ينحو كثيرون ممن يقرأون في ما بعد حرب غزة إلى التأكيد أن القضية الفلسطينية وشعبها منتصران في هذه الحرب. في هذا التأكيد ما يبدو مكلفًا للسامع والقارئ والمراقب والمعاني في الوقت نفسه. أن تؤكد انتصارك المستقبلي في حرب لم تضع أوزارها بعد، فأنت تفترض أنك ناج من أهوالها، في وقت يخضع شعب برمته لنيرانها المهلكة. هذا أمر يشبه افتراضك أن ثمة من يجدر بهم أن يموتوا لأجل انتصارك المفترض. المسألة نفسها تبدو من جهة ثانية باهظة الكلفة أيضًا. إذ ما الذي نعنيه حين نفترض أن عشرات الألوف ممن قصفت أعمارهم، ومئات الألوف ممن دمر مستقبلهم منتصرون؟ وعلى أي مقياس يمكننا أن نقيس هذا الانتصار؟
في استقراء وقائع الأمور تبدو غاية سعينا ملخصة في أننا نريد أن نعيش بقدر من الكرامة ونتمتع بقدر من الحقوق ونلتزم بقدر من الواجبات في دولة قد تزدهر وقد لا تزدهر في المستقبل. هذا ليس انتصارًا على أي وجه. قصاراه أن يصبح استقرارًا، وإن حصل وتحقق هذا الاستقرار فقد ننجح في أن نكون مرئيين وضروريين لهذا العالم الذي يفضل أن يشيح بوجهه عن كل ما يبدو له مكلفًا أو فاقدًا للجهوزية. والحال، هذا الحديث عن النصر هو في حقيقته حديث عن استقرار منشود على الدرجة الصفر أو أكثر منها بقليل. تحقيق هذا المسعى يجب أو يُفترض به أن يجعل العدو غير قادر على ارتكاب مجازره مرة أخرى، سواء تحقق هذا الأمر بالردع العسكري أو الردع القانوني أو الإنساني. إذًا، نحن ننشد استقرارًا يتيح لنا ترميم جروحنا، الجسدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ونسميه نصرا. وهذه التسمية تبدو في جوهرها عبارة عن محاولة تكريم من قُتل من دون ذنب، ومن انتهكت حياته وتدمرت أواصره بوصفهم، جميعًا، القربان الذي أتاح للناجين استئناف العيش من رصيف ما، ومحاولة العبور به إلى استقرار مديد.
يفترض بالضحايا الذين يُقتلون برصاص العدو وقذائفه وحصاره المجوّع والمميت، أن يكونوا عار هذا العدو لا أبطالنا. أن يستمروا على حالهم من الغفلة التي كانوا عليها وهم يدبرون شؤون حياتهم حين كانوا أحياء معافين، وقبل أن تدهمهم آلة الحرب فتحولهم إلى موتى ومعاقين ومبتوري الأنساب. يجدر بنا أن نتذكرهم بوصفهم أحباء من نجوا، وأن نحزن لغيابهم بوصفهم كانوا يضيفون على اجتماع الناجين قيمة لا يمكن تعويضها. لكن افتراض أنهم قضوا لتمكين الناجين من الانتصار والفخر، والظن بأنهم حققوا كل ما يبتغونه بموت هؤلاء، لهو أمر يشبه في مآله العميق التعامل مع الذين سيولدون كما لو أن حيواتهم لا قيمة لها إلا بمقدار ما تسمح للناجين أن يبقوا ناجين.
لهذه الأسباب لا أرى في الانتصار المزعوم انتصارًا. إنه نجاة مؤقتة. ولأنه على هذه الصورة قطعا، فكان يجدر بنا، منذ موت الكائن الأول في هذه الحرب أن نقاتل لنمنع موت التالين. والمقاتلة تكون أحيانًا بقتل المعتدي أو منعه بالقوة من تنفيذ ما يعتزم تنفيذه، لكنها تكون دائمًا وأبدًا، في التعامل مع المعرضين للخطر بوصفهم أثمن من أن نضحي بهم لأي سبب. والحق، إن الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون، على وجه التعميم، ومن دون تمييز أو أفضلية لمقاتل على قاعد، ولرجل على امرأة أو طفل، هو صراع من يدافعون عن حياتهم لا عن أفكارهم. هو صراع من يُعتدى كل يوم على شؤونه اليومية، بدء الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون سببًا للفخر، بل على الأرجح، يفترض بها أن تكون سببًا للحزن والحداد. الحداد المنتج الذي يجعل العالم كله ممسوسًا بحزن الفلسطينيين على أحبائهم، وإجباره على استعادة إنسانيته ليجعل من التضامن والتكافل سببًا وجيهًا لصناعة مستقبل آمن ومستقر.
