إسرائيل تعلن الحرب على الأمم المتحدة وأمينها العام
لم تسلم الأمم المتحدة ولا أي مؤسسة دولية أو إقليمية، ولا أي شخصية أممية أو مستقلة، ولا أي هيئة قضائية أو قانونية، من ألسنة الإسرائيليين السليطة، ولا من انتقاداتهم الحادة، وتعليقاتهم اللاذعة، ولا من عنصريتهم المقيتة وفوقيتهم المريضة، التي جاراهم فيها الأمريكيون وسبقوهم إليها، وجندوا أنفسهم معهم ضدها، وتعهدوا بالدفاع عنهم في حضورهم ونيابةً عنهم في غيابهم، وتوجيه اللوم والاتهام، وفرض العقوبات والحصار على كل من يتجرأ برفع الصوت ضد "إسرائيل"، أو توجيه النقد إليها، أو التهديد بملاحقة قادتها ومحاكمة مسؤوليها، أو الشروع عملياً في إلقاء القبض على المتهمين بالتورط بتهم الإبادة الجماعية وارتكاب المجار والجرائم الدولية.
لا يخفي الإسرائيليون صدمتهم من التغيير العام في المزاج الدولي، والتحول السياسي اللافت لدى شعوب وسياسات دول العالم ضدهم لصالح الفلسطينيين، فقد صدمهم تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح العضوية الكاملة لدولة فلسطين، ومن قبل ساءهم اعتراف إسبانيا ودول أوروبية أخرى بالدولة الفلسطينية، واستعدادها للمشاركة إلى جانب جنوب أفريقيا في الدعوة المرفوعة ضدهم أمام المحكمة الدولية، التي أعلنوا عدم اعترافهم بها، وعدم احترامهم لقرارتها، وشنوا عليها عملية تشويه واسعة، واتهموها بالانحياز وعدم المصداقية، وأنها أصبحت أداة بيد "السنوار" ضدهم، وأنها تحارب الديمقراطية وتؤيد "الداعشية".
كذلك راعتهم محكمة الجنايات الدولية وأرعبتهم، واستفزتهم قراراتها وأغضبهم قضاتها، واستهزأوا بتوصيات المدعي العام للمحكمة، واتهموه بعدم الأهلية والمصداقية، وأنه ينحاز إلى الإرهاب ويتحدث باسم "الإرهابيين"، وهو بتوصياته يشجع على المزيد من العنف، ويقلل من فرص التوصل إلى تسويةٍ أو صفقةٍ لإعادة "المحتجزين" الإسرائيلين، ودعوا إلى معاقبة القضاة وعزلهم، وإلى محاسبة المحكمة ورفض اختصاصها، والطعن في صدقيتها والتشكيك في نزاهتها، وعدم تقديم الدعم لها إلا أن تتراجع عن قراراتها، وتعود عن توصياتها، وتحمل الفلسطينيين المسؤولية عن الحرب، وتعطي الإسرائيليين شرعية الدفاع عن أنفسهم وحماية مصالحهم.
أما الأمين العام للأمم المتحدة فهو لم يسلم منذ الأيام الأولى للعدوان من الانتقادات الإسرائيلية، واعتبروه بناءً على مواقفه معادياً لكيانهم، ومتحالفاً مع أعدائهم، وقد أدخل، بزعم رئيس حكومة كيانهم، نفسه لا إسرائيل في القائمة السوداء، وصنف نفسه لا كيانهم ضمن قائمة العار المعادية لهم، وطالبوه بالصمت وعدم المساهمة في الحرب ضدهم، وحذروه من مغبة الاستمرار ومساعديه في هذا المسار، وكانوا قد أبدوا غضبهم الشديد من زياراته المتكررة لمعبر رفح الحدودي، وتصريحاته حول مسؤولية إسرائيل الدولية تجاه الشعب الفلسطيني، واتهام حكومتها بأنها تحاصر الفلسطينيين، وتنتهك حقوقهم، وتجوعهم وتعطشهم وترتكب في حقهم جرائم ضد الإنسانية، يحاسب عليها القانون، وتخالف أنظمة الأمم المتحدة.
يعلم الإسرائيليون أن الأمين العام للأمم المتحدة هو أعلى شخصية أممية، وهو المسؤول عن تنفيذ واحترام بروتوكولات وأنظمة وقوانين المنظمة، إلا أنهم يتعمدون التعامل معه بقلة أدب، ويخاطبونه بغير لباقةٍ ولا لياقةٍ، وقد خرقوا معه الأصول الدبلوماسية والأعراف الدولية، وأساؤوا إليه ونشروا قلة أدبهم على وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، إمعاناً في إهانتهم له وتحقير شأنه، وعبرةً لغيره ودرساً لسواه، وكان مندوبهم في الأمم المتحدة قد تعمد مخاطبته بغير كياسةٍ ولا لباقةٍ، وسجل مكالماته معه ونشرها بقصد التشويه والإهانة، خلال المكالمة التي عرض له فيها عزم الأمم المتحدة إدراج كيانه ضمن القائمة السوداء، قائمة العار، التي تضم الدول القاتلة للأطفال.
لا يقتصر الموقف الإسرائيلي الغريب والشاذ عند الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، بل تمادت أكثر عندما وصفت وكالة الأونروا بأنها وكالة إرهابية، وأنها تخدم مصالح "أعدائها"، ومهدت القوانين لإغلاق مقراتها وتعطيل أعمالها ومصادرة أموالها، وطرد مسؤوليها، ودعت دول العالم إلى الامتناع عن تمويلها وتجفيف منابعها.
وأعلنت حكومة الكيان شروعها في دراسة جدوى بقائها في مؤسسات الأمم المتحدة، التي لم تنس معرتها الأولى مع منظمة الأونيسكو، ورغبتها في دراسة سلبياتها وإيجابياتها، تمهيداً لاتخاذ قرارٍ بالانسحاب منها، وقد نسي الإسرائيليون أن هذه المؤسسة الأممية وهيئاتها، هي التي شرعت وجودهم، واعترفت بكيانهم، ومن قبل أعطتهم ما لا يستحقون من أرضنا ضمن قرار التقسيم الظالم لشعبنا.
وقد باشرت إصدار عقوباتٍ ضد مسؤولين دوليين وموظفين أممين، وأخذت تضيق على حاملي البطاقات الدولية، وبدأت الاستعدادات لإغلاق مقار مؤسساتٍ أممية وطرد العاملين فيها، والامتناع عن منح تأشيرات دخول أو السماح بدخول مسؤولين أمميين إلى كيانهم، بمن فيهم العاملين في الأمم المتحدة، والمؤسسات التي تعترف بها وتشارك في عضويتها، واعتبار مؤسساتهم مؤسسات إرهابية معادية، وأنها هيئات غير شرعية، ولا حصانة للعاملين فيها، ولا حماية لهم ولا لمقراتهم، في محاولةٍ يائسةٍ للضغط عليها، ودفعها للتراجع عن قرارتها، أو استبدال سياساتها "المناوئة" لهم، و"المؤيدة" للفلسطينيين ضدهم.
يبدو أن الكيان الصهيوني قد "شب عن الطوق"، وانقلب على "رعاته"، ورفع صوته فوق صوت "حماته"، وأخذ "يعض يد أسياده"، ويوزع شتائمه هنا وهناك، ويطلق العنان لأبواقه الإعلامية ولسان مسؤوليه والناطقين باسمه لتوجيه النقد والاتهام، وإصدار الأحكام وإطلاق المواقف، والتهديد والوعيد، ضد المؤسسات التي رعت نشأته، وهيأت السبل لتشريع وجوده، وأشرفت على صيانة كيانه، وانتصرت له في دعوى المحرقة "الهولوكوست".
