استهلال:
غيّرت حرب الإبادة الوحشية التي يشنّها الكيان الصهيوني منذ ثمانية شهور على قطاع غزة موقف اليهود في الولايات المتحدة. وما تشهده الجامعات الأميركية والأوروبية من حراك طلّابي مناصر للقضية الفلسطينية اليوم لهو دليل آخر على تغيّر نظرة الشباب في جميع أنحاء العالم إلى جوهر الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام. في القراءة التالية، يقدّم لنا الكاتب والمحلّل البلجيكي المختصّ بتحوّلات التاريخ الاجتماعي الأميركي المعاصر، ستيفن ده فور، تحليلًا لحالة الانقسام التي تعاني منها هويّة يهود الولايات المتحدة الأميركية اليوم، على ضوء الأحداث المأساوية الأخيرة في غزة، معتمدًا في تحليله على آراء عدد من المراقبين الأميركيين اليهود البارزين، ومن أهمهم بيتر بينارت، وفرانكلين فوير، وبيتر دريير، مستكشفًا تأثيرات حرب غزة على الانتخابات الأميركية المقبلة، وطارحًا السؤال الصعب: لمن سيكون ولاء يهود أميركا اليوم؟ هل هم قادرون بالفعل على تغيير موازين القوى في الصراع المقبل بين جو بايدن ودونالد ترامب؟
عندما غادر الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون القاعة التي جمعته بأول لقاء له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 1996، كان غاضبًا: «مَنْ هي القوة العظمى هنا بحق الجحيم؟!» وبعد 28 عامًا، يبدو أن لا شيء تغير؛ لا يزال بنيامين نتنياهو يرى أن دعم الولايات المتحدة الأميركية، كأقوى حليف لإسرائيل، أمر مفروغ منه، واضعًا – بتعنّته هذا – الحزب الديموقراطي كلّه في مأزق. ويبدو حجم المأساة الإنسانية التي تشهدها غزة هائلًا اليوم، لدرجة أنه من السذاجة أن نظن أن الانتخابات الأميركية في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل تستطيع أن تصلح ما حدث، إلا أن المعركة بين جو بايدن، ودونالد ترامب، تعد بأن تكون مثيرة، لدرجة أن فريق حملة بايدن الانتخابية صار يتدخل في اتخاذ جميع قراراته، مدركين أن عليه المراوغة طالما لا يريد أن يخسر دعم اليهود، أو التفريط في دعم الشباب المناصر للقضية الفلسطينية. ويرى المتابعون أنه من المثير للسخرية أن تلعب الحسابات الانتخابية الأميركية دورًا قويًا في مأساة غزة الإنسانية، لكن المدافعين عن دبلوماسية بايدن المترددة يشيرون إلى أنه إذا أصبح ترامب رئيسًا مرة أخرى، فسوف يكون ذلك أيضًا كارثة على الفلسطينيين.
الانقسام
غيّرت الحرب الحالية على قطاع غزة موقف الجالية اليهودية في الولايات المتحدة (والتي تقدر بنحو 6 إلى 7 ملايين شخص)، إلى الدرجة التي دفعت مراقبًا مثل بيتر بينارت، أستاذ العلوم السياسية، والمحلل البارز، إلى أن يكتب في مجلة ذي أتلانتيك، مؤخرًا، قائلًا إن يهود أميركا يعانون من "أزمة هوية". وأوضح: "لا يمكنك أن تكون ليبراليًا وصهيونيًا في الآن نفسه؟ كيف تنسجم الدعوات إلى مزيد من المساواة بين المجموعات العرقية في الولايات المتحدة من جهة، مع الدعوات التي تدافع عن تفوق مجموعة على أخرى في إسرائيل من جهة ثانية، كان هذا التناقض بارزًا على الدوام في تركيبة وهوية أجيال اليهود الأميركيين، لذلك ستجد أنه من المؤلم الآن بالنسبة للأجيال الأكبر من يهود أميركا أن يجدوا أبناءهم وأحفادهم، الذين يدرسون في جامعاتهم نفسها، يفقدون أصدقاءهم بسبب كونهم يهودًا، أو ينتقدون حكومة نتنياهو بقوة مثل زملائهم". ووفقًا لبينارت، فإن الاختيار بين هذين الاتجاهين صار مفروضًا اليوم على غالبية الشباب اليهودي الأميركي، بسبب التطورات الأخيرة والكاشفة في غزة. ويصف بينارت الانقسام بين الليبرالية والصهيونية بأنه "أكبر تحوّل يشهده المجتمع اليهودي الأميركي منذ نصف قرن".
