أبي في حراسة الأيّام
لم تكن العَـظْمة، ولا الغُراب
كانَ أبي، في حراسة الأيام
يشربُ فنجان شايه الأوّل قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ِثـُومة.
تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم
ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة.
كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار
ويعرفُ أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت
ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة.
لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كأصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادت إليه ِبأخبار الطوَفان.
الكمامة
اليوم أريد أن تصمتَ الريح
كأنّ كمامة أطبقَت على فَم العالم.
**
الأحياءُ والأمواتُ تفاهموا
على الارتماء في حضن السكينة.
**
لأنّ الليل هكذا أراد
لأنّ ربّة الظلام، لأنّ ربَّ الأرْمِـدَة
**
قرّرَ أنّ آخرَ المطاف هذه المحطّة
حيثُ تجلسُ أرملة وطفلتها على مصطبة الخشب
**
بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الجحيم، في المطـَر.
تحوّلات الرجل العادي
أنا في النهار رجل عادي
يؤدّي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأيّ خروف في القطيع لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مخالبي.
مرثية إلى سينما السندباد
هناكَ طريقٌ
ترصّعها سقوفٌ قرميدُها
غسلته الذاكرة
حتى ابيضّ تحت سماء بلغت
أوجَ حُرقتها
حيث كلماتي
تُريدُ أن تعلو مثل أدراجٍ
مثل أصوات ترتقي
السُلَّم الضائع
في دفتر الموسيقيّ الذي ماتَ
في السجن، نوطة بعد أجرى.
أعثر على ذاك المبنى
وأفتح باباً
على المهْوى:
كل آثار حياتي
الغابرة، يسمّي ذاتَه
بأسمائه، هناك.
ساقيةُ المواضي
مازالت تجري في الحُفر
لكن أمواجَها
أبطأُ من نبض السلحفاة.
زماننا وكيف ضيَّع تذكراته!
قالوا لي…
إنهم هدموا سينما السندباد!
يا للخسارة.
ومن سيُبحر بعد الآن؟
من سيلتقي بشيخ البحر؟
هدموا تلك الأماسي؟
حجرًا على حجر؟
قمصاننا البيضاء، صيف بغداد
حبيباتنا الخفراوات حتى
التجلي…
سبارتاكوس، شمشون ودليلة
فريد شوقي، تحية كاريوكا،
ليلى مراد؟
وهل يمكننا أن نُحبّ الآن؟
كيف سنحلمُ بعد اليوم
بالسفر؟
إلى أي جزيرة؟
هدموا سينما السندباد؟
ثقيلٌ بالماء شعرُ الغريق
الذي عاد إلى الحفلة
بعد أن أطفأوا المصابيح
وكوموا الكراسي
على الشاطئ المقفر
وقيّدوا بالسلاسل أمواجَ دجلة.
(2)
هذا السيد الأمريكي
الموت
هذا سيّدٌ
من أمريكا
جاء ليشربَ
من دجلةَ
ومن الفراتَ.
|||
الموت
هذا سيدٌ عطشان
سيشربُ كلَّ ما في آبارنا
من نفط، وكلَّ ما
في أنهارنا
من ماء.
|||
الموت.
هذا سيَّدٌ جائع
يأكلُ أطفالنا بالآلاف
آلافاً بعد آلافٍ
بعد آلاف.
|||
هذا سيّدٌ
جاء من أمريكا
ليشرب الدم
من دجلةَ
ومن الفرات.
(3)
لم يبق من بياض
طردتِ الأرضُ النادلَ الكبيرَ
لتدخل شيخوختها بأمان.
فلتكن هناك..
أقصد جالساً بين الجبال.
فآخر نهرِ،
سيمرُ بكَ محمولاً على عربة ٍ
تعمل بطاقة الأنين.
كن هناك..
أقصد ُ ظلاً يتفشى على سبورةٍ
يقيمُ عليها خطُ الاستواء.
أو تعال.
ترى المناجمَ فارغةً.
الطيورَ بوالينَ بغاز العزلة.
الكتبَ مُجمدّات لهوائيات الدماغ
فيما ستكون الأمشاط ألسنةً
للذكريات.
القطار الأخير،
بعد ساعة ودون سكة هذه المرة.
النبعُ،
زجاجةٌ فارغةٌ دون إقامة
بعد اليوم.
يا للهوّل..
أن يصبح الوداعُ متقاعداً.
أن تدخل التفاحة المشرحة َ.
أن يصبح الليل فروّة محترقة.
قصيدة (صديق الستينات)
رأيته ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة "سعاد"
الممرضة التي تعطف على الشعراء المفلسين في مقهاهم المتواضع
قريبا
من غرفتها، حيث يجلسون قبالة ساقية
من الوحول تجري وسط الزقاق.
الممرضة الليلية ذات الحذاء الابيض الحزين
البغي المتساهلة في النهار، "سعاد"
وحياني شارد الذهن ومن بعيد، بايماءة باهتة
هو الذي قضى معظم النهار يحاصرني
على اريكة المقهى لاسلفه نصف دينار، متحسسا بقجة
صغيرة جاء بها قبل ساعات من السجن
كلما روى قصة اعتقاله الأخير في الليل، وروى
عن مطابع تهرب بين السراديب، رجال دفنوا وهم احياء
شعارات ترش في الليل، بمنفاخ دراجة، على الجدران وعن
أحلامه بالثار
في زنزانته، بامرأة لإثبات رجولته مهما كانت الوسيلة ثم أراني
في ظهره اثارا خلفتها أسلاك الكهرباء
رغم ان عنقه المهتزة من مركز في النقرة كلما
توقف عن الحديث، تكفي
وتكفي إيماءاته اللاإرادية الناتجة من ضربات جلاد
رايته ينزل الدرج المؤدي، غير ابه
بشظايا الزجاج ولا بالدمية المكسورة أو الملاط المتهافت على ياقته
من الجدار، يده في جيبه، وعلى وجهه المرفوع بحدة
لسحب النفس الأول من سيجارة أولى
يتلقى الشمس الغائصة بين منارتين وراء دجلة
كأي فاتح عاد منصورا من معاركه، متدثرا
بجلود الذئاب.