لكنه تنكب لها وانقلب، وصب جام غضبه عليها، وكأنه قد أَمِنَ العقوبة فلا يخاف، واطمأن إلى أن النظام الدولي "مخصيٌ" فلا أسنان ولا مخالب له، ولا خوف منه أو قلق من جانبه، وأن قطبه الأكبر منحازٌ إليه متحالفٌ معه، يدافع عنه ولا يتخلى عن حمايته، ولا يتركه وحيداً، ولا يسمح لأي جهةٍ بتهديده وترويعه، وتعريض وجوده للزوال وأمنه للخطر.
عيدُ الأمة غزة وأضحاها عزةٌ
خارج قطاع غزة المحاصر المخنوق، المشتعل الملتهب، الجائع العَطِش، الجريح النازف، الشهيد المفقود، الأسير المعتقل، الملاحق بالقصف والمطارد بالغارات، الممزق الأطراف والمدمر العمق، الذي سويت مبانيه بالأرض، ودمرت بيوته ومنازله، وقصفت أبراجه ونسفت مجمعاته، وجرفت شوراعه وتاهت طرقه، وصارت أرضه حفراً عميقة وأخاديدَ كثيرة، وتلال ركامٍ ومجمعات أنقاض.
خارج قطاع غزة الذي غابت معالمه وتغيرت ملامحه، فلا بيوت عامرة، ولا علامات بارزة، ولا طرقات معروفة، ولا محال مفتوحة، ولا أسماء مرفوعة، ولا مآذن تكبر، ولا مساجد يرفع فيها اسم الله، ولا مدارس تعلم ولا جامعات تدرس، ولا أسواق تبيع ولا محال تعرض بضاعتها، ولا دكاكين تزين للأطفال ما عندها، وتعرض جديدها، ولا ألعاب أطفال ولا مراجيح عيد، ولا حدائق ولا منتزهات، ولا سيارات ولا عربات، ولا شيء مما كان يميز قطاع غزة الذي كان يضج بالحياة، ويموج بالحركة، ويغلي بأهله ويزدان بسكانه، ويحتفل في الأعياد بفرح، ويخرج إلى الشوارع بزهوٍ، ويقاوم العدو بأفراحه واحتفالاته، وسعادته رغم ألمه وجراحه.
بعيداً عن قطاع غزة الحبيب، وسكانه الغُر المحجلين، وأهله الصابرين المحتسبين، وأبنائه الجرحى المصابين، والحزنى المكلومين، وأمهاته الثكالى وأطفاله اليتامى المحزونين، الحفاة العراة إلا من بسيطٍ تحت الركام وجدوه، ومن بين الأنقاض استخرجوه، وعلى أجسادهم التي أعياها الجوع وأطناها الوهن لبسوه، ورجاله الذين ما كسر القتل ظهورهم، ولا طأطأ العدوان رؤوسهم، ولا غَيَّرَت الحرب قناعاتهم أو بدلت مفاهيمهم، وإن وهنت قواهم، وشاب شعرهم، وتغضن جلدهم، ونحلت أجسادهم، وفقدوا الكثير من صحتهم، حتى تبدلت أشكالهم وتغيرت معالمهم، واستغربوا صورهم التي يروها في وجوه بعضهم، إذ لم تبق مرايا يرون فيها أنفسهم، ويزينون أمامها وجوههم، ويعدلون صورهم.
لكن في كل مكانٍ آخر يقيم فيه الفلسطينيون، في أقاصي الأرض وفي أطرافها، في الشتات القريب والانتشار البعيد، وفي المخيمات المحيطة بالوطن والتجمعات المتعلقة بالأرض، تغيب أجواء البهجة والفرح، وتزول من الشوراع والطرقات دعوات المباركة وعبارات التهنئة، ويخرج المصلون فرادى وزرافات إلى المساجد وساحات الصلاة العامة، بصمتٍ مهيبٍ، وخشوعٍ جليلٍ، وحزنٍ بليغٍ، وعيونٍ ذهب بريقها وانطفأ نورها، وأجسادٍ فقدت حيوتها، وهممٍ تراخت خطواتها، وقد تخلوا عن زينتهم، وامتنعوا عن لبس الجديد من ثيابهم، وفقدوا في كل مكان مظاهر الاحتفال بالعيد، الذي انتظروه طويلاً، وهيأوا أنفسهم للاحتفال به كثيراً.
لا يستطيع الفلسطينيون في كل مكانٍ بعيداً عن غزة، ولو أنهم اجتمعوا في مساجدهم، وأدوا صلاة العيد إحياءً لسنةِ نبيهم، وتمسكاً بدينهم وحرصاً على مضامين عبادتهم، واستمعوا إلى خطبة العيد التي كانت عن غزة وأهلها، وعن مقاومتها وتضحياتها، وصبرها واحتسابها، أن يظهروا فرحتهم، أو أن يتبادلوا التهاني بحلول عيدهم، فقد خلت رسائلهم المتبادلة فيما بينهم إلا من الدعاء، وغابت عنها كلمات المباركة، وحلت مكانها بشريات النصر وأمنيات العودة، وعزائم الثبات ووعود الصمود، ويقين البقاء وصدق الثبات.
يخجل الفلسطينيون عموماً وربما من لهم أهلٌ في غزة على وجه الخصوص، من التقاط الصور لأنفسهم، أو معايدة أطفالهم وشراء ثيابٍ جديدة لهم، والخروج معهم إلى الملاهي والملاعب، أو تنظيم رحلاتٍ عائليةٍ، وعقد حلقاتٍ للفرح والترفيه، أو الاستمتاع بشواء لحوم الأضاحي، إلا أن يروا غزة وقد توقفت الحرب عليها، وانتهى العدوان ضدها، وانسحب العدو منها، وخرج من كل محاورها، وعاد أهلها إلى مناطقهم، وسكنوا ما بقي من بيوتهم، وشعر أهلها بالأمن في مناطقهم، فلا عدو يهددهم، ولا حواجز تمنعهم، ولا طائرات مسيرة ترصدهم وتتجسس عليهم، أو تقنصهم وتقتلهم، ولا طائرات حربية تقصفهم وتغير عليهم، أو دباباتٍ ومدافع ميدان تطلق عليهم حمم قذائها ونيران أسلحتها.
يحزننا نحن الفلسطينيين في هذا اليوم ألا نحتفل ونفرح، وألا نشارك الآخرين ونتبادل معهم التهاني، لكننا نعد أمتنا التي تقف إلى جانبنا، وشعوبنا العربية والإسلامية التي تؤيدنا، وتتضامن معنا وتساندنا في مقاومتنا، وتدعم حقنا وتتمنى أن يكون لها دورٌ معنا، أننا سنحتفل معهم قريباً، وسنفرح معهم أكيداً، وسنحقق النصر على عدونا، ونرغمه ونجبره على وقف الحرب وإنهاء العدوان، والانسحاب من قطاعنا العزيز أولاً ومن أرضنا الطاهرة كلياً غداً، ولن تنفعه قوته ولن تحقق أهدافه عنجهيته، وكما أبكانا فإنه سيبكي، وكما آلمنا فإن وعد الله عز وجل الصادق لنا بأنه سيشكو وسيتألم، ولكنه لن يرجو من الله ما نرجوا.
فنحن بحمد الله وفضله بتنا اليوم أقوى وأقدر، وأصبر وأبصر، وأكثر ثباتاً وأعمق جذوراً، وأصبح يقيننا بعد الله عز وجل في غدناً أكبر، وفي مقاومتنا وقدرة أجيالنا أصدق، وجرحنا وإن غار فإنه سيبرأ، وعيوننا وإن بكت فإن دموعها ستجف وأحزانها ستنتهي، وسننسج بإذن الله في غزة ومعها، للعيد القادم أثواب العزة وملابس النصر، وسنجهز رايات العودة وأعلام الوطن، وسيكون أضحانا القادم أضحى عزة وعيد كرامة، نرفع به رؤوسنا، ونباهي به أمتنا، ونقول لشعبنا وكل أجيالنا القادمة، كل عامٍ وأنتم بخير، وكل عامٍ وأنتم بالنصر تحتفلون، وبالعزة ترفلون، وفي القدس تجتمعون وتلتقون، وفي رحاب المسجد الأقصى وباحاته تصلون وتهللون وتكبرون.
