

ففكرة الرواية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تنطلق من سلوك عينة من الرجال الشواذ أو المتدينون المتشددون: فالرجال/الشواذ يبحثون جاهدين عن الجميلات تحديداً، يقدمون لهن كل أسباب المغريات، وحين تبلع الجميلة الطعم؛ ومن فور ذلك يبدأ الرجل في تعذيبها، يمنعها من ممارسة حقها الشرعي بشكل طبيعي؛ ويذلها بإصراره على عدم تطليقها، أما في حالة وقوع الطلاق؛ فإن المطلقة تذهب بقوة الواقع والعادة والتقاليد إلى "مدينة المطلقات". كما أضاف المتدينون المتشددون عبئاً جديداً على المرأة، فاختصروا مفهوم الخصوصية الوطنية والقومية في الجسد الأنثوي الذي أصبح وفق مفهومهم رمزاً لكرامة الأمة، وعورة في الوقت ذاته، لذا يجب حجب المرأة/ العورة، وسترها، ولم لا سجنها، بعيداً عن أعين المتلصصين، والبصاصين، والناهشين لعرض الأمة من خلال نهشهم لعرض المرأة بأعينهم ! وهناك العديد من المظاهر التي تؤكد فكرة "السجن الكبير" في هذه الرواية...في هذا السياق، يخاطب الشيخ (رمز التشدد الديني) إسماعيل (مصمم المدينة المتخيلة) قائلاً: إنك لا تعرف في ماذا تفكر النساء، أما المطلوب فهو تهدئتهن، وإخماد الحياة فيهن. في حين يرى إسماعيل أن محيط المدينة البحري يمنع كل تسلل أو محاولة هروب إلى الخارج؛ ففي مياهه تكثر أسماك القرش بوصفها حماية طبيعية، وفي الوقت ذاته تجديداً لفكرة الحراسة الإلهية... ويزداد فضاء المدينة انغلاقاً وعدوانية وألماً مع فئة أخرى من الساكنات، ويتعلق الأمر بوضع النساء الشريرات الذي بدا سجنهن منعزلا، بعيداً، وأكثر انغلاقا (سجن أصغر في سجن أكبر).

إلا أن ما أعطى للرواية بعدها الحكائي التشويقي، ونكهتها السردية الآسرة، اختيار الكاتب أسلوب «التحقيق الروائي» باعتباره صيغة منتخبة في عرض أطوار الرواية. فهذا الأسلوب، كما هو معروف، يعمل على كشف ما هو مستور، وفضح ما هو مسكوت عنه، ويبرز ما يعتري عوالم الشخصيات من تناقضات ونقائص وحالات...كما تمكن صيغة «التحقيق الروائي» القارئ من ولوج عوالم المدينة المغلقة، واستبار أعماقها واستكشاف أغوارها، وهذا ما اضطلعت به الصحفية وسام التي خاطرت بنفسها، وتسللت إلى المدينة المحروسة متنكرة. غير أن السماح لوسام بالدخول إلى المدينة أثار الكثير من الشكوك حول شخصيتها الحقيقية، وطبيعة مهمتها: «ربما لم تكن تعمل صحفية، فسألتها نهلة، وماذا تعمل؟ قالت لها ربما تعمل بالاتفاق مع أي جهة أخرى، أو تعمل مخبرة خاصة لأحد الرجال؛ للبحث عن زوجته ربما تكون هربت من جحيم زوجها، مواصلة: من ضربه لها مثلا، من شذوذه، من كبر سنه، أو من أولاده، ستجدين أسبابا كثيرة تجعل بعض هاته النسوة قررن دخولها بأنفسهن».

غير أن سرية مهمة الصحفية سرعان ما انكشفت، حيث ألقي القبض عليها وزج بها في مصحة تابعة للسجن. غير أن وسام لم تستسلم، بل أقدمت على محاولة الفرار من المصحة، خلالها انتشرت حملة تفتيش قصوى بحثاً عن الصحفية الهاربة، وكانت على وشك أن تنجح في الهروب عندما رأت قارباً يقترب منها، وعندما وضعت قدمها عليه عرفت أن رجاله يمثلون سلاح البحرية الوطني الخاص بمدينة النساء، ليعيدوها من جديد إلى المشرفين على حماية أمن المدينة وثغورها. ومع مرِّ الزمن، أظهرت وسام ما يكفي من مظاهر تكيفها وتأقلمها مع المكان الجديد، وقبولها بالأمر الواقع الذي فرض عليها قسراً، وأصبحت الحراسة جد مخففة على تحركاتها في المدينة...ومراعاة لما تجيده من فنون رياضية، أوكل إليها الإشراف على أنشطة المدينة في المجال الرياضي. هذه المهمة الجديدة خولت لوسام أن تتمتع بهامش واسع من الحرية، خلالها قامت بعملية تفتيش غاية في السرية للحصول على ملفات العديد من النساء المحتجزات. الأمر الذي مكَّنَها من تقفي تاريخ كل واحدة منهن، حيث تفتح سير ذاتية لكثير من النماذج النسائية، بمختلف الأعمار والجنسيات والأحداث، حول الأسباب الذاتية والموضوعية التي قذفت بهن إلى هذا المعسكر/ الجحيم...فكان سردها للأحداث والوقائع يجمع ما بين التفاصيل الدقيقة، ووجهات النظر العميقة وشهادات الشهود التي لا تخو من طرافة وبلاغة ودلالة...

