يبدو أنّ فنّ المقالة الذي ازدهر ما قبل منتصف القرن الماضي وما بعده، ما زال يجد من الأقلام الجديدة ما يدفعه إلى الواجهة، وفي هذه المقالة الأدبية التي تصور رحلة الكاتبة إلى جامعة شانغهاي، نجدُ حضور شخصية الكاتبة، ورأيها فيما ترى من طريقة التدريس، ومعمار الجامعة، وصلته بالدرس، مع وصف شعريّ للمكان وللطلبة.

الوَعْيُ بالعَصْرِ في جامعةِ شانغهاي للدِراساتِ الدُّوليّةِ

سَحَـر شُـبّـر

 

لَعَلّكَ تتذكّـرُ من رؤيا فوكاي لبدر شاكر السَّيّاب:

 هياي كونغاي، كونغاي !

 الصِّينُ حقلُ شاي

 وسوقُ شنغهاي

 يعجُّ بالمزارعينَ قبل كلّ عِيد

 هياي، كونغاي كونغاي !

مَن قَرَأَ هذا المقطع قبل سبعينَ عامًا يصدّق ما خَاله الشاعر، ومَن رأى تلكَ البلاد رؤيةَ لابثةٍ بها أربعَ سنين يُدهشُها مُرتقاها إلى صميمِ هذا العَصرِ وأَوْجِ حضارته العالمية، ويذهلُها كيف استوَتِ الصينُ القَصيّةُ أُمَةَ أُممٍ، ولغةَ لُغاتٍ وثقافةَ ثقافاتٍ ومدينةَ مُدُنٍ عروسها شَانغهاي! وما كانَ لهذا القَـلَمِ أن يخطَّ حروفَها بوفاءٍ جزيلٍ وحنينٍ وَثيقٍ لولا كرسي اليونسكو لحوار الأديان والثقافات، بجامعة الكوفة الذي فسحَ لها أن تهبِطَ في مطارَ بودونغ الدوليّ، حيث جامعة شانغهاي للدراسات الدوليّة بَسَطَتْ ذراعَيها لتحتضنَ العربيةَ وثقافتَها! بَيْنا كانَ بلدُكَ يجري جَرْيَهُ المعتاد يسرِّحُ أخيارَهُ، ويُقرِّبُ أشرارَهُ! تدلفُ قرينةُ الرَّمْلَةِ السمراءِ إليها بعد أن استوفَتْ متعلقاتِ عقدِ العمل وتأشيرةِ السفر بموجب رسالة إيميل واحدة! هي دعوة من السيدة حوريّة ( Zhou Fang ( ـ منسّقة الخبراء الأجانب  في كليّة الدراسات الآسيويّة والإفريقيّة ومقرّرة قسم اللّغات الشّرقيِة. كانَ أولُ مساء ربيعيّ لا تكاد  فيه الناظرةُ تنتبهُ من رَوعةٍ حتى تُسْهِمَ في أخرى أوقع منها جمالًا، فَلَطافة الجوّ، وكثرة الجسور المتخطية السّواقي، وأناقةِ الطرق، وتَلَألُؤ المباني الشاهقة، وبهاء الشوارع، ورَفاهة مواصلاتها، وإتقان المزاوجة بين الموروث والجِدّة، وحُسن تنظيم الناس، كلّها مَرَقَت خلال الطريق إلى الجامعة  كَلَوْحَةٍ  اتّسقت عناصرُها الكثيرة، والتأمَت أجزاؤها الرحيبةُ، وانسجمت ألوانُها الجمَّةُ؛ لتُشرفَ على بحر الصين الشرقي حاضِرةً كُبرى ــ شانغهاي، قد بَدَّدت بعضُ طلائعِ فتنتِها رهقَ المسافرِة، وأرّقتها ليلتها الأولى التي أمضتها في إحدى شقق الجامعة، بل أَنْسَتْها أن تَتَبَلّغَ شيئًا مِن مطعمِ الجامعة!

ــ ما هَذِه الجامِعة؟!

هي ذاتُ أساس مكينٍ من تأريخ التَّعليم العالي بشرق الصين، كانت قبل تأسيسها عام ١٩٤٩، معهدًا للغة الروسية، ثُم تبلورت في كُليّاتها الثمانية عشرة أربعٌ وخمسون لغةً قديمةً وحديثةً تتصدرها اللغة العربية في برنامج الدراسات الأوليّة، والدراسات العليا، وما بعد الدكتوراه؛ وانصبّت تخصصاتها الدولية (الصحافة، والماركسية، والقانون، والمال والاقتصاد، والدراسات الصينية واللاتينية والأوربية والأمريكية والفرنسية والروسية والجرمانية واليابانية، والترجمة) في إطار يضفرُ  الدولةَ  بالعصرِ ويصلها بذُرى التقدّم ويحلّها في ميزان القِوى، ويصدقُها شعارَها القائلَ: ربط الصين بالعالم وترجمة المستقبل.  