اليوم، وبحسب بينارت، يبدو أن الزواج المضطرب بين الليبرالية والصهيونية قد وصل إلى انتهاء صلاحيته لسببين، أولًا: اكتسب الفلسطينيون صوتًا في الولايات المتحدة، بعد سنوات طويلة لم يكن لديهم فيها سوى مثقف فلسطيني واحد في وسائل الإعلام الأميركية هو إدوارد سعيد، وبعد وفاته في عام 2003 لم يظهر فلسطيني آخر ليملأ الفراغ الذي تركه، وبحسب إحدى الدراسات، لم يزد مجمل الأعمدة المجانية عن القضية الفلسطينية في صحيفتي نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، التي كتبها فلسطينيون في الفترة بين 2000 و2009 عن واحد في المئة! أما الآن، فقد وجد الفلسطينيون الشباب طريقهم إلى الرأي العام من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الفرص التي لم توفرها لهم وسائل الإعلام القائمة بما فيه الكفاية. والسبب الثاني هو تطرف حكومة نتنياهو، بشركائها في الائتلاف اليميني المتطرف، وهجماتها على المؤسسات، وقصفها المتواصل لغزة. لقد اعتاد اليهود الليبراليون على الإشادة بإسرائيل كونها المعقل الوحيد للديموقراطية في بيئة عربية أكثر استبدادًا، ولكن اليوم لم يعد من الممكن الدفاع عن ذلك في ظل حكم نتنياهو.
قسَّمت إراقة الدماء غير المسبوقة في غزة بعد الهجوم الإرهابي الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول2023 أميركا المنقسمة أصلًا، يقول بينارت: "أصبح التضامن مع الفلسطينيين ضروريًا في السياسة اليسارية، مثل النضال من أجل حقوق الإجهاض، أو ضد الوقود الأحفوري، مثل نقابات العمال، والأقليات الجنسية، والكنائس السوداء، أي تكتلات تقدمية تطالب بوقف إطلاق النار الآن، وفي الوقت نفسه فإن اليمين الأميركي المتشدّد لا يزال مناصرًا للحكومة الإسرائيلية على طول الخط.
كانت إليز ستيفانيك، عضو الكونغرس الترامبية، هي السبب وراء جلسات الاستجواب العدائية ضد عمداء ثلاث جامعات أميركية كبرى مؤخرًا، بحجة أنهم "لم يتخذّوا إجراءات صارمة للحدّ من التظاهرات الطلّابية المعادية لإسرائيل في جامعاتهم". إن كون الجمهوريين، بالتحديد، الذين كانوا ولا يزالون يتباهون بوجود كثير من المعادين للسامية في صفوفهم، يقدّمون أنفسهم اليوم على أنهم مسيحيون ضد معاداة السامية، ولصالح إسرائيل، لهو أمر مدهش، ولكنه ليس مستغربًا. فقد دعا دونالد ترامب، وهو الذي رفض عام 2017 إدانة القوميين البيض White nationalist، بعد تنظيمهم مسيرة عنيفة في شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا، اليهود الأميركيين إلى التخلّي عن الديموقراطيين والتصويت له، وقال: "كلّ يهودي سيصوّت للديموقراطيين فهو كاره لدينه، إنهم يكرهون كلّ ما يتعلّق بإسرائيل، ويجب أن يخجلوا من أنفسهم، لأنهم سيدمرونها".
ويبدو أن بعض المنظّمات اليهودية ابتلعت الطعم بالفعل، حتى أن رابطة مكافحة التشهير Anti Defamation League، والمعروفة اختصارًا ب (ADL)، والتي ندّدت بشدة بمعاداة ترامب للسامية قبل بضع سنوات فقط، منحت الآن جائزة لصهره ومستشاره السابق للشؤون الخارجية جاريد كوشنر! لهذا كله".يحذر بينارت صراحةً من العواقب السياسية المترتبة على هذا الولاء الأعمى لإسرائيل في صفوف سياسيي أميركا اليهود، ووفقًا له، فإن ولاء اليهود الأميركيين لإسرائيل "يمكن أن يقوّض ولاءهم التقليدي للديموقراطيين والقضايا الليبرالية".