هكذا انفتحت سيرة كوكبة من النساء على مصراعيها بين يدي الصحفية...فمنهن من احترفن زواج المسيار مقابل أجر وحسب المدة، وأخريات عنيفات تنتابهن حالات من الهستيريا، ونساء مازوخيات، مثال الزوجة التي تحكي قصة تعدد أزواجها وما وقع لكل واحد معها: «عند زواجها الثاني قيدت نفسها بالسلاسل بعد أن ضربت نفسها ضربا مبرحا، دون أن تظهر أي نوع من الألم أو التأثر، برغم نزيفها الدموي الذي لم ينقطع» وللعودة إلى أنشطة مدينة النساء التي صودق عليها لتنشيط الحياة العامة، قررت المشرفات على المدينة إعداد برامج تربوية وترفيهية وصحية لفائدة النساء. في هذا السياق، أعدت خلود برنامج عمل متكامل يتعلق بالتوعية الصحية ببعض الأمراض التي تصيب عادة النساء، وتحول دون تمتعهن بكل حقوقهن في الحياة الكريمة، فكانت آفة سرطان الثدي على رأس أولويات هذا البرنامج الصحي المكثف. كما صدر عن اللجنة المشرفة على التربية الصحية، مرسوماً يفرض على النساء البدينات أن ينقصن من وزنهن، ولكن هذا القرار لم يمنع اللجنة من اقتراح ملكة جمال خاصة بالبدينات، لانتشال هذه الفئة من التهميش والإقصاء والإبعاد الممارس عليهن لكونهن بدينات. وأقامت اللجنة المشرفة، كذلك، ثلاثة نوادي متميزة: الأول للبكاء، وكان شعاره: "دعونا نبك"، وذلك في سياق رفض النساء لممارسات الرجال الذين يرغمنهن على عدم البكاء؛ أما النادي الثاني، فقد خصص للضحك شعاره: "الضحك إجباري" لانتزاع الضحكات من النساء اللواتي أصبحن يفتقدن الضحك من كثرة الهموم والقروح والجراحات.

وفي محاولة لمكافحة الإعجاب بالجمال لدرجة العبادة، تم إنشاء نادٍ ثالث يضم عشرين ألف قبيحة من أنحاء العالم، سعياً منهن للارتقاء إلى مستوى الاحتفاء بـ«جماليات القبح». هذه التجربة غير المألوفة تضعنا أمام سؤال إشكالي يطرحه الروائي بطريقة ضمنية. هل للجمال مقاييس ثابتة وخالدة ؟ وإن كان الأمر، فما الذي يؤبد هذه المقاييس ويخلدها؟ وهنا نورد رأياً طريفاً للأديبة فاطمة ناعوت، تقول فيه: «الذي زار حي «الملذات العابرة» في أمستردام، سوف يدهش من فتارين الزجاج التي تعرض النساء كبضائع استهلاكية. وبعدما يفيق من صدمته الوجودية حين الإنسان سلعة تُعرَض، سوف يدخل في صدمة فلسفية أخرى تضرب مفهومه الجاهز عن الجمال. حين نجد امرأة جميلة (بالمفهوم الشائع عن الجمال من رشاقة وبياض بشرة ونعومة شعر ودقة ملامح) تُعرَض جوار امرأة سوداء بدينة جعدة الشعر غليظة الملامح، سواء بسواء. لكلٍّ سوقُها ومريدُها». فهذا النوع من التيمات يدخل فيما يسمى بـ«استيطيقا القبح» باعتباره من أهم تيمات الخطاب «ما بعد الحداثي» في العمارة، كما في الظواهر الإنسانية. وباختصار شديد، يعيدنا الروائي من جديد إلى طرح سؤال معايير الجمال والقبح، ويقلبهما رأساً على عقب، تجاوزا لما هو نمطي، مقولب، وجاهز في ما درجنا على تسميتهما: «جمالا» أو «قبحاً» في شتى تمظهراتهما.