جيشُ الدولة ينهارُ ودولةُ الجيش تفشلُ
الكيان الذي قام ونشأ على الجيش، وتأسس بقوة العصابات الصهيونية والمنظمات الإرهابية، ولقي دعماً من الدول الاستعمارية الكبرى، التي أهلته ودربته، وسلحته ومولته، وأشرفت عليه وساندته، وأشركته في مناوراتها العسكرية، وأغنته بكبار الضباط والخبراء والمستشارين، وزودته بالتقانة العسكرية والقدرات التصنيعية، ومكنته من بناء ترسانته النووية وتصنيع قنابله النووية، حتى أصبح الجيش الأول في المنطقة، والأقوى في المحيط، والأكثر تفوقاً والأشد ردعاً، والأسرع حسماً والأطول ذراعاً، مما جعله فخر الإسرائيليين جميعاً ومحل ثقتهم، ورمز وحدتهم وعنوان اجتماعهم، والذي عليه يجتمعون، وله يدينون، وبه يثقون، وإليه ينتسبون، وفي سبيله يضحون ومن أجله يتنازلون، وللخدمة في صفوفه يتسارعون، وفيما بينم يتنافسون.
لم يعد الجيش الإسرائيلي محط ثقة الإسرائيليين فقط، بل أصبح مثار إعجاب الدول الاستعمارية الكبرى، التي وثقت فيه وأملت كثيراً في جهوده، وركنت عليه واطمأنت إلى قدراته، وأوكلت إليه الكثير من المهام التي كانت تقوم بها بنفسها، بعد أن رأت قدراته الضخمة، وإمكانياته الكبيرة، وانتصاره الحاسم على ستة جيوش عربية، وسيطرته على أجزاء واسعة من أراضيها، خلال حربٍ سريعةٍ خاطفةٍ، دمر خلالها الجيوش العربية وكسر شوكتها، وأخضعها لشروطه وألزمها حدوده، الأمر الذي شجع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية لزيادة مساعداتها العسكرية، وفتح المجال واسعاً أمام الإسرائيليين لاكتساب الخبرات، والمشاركة في المناورات، والاستفادة من التجارب، وتطوير الأسلحة والمساهمة في صناعتها.
وهو لم يكن يوماً كياناً مدنياً وإن ادعى أنه دولة ديمقراطية، أو تظاهر بالحداثة والحضارة، وترأسه أو قاد حكومته مدنيون وعلمانيون، أو متدينون وقوميون، فقد كان الجيش دوماً محل اهتمامم وموضع رعايتهم، به يفتخرون وعليه يعتمدون، فكل مستوطنيه يحملون السلاح، وينتسبون إلى الجيش، ويخدمون فيه ويقاتلون في صفوفه، ويتلقون جميعاً تعاليم دينية وتوجيهاتٍ سياسية، تواراتية وتلمودية وأخرى عنصرية، على أيدي حاخامات الجيش وقادته، يدعون فيها جيشهم إلى القتل وسفك الدماء، والحرق والدمار، وألا تأخذهم رأفةٌ بطفلٍ صغيرٍ أو شيخٍ كبيرٍ، وعلى هذه التعليمات والتوجيهات نشأ جيشهم على أسنة الحراب يقتل، ومن خلف الحصون يقصف، وبحبلٍ من الناس يستقوي ويبطش.
ظن الإسرائيليون أن جيشهم سيبقى الجيش الأسطورة الذي به يتغنون، والقوة العظمى التي بها يفخرون، والعصا الغليظة التي بها يؤدبون، والقدرة التدميرية التي بها يروعون، وسيبقى في المنطقة كلها على مدى الزمن ودون منازعٍ، مسيطراً مستعلياً، وغالباً منتصراً، ورادعاً ضارباً، وسيخضع الدول وحكوماتها، وسيرهب الشعوب وأبنائها، وسيخيف المقاومة وحركاتها، وأن أحداً لن يقوى على منازلة جيشهم، أو الوقوف في وجهه، والصمود أمامه، أو تحدي إرادته وتعطيل مسيرته، أو التفكير في إبطال خططه وإحباط مشاريعه.
لكن ثقة الإسرائيليين بجيشهم قد تراجعت، وآمالهم فيه قد خابت، ورهانهم عليه قد سقط، ولم تعد لدى غالبيتهم الرغبة في الالتحاق به والقتال في صفوفه، إذ تراجعت الدافعية الوطنية نحوه، وبات جنود وضباطه يتفلتون منه ويتمنون عدم القتال معه، وغيرهم يختلق الأعذار ليهرب، ويبحث عن الذرائع لئلا يخدم، فقد كثرت فيه الخسائر، وتوالت الفضائح، وسقط المئات من جنوده وضباطه قتلى وجرحى، وأصيب الكثير منهم بصدماتٍ نفسية وهستيرية وهلوسة، وفقد الجيش الثقة بقيادته العسكرية وشكك فيهم، وفقدت قيادته العسكرية الثقة بقيادة الكيان السياسية واختلفت معهم، وتبادلا الاتهامات والانتقادات بأبشع الصفات وأقذع الكلمات، وأخذ كلٌ يحمل الآخر المسؤولية ويتهمه بالتقصير، ويلقي باللائمة عليه، ويصر على محاسبته ومعاقبته.
فشل جيشهم المدعي القوة والتفوق في حمايتهم، وعجز عن صد الهجوم عليهم، ولم يتمكن من التنبؤ بالأخطار المحدقة بهم، أو الإحساس بنوايا المقاومة حولهم، ولم يستطع على مدى أكثر من تسعة أشهر، من استعادة الردع وتحقيق النصر، وإنجاز المهام التي أعلن عنها، والأهداف التي صرح بها، وبات يتخبط في خطواته، ويتعثر في حركته، ويقدم رجلاً ويتراجع عشراً، ويدعي النصر ويحصد الخيبة، ويخدع نفسه بالغلبة والتطهير، ويقع في شر أعماله في شراك المقاومة وفخاخها، التي سبقته رغم تفوقه ومحدودية إمكانياتها، وتغلبت عليه رغم قصفه الجوي والمدفعي وقلة تحصيناتها، وكبدته خسائر ما كان يتوقعها، وكلفته ما لا يستطيع تحمله أو مواصلة القتال في ظله.
استطاعت المقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة، التي واجهته مباشرةً، وقاتلته وجهاً لوجهٍ من نقطة الصفر، أن تنزع عن الجيش الإسرائيلي ورقة التوت التي كان يستر بها عورته، ويغطي بها سوأته، فانكشفت حقيقته، وظهرت صورته، وعرف شعبه عجزه، وأدرك حلفاؤه ضعفه، وغدا حائراً لا يعرف ماذا يريد، وعاجزاً لا يستطيع أن يحقق ما يتمنى، وضعيفاً لا يقوى على مواجهة المقاومة، مما دفع قادته إلى الاعتراف بصعوبة المعارك التي يخوضون، وقوة المقاومة التي يقاتلون، قبل الإعلان بعالي الصوت وبلسان الناطق الرسمي باسمه، استحالة القضاء على المقاومة، وصعوبة استئصالها أو استبدالها، إذ هي فكرة ثابتة وعقيدة راسخة، وروح تسري في الشعب ومقاومته، التي أوهنت قوة جيش الدولة فبدا أقرب إلى الهزيمة والانهيار، والتفكك والانكسار، وأضعفت دولة الجيش فغدت أقرب إلى الخضوع والإذعان، والاعتراف والتسليم.