اليهود والديموقراطيون
يكنّ المراقب السياسي الأميركي اليهودي بيتر دريير من كليّة أوكسيدنتال في لوس أنجلوس احترامًا كبيرًا للمحلل بيتر بينارت، لكنه يختلف عنه في النظر إلى واقع الأمور، يقول: "لا أعتقد أنّ خسارة أصوات الناخبين اليهود تهدد الديموقراطيين، فمنذ انتخاب فرانكلين روزفلت رئيسًا لأول مرة عام 1932، كان يهود أميركا ككتلة ناخبين أكثر ولاءً للديموقراطيين منهم للجمهوريين، ودعموا القضايا التقدمية الرئيسية، مثل النقابات العمالية، وحركة الحقوق المدنية، وحقوق المرأة، والمخاوف المتعلقة بالمناخ، ولم يتغير ذلك أبدًا حتى اليوم، باستثناء انتقال عدد من المنظمات اليهودية إلى اليمين المتشدد في السنوات الأخيرة، لكن استطلاعات الرأي العام تظهر أن الناخبين لا يتبعون خطابهم، أضف إلى ذلك أن ترامب يحاول جذب الناخبين اليهود منذ عام 2015، ولكن من دون جدوى.
يتوقع دريير تغيرًا طفيفًا في المشهد الانتخابي هذا العام أيضًا، على الرغم من الصراع بين إسرائيل وغزة، ويشرح ذلك بقوله: "إذا كان الجيل الشاب في إسرائيل اليوم أكثر يمينية من آبائه، فإن الحال في أوساط يهود الولايات المتحدة ليست هكذا بالتأكيد، بل على العكس تمامًا"، ويحكي دريير عن مجموعة صغيرة من الشباب اليهود بين طلابه الذين يشتكون بشدة من القصف الوحشي الذي تتعرض له غزة منذ شهور، قد تكون لجامعة أوكسيدنتال بصمة يسارية، ولكن الاحتجاجات ضد إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل تظهر في الجامعات في جميع أنحاء البلاد، بل يتم أحيانًا مقارنة هذه الاحتجاجات الواسعة بالاحتجاجات الضخمة المناهضة لحرب فيتنام في الستينيات، ومن المؤكد أن هذه التظاهرات ستزداد كثافتها، خاصة بعد الغارة الجوية التي أودت بحياة سبعة موظفين من منظمة "وورلد سنترال كيتشن"World Central Kitchen غير الحكومية، حتى أن نانسي بيلوسي، الرئيسة السابقة لمجلس النواب، تدعم الآن دعوة بايدن إلى تعليق إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل.
كما أظهرت استطلاعات الرأي أيضًا أن الدعم الأميركي لسياسة بايدن تجاه إسرائيل قد انخفض منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فهنالك استياء واسع النطاق في أوساط الشباب الأميركي الليبرالي، وتحديدًا في الجامعات، حتى بين نسبة لا يستهان بها من الشباب اليهودي. وبغض النظر عن الاعتبارات الجيوسياسية والانتخابية، ينتمي جو بايدن إلى جيل من الديموقراطيين الذين يتجذّر التعاطف مع إسرائيل في كيانهم، وكتب بيل كلينتون في مذكراته أنه لم يحب رجلًا بقدر ما أحب إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، الذي ساعد في بدء حل الدولتين، قبل اغتياله على يد إرهابي يهودي عام 1995، كان كلينتون يبكي بحرارة في جنازة رابين، كذلك بدا بايدن في رد فعله العاطفي على الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر، وكذلك فعل بعد الغارة الجوية التي قتلت أفرادWorld Central Kitchen.
ومع ذلك، لا تزال هنالك حساسية أميركية إضافية تجاه المعاناة اليهودية، وقد يكون هذا الميل إلى الولاء للحليف عاملًا في تردد بايدن في نكء الجراح القديمة مع نتنياهو، لكن دريير يرى أنه من الأفضل لبايدن أن يقلق بشأن جناحه اليساري المؤيد للفلسطينيين، يقول: "هؤلاء الطلاب لن يصوّتوا لترامب، ولا لروبرت إف. كينيدي الابن، لكنهم سيصوتون لمرشحين مستقلّين من اليسار الراديكالي، مثل جيل ستاين، أو كورنيل ويست".