الحرب ليست امتدادًا للسياسة:
وأنت تعاين الحرب من موقع آمن، لن يفوتك ضلال المقولة التي أطلقها كارل فون كلاوزفيتز، والتي ادعى فيها "إن الحرب هي امتداد السياسة بوسائل أخرى". هل اكتسبت هذه المقولة ضلالها بسبب تغير المجتمعات، وتطور التقنيات، وتسارع الأخبار، واتصال العالم بعضه ببعض على نحو مباشر، ربما، فالعالم التاريخي كان عالمًا يملك من الوقت ما يسمح له بتجنب معاناة الألم والجرح والموت في وقته. كان الناس يموتون في الحرب ويشبعون موتًا قبل أن يتسنى للأهل البكاء على أولادهم، وقبل أن يتسنى للدول المجاورة أن تكتشف نقصًا في إمدادات القمح بسبب احتراق حقول الدولة المجاورة التي تشهد حربًا. الموتى في تلك الحروب كانوا يموتون في العتم. وحده التدوين هو ما كان يصنع لهؤلاء الموتى ذكرًا. لقد كانت الحروب تحدث في الماضي، وكان يصعب عليها أن تحدث في الحاضر على أي وجه من الوجوه.
انتشار وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، جعل الحروب تحدث في الراهن وتنتشر إلى أبعد من مواقع المعارك. حتى الكوارث الطبيعية باتت تحدث للقاعدين خلف شاشاتهم بمثل ما تحدث لأهل المناطق التي يضربها الزلزال. مع فارق مهم ونوعي يتعلق بكون هؤلاء القابعين تحت أهوال الطبيعة، أو نيران الطائرات، يعانون من ضيق عالمهم وارتداده إلى العائلة والنواة الضيقة. الحرب الحديثة تمنع المتعرضين لأهوالها من التحقق من حجم الكارثة المحيطة بهم. يتحولون إلى كائنات بلا حواس مدركة، فلا يستطيعون تمييز حجم الخراب الذي يطاول حاضرهم ومستقبلهم ما دامت الحرب مستعرة. الذين يتعرضون لأهوال هذه الحرب يكونون معزولين عن اجتماعهم وأقاربهم ومدنهم، ولا يملكون سوى التخمين: أصوات الانفجارات الضخمة تنبئ بأن أحياء برمتها قد دمرت، لكننا ما زلنا على قيد الحياة. إحصاء القتلى وتعريفهم وتنسيبهم إلى أهلهم وأمكنتهم، يحصل في ما بعد.
وبخلاف المعرضين للأهوال، يجد القابعون في مناطق آمنة وبعيدة عن مسرح الحرب أنفسهم في موقع من يراقب الموت على نطاق واسع. كاميرات الصحافيين تريهم الأحياء المدمرة على الشاشات، وتنبئهم بأن الموت في هذه الأحياء يفيض عن طاقة البشر على احتمال تبعاته المتمثلة أساسًا، بتحول باحتلال الفناء موقع التجدد في مستقبل المشاهد. الآمنون هم من يراقبون الأمواج العاتية، ويعرفون أن الموت يضرب بسيفه في كل مكان. الصورة الكبرى الناجمة عن الحروب الحديثة هي صورة تتشكل في وعي الآمنين، قبل أن تتشكل ألمًا ووجعًا وحدادًا في وعي المعرضين لأهوالها.
عليه، أي حرب تحدث اليوم في أي مكان من العالم تنجح في جعل مستقبل البشرية مهددًا وموقوفًا. لا يملك الآمنون إلا الصياح والاعتراض، ذلك أنهم في قرارتهم يدركون أن الحرب حدث جلل، لأنها تقصف أعمارًا في غير أوانها على نحو واسع وعميم. ولأن هذا ما يحدث حقًا، فإنهم يشعرون أن كل مستقبلهم موقوف مؤقتًا إلى أن تسكت المدافع، ويبدأ الضحايا لملمة أشلائهم، ومداواة جروحهم العميقة. في هذه اللحظة، يتحول الآمنون إلى ممرضين ومداوين. يسعون بكل السبل إلى مداواة جروح الناجين، ويستعجلون إعادة إعمار ما تهدم، وإعادة اجتماع الضحايا إلى سويته الطبيعية التي كانت له يوم كانت السياسة هي التي تحكم اللحظة، ولم تتدخل الحرب لتحول تلك اللحظة إلى انفجار كوني.