الكيان يُصفعُ بيدٍ من حديدٍ ويُهان في كل يومٍ بشكلٍ جديدٍ
لا تفتأ المقاومة الفلسطينية تصفع جيش الكيان الصهيوني كل يومٍ بيدٍ من حديدٍ، وتركله على قفاه وتزيد، وتضربه في كل مكانٍ وعن مواجهته لا تحيد، وتخرج له في الليل والنهار دون تحديد، فتفاجئه في جباليا وتصدمه في رفح، وتفخخه في دير البلح، وتباغته في كرم أبو سالم، وتتربص به في المخيمات الوسطى، وتستدرجه إلى كمائنها في بيت حانون، وتصطاد جنوده وتقنص ضباطه، وتحرق آلياته وتدمر دباباته، وتشتبك معه مباشرةً، وتقاتله وجهاً لوجهٍ، وتصيبه وتنال منه من نقطة الصفر، وتنجح في إرباك جيشه وتخبط جنوده، فيشتبكون فيما بينهم ويقتلون بعضهم البعض، وأخيراً وليس آخراً تنتصر على وحدات النخبة، وتنال من الفرق المختصة بتحرير الأسرى، فتوقع عناصرها المختارة والمجهزة لتحرير الأسرى بين قتيلٍ وأسيرٍ وجريح.
لكن الكيان الصهيوني لا يتعرض فقط لضربات المقاومة التي تؤلمه وتؤذيه، وتوجعه وتعجزه، وتحبطه وتزيد في خسائره، وتضعف جيشه المتهالك وتصدع جبهته الداخلية، وإن كانت هي الأشد والأقسى، وهي التي يتعلم منها ويخشاها، ويفهمها ويعي أبعادها، إذ عودنا عبر تاريخه الأسود أنه لا يفهم غير لغة القوة، ولا يخضع إلا إذا تأذى وتألم، وشعر بالخطر وتأكد من الخسارة، مع التأكيد على أن الضربات الأخرى وإن لم تكن عسكرية في الميدان ومواجهة على الأرض، موجعة ومؤلمة، ومؤذية له ومحرجة، وتتسبب في اهتزاز صورته وبيان حقيقته، وتغيير وجهات النظر الإيجابية التي كانت سائدة حوله، وتتسبب في تراجع مستوى التأييد الدولي والشعبي له، وقد تقود إلى محاصرته وعزله وفرض عقوباتٍ مختلفةٍ عليه.
ربما لم يكن الكيان الصهيوني يتوقع يوماً تغير المزاج الدولي كله ضده، وأن يصل به الحال إلى هذا الدرك السحيق من الواقع، وأن تضيق الدنيا عليه وعلى مستوطنيه، وتتعقد الحياة أمامهم، ويصعب عليهم العيش في "بلداتهم ومستوطناتهم"، ويصبحوا محل انتقاد وإدانة، وأن ينفض العالم من حولهم، ويبدأ التفكير في التخلي عنهم، والخلاص من مشاكلهم، وأن تخرج ضدهم الشعوب الأمريكية والأوروبية، وغيرهم من شعوب الدول الأكثر صدقاً وإخلاصاً في التحالف معهم، في تظاهراتٍ عارمة تدين سياستهم، وتطالب بمعاقبتهم، وتصر على حكومات بلادها بالتوقف عن تصدير الأسلحة إليهم، والامتناع عن تأييدهم، ورفع الصوت ضدهم، وتحذيرهم من مغبة الاستمرار في عدوانهم على الفلسطينيين عموماً وعلى قطاع غزة خصوصاً.
الصفعات التي بدأ الكيان بتلقيها واحدةً تلو الأخرى، بعضها مدوي قاس، وخلف آثاراً كبيرة، وسيكون لها تداعيات كثيرة، وهي أكبر بكثيرٍ من قدرته على الاستيعاب، وربما لن يقوى على تحملها، ويلزمه وقتٌ طويلٌ، إن تسنى له ذلك وعاش، لأن يتجاوزها ويتخلص من نتائجها، فهذه المظاهرات الشعبية والاحتجاجات الطلابية، تجتاح كبريات ومشاهير الجامعات الأمريكية والأوروبية والكندية والاسترالية، وهؤلاء الطلاب هم جيل المستقبل، وقادة ورواد العالم في العقود القادمة، وهم أصحاب الرأي وصناع القرار، والذين سيكون لحراكهم دورٌ وأثر في الانتخابات القادمة، وفي اختيار الحكام وفرض الأنظمة والسياسات، مما جعل صفعة الطلاب والجماهير قاسية على وجوه قادة الكيان ومستوطنيه.
وهؤلاء نواب الشعوب الأوروبية والغربية، يرفعون تحت قبب برلماناتهم الأعلام الفلسطينية، ويطلقون العنان لألسنتهم على أعلى المنابر دعماً لفلسطين، وتأييداً لأهلها، وتشريعاً لمقاومتها، وتنديداً بالكيان الصهيوني وعدوانه، ورفضاً لسياساته وفضحاً لممارساته.
وها هي محكمة الجنايات الدولية، بغض النظر عن مساواتها الباطلة بين الضحية والجلاد، تصدر نيابتها العامة توصيةً باعتقال رئيس حكومة الكيان ووزير حربه، وتبدي استعدادها لمواصلة البحث والتقصي تمهيداً لاستصدار أوامر اعتقالٍ جديدةٍ، ضد قادةٍ ومسؤولين إسرائيليين كبار، يتهمون بلعب أدوار مباشرة في عمليات الحرب والإبادة بحق الشعب الفلسطيني.
وتبعتها محكمة العدل الدولية، التي دانت حكومة الكيان، وحملتها المسؤولية الكاملة عن المذابح وعمليات الإبادة الجماعية، وجرائم الحصار والتجويع وقتل النساء والأطفال، وأمرته بالتوقف عن عملياته الحربية ضد الفلسطينيين في مدينة رفح، وإنهاء عملياته العسكرية فيها.
ثم جاءت ثلاث دول أوروبية، إسبانيا والنرويج وإيرلندا، لتنظم إلى ثماني دولٍ أخرى سبق لها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وقدسه، الأمر الذي أغاظ العدو الإسرائيلي وأحرجه، إذ أنه راهن كثيراً على مواقف الدول الأوروبية الداعمة له، ولم يهتم كثيراً باعتراف عشرات الدول الأخرى بالدولة الفلسطينية، لكن اعتراف دول أوروبا بها يوجعه ويؤلمه ويقلقه.
لم تسلم الإدارات الأمريكية والغربية المؤيدة للكيان الصهيوني من التصدع والاضطراب، فقد جنح عددٌ غير قليل من موظفيها إلى بيان مواقفهم وتقديم استقالاتهم، احتجاجاً على سياسات حكوماتهم المنحازة إلى الكيان الصهيوني، فيما يبدو أنها ثورة أخلاقية إنسانية ضد السياسات العدوانية لبلادهم، ودعوة صريحة وواضحة لحكوماتهم للتراجع عن سياساتهم الداعمة للكيان الصهيوني، والمؤيدة له في عدوانه.
لا نستخف بهذه المظاهر والتطورات، ولا نستهين بآثارها وتداعياتها، ولا نظن بأنها شكلية أو خُلبية، بل هي حقيقية وفاعلة، وينبغي العمل على تعزيزها وتعميقها، وانتشارها واتساعها، فهذا الكيان الذي نشأ على الدعم وتأسس على الإسناد الخارجي والتأييد الدولي، بدأ يفقد هذه الخاصية ويخسرها، ولا يستطيع أن يعيش بدونها، أو أن يستمر في ظلها، فلنبنِ عليها ولنراكم فوقها، ولننظم عملها وننسق لمزيدٍ منها جهودنا.