اليهود وترامب
يوضّح دريير أنّ تأثير الناخبين اليهود مبالغ فيه إلى حد كبير على أي حال. "يشكّل اليهود حوالي 2 في المئة فقط من السكان الأميركيين، وربما تصل نسبتهم إلى 3 في المئة من الناخبين، لأنها مجموعة سكانية ذات دوافع سياسية عالية، ولكن هناك حوالي 10 في المئة من اليهود الأميركيين يصوّتون لليمين، ولكن هؤلاء هم أساسًا من اليهود الأرثوذكس، مثل أولئك الذين تجدهم في ويليامزبرغ (أحد أشهر أحياء اليهود في بروكلين)، ولكن صوتهم يتبخر في حاضرة نيويورك المنفتحة، وخارج تلك الأحياء يعيش اليهود منتشرين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، لذلك لا أفهم كيف يمكنهم قلب انتخابات حاسمة في ولايات مثل ميشيغان، أو أريزونا، أو بنسلفانيا؟ لذلك دعنا نقلها بصيغة أخرى: "التأثير الانتخابي ليهود أميركا أقلّ من أن يكون له أهمية".
حسنًا، لكننا تعلمنا أنه لا يجب أن تقول "أبدًا" أبدًا، فكل شيء ممكن، لذلك يمكن أن يكون التأثير الانتخابي ليهود أميركا مهمًا فقط إذا التزم اليهود في ميشيغان بمنازلهم بسبب غضبهم على بايدن، لكن أن يصوتوا للجمهوريين، وعلى رأسهم ترامب، الذي يتقمص أكثر فأكثر شخصية هتلر في خطاباته! لا أعتقد ذلك، فاليهود عمومًا لديهم وعي تاريخي كاف لفهم هذه الألاعيب".
يتوقف بيتر دريير كذلك أمام منح جائزة رابطة مكافحة التشهير Anti Defamation League (ADL) مؤخرًا لصهر ترامب جاريد كوشنر، ويعتقد أنها "زلة ثقيلة"، لأن كوشنر حصل على الجائزة بفضل دوره في الوساطة التي قام بها في اتفاقات أبراهام لعام 2020، و"التي حسّنت علاقات إسرائيل مع المملكة العربية السعودية، وبعض دول الخليج الأخرى، من خلال الاتفاق على تحييد القضية الفلسطينية بعيدًا عن خطط التطبيع العربي الإسرائيلي". ووفقًا لعدد من النقاد، بمن فيهم دريير نفسه، فإن تلك الاتفاقات زادت في الواقع من احتمال تصعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو ما رأيناه يحدث أمام أعيننا خلال الأشهر التسعة الماضية.
يعتقد دريير أن دافع كوشنر لـ "وساطته" لم يكن شريفًا على الإطلاق: "فقد حصل لنفسه على استثمارات بقيمة 2.4 مليار دولار من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وكلها أرباح تصب في صندوق الأسهم التابع له، ومن غير المعقول أن نمنح للرجل الفضل في ذلك، ولكن ليس من الصعب تفسير الأمر، فلا تزال غالبية التبرعات السياسية من اليهود تذهب إلى الديموقراطيين، ولكن بعض أغنيائهم عقدوا تحالفًا بغيضًا مع أميركا الترامبية، ومارك روان أحدهم، فهو اليوم أكبر ممول لرابطة مكافحة التشهير (ADL)، حيث يمول النادي الصغير نفسه، والمشكَّل من يهود يمينيين من مجموعة فوربس 500، حملات مرشحي الكونغرس الذين يتعهّدون بدعم غير مشروط لإسرائيل، وعلى الرغم من أن هذا التطور ليس بسيطًا بالتأكيد، إلّا أن دريير لا يراه مهمًا بما يكفي للتحدث، مثل بينارت، عن تغيير محتمل في الانتخابات الأميركية المقبلة، يقول: "إن هذه الحركة المؤيدة لنتنياهو لا تمثل السكان اليهود إلا قليلًا.
قليلون هم اليهود في الولايات المتحدة الذين لا يدركون التناقض الهائل في أن جميع هؤلاء الناخبين الإنجيليين البيض، وبطلهم ترامب، يقفون إلى جانب إسرائيل، ولكنهم معادون للسامية في الآن نفسه، لذا فإن هذا التحالف بين اليهود وأنصار ترامب لن ينجح أبدًا، ظل ترامب يتحدث على مدى سنوات عن جورج سوروس، وغيره من "المموّلين العالميين المتواطئين مع هيلاري كلينتون، وجو بايدن"، وهي لغة رمزية مبطنة بشكل سيء لتغذية معاداة السامية بين مؤيديه".