وفي هذا السياق الاحتفالي، أقمن يوما وطنياً سموه يوم «الفراغ العاطفي»، يجعل المطلقات يجلسن في الهواء الطلق، دون التفكير في ما هو وجداني أو عاطفي. وقد استطعن، أيضاً، أن يجددن أفكارهن؛ بإقامة مسابقات لمهرجان «سوء الطالع» في محاولة منهن السخرية مما تعودنه من لهاث حول «حسن الطالع»، ومهرجاناً آخر طريفاً من نوعه، أطلق عليه اسم «معركة البرتقال»؛ حيث تقوم المشاركات بقذف بعضهن البعض بثماره، لكسر روتين الحياة اليومية. وقررن، كذلك، إقامة مسابقة لأطول قبلة في التاريخ، كان أحد شروطها أن تضرب الرقم القياسي في طول زمنها، متخطية رقم موسوعة "جينس" العالمية، التي سجلت أطول قبلة حتى الآن وقد استمرت عشرة أيام في مسابقة أوربية.

وفي هذا الصدد، يسهب الروائي في حكي تاريخ «القبلة» في الحضارات الإنسانية، والطرائف التي لازمت هذا الفعل الإنساني في الديانات الأخرى...وفي اللوحات، والسينما العالمية والعربية ويسجل الروائي أن «أكبر عدد من القبلات كان في فيلم "أبي فوق الشجرة"، عندما قبل عبد الحليم حافظ نادية لطفي وميرفيت أمين 77 قبلة، وكان المشاهدون يستعدون منذ دخولهم صالة العرض لعدِّ القبلات بحماسة منقطة النظير».

ـ فهل سيظل أمر المدينة على ما هو عليه من انسجام ووئام وتكامل بين الساكنات في ظل هذا الوضع الجديد؟

ـ وهل سيوفر لهن هذا الوضع الجديد، كل ما يطمحن إليه من العيش الكريم: جسديا وروحياً؟

من خلال القراءة المتفحصة للرواية، نسجل أن بداية الرواية فيها احتفاء مبالغ فيه بالعالم الجديد، وبقيمه الطريفة. غير أن هذه الحفاوة ستخف وتتقلص لحظة بلحظة، ليغدو هذا العالم المتخيل ينوس ـ في وسط الرواية ـ بين القبول والرفض، بين الرضا والنفور، أما في نهاية، ترسخ لدى النساء شعور الملل والنفور بشدة من طبيعة هذا الفضاء المغلق والواحدي، مما استوجب معه التفكير الجدي في إجراء تغييرات جوهرية في عوالمه، وتعديل قوانينه.

وككل المشاريع الوهمية، ستكتشف نساء المدينة أن تناقضاتهن الداخلية الناتجة عن غياب الرجل في حياتهن، تحول دون تأقلمهن الكامل في مظاهر الحضارة الطريفة التي تقدمها المدينة، كنموذج يراد له أن يصبح القاعدة والقانون والأصل...إذ ستغدو قضية "مدينة بلا رجال" عبئا على صاحبات الفكرة والمتصرفات في شؤون المدينة قبل باقي النساء الأخريات، لأنهن سيكشفن عن عجز ملحوظ في التكيف مع الواقع الجديد، رغم تبشيرهن به في مستهل الرواية. وزاد من تعميق هذا الإحساس، ذلك التناقص المتزايد في عدد الوافدات، كما أن التوسعات الجديدة التي يراد من خلالها استقبال وافدات جديدات، بدا العمل فيها متوقفاً تماماً، والمساكن التي انتهى بناؤها لم تسكن بعد.

في ظل هذه الوضعية المسدودة الأفق، أدركت خلود أن ثمة ظاهرة ما لا بد من الانتباه إليها؛ وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة لنساء المعسكر، وهي أنه على مدى فترات طويلة لم يأت رجل واحد إلى المدينة، لتتساءل بعد ذلك: ألا يوجد رجال؟ وبفرض أن الزوج مات أو طلق، ألا يوجد ابن؟ ألا يوجد أخ؟ ألا يوجد حبيب؟ ألا يوجد رجل؟

تخلص نهلة من هذه التساؤلات إلى أن كل الأحبة يرتحلون، فترحل عن العين شيئاً فشيئاً ألفة هذا الوطن، لتستطرد خلود (اليد اليمنى لنهلة مديرة المركز) قائلة لنهلة: «هل تشتاقين إلى الرجال؟ لتجيبها قائلة: ومن منا لا تشتاق إلى الرجل؟ إن وجوده في حد ذاته اطمئنان، ورؤيته بهجة، أليست الحياة جميلة بهم؟ لحظتها ردت نهلة: هل اشتقت إلى إسماعيل؟ فقالت خلود بغيظ وكيد: إنه لم يتركني لحظة حتى أشتاق إليه».