الحسمُ في بنود الصفقة فلاحٌ والتفاوضُ عليها ضياعٌ
يظن المراقبون للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والمتابعون لأخبار الصفقة، ومحاولات التوصل إلى هدنةٍ أو اتفاقٍ متعدد المراحل، أن الخطة التي أعلن بنودها الرئيس الأمريكي جو بايدن، واحتفى بها وروج لها، وحشد التأييد الدولي لها، واستصدر قراراً من مجلس الأمن الدولي لضمان تمريرها، وتأكيد تنفيذها والالتزام ببنودها واحترام مراحلها، مؤكداً أن الحكومة الإسرائيلية ورئيسها موافقون عليها، وأنها تلبي طلباتهم وتستجيب إلى حاجاتهم، وتحقق شروطهم وتؤمن لهم السلامة من مخاوفهم.
أنها الخطة المثلى والصفقة الأفضل، وأنها الفرصة الأخيرة التي تستطيع وقف الحرب الإسرائيلية المجنونة، وتحقيق وقفٍ "مستدامٍ" لإطلاق النار برعايةٍ دوليةٍ، وتمكين الفلسطينيين من التقاط أنفاسهم، والاستراحة من عناء الحرب، والنجاة من ويلاتها، والخلاص من أتونها، وعودة سكان القطاع إلى مناطقهم التي أجبروا على الخروج منها، بعد فتح الطريق بين الشمال والجنوب باتجاهيه للتنقل الآمن وحرية العودة إلى كل المناطق، والتمهيد لإعادة إعمار ما دمرته الحرب وأحدثه العدوان.
ربما يلوم البعض المقاومة الفلسطينية، ويعتب على حركة حماس، أنها لم توافق على ما أعلنه بايدن، ولم ترد عليها إيجاباً، واكتفت بتقديم ملاحظاتها عليها، واقتراح تعديلاتها التي تناسبها وترى أنها تحقق بعض شروطها، وبهذا فإنها تكون برأيهم قد أضاعت الفرصة التي تحضى بالدعم الدولي، وتلقى شبه إجماعٍ عربيٍ عليها، وأنها لم تعبأ بهموم شعبها، ولم تكترث لمعاناتهم، ولم تعمل شيئاً للتخفيف عنهم، وتركتهم نهباً للقصف الإسرائيلي المجنون، الذي لا يتوقف ساعةً ولا يهدأ عنفاً، ويصر على تدمير كل ما تبقى بين أيدي أهل غزة وهو قليل وعديم الفائدة، وقتل المزيد من أطفالهم ونسائهم، وتحويل حياتهم إلى جحيمٍ لا يطاق، وقطاعهم إلى أرضٍ لا تسكن ولا تصلح للعيش والحياة.
يظلم البعض المقاومة الفلسطينية إذ يتهمها ويتحامل عليها، ويظن أنه يفهم أكثر منها، أو يحرص على الشعب ويخاف على حياته ويقلق على مصالحه أكثر منها، ولكنه يظلمها ويفتأت ويتجنى عليها، إذ يحكم على الخطة من خلال ظواهر الأمور دون الاطلاع على بواطنها، ودون معرفة حقيقتها وإدراك أبعادها، ويكتفي فقط بقراءة النصوص العامة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي وتم نشرها، ويصدق ادعاءات الإدارة الأمريكية أن المقاومة هي التي تعطل الصفقة وتعيقها، وأنها ترفض القبول بها والمصادقة عليها، ويغفل عن التفاصيل الدقيقة التي تفرغ الصفقة من محتواها، وتجردها من كل مميزاتها، وتجعلها خالصةً للعدو نافعةً له وحده.
لكن الحقيقة أن المقاومة عموماً وفي مقدمتها حركة حماس تعي جيداً ما قدمه الأمريكيون، وقد قرأت الورقة جيداً، ومحصت بنودها وفهمت مضامينها، ولديها من الخبراء والعارفين ما يمكنها من الحكم على الأشياء بدقةٍ، وعدم تفويت الفرصة إلا بحكمة، فهي لا تريد لهذه الحرب أن تطول، وتتمنى أن تنتهي اليوم قبل الغد، لكنها ترفض تماماً تأجيل القتل إلى الغد، واستئناف الحرب بعد وقفٍ، ومواصلتها بعد تهدئةٍ.
وهي إذ لم تعط موافقةً نهائية وصريحة عليها، فهي تعلم أنها لا تلبي شروطها، ولا تحقق مطالبها، بل إنها تضر بالفلسطينيين ولا تخدمهم، وتخدعهم ولا ترجو الخير لهم، وفيها الكثير من الفخاخ والمزالق، والمخاطر والمغامرات التي يرجون من خلالها تحقيق ما عجز العدو عن تحقيقه بالقوة العسكرية، ولو أنها كانت تلبي شروطم لعجلت بالموافقة عليها بسرعةٍ، تماماً كما أعلنت موافقتها على الورقة المصرية القطرية يوم السادس من مايو/آيار الماضي، وهي لا تفتأ تؤكد أنها تريد وضع نهاية للحرب، وإنهاء القتال، والتوصل إلى صفقة تبادلٍ للأسرى مرضية ومنصفة.
المقاومة الفلسطينية تعلم تماماً أن الصفقة المعروضة صفقةٌ مغشوشةٌ، وأنها عظمةٌ مسمومةٌ، وأن الشياطين كلها تكمن في تفاصيلها، فبنودها ملغومة، ومراحلها مفخخة، ومواعيدها غير مقدسة، وضمانتها غير مؤكدة، ونهاياتها غير مضمونة، وأن العدو ومعه الإدارة الأمريكية يريدون فقط استنقاذ أسراهم، والتنصل من كل الوعود والتعهدات، والدخول في مفاوضاتٍ لا تنتهي، قد تستمر لسنواتٍ طويلةٍ كمفاوضات أوسلو واتفاقيات السلام الكاذبة، دون أن يقدموا شيئاً للفلسطينيين، مما قد يمهد لاستئناف الحرب، واستمرار الحال على الوضع الراهن، وبقاء الاحتلال في مواقعه التي تمركز فيها وتجمع، وأنشأ فيها قواعد ومقراتٍ وإداراتٍ ثابتةٍ.
لكن البعض الآخر ممن لا ينصفون المقاومة، ولا يحبون الشعب الفلسطيني، ولا يعبأون بهمومه ولا يقلقون على مصالحه، يحبون الصيد المياه العكرة، ويصبون الزيت على النار، ويتهمون المقاومة وينتقصونها، وينصفون العدو ويصدقونه، ويثقون في الإدارة الأمريكية ويبرؤونها من المشاركة في الحرب والانحياز إلى جانب العدو، فهؤلاء لا ينبغي أن نسمع لهم ولا أن نصغي إلى نقدهم، فهم يريدون كسر المقاومة والتخلص منها، ويرون أنها عقبة في طريقهم، ووجودها يفضحهم ويكشف عورتهم، لهذا فهم يتعمدون تشويهها وتحميلها المسؤولية عن أي تأخيرٍ في التوقيع على الصفقة، ولا يحملون العدو القاتل المجرم أي مسؤوليةٍ عما يرتكبه جيشه وآلته العسكرية الهمجية.
لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية علو كعبها، وعمق جذورها، وثبات رجالها، وصلابة مقاتليها، وخبرة مقاوميها، وقدرتهم العالية على صناعة المفاجئات وتحقيق الانتصارات، واستدراج العدو وخداعه، وجره إلى مربعاتها ومباغتته، وإيقاعه في فخاخها، وتفجير تجمعاته ومهاجمة مقاره، وكذلك أثبتت قيادتها السياسية رشدها ووعيها، ويقظتها وحذرها، فهي التي صمدت على الأرض قواتها، وثبت في الميدان رجالها، فلن تؤتى من مكمنها، ولن يتمكن العدو من خداعها، وسيضطر في الميدان وعلى طاولة المفاوضات، إلى الاعتراف بطلباتها والموافقة على شروطها، فثقوا برشدها العالي، وعقلها المستنير، ورأيها الحكيم.