وبعد طرح هذا السؤال الصعب: لمن سيكون ولاء يهود أميركا اليوم؟ هل هم قادرون بالفعل على تغيير موازين القوى في الصراع المقبل بين جو بايدن ودونالد ترامب؟ علينا أن نتأمل ما أطلقه المحلل السياسي اليهودي فرانكلين فوير من صرخة إنذار أخرى في مجلة "ذي أتلانتيك" قبل فترة، مشيرًا إلى الارتفاع الحاد في كراهية اليهود، خاصة في الجامعات الأميركية، فقد عبّر له طالب يرتدي الطاقية اليهودية عن مدى العداء الذي أصبح يسود المناخ الجامعي تجاه كل من يعلن عن يهوديته، وعادت ابنة مراهقة إلى منزلها خائفة بعد مظاهرة عفوية عنيفة ضد إسرائيل في مدرستها. يتعلق الأمر هنا بما هو أكثر من الخوف والانزعاج، فقد اعتُقل طالب في جامعة كورنيل بسبب تهديده عبر الإنترنت بقطع رقاب اليهود، وإطلاق النار على مطاعم وجبات الكوشير اليهودية.
وفي الشهور الثلاثة الأولى التي تلت هجوم حماس القاتل، زادت الحوادث المعادية لليهود لتفوق معدل ما كان يحدث خلال عام كامل، وفقًا لرابطة مكافحة التشهير. وتتراوح هذه الحوادث من تخريب الرموز اليهودية، وتعطيل المجالس البلدية، إلى نظريات المؤامرة التي من الأفضل أن تتوقعها من اليمين المتطرف نفسه: ومنها على سبيل المثال أن الحكومة الإسرائيلية نفسها هي التي نظّمت عمليات القتل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من أجل "الانتقام" من الفلسطينيين.
التعاطف مع الهولوكوست
حنينًا إلى الماضي، يعود فرانكلين فوير بذاكرته إلى سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، عندما لم يكن اليهود متسامحين مع بعضهم بعضًا فحسب، بل كان في إمكانهم حتى الاعتماد على التعاطف معهم في الولايات المتحدة. تلك الحقبة تقترب من نهايتها الآن، كما كتب فوير في قراءته المطولة المصحوبة بصور لرموز من يهود أميركا المشاهير، ومن بينهم: بوب ديلان، وباربرا سترايسند، وستيفن سبيلبرغ، ومادلين أولبرايت، وهنري وينكلر الشهير بـ ذا فونز The Fonz من مسلسل "الأيام السعيدة" الكوميدي، والقاضية روث بادر غينسبيرغ. تلك السنوات التي ارتدى فيها كثير من الأميركيين ملابس رالف لورين، وشاهدوا مسلسل "ساينفيلد"، واستمعوا إلى الدكتورة روث للحصول على نصائح جنسية. وفقًا لفوير، بدأت تلك الذروة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أدى التعاطف مع الهولوكوست إلى انخفاض كبير في عدد الأميركيين الذين يحملون مشاعر معادية للسامية.
ما أتاح لليهود وضع بصماتهم على المجتمع بشكل متزايد، سواء كان ذلك في السينما (بول نيومان، وداستن هوفمان، وودي آلن)، أو في الموسيقى (ليونارد برنشتاين، وSimon & Garfunkel، وبوب ديلان)، أو في الأدب (سول بيلو، وفيليب روث، ونورمان ميلر)، أو في العلم (ألبرت أينشتاين، وروبرت أوبنهايمر، وغيرهما). فإلى جانب تقدير مساهمة اليهود في المجتمع الأميركي، ارتفع أيضًا تقدير إسرائيل، وكان لذلك علاقة كبيرة بحرب الأيام الستّة عام 1967، عندما استولت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان من جيرانها، وقد استهوى كثير من الأميركيين أن دولة صغيرة انطلقت بقوة – بأسلحة أميركية – في منطقة معادية.