الآمنون في معادلة الحرب الحديثة يشبهون طواقم المستشفيات. على عاتقهم تقع مهمة جبر ما انكسر، ما أمكن، واحتضان من فقد حضنه، ما أمكن أيضًا. ولأنهم يقعون في هذه الجهة من الخبر، فإنهم لا يجدون وقتًا لمعاودة حيواتهم على النحو الذي كانت تسير عليه قبل الكارثة. لهذا يستعجل الآمنون وقف آلة الحرب، ولا يريدون شيئًا أكثر من إرادتهم وقف القتل بأي ثمن، ولأي سبب. في المقلب الآخر، حيث تقع نواة الكارثة، لا يفعل المتعرض لها إلا الانتظار. انتظار موته، أو نجاته. وتصبح حياته كلها محصورة بهذين الحدين. ولا عبرة لأي أمر آخر. وليس ثمة في ذهنه أي فكرة عما سيحصل في الغد.
تحويل الناس إلى منتظرين على هذا النحو، يشبه في مؤداه، في أزمان السلم، ما يعاينه الناس في المطارات، وعلى الحدود بين الدول. في تلك الأمكنة، لا يعود المرء مواطنًا في دولة يملك حقوقًا ويضطلع بواجبات، يتحول على نحو قاطع إلى منتظر ينتظر أن تفرج عنه السلطات، وتسمح له بالعبور من حالته كمنتظر إلى حالة المواطن، أو السائح والزائر. لهذا لا تفعل الحروب أقل من أن تزيل المواطنة عن المواطنين، وأن تحولهم على نحو مفاجئ إلى منتظرين. بهذا المعنى، تبدو الحروب الحديثة حربًا على كل مواطني العالم من دون استثناء. ذلك أن أحداثها الدامية تضعهم جميعًا في موقع المسافرين في المطارات. جميعهم ينتظرون انتهاء العاصفة، سواء منهم الذين يقبعون تحت ضراوة ريحها، أو الذين يشاهدون آثارها من البعيد.
الحرب في العصور الحديثة ليست استمرار السياسة، لأنها تمنع السياسة من فرض هيمنتها على اليومي والسائر والمقبل. ذلك أن صفة السياسة الأهم والأرجح، في العصر الحديث، تتلخص بفرض اللامبالاة على المواطنين إلا في حالات الانتقال الكارثي. السياسة الحديثة تنشد استقرار العالم، لا بل تجهد كل جهدها في محاولة السيطرة على العوامل الطبيعية، خوفًا من أن تؤدي الكوارث إلى نقض اللامبالاة واستعادة الانتباه واليقظة. المجتمعات الحديثة هي المجتمعات التي تفرض على مواطنيها الغفلة والعماء. تريد منهم الانتقال يوميًا من المنازل إلى مراكز الأعمال، أو التسوق من دون أن يفاجئهم أي شيء: لا شخصًا يتدلى من شرفة، ولا شاحنة تقطع طريقًا، ولا قاتلًا يرفع مسدسًا في وجوه العابرين. كلهم سيتحركون عند الضوء الأخضر، وكلهم سيتوقفون عند الضوء الأحمر. السياسات الحديثة تكره المفاجآت. وتريد للعالم أن يستمر في سعيه من دون توقف. كل توقف تسببه الحروب هو توقف مربك للسياسة عمومًا، وللحياة اليومية التي أدمن الناس على تكراراتها المملة. وكل إرباك يصيب السياسة في مقتل. وأكثر مقاتل السياسة عمقًا هي الحروب.
لهذه الأسباب كلها، يبدو الحديث السياسي عما بعد الحرب، وعن اليوم التالي، حديثًا باهظًا، وغير متصل بالعصر. حروب اليوم لا تنتج معادلات جديدة من الهيمنة والتسلط والخضوع على النحو الذي كانته الحروب من قبل. حروب اليوم توهن الدولة الأمة حين تستخدم كل قوتها لتوهين الدولة الخصم. وتصيب الهويات الوطنية بأضرار حاسمة، لأن كل حرب تحدث اليوم هي حرب على مواطني العالم أجمع. أما الانحياز إلى جهة في هذه الحروب ضد جهة أخرى، وتقبل سقوط الضحايا على النحو الذي يجاهر به بعضهم بوصفه الثمن الذي لا يمكن تجنبه لصناعة المستقبل، فليس أكثر من سادية سياسية لا يمكن أن تصنع مستقبلًا، أو تقيم استقرارًا من أي نوع. سقوط كل ضحية من ضحايا الحروب هو بهذا المعنى اعتداء على البشر جميعًا، وتعطيل للسياسة على نحو يهدّد جدواها.
عن (ضفة ثالثة)