الحرب الصاخبة على غزة والجريمة الصامتة في الضفة
فرغ العدو الصهيوني أو قارب على الانتهاء من تدمير كل مقومات الحياة في قطاع غزة، فبعد أن قتل وأصاب بجراحٍ بالغةٍ في معظمها، ربما أكثر من مائة ألف فلسطيني من سكان القطاع، أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، عمد إلى تدمير البيوت والمساكن وسَوَّى أغلبها بالتراب، وقصفها على رؤوس ساكنيها بالصواريخ المدمرة وبقذائف الدبابات الضخمة، وحطم السيارات والآليات بدباباته التي داستها وسحقتها، وأتلفت في طريقها كل ما تجده من ممتلكات وتجهيزاتٍ.
ربما وجد العدو الإسرائيلي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية، أن كل الوسائل السابقة لم تجد نفعاً، ولم تتمكن من تغيير عقلية الفلسطينيين ودفعهم نحو الهدف الأساس الذي يتطلعون إليه، وهو تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتهجير أهله، والتخلص من صداعه المزمن إلى الأبد، فقرروا مع بعض الدول المانحة، توجيه ضربةٍ جديدةٍ إلى اللاجئين الفلسطينيين والدول المستضيفة لهم، وقاموا بوقف دعمهم إلى مؤسسة الأونروا، وهي المؤسسة الأممية التي أسست خصيصاً من أجل اللاجئين الفلسطينيين، لرعايتهم ومساعدتهم وتعويضهم تمهيداً لعودتهم إلى بيوتهم وقراهم التي أخرجتهم منها العصابات الصهيونية.
تعلم الولايات المتحدة الأمريكية وعواصم القرار الغربية، والدول الغنية المانحة، أن وقف تقديم الدعم إلى الأونروا، الذي اتخذوه مؤخراً، يعني المزيد من جوع الفلسطينيين وحصارهم، والمزيد من تردي أوضاعهم وسوء أحوالهم، وإحكام الحصار عليهم، خاصةً أن مئات آلاف الفلسطينيين في فلسطين المحتلة وسوريا ولبنان والأردن ومصر يستفيدون من الخدمات التي تقدمها لهم الأمم المتحدة عبر مؤسسة الأونروا.
أجيالٌ لن تَنسَى وقرونٌ لن تُنْسِيَ وجرائمٌ لن تُنْسَى
ما ارتكبه العدو الإسرائيلي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤهم الغربيون، ضد الشعب الفلسطيني عامةً وفي قطاع غزة خاصة، خلال الشهور التسعة الماضية، التي شهد العالم كله خلالها على وحشية الاحتلال وعدوانه، ودمويته وساديته، وعرفوا ممارساته، وأدركوا سياساته العنصرية، التي كشفت عن صورته الحقيقية البشعة، التي رفضتها الشعوب، وتظاهرت ضدها الأمم، ونظمت ضدها مسيرات واحتجاجات وفعاليات دولية، شاركت فيها الجامعات والمؤسسات العلمية، في حراكٍ تضامنيٍ أمميٍ لم يشهد مثله العالم، مما سيكون له أبلغ الأثر في السياسات الدولية والانتخابات البرلمانية والرئاسية للدول الكبرى في المستقبل القريب.
ما ارتكبوه معاً ضد الشعب الفلسطيني بشهادة العالم الحر والإنسانية الصادقة، يفوق آلاف المرات ما ارتكبوه من مجازر ومذابح وجرائم وعمليات إبادةٍ جماعيةٍ منظمة، وممارساتٍ عنصريةٍ مقيتةٍ، خلال العقود الثمانية الماضية، رغم قسوتها وشدتها، وعنفها وتطرفها، وآثارها العميقة، ونتائجها المأساوية، وما خلفته من شتاتٍ ولجوءٍ وتشريدٍ وضياعٍ وقتلٍ وحصارٍ ودمارٍ وخرابٍ، بدءً من سنوات ما قبل النكبة وضياع الأرض الفلسطينية على مراحل، مروراً بالنكسة الصدمة، الفاجعة المؤلمة، وحملات قمع الانتفاضات الشعبية الفلسطينية، وإعادة اجتياح الضفة الغربية، وعمليات السور الواقي وكاسر الأمواج وجز العشب وغيرها، وصولاً إلى يوم السابع من أكتوبر وعمليات طوفان الأقصى المجيدة.
ربما يظن العدو الإسرائيلي ومن قاتل معه وبالسلاح زوده، ومن أيده وسانده وصدق روايته، أنهم بما ارتكبوا من جرائم، وما نفذوا من مجازر، وما حققوا من أرقامٍ قياسيةٍ في القتل والخراب والدمار، استطاعوا أن يكووا الوعي الفلسطيني، وتمكنوا من استهداف عقله وتغيير تفكيره، ودفعوه نحو تغيير قناعاته واستبدال مفاهيمه، وأجبروه على القبول بالواقع والتسليم بالجديد الذي تفرضه القوة، وقد أظهر العدو خلال حربه على غزة، وعدوانه المستمر في القدس والضفة الغربية، غاية قوته وأقسى جبروته، واستخدم أكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً، ظناً منه أنه يستطيع من خلال القوة المفرطة والمزيد من القوة، تحقيق ما عجز عن تحقيقه بالقوة السابقة.
ما يجب أن يعلمه العدو ويدركه، وهو نفس ما نطق به بعض مسؤوليه، وكشف عنه الكثير من مفكريه، وحذر منه كبار الضباط العسكريين والأمنيين المتقاعدين، ومعهم عدد غير قليل من الاستراتيجيين الإسرائيليين والدوليين، أن حربه على غزة لن تنسي الفلسطينيين حقوقهم، ولن تفت في عضدهم، ولن توهن عزمهم، ولن تدفعهم نحو اليأس والقنوط، والتفريط والتخلي، ولن تنتج جيلاً فلسطينياً متصالحاً معهم، معترفاً بهم، متفهماً لهم، وراضياً عنهم، وخاضعاً لإرادتهم، وخادماً لسياستهم.
فقد أسست الحربُ الإسرائيلية الظالمة بما لا يدع مجالاً للشك، قواعد متينة وأسس عميقة لأجيالٍ فلسطينية وعربية قادمة، أكثر إصراراً وثباتاً على الحق الوطني الفلسطيني في أرضهم ووطنهم ومقدساتهم وكامل حقوقهم، وستكون الأجيال اللاحقة أكثر تمسكاً بحقوقها من الأجيال التي سبقت، وأكثر عناداً وأشد مراساً، وسيكون لديها وسائلها الجديدة، وأدواتها المبتكرة، وطرقها الخاصة في استعادة الحق وتحرير الأرض، وقد أثبتت حوادث الزمان وتجارب الشتات واللجوء أن شيئاً لن ينسي الفلسطينيين حقوقهم، وقد جاء الدم المهراق والمجازر البشعة، وعمليات الإبادة الجماعية القاسية، لتعزز هذه المفاهيم والمعاني وتبني عليها وتراكم فوقها.
وسيدرك العدو الصهيوني، الذي لن يبقى إن شاء الله ولن يدوم لسنواتٍ أخرى قادمة، إذ أزف زمان سقوطه وحلت نهايته وخاتمته، واقتربت الساعة التي يتفكك فيها ويندثر، وإنما سيعلم مشغلوه وصانعوه، وزارعوه ومساندوه، أن هذه الحرب قد غرست في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي لمئات السنوات القادمة، العداء المطلق للغربي المستعمر، وللولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها الدور الأكبر في تنظيم هذه الحرب وإدارتها، وسيعلمون يقيناً أنهم أخطأوا وأجرموا، وارتكبوا في حق الأجيال الفلسطينية ومستقبلها جرائم يصعب نسيانها، ويستحيل تجاوزها والعفو عنها، مهما تقادم الزمن، وتوالت الأيام، وتتابعت الأجيال وتتدافعت.