لذلك ليس من قبيل المصادفة أن أفلامًا موسيقية مثل "عازف الكمان على السطح" (1971) و"ينتل"(1983) وغيرها مما تناول قصصًا عن اليهود التقليديين، جذبت الجماهير إلى السينما، وكانت أبرز تلك الموجة هي ليلة عرض هابطة في الذكرى الثلاثين لقيام دولة إسرائيل، بثتها قناة ABC الأميركية في وقت الذروة عام 1978، وغنّت في الحفل أسماء كبيرة مثل باري مانيلو، وسامي ديفيس جونيور، وهنري وينكلر، وتصدرت النجمة باربرا سترايسند المسرح. وفي الختام، تم بث لقاء مباشر على الهواء مع رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك غولدا مائير.
اختفت، أو تراجعت، معاداة السامية إلى الهامش الأميركي، وبدا أن ديفيد ديوك، الزعيم السابق لجماعة كو كلوكس كلان Ku Klux Klan، والمعادي الشرس للسامية، كان في طريقه إلى مجلس الشيوخ عام 1990، ولكن المؤسسة الجمهورية منعت ذلك جزئيًا. ولكن مع بداية الألفية الجديدة بدأت المشاعر المعادية لليهود تنتعش من جديد. ووفقًا لفوير، كان هنالك دور للوزراء اليهود في ذلك، مثل بول وولفويتز، في إدارة جورج دبليو بوش المذمومة، والأزمة المالية التي أشير فيها كالعادة إلى الدور الرئيسي لليهود في القطاع المصرفي، كما كانت هنالك نظرية المؤامرة التي اخترعها الفرنسي رينو كامو حول "الاستبدال العظيم"، والتي انتشرت بشكل كبير بين الأميركيين اليمينيين، الذين أصبحوا أكثر تشددًا مرة أخرى بعد انتخاب دونالد ترامب، حتى أن هتافات النازيين الجدد في شارلوتسفيل كانت تقول: "لن يحل اليهود محلنا"!
النجاح... والغيرة
يستطيع بيتر دريير تقدير مقال فوير، على الرغم من أن لديه تحفظات بشأنه: "أجد أنه من الغريب أن يجعل تلك الفترة الذهبية تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية، ففي نهاية المطاف كانت معاداة السامية لا تزال منتشرة تمامًا حتى الستينيات، ولم يُسمح لوالديّ بشراء منزل في حيهم المفضل في نيويورك في الستينيات. ولكن الجالية اليهودية أصبحت مقبولة بشكل متزايد بفضل الأعمال الاستعراضية والفنية في المقام الأول، حتى أن باربرا سترايسند رفضت إجراء عملية تجميل لأنفها اليهودي، قائلة: "هذا الأنف جزء من هويتي، ومع ذلك أصبحت نجمة مشهورة"". ويشرح دريير: "لطالما كان نجاح اليهود في القطاعات البارزة سلاحًا ذا حدين، جاء ذلك إلى حد كبير بدافع الضرورة، فأولئك الذين حُرموا من فرص العمل في عدد من القطاعات بسبب التيار المعادي للسامية في المجتمع كانوا يبحثون عن مكان آخر في مجال المال وصناعة الترفيه.
وقد جعل ذلك الجالية اليهودية فخورة وحذرة في الوقت نفسه، لأن النجاح يولّد الغيرة، لذلك لا يدرك كثير من الأميركيين أن عددًا من اليهود يعملون في متاجر صغيرة، أو سائقي سيارات الأجرة، أو معلّمين، أو اختصاصيين اجتماعيين". ولا يعتقد دريير أن معاداة السامية ستختفي تمامًا، لكنه يقول إنها أصبحت ظاهرة هامشية: "تقبلت غالبية الأميركيين اليهود وسطهم، بوصفهم جزءًا من وعاء الخضروات المختلط الذي تمثله الولايات المتحدة، أو يجب أن تكون عليه، لقد غزت أجزاء من الثقافة اليهودية هذا البلد، فليس من الضروري أن تكون يهوديًا لتحب أكل الكعك، أو تضحك على نكاتنا اليهودية الساخرة".