ففي شدة اشتياقهن إلى رجل يضفي على حياتهم بهجة وسرورا واطمئناناً، وفي خطوة نوعية غير مسبوقة، ستقرر النساء استنساخ الرجال، ليظل السؤال قائماً: كيف السبيل إلى استنساخ الرجال بدون وجودهم؟ كيف يتكاثر الرجال بدون حيوانات منوية؟ كيف يمكن تنفيذ ذلك؟

وفي الأخير استقر قرار نهلة وخلود وتحت ضغوط نسائية عارمة، أن يكون الاستنساخ من الرجل الوحيد المسموح له بدخول المدينة من أماكن غير منظورة، بدون تواريخ معروفة مسبقاً، وهو المهندس إسماعيل الأنصاري، حيث اتفقن على إلقاء القبض عليه فور دخوله تخوم المدينة، وإجراء عمليات تلاقح وتكاثر بيولوجي بينه وبين كل نساء المدينة، ذوات الخصوبة المرتفعة والمجنونة، وهو ما بدا أقرب واقعية من عملية الاستنساخ هذه...

هكذا غدا الشغل الشاغل لنساء المدينة هو انتظار وصول إسماعيل واصطياده، لكن قبل ذلك، جلسن يدعين في صلاة جماعية بأن يتمتع إسماعيل بكامل الصحة والعافية والسعادة الدائمة، حتى تكون حيواناته المنوية خارقة، وألا يصيبه ما أصاب الجميع...فقد عرفن أنه لا يدخن، وأن ظروف عمله ومسؤوليته تجعله مجهدا قليلا، جسديا ونفسياً، كما ألقين اللوم على خلود ونهلة اللتين تستمتعان به، وبالتالي تجهدانه وترهقانه، ونصحنهما باتخاذ اللازم بوصفهما طبيبتين للرفق به، وتهيئة كل ما هو مناسب له فور إلقاء القبض عليه، ليظل الانتظار هو سيد الموقف، انتظار الذي يأتي ولا يأتي.

والظاهر أن كل المدن الفاضلة، كان أصحابها متأثرين بصورة العالم المنسجم الذي يخلو من التناقضات، لينتهي هذا الحلم المستحيل بالعودة إلى الحقيقة المُرَّة التي تتكسر على صخرتها الصلدة كل هذه الأوهام: الحاجة الماسة إلى النصف الآخر (الرجل) الذي لا يمكن تعويضه، وذلك لتحقيق تلك العلاقة التكاملية والواقعية والطبيعية بين المرأة والرجل وهذا ما يود تنبيهنا إليه صاحب الرواية في نهاية حكايته العجيبة والغريبة، وقد توفق في ذلك إلى أبعد حد، مما أعطى للرواية بعدها الكثيف الذي يترجح بين الواقعي والمتخيل...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمد عبد السلام العمري: "الجميلات"، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط: 2، 2005، ص: 516.
(2) ـ المرجع نفسه، ص: 490.
(3) ـ المرجع نفسه، ص: 492.
(4) ـ المرجع نفسه، ص: 524.
(5) ـ المرجع نفسه، ص: 524.
(6) ـ المرجع نفسه، ص: 525.
(7) ـ المرجع نفسه، ص: 519.
(8) ـ فاطمة ناعوت: "عمت صباحاً يا استيطيقا القبح"، جريدة الاتحاد الاشتراكي (ملحق فكر وإبداع)، الجمعة 07 مارس 2008، العدد.8813، ص: 6.
(9) ـ عادة ما يرد اسم "يوتوبيا" ليصف لنا المجتمع المثال والدولة المثلى، حيث يكون كل شيء على ما يرام بين بني البشر، وتكون كل قيم العدل والمساواة متوفرة، وجميع الشرور مثل الفقر والبؤس والأمراض غير موجودة... ففي كتابه: "يوتوبيا" (1516) يؤكد توماس مور (1478 ـ 1535) العديد من هذه القيم المرغوب فيها، ويرسخ في مدينته هذه الأشياء الجميلة، معتمدا في ذلك على كتاب "الجمهورية" للفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون. اتهم توماس مور بالخيانة العظمى، فسجن في برج لندن، حيث كتب "حوار الراحة ضد المحنة". في 6 يوليو 1535 تم إعدامه عن طريق قطع الرأس...
(10) ـ محمد عبد السلام العمري: "الجميلات"، مرجع سابق، ص: 35.
(11) ـ المرجع نفسه، ص: 67.
(12) ـ فاطمة ناعوت: "عمت صباحاً يا استيطيقا القبح"، مرجع سابق، ص: 6.
(13) ـ المرجع نفسه، ص: 361.
(14) ـ المرجع نفسه، ص: 30.