وَلَئِن ترامَت قِطاعات شانغهاي وضواحيها وتبارى في عمرانها البُّناة المَهَرَةُ، تنشأ جامعتها بَحَرَمينِ، حَرَم هونكو (Hongkou  ( الذي يقرب بمسافةٍ وجيزة ممّا يصبو السامع بهذه المدينة إلى أبراجها الفائقات الرابضة على ساحل بودونغ؛ جعلوه لإدارة شؤون الجامعة، وأقاموا فيه مركز دراسات الشرق الأوسط، وفندقًا للخبراء والطلبة والضيوف الأجانب، ومكتبة ومطعمًا نوعيًا ومسرحًا تعرض على مِنصته الأنشطة الثقافية للطلاب الصينيين والأجانب، وتُقدم الندوات الدولية التي تمتلئ أيام العام الدراسي بالعشرات منها. وَحرَمُ سونغ جيانغ (Songjiang)، وما أدراكَ ما سونغ جيانغ حَوت حلاوات الضَّواحي وجَلالَ المُدنِ!  مُشيّد في الضاحية التي ضمّت أقدم جذر ثقافي لمدينة شنغهاي قبل الميلاد، ولا بُدّ للمتجه إلى هـذا الحرم أن تصادفه علامةٌ مرورية ترشده إلى شارع متحف قوانغفولين (uangfulinG) حيث الآثار الحيّة لتراث هذه الضاحية.  وعلى مُتَّسعٍ من الرَّوضِ الأنيقِ والفضاءِ الرّحب، أنافَ بنيانُ الكليّات الثمانية عشرة، ومتحف اللُّغات، والمسرح الكبير، والمنتدى الصيني العربي للإصلاح والتنمية ومساكن الطلبة؛ وأحاط َبانسجام جذّاب المكتبة الكبرى للجامعةِ، وقد أرادوا أن تكون قلبَ الجامعة بمعمارها الفَخْم المنتصف بين الكلّيات ومرافق الجامعة، وبطوابقها السبعة التي تعلوها قبةٌ قاتِمة الزُّرْقَة تُحاكي زُرقة البحر والسماء لمّحوا بها إلى استيعاب الجامعة اللّغات والثقافات الأجنبية، ولم يَفُتْهم أن يخطّوا على جدران صالة الاستقبال كلماتِ الترحيب بكلّ اللّغات المّدرجة في برامج التدريس بالجامعة، وأن ينتفعوا من تقدّمهم التكنولوجي في استخدام جهاز الاستعارة الذاتية.  كما استوحوا لمعمار أي كليّة أو مركز في هذا الحَرَم معنى مما يُدرَّسُ فيها، ومبنى كليّة الدراسات الآسيوية والإفريقية تحفة حافلة بالطراز العربي والإسلامي، لِضمِّها قسم اللغة العربية الذي يُقبل عليه الطلاب الصينيون إقبالًا لائقًا بحضارة هذه اللغة. ومما كان يزجي وقتَ خبيرة العربية خلال استراحتها من المحاضرات أن تتصفحَ الكتبَ العربيةَ والفارسيةَ والتركيةَ التي تحويها مكتبة الملك فيصل بن عبد العزيز في الطابق الأول من مبنى هذه الكليّة. ولِخبير الإنكليزية أن يُحيي شكسبير الظاهرَ في نُصْبٍ مونِق بمدخل الكلية الإنكليزية التي تلوح أنحاؤها بكلّ ما يتلاقى مع عمران إنكلترا. وهكذا في الكلية الروسية والكلية اليابانية ... . 

ومهما طالت المسالكُ إلى هذه الصروح فلا تملّها العيون، سِيما نهر داتشيوجينغ الذي يقطع حدائق الجامعة، بل غاباتها الغنّاء تعبق بالشذى الفوّاح من زهور الأوسمانثتوس التي تنشر أريجَها الشبيه برائحة المشمش في ربيع الجنوب الشرقي الصيني، وكذلك زهور الفوتينيا الصينية، وزهور اللوتس التي تتلع براعمها فوق بِرك المياه الخضراء، وقد نسجت لها أوراق أشجار الجنكة حجابًا رقيقًا تُقلقلُهُ الهبوب الشرقية على مدى المواسم.