ولكن ماذا عن المشاعر المعادية لليهود في الجامعات في الأشهر الأخيرة؟ يجيب دريير بتشكك إلى حد ما: "لطالما كانت معاداة السامية في الولايات المتحدة حكرًا على اليمين المتطرف، ولذلك يشعر بعض اليهود بالصدمة من أن أشياء غاضبة تُقال الآن فجأة عن إسرائيل من قبل اليسار أيضًا". ويعتقد المحلل السياسي أن هذا التهديد مبالغ فيه بشكل كبير: "إنها تمطر استطلاعات للرأي العام حول معاداة السامية، ولكن للأسف معظمها يأتي تلبية لأوامر من منظمات مثلADL، والتي ترى أن انتقاد إسرائيل أيضًا معادٍ للسامية، حتى أنهم يصفون الآن اليهود الذين ينتقدون حكومة بنيامين نتنياهو أنفسهم بأنهم معادون للسامية، وهنالك كثير من هذا القبيل، فعندما يتم إلصاق الصلبان المعقوفة على المعابد اليهودية، فإن ذلك بالطبع أمر صادم، ولكن مع استثناءات قليلة، لم يؤدّ ذلك حتى الآن إلى أعمال عنف ضد الأفراد، ومن الغباء وضع المظاهرات اليسارية ضد بنيامين نتنياهو تحت اللافتة نفسها التي وضعوا تحتها الهجوم الذي شنه أحد النازيين الجدد على كنيس بيتسبرغ، والذي أسفر عن مقتل 11 شخصًا عام 2018".
الحراك الطلابي المناصر لفلسطين
يدرك دريير جيدًا أن شباب الصهاينة يشعرون بالتوتر الشديد عندما يسمعون زملاءهم الطلاب يهتفون "فلسطين حرة"، أو "من النهر إلى البحر" في حرمهم الجامعي: "هذا أيضًا لأنهم نشأوا على أن مثل هذه العبارات تدخل ضمن معاداة السامية، ومع ذلك أعرف عددًا من الأشخاص الذين يعتقدون أن احتلال الأراضي الفلسطينية وصمة عار، ويقارنون السياسة الإسرائيلية بالفصل العنصري، ومع ذلك لديهم أصدقاء يهود، حتى أن هنالك منظمات طلابية يهودية تفكر بهذه الطريقة، مثل منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace، وقد علّقت جامعة كولومبيا في نيويورك تلك المنظمة". ويعتقد دريير أن هذا أمر مخزٍ "لقد حققوا مع رؤساء الجامعات الأميركية الثلاث على خلفية التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في جلسات استجواب بمجلس النواب، بطريقة تذكرنا بصيد الساحرات التي قام بها السيناتور مكارثي في الخمسينيات".
كما تصاعدت الضغوط في الحراك الطلابي من الجهة المعارضة للحق الفلسطيني، بما في ذلك منظمة "أمهات ضد معاداة السامية في الحرم الجامعي" Mothers Against Campus Antisemitism الجديدة: "تأسست هذه المنظمة بعد حادثة قام فيها طالب بلصق نجمة داود على ملابس أحد الطلاب، ووصفه آخر بأنه "صهيوني قذر"، لا بد أن ذلك لم يكن لطيفًا بالنسبة للشخص المعني، ولكن دعونا نضع كل شيء في نصابه: في فيرمونت تم مؤخرًا إطلاق النار بدم بارد على ثلاثة طلاب من أصل فلسطيني في الشارع". كيف يرى دريير تطور موقف جو بايدن؟ يقول: "أعتقد أن بايدن نأى بنفسه بشكل جيد عن نتنياهو في الأشهر الأخيرة، فعدم استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) عندما دعا مجلس الأمن الدولي إلى وقف فوري لإطلاق النار قبل أيام كان تغييرًا أكثر عمقًا في مساره مما يعترف به منتقدوه، وكذلك كان الخطاب الذي وضع فيه زعيم مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو يهودي، نتنياهو في موقف حرج، لذا فإن الضغط على إسرائيل يتزايد بالفعل".
ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بالأسلحة بعد كل ما حدث؟ يجيب دريير: "بايدن سياسي من المدرسة القديمة، تربّى على فكرة أن دعم إسرائيل واجب عليه بسبب كل ما تعرض له اليهود، لكنه سيجرؤ على الضغط على إسرائيل أكثر إذا أعيد انتخابه، وأتصور أنه يستطيع أن يكون أفضل رئيس أميركي عرفه الفلسطينيون على الإطلاق لو أعيد انتخابه، فقط بعد أن يتخلص من حذره الراهن خوفًا من تداعيات قرارته على حملته الانتخابية المقبلة".
(*) ستيفن ده فور (1965) كاتب ومحلّل بلجيكي مختص بالسياسة والتأريخ لتحوّلات المجتمع الأميركي المعاصر.
عن (ضفة ثالثة)