هذه الحرب الملعونة الظالمة يصعب نسيانها، ولا يمكن للزمن مهما طال أن يطويها، ولا تستطيع الأجيال القادمة كلها ولو بعد مئات السنوات، نسل الشهداء، وأبناء الثكالى والمفوجعات، ومن بقي حياً تحت الركام، ومن انتشل من تحت الأنقاض، ومن نجا من القصف والدمار، وغيرهم ممن تركت الحرب على أجسادهم آثاراً باقية، أن ينسوا ما فعل بهم العدو الإسرائيلي وحلفاؤه، وما خلف وراءه سلاحهم وأدوات قتلهم.
الفلسطينيون هم كما أجدادهم العرب والمسلمين، الذين ذاقوا المر وتجرعوا الهوان من التتار المغول ومن الصليبيين والفرنجة، ما نسوا أرضهم، ولا تخلوا عن حقوقهم، ولا استسلموا لأعدائهم، ولا خضعت رقابهم لسيفه، ولا لانت نفوسهم لحكمه، بل جاءت من بعدهم أجيالٌ حفظت حقوقهم، ونظمت صفوفها لأجلهم، وخاضت الحروب انتقاماً لهم، وثأراً لشهدائهم، فكانت حطين التي لا ننساها، وعين جالوت التي نتغنى بها، وسيكون لهما ثالثة قاصمة لعدونا، وخاتمةً لأحزاننا، ونهاية لسني عذاباتنا، فلا يفرح العدو بما أجرم، وليتهيأ لما هو أعظم، ووعداً أننا سنثأر، فهذا حقٌ لا يموت، وأمةٌ لا تنسى، وجرائمٌ لا تطوى.
اللهم لا رجاءَ إلا منكَ ولا شكوى إلا إليكَ
لَكَأَّنَ أهل غزة اليوم يتعرضون إلى ما تعرض إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعانون مما عانى منه، ويشكون مما كان يشكو منه، وتنزف دماؤهم غزيرة كما نزفت دماؤه الطاهرة، وقتلوا وذبحوا وتقطعت أطرافهم، واحترقت أجسادهم، وتبعثرت أشلاؤهم، ودفنوا أحياءً تحت الركام، وقضوا خنقاً تحت الأنقاض، كما أدميت أطرافه صلى الله عليه وآله وسلم، وتشققت قدماه، وسال منها دمه الطاهر، وقد تخلت عنه قريش وأهلها، وعادته ثقيف ورجمه صبيانها، وتنكبت له القبائل وحاربته، واستفردوا به وأرادوا قتله، وتآمروا عليه لينهوا دعوته، ويطفئوا نور الله عز وجل بأفواههم، ولكن يقينه بالله عز وجل كان أكبر، وثقته في رحمته كانت أوسع، وثباته على دينه وتضحيته في سبيل عقيدته كانت أقوى.
ما أشبه أهل غزة القابضين على حقهم الأصيل كالقابض على الجمر المتقد، برسولهم الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الواثق المؤمن، المستبصر المستنير، العارف الخبير، الثابت المعتصم بحبل الله المتين، الذي علمهم كيف يثبتون ويصمدون، وإلى أي مدى يصبرون ويحتسبون، وكيف يتحدون ويواجهون، وكيف يكون القتال بشرف والإصرار على الحق بأمل، وكيف وهم على الأرض وفي الميدان، يخوضون الحرب ويمارسون القتال، يميزون الغث من السمين، والطالح من الصالح، ومن هو معهم ومن ضدهم، ومن ينافقهم ومن يساندهم، ومن يتآمر عليهم ومن يؤيدهم، ومن هو حليفهم البعيد ومن هو صديق عدوهم القريب.
ولعله يكفيهم شرفاً أن يكون عليه الصلاة والسلام هو أسوتهم ونموذجهم، ومثالهم وقدوتهم، كما هو نبيهم ورسولهم، منه يتعلمون، وعلى هديه يسيرون، وبسنته يتمسكون، وعلى حقوقهم يحافظون، وعن أرضهم يدافعون، وعنها ولو وضعوا الشمس في يمينهم والقمر في يسارهم لا يتخلون، وعليها لا يسامون وبها لا يفرطون، فهي آيةٌ من كتاب ربهم، وجزءٌ من قرآنهم العظيم، الذي به يؤمنون وعلى نهجه يسيرون، وقد خصها الله عز وجل بمسجده الأقصى، وبارك فيها وحولها، وأسرى برسوله الكريم إليها، ومنها عرج به إلى السموات العلى، فلا ينسوها ما عاشوا وأجيالهم، ولا يتخلوا عنها ما بقي قرآنهم، ولا يستعظمون ما يقدمون في سبيلها، ولا يتأخرون عن التضحية من أجلها، وعقيدتهم تسبقهم بالقول، إلا إن سلعة الله هي الجنة.
لكن ما أصابنا نحن الشعب الفلسطيني عموماً وأهل غزة على وجه الخصوص كبير، وما لحق بنا عظيم، وما نواجه خطير، وما يخطط ضدنا خبيث، وقد والله نالت منا المحنة كثيراً، واستحكمت حلقاتها وما فرجت، وعضتنا بنابها، وقست علينا وما رحمت صغيرنا ولا أشفقت على كبيرنا، بل خنقتنا وطحنتنا، وهشمت عظامنا وكسرت أضلعنا، وتحشرجت أرواحنا وضاقت صدورنا، وبلغت قلوبنا الحناجر تستغيث "متى نصر الله".
وبات أطفالنا أيتاماً وقتلوا، ونساؤنا أرامل وقتلن، وأمهاتنا ثكلى ولم يسلمن، ورجالنا جرحى وشهداء، وأسرى ومصابين، وكما امتلأ جوف الأرض بالشهداء فقد غصت السجون والمعتقلات بالأسرى والمعتقلين، وقد ابيضت عيون شيوخنا حزناً وألماً، وحسرةً وأسى على من فقدوا وخسروا، وعلى قطاعهم الحبيب الذي دمر وخرب، وقد غدت الحياة فيه صعبة وسبلها مستحيلة، فما أصابنا ولحق بنا يفوق النكبة ويتجاوز النكسة، وكأنها المحرقة الحقيقة التي يدعيها "اليهود"، ويتباكون عليها ويتسولون بها، بينما يرتكبون على عين العالم وبرعاية دوله الكبرى وسلاحهم أشد منها وأفظع، وأسوأ منها وأبشع.
وما زالت أزمتنا مستعصية، والحرب ضدنا مستعرة، ودول الاستكبار العالمية قد تكالبت علينا واتفقت مع عدونا، وتآمرت ضدنا وغدرت بنا، وتريد الاستفراد بنا، وتخلى عنا الأخوة والأشقاء، واكتفوا بمشاهدتنا ومتابعة معاناتنا، ولم يقدموا لنا شيئاً به نصمد أو نقاتل، ومنهم من انقلب علينا وتضامن مع عدونا، وصدق روايته وكذب ما تراه عيون العالم كله.
لم يعد من نستجير به ونطلب النصر منه غير الله سبحانه وتعالى، فهو ناصرنا وحافظنا، وهو معنا ويكفينا، وحسبنا وراعينا، وهو الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويلبي حاجة المحتاج إذا سأله، فله وحده سبحانه وتعالى نرفع الأكف نحو السماء وندعو، وتعلو أصواتنا وتبكي عيوننا، وندعوه صادقين، ونرجوه واثقين، أن يرأف بنا، وأن يخفف عنا، وأن يكون معنا، وأن يمن علينا بالصبر والاحتساب، وبالنصر والثبات، وألا يتركنا وحدنا ويتخلى عنا، وألا يخيب آمالنا ويمكن العدو منا وينصره علينا، ولسان حالنا يردد دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومناجاته لربه عز وجل يوم هجرته إلى الطائف، ومحنته فيها على أيدي أهلها وصبية ثقيف.
"اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا، إلى من تكلنا، إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا، (أم إلى قريبٍ فرضته علينا وابتليتنا به)، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بنا سخطك، أو يحل علينا غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
مجزرة النصيرات مؤلمةٌ واستعادة أربعة أسرى غير محبطة
بحزنٍ وأسى وغضبٍ وألم، تابع الفلسطينيون وحلفاؤهم ومحبوهم في كل مكانٍ، العملية العسكرية الأمنية الخاصة التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، التي أسفرت عن استشهاد 276 فلسطينياً، وإصابة أكثر من 750 آخرين بجراحٍ مختلفةٍ، جلهم من النساء والأطفال، وكلهم من المدنيين الآمنين من سكان المخيم واللاجئين إليه من مناطق القطاع المختلفة، التي طالها القصف ودمرتها الغارات الجوية وقذائف المدفعية والدبابات، ونجح خلالها في استعادة أربعةٍ من أسراه لدى المقاومة، إلا أنه خسر ضابطاً برتبةٍ رفيعةٍ، وفقاً لتصريحات الناطق العسكري باسم جيشه، والتي لا نثق فيها كثيراً ولا نصدقه غالباً، وقتل بسلاحه ثلاثة من أسراه، وفقاً لبيان أبي عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذي نصدقه دائماً ونثق به دوماً.
لا ننكر أبداً أننا جميعاً شعرنا بغصةٍ كبيرةٍ، وأحسسنا بمرارٍ يشبه العلقم، وألمٍ يشبه الذبح بالسكين، اجتاح أرواحنا، وطغا على قلوبنا، وترك آثاره على أجسادنا، وأتعب نفوسنا، وشغلنا لساعاتٍ طويلةٍ في فهم ما حدث، واستيعاب ما جرى، وربما أخرج بعضنا عن طورهم، وشككهم ولو قليلاً في مقاومتهم، التي يثقون فيها وفي قدراتها، ولا يشكون في صدقها ولا في إخلاصها، ولا يظنون فيها إلا خيراً، ولا يتوقعون منها إلا نصراً، ولكن حادثة النصيرات كانت مختلفة وصادمة، وموجعة ومؤلمة، وأراد منها العدو أن تكون كاويةً لوعينا ورداعةً لنا، ورافعةً لمعنويات جيشه المنهار، ومهدئةً لشعبه الغاضب الخائف على حياة جنوده وأسراه، إلا أن صورة نصره المزعوم عما قليل ستبهت، وستستعيد مقاومتنا عافيتها فوراً وستنهض، ولن يحبط شعبنا ولن يضعف عزمه.
فخسارتنا وفاجعتنا في أهلنا وشعبنا كانت كبيرة، وعدد الشهداء من كل الفئات كبير، والدمار الذي حل بالمخيم المدمر واسعٌ وشاملٌ، وزاد في الحسرة والألم نجاح العدو في تخليص أربعة أسرى، والاحتفال بعودتهم، وتبادل التهاني باستعادتهم، والإشادة بقدرات جيشهم وتفوق أجهزتهم الأمنية وبراعة فرقهم الخاصة، مما جعل طعم الخسارة مختلفاً، ومذاق المعركة مغايراً، فشعبنا لم تصدمه المجزرة التي فقد في غيرها ضعف هذا العدد وأكثر، بدءً من مجزرة مستشفى المعمداني، وصولاً إلى عشرات المجازر الأخرى التي ارتكبها العدو في مناطق مختلفة من القطاع، وقتل في بعضها أكثر من خمسمائة شهيد، إلا أن مجزرة النصيرات ستبقى مختلفة، ولا أظن أن المقاومة ستتجاوزها بسهولة، أو ستسكت عنها ولا تتعلم منها.
يعلم الفلسطينيون عموماً ومقاومتهم خاصةً أنه لم يكن من السهل على العدو الإسرائيلي، الذي عجز على مدى ثمانية أشهر من القصف والدمار والغارات العنيفة التي لم تنته، وقتل فيها وأصاب قرابة 150 ألف فلسطيني، عن تحقيق أيٍ من أهداف عدوانه على قطاع غزة، التي أعلن عنها وتشدق بها، وبرر بها عملياته وأقنع بها حلفاءه، استعادة أيٍ من جنوده الأسرى ومستوطنيه لدى المقاومة، والعودة بهم بصورة نصرٍ صريحٍ، والظهور بهيئة المنتصر القادر، إذ أفشلته المقاومة وأحبطته وكشفت ضعفه وأظهرت عواره، ونجحت وسط القصف والدمار في إخفاء الأسرى والحفاظ عليهم ورعايتهم، ولم يتمكن العدو رغم كل الوسائل التي استخدمها في معرفة مكانهم وتخليصهم، أو تحديد أماكن إخفائهم لقصفهم وقتلهم والخلاص منهم.
إلا أن هذا العدو العاجز، والحكومة الفاشلة، والجيش المنهك، والأجهزة الأمنية المصدومة، أضعف من أن يسمي ما قام به نصراً، أو أن يصنف ما حققه كسباً، فهو لم يقم بهذا العمل وحده، رغم أن عمليته جاءت متأخرة ثمانية أشهر، ما يعني أنه في حاجة إلى سنواتٍ طويلةٍ ليستعيد أسراه بهذه الطريقة، فقد استخدم في عمليته قواتٍ خاصةً مجهزةً، وفرقاً عسكرية مدربةً، ومجموعاتٍ من المستعربين خاصة، وعزز عناصره على الأرض بمساندة جويةٍ، ومتابعةٍ دقيقة بطائرات الهيلوكبتر، وقصفٍ عنيفٍ بالطائرات والدبابات والمدفعية البعيدة، وارتكب خلالها مجزرةً بشعةً يندى بها جبين أي جيشٍ يدعي الفوقية، وتخجل منها أي دولةٍ تدعي الديمقراطية.
كما لم يكن جيش العدو وحيداً، إذ هو أضعف من أن يخوض منفرداً معركةً كهذه، وأن ينجح في تحقيق ما حققه بقدراته فقط، وهو المنهك المهزوز، الواهن المرتعش، الذي يخسر يومياً قتلى وجرحى على أرض المعركة أمام قوى المقاومة في الشمال والجنوب على السواء، فقد شاركته من الجو طائراتٌ أمريكية وبريطانية، وربما أقمارٌ صناعية وأجهزة تنصتٍ ورصدٍ متطورة، لا تخجل قيادتها من الإعلان عن أنها عملت على تنفيذ هذه العملية على مدى ثمانية أشهر من عمليات التصوير والمراقبة والتجسس وجمع المعلومات وتحليل البيانات، ولعله لولا مشاركتهم ما تغنى العدو بمجدٍ لا يستحقه، ولا احتفل بنصرٍ لم يحققه.
ما حدث في النصيرات بالتأكيد ليس نصراً للعدو، ولا إنجازاً له، ولن يحسب له أو يشكر عليه، فما عاد به هو أقل بكثيرٍ مما خسره، وما حققه سيبقى يتيماً ولن يحقق مثله، ولن يتمكن من تكرار ما يشبهه، حتى ولو استعان بكل قوى العالم وأجهزة حلفائه الكبار، وستكشف كتائب القسام عن صور وأسماء من قتلهم جيشهم، وستبرهن لهم بالفعل لا بالقول، أن العدو خسر بمذاق النصر، وأن أسراه سيدفعون ثمناً كبيراً، وسيضيق عليهم، وسيشد وثاقهم، وستتضاعف الحراسات عليهم، ولن تتمكن أي قوةٍ في الأرض على استنقاذهم أحياءً، أو الوصول إليهم، ما لم تدفع الثمن، وتلتزم بالاتفاق، وتذعن للشروط، وتؤدي وتخضع لما يريده الشعب الفلسطيني وضحى من أجله، وما تفرضه المقاومة وتصر عليه.