وليس أروع لِسمع الخبيرة حين تَـتّـئـدُ في إلقاءِ درسها من أن تُنمى إليها خلال نوافذ القاعات الدراسية زقزقاتُ البلابل التي تتلهّى على غصون القيقب الأحمر والمطّاط اللامع؛ بَيْنا طلابُها الصينيونَ سادرون فيما تتَلَفّظهُ بالعربيةِ الشموس على ألسنتهمِ، وتُحدّثُ نفسها بتوقير مناقبهم التي اقتبسوها من تراثهم الحافل بما مدّوه إلى حاضرهم، فتجلّت في هدوئهم، وحسنِ سلوكِهم وانصرافهم إلى ما يعنيهم، وتركهم النقدَ والجدلَ والخصومةَ، حتّى في ما بين أعلام جامعاتهم وأناس مجتمعهم؛ وحرصهم على الاحترام والصداقة المتّزنة فيما بينهم.  ولا عجبَ أن تُنزلَهم هذه الخِصالُ في قمةِ الحضارة، وقد أوجبت عليهم صفاء أذهانهم وحبّهم الحياة وشحذ طاقاتهم لصهرِ الحديد وبناء الجديد وإعانة الطبيعة ورقمنة الحقيقة واستيعاب العالم.   

    ومما يسرِّي عن نفوس أعضاء الكادر التدريسي والطلاب في مرافق الجامعة العناية بصحة الأجساد ورياضتها، وفي كلا الحَرَمَينِ مطاعمُ فخمة منوّعة بتنوّع الطلاب الصينيينَ والدوليينَ؛ ومقاهٍ وصالات وملاعب معدَّة بأحسن ما يكون لممارسة الألعاب التقليدية والحديثة. وقد بلغوا الغايةَ في إتاحة وسائل الراحة لكلّ منتمٍ إلى هذه الجامعة، فهيأوا باصاتٍ فارهة تنقل أعضاء الكادر والطلاب من حرمٍ إلى آخر بانتظام، ومهما يبعد الطريق في الجامعة أو في خارجها لا يحير المرءُ واسطة تقلّه من الدراجة حتّى الترام والمترو.

ولِهذه الجامعة أن تبقى في مرتقاها الوطني الثاني بعد جامعة بكِّين، وكيما تغيب عن حضورها الوكيد في إعداد أجيال تتلقّفها المؤسسات المتصلة بوزارة الخارجية والتجارة الدولية والإعلام الدوليّ والشركات العابرة الأقاليم؛ تَتَلقّى من حكومة شانغهاي مخصصات مالية، كما تدرّ شركاتها للنشر والترجمة والطباعة والأقساط الدراسية عليها مالًا وفيرًا تُحسنُ إدارتُها إنفاقَهَ في ندواتٍ ومؤتمرات معنية بالشؤون المعاصرة، وتسخّره في تحرير المجلات الأجنبية، وتحقيق رؤى الجامعة المستقبلية، وإقامة نشاطاتها المُبهجة والمنضوية إلى التقاليد الموروثة والأعياد التقليدية والمناسبات الوطنية، وما أكثرها لدى الأمة الصينية! كما سَعت إلى بعض البلدان العربية مؤسِّسة فيها معاهد كونفوشيوس لتنشرَ اللّغةَ الصينية وثقافتها الأصيلة. 

   وما أَجَلَّ حُظْوةَ هذه الجامعة! إذ أيّ من انضَمَّ إليها بدرسٍ أو بحث أو بعثةٍ؛ يعلقُ بها ويطيقُ تزوّدًا من مباهجها التي تُطلِق اللسان ثناءً وتَجِلّة لأمةِ الشّرقِ باثقة النورين؛ نورها القديم ونور هذا العصر.

 

   

https://en.shisu.edu.cn/about/

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سحر هادي سعيد شُبَّر.

دكتوراه في فلسفة اللّغة العربية وآدابها.

التخصّص: الأدب الحديث ونقده.

ـ تدريسيّة في جامعة الكوفة ـ كليّة الصيدلة.

صدر لها كتاب، الصورة في شعر نزار قباني دراسة جمالية، دار المناهج، 2011

ـ خبيرة اللّغة والثقافة العربية بجامعة شانغهاي للدراسات الدوليّة من عام ٢٠١٩حتّى ٢٠